|
تسييس الثقافة العربية
منير العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 1317 - 2005 / 9 / 14 - 11:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المثقف والسياسي إشكاليات علاقة متوترة
بالرغم من أن الأزمة القائمة بين المثقفين والساسة لا يمكن أن يُلقى باللوم فيها بالكامل على طرف واحد ، فان من الواضح أن المسؤولية الرئيسية فيها يتحملها السياسي سواء كان خارج السلطة أو ضمن تشكيلتها بهذا الشكل أو ذاك ، ذلك أن الساسة يمتلكون النفوذ والسلطة والمؤسسات والقدرات التمويلية ، وبذا فإنهم يمتلكون المبادرة . ولكن هذه المؤسسات أو القدرات غالبا ما تستخدم لخدمة الأهداف الضيقة للمصالح الحزبية أو السلطوية وكجزء من الدعاية ومن اجل خلق فن أو أدب تعبوي بهذا الشكل أو ذاك . ويأخذ تجنيد الأشكال الإبداعية ، للأغراض السياسية شكلا سافرا أو مستترا ، و تحارب النشاطات الثقافية التي تميل إلى الاستقلالية أو النقد حتى ضمن أدنى الحدود. ان العلاقة بين الساسة والمثقفين يمكن أن تبقى ضمن إطار الإشكالية الايجابية ، ويُحال دون تطورها إلى أزمة مزمنة ، إذا ما تم التعامل مع هذه الإشكالية ضمن الإطار الجدلي والاختلاف الطبيعي في العلاقة بين رؤى مختلفة ، متكافئة ومتكاملة ، في مسار يتعاقب فيه نشوء الإشكالية وطرق الحل والتوافق المؤقت ، كقانون من قوانين التطور المعرفي الديالكتيكي ( والذي يُدرَس ويلقن كقانون فلسفي مجرد معزول عن الحياة ) . واذا ما أرادت الاحزاب السياسية المعادية للدكتاتوريات ألا تصاب هي نفسها بأمراض الدكتاتورية والواحدية ( كما هو شائع في البلدان العربية ) ـ و اذا ما أرادت ألا تبدو كما لو إنها تريد النضال ضد الدكتاتورية من اجل اقامة دكتاتوريتها الخاصة ـ ، فان على ممثلي هذه الأحزاب التخلي عن وجهة النظر التي ترى ان الحزب هو المصدر الوحيد للحقيقة . كما ان النظر الى الحزب كما لو كان عشيرة كبيرة ينبغي الدفاع عنها وعن منتسبيها ظالمين كانوا أو مظلومين هو أحد المآسي التي ينبغي التغلب عليها ، حيث يجري الدفاع عن منتسبي الحزب الذين يولون مسؤولية المؤسسات الثقافية بالرغم من سلوكهم المنفر وتعاملهم الفج مع المثقفين حين يرى الحزب أن ولاء عضو الحزب المطــيع والمذعن أضمن من ولاء المثقف الناقد الشكاك. ويلجأ السياسي ، أو ممثله المثقف المسيّّس ، الى النفي الآلي لكل التهم والنقود التي توجه الى المؤسسات الثقافية التابعة للحزب أو للحزب نفسه أو لمؤسسات السلطة بدون بذل أي عناء لمراجعة الذات . ومراجعة الذات آخر ما يفكر الساسة ان يقوموا به ، أو ما لا يقومون به على الاطلاق. فالإيمان بـالمبادئ والافكار والعقائد والقائم على الشك والتساؤل و التمحيص هو إيمان راسخ وثابت قائم على الاختيار الواعي . والشك والتساؤل ، والذي ينزعج منه الساسة ، إنما هو الاساس الوحيد لإيمانٍ واعتقادٍ راسخ ، أما ( الايمان ) بالافكار المبني على الاستسلام و الإذعان والخوف من لمس الثوابت ، التي أطالت الأجهزة الإعلامية للسلطة أو الحزب التطبيل لها وكذلك وجود قائمة طويلة من التابوات انما تنتج اعتقادا وإيمانا شكليا سرعان ما يتحول الى نقيضه مصحوبا بالسخط على التضليل والاستسلام طويل الامد للوهم . ان المساهمة النشيطة للفرد في صنع أفكار الحزب ومعتقداته وليس فقط الاستلام من طرف واحد للسياسة والفكر الذي تصنعه النخبة التي تضفي على نفسها قدسية زائفة هو الذي يصنع الاتحاد الاختياري الواعي ، اما الشكل غير الواعي الموصوف أعلاه ، أي الاستسلام الآلي ، فهو شكل من اشكال الإيمان الديني ، وبما ان اغلبية الاحزاب السياسية العربية لا تقبل بالنقد والتشكيك ، وتطالب بالطاعة والانضباط ، فإنها من حيث الجوهر أحزاب دينية وإن إدعت خلاف ذلك. ذلك انها تؤمن بالثابت الراسخ من الافكار والافراد مما وممن لا يطالهم الشك حين يكون القادة المؤسسون والمنظرون وفلاسفة الحزب وتاريخهم الشخصي وكذلك الافكار والكتابات التي كتبوها من الثوابت التي ترتفع على النقد ولا تحتاج الى أي شئ آخر سوى حرق البخور والتسبيح بالحمد. ان شرط المصالحة مع المثقف ، لدى أغلب الساسة ، هو تخلي المثقف عن النقد و(المشاكسة) وهو ما لا يمكن القبول به . اما شرط المثقف على الساسة فهو ترك الانفراد بالقرارات والقبول بالتعددية وهو ما لا يمكن التنازل عنه. واستنادا الى التعريف الكلاسيكي المستهلك يصار الى نفي كون المثقفين طبقة أو فئة إجتماعية ذات خصائص مميزة ومشتركة وذات رؤية مستقلة لطرق حل المعضلات المعرفية والتطبيقية ويصار بشكل تعسفي الى أن يقوم السياسي ، مانحا نفسه تفويضا مطلقا للتقييم ، وشرعية قائمة على الوهم ، على العمل على نسف امكانية قيام المثقفين بالوصول الى خطاب خاص ومشترك ، ويميل الساسة بشكل عام الى تفتيت المثقفين لإبقائهم ملحقين ذيليين للرؤية السياسية وحيدة الجانب . وفي العادة يُلقى باللوم على المثقفين في تفسير الازمات المتلاحقة بينهم وبين الساسة ، فالازمة مع أطرافٍ سياسية والتي مر بها ، على سبيل المثال لا الحصر : بابلو بيكاسو ، أراغون ، مايكوفسكي ، سولجنستين ، ميلان كونديرا ، غارودي ، بودلير ، غابرييل غرسيا ماركيز، الجواهري ، السياب أدونيس وعشرات من المثقفين والمبدعين هي ناتجة ، من وجهة نظر الساسة ، وعلى وجه الحصر، من كون هؤلاء المثقفين والمبدعين : " متذبذبين أو تحريفيين أو حتى عملاء و خونة " ، اما الساسة فأنهم يحملون دائما طهر الملائكة. لقد كانت العلاقة بين المثقفين والمبدعين من جهة وممثلي السلطة والنفوذ السياسي علاقة توتر وتشنج وخاضعة للمد والجزر . وتتأزم العلاقة على أشد ما يكون عندما يلجأ المثقف الى العمل السياسي من اجل مشاركة فاعلة في تحقيق الأهداف المعلنة والمثل العليا، ولكن هذا الميل كان ، من جهة أخرى ، مصحوبا لدى المثقف بميل نقدي وأحيانا ميل إلى التمرد ، حيثما يرى المثقف ، بسبب حساسيته الفائقة ، ان الأهداف التي جعلته ينتمي الى هذا الحزب أو ذاك قد تم ، من وجهة نظره ، الانحراف عنها . وبالرغم من ان المثقف لم يكن دائما يعي الآليات السياسية التي تهتم بالدرجة الاولى بالامكانيات الواقعية ، الا ان الاحزاب السياسية غالبا ما كانت تتعامل مع المثقف بطريقة استعلائية قمعية تقوم على الاقصاء في أحسن الاحوال . كما انها لا تتحمل ترك المثقف يغني خارج السرب في تعبيره عن الميل المتأصل الناشئ عن طبيعة تكوينه و التي ينبغي الكف عن محاولة تعديلها وقبولها كما هي . فالمثقفون المصّنعون حسب المواصفات والمقاييس ، كما تخاط البدلة لدى الخياط ، هم الأكثر ضررا في المسعى للوصول الى حوار سليم . وكان هذا المسعى ، الرامي الى خلق المثقف المذعن الصاغر، يؤدي بالمثقف الى أحد شيئين : اما ترك العمل السياسي واختيار العزلة ، أو خلق مثقف عديم القيمة غير أصيل ، تابع وهتـَاف. وتحتاج مراكز الدراسات التي تمتلكها الاحزاب في البلدان العربية ، اذا كانت مثل هذه المراكز موجودة أصلا ، الى متخصصين في دراسة الملامح والخصائص الاجتماـ نفسية للطبقات والفئات الاجتماعية التي تتعامل معها ، بما في ذلك المثقفين والمبدعين ، للخروج بسياسة للعلاقات العامة تراعي على حد سواء القواسم المشتركة ، كما و أيضا الملامح الخاصة لهذه الطبقات والفئات الاجتماعية كل على حدة . وبما ان نفوذ الاحزاب السياسية في الوطن العربي ، وبسبب الغياب المزمن للديمقراطية وحرية التعبير ، غير مرتبط بصناديق الاقتراع وما يحققه أي حزب من المطالب الملموسة ، فانه يولد لدى الكثير من هذه الاحزاب حالة من الازدراء والتعالي أو عدم الاكتراث لمزاج هذه الطبقات والفئات الاجتماعية ، يكون المثقفون احد أكثر الأطراف المتضررة منها . يتجلى الشكل الملموس لهذا التعالي في : نفاذ الصبر، وعدم الاستماع بتروي للمطالب والمقترحات التي يطرحها المثقفون ، والشعور بالتبرم المبني على اعتبار أن المثقفين متحذلقون ثرثارون وغير مرتبطين بالواقع . وعليه ، كما يرون ، فـان الأمر لا يستحق أي مجهود لتفهم وجهات نظرهم ، كما يتجلى ايضا في عدم القدرة أو عدم الرغبة لدى القيادات السياسية العليا والمتوسطة على الخروج عن الآليات الموروثة القائمة على ميكانيكيات العمل التنظيمي البالية والقواعد( المقدسة ) التي لم يتم إعادة النظر بها ربما منذ عقود في عصرنا الحالي عاصف التطور. ربما يلجأ بعض قارئي هذه السطور الى الاعتقاد بان المقال يسعى إلى خلق أزمة مفتعلة بين المثقفين والساسة ، وربما يرى ان العلاقة بين هذين الطرفين هي على أحسن ما يكون ، أو أن الازمة أو الاشكالية اقل بكثير مما يتم التأكيد علية ، وقبل الاجابة على هذا السؤال دعني أقول ان الطريق الوحيد لحل اية ازمة أو إشكالية يتم فقط عن الاقرار المبدئي بوجودها. وبالرغم من التطور العاصف لأفكار الديمقراطية وحرية التعبير والتعددية ، فان الذي يطالع الصحف بوسعه ببساطة أن يتابع الحوار والمشاجرات اليومية بين مثقفين و ساسة أو ممثليهم بين المثقفين ، واذا ما اردنا ان نذكر جميع الامثلة في هذا الصدد فأن المساحة المحدودة لهذا المقال سوف لن تتسع لذكرهم . كما بالامكان ان نسوق عشرات ومئات الامثلة على المبدعين و المثقفين الذين غادروا بلدانهم هربا من الأنظمة القمعية ، الا انهم عانوا احيانا من الاضطهاد المزدوج : من قبل السلطات من جهة ، ومن قبل الاحزاب التي ينتمون اليها من جهة اخرى . فالمؤسسات الثقافية في الخارج ، كما كتب سلام عبود في كتابه القيم ( ثقافة العنف في العراق ) : " تحولت الى ساحة جديدة من ساحات العنف الثقافي حيث عُمم على الخارج نموذج الداخل ، الذي ندعي جميعا اننا نناضل من اجل الانتصار عليه ، ففي الخارج كما في الداخل تسود سلطة نواب العرفاء حتى في المجال الثقافي " . ( ونائب العريف حسب مراتب النظام العسكري العراقي هو مثالٌ مرٌ على المزاوجة بين الجهل المطبق والسلطة الغاشمة ) وبدلا من دراسة الازمة بروح نقدية تنطوي على مراجعة الذات يصار من طرف واحد الى التنديد بالمثقفين باعتبارهم المسئولين دون غيرهم عن الاشكالية ويمارس الساسة دورهم القمعي من خلال السلطة بكافة اشكالها ، سواء كانت سلطة الدولة أو السلطة الادبية والنفوذ. ويجري التنديد بمثقفين فرادى في عملية تضليلية ، لكي يتم تجنب الاعتراف الضمني بالمثقفين كشريحة اجتماعية ذات خصائص ومصالح مشتركة ، ولمنعهم من تكوين موقف جماعي مستقل . يمكن تلخيص الميول السلطوية في مجال الثقافة فيما يلي : - تبني مدارس محددة في الادب والفن أو ترجيحها على غيرها ودعمها . - إفساد الخيال عن طريق الافراط في العقلنة . - التأكيد على وظيفية الفن والادب والاشكال الابداعية الاخرى وتشجيع فن تعبوي والهبوط بالعمل الابداعي الى المباشرة والنمذجة العقائدية والخطابية والبوسترية . - الانـتاج الواســع ( ( mass production لاشكال مــنحطة من( الابداع ) تعكس نفاذ الصـبر والسعي لانتاج فن وأدب ســريع لتعبئة الأمـــة ( لمعاركها المصيرية) لالهاب المشاعر و إهمال حقيقة ان التغيير والتطور هو عملية تراكمــية طــويلة الأمد وصبورة. - منع النقد وخصوصا في أوقات الأزمات بدعوى تعبئة الأمة. ان الاختصاصات المعرفية واشكال النشاط البشري المعرفي والابداعي هي طرق رؤية مشروعة لحقيقة متعددة الوجوه ، تمتلك جميعها الحق في أن تكون مقبولة وأن تسعى الى ذلك ، عن طريق المنافسة التكاملية وليس الإزاحية . وانها بمجموعها فقط تستطيع رؤية الحقيقة متعددة الابعاد . ان محاولة اضفاء صفة الاطلاق على زاوية الرؤية المنفردة هي تضعُ تعارضا تعسفيا بين طرق الرؤية تلك ، والتي هي بداهة غير قابلة للاستنفاذ ، والتي تبدو شكليا متعارضة ، على انها ، في واقع الحال ، يكمل بعضها الآخر. وان قبول هذه الحقيقة ، الذي بامكانه ان يكون دليلا على تواضع بعيد المنال ، حين يدغدغ حلمُ السلطة والميل الضمني للتعسف أولئك الذين ، حتى الآن ، بعيدون عنها ، إن هذا القبول هو الذي بامكانه ان يشيع روح التعددية والتسامح وقبول الرأي الآخر. و مساعدة المثقف على المحافظة على استقلاليته لا تخدم العملية الابداعية فحسب ، بل تخدم المصالح بعيدة المدى للمجتمع ومصالح تطوره اللاحق في خلق تعددية حقيقية واعطاء المثقف دورا مستقلا وموازيا . اما عملية إلحاق المثقف عن طريق استعمال السلطة السياسية والنفوذ والمال فانها تجلب الكوارث رغم انها توفر شعورا بالرضا لدى السياسي باعتبار ان كل شئ على ما يرام ، أوان الأمة موحدة خلف القائد او خلف الحزب . ان المثقف الحقيقي ليس بوسعه الا ان يكون مستقلا عن اية سلطة. وعليه ان يحافظ على استقلاله النوعي حتى في حالة الانتماء الى حزب أو تيار سياسي ، ما يجعله يساهم من موقعه في تكوين تصور مشترك ومجسم للواقع باعتبار انه احد مصادر الحقيقة .
مفاهيم التحريف والارتداد والتخوين
لقد أدى النفوذ السياسي وتسييس الاشكال الابداعية الى أن تتسللَ مصطلحاتٌ غريبة وضارة الى الخطــاب الابداعي ، ومن اكثرها ضــررا مفاهيم التــحريف والارتداد والتخوين ، ناهيك عن الاتهامات المبتذلة بالعمالة لجهات أجنبية أو مخابراتية والتي بمجموعها مصطلحات ليست ضمن مفردات الخطاب الابداعي وانما تم استعارتها من المصطلح السياسي العربي المملوء بالشتائم ، و التي استــخدمت كسلاح ماضٍ ضد الكثير من المثقـفين والمفكرين ليس من قبل السياسي ضـد المثقف فحسب بل من قبل مثقف ضد مثقف آخر . إن مصطلح التحــريف أو الانــحراف يــنطوي على مفهوم خطير ومدمر بإدعاء معرفة الحقيقة المطلقة كصراط مستقيم ومعيار للحكم على الآخرين لا يجوز فيه التقدم أو التأخر خطوة كما لا يجوز فيه الجنوح قيد شعرة نحو اليسار أو اليمين عن النهج المرسوم في نقطة تقاطع حرجة لا تتسع حتى لقدم واحدة . أن الحقيقة ليست نقطة واحدة حرجة بل ليست حتى مسارا واحدا وحيدا بل إنها مسارات مختلفة ، متوازية ومتقاطعة . وان مراجعة جادة ينبغي ان ترمي ، الى سلة المهملات ، مفاهيم مثل : التحريف والارتداد والتخوين . وعن تجربته ويوسف الخال في مجلة شعر يقول أدونيس بمرارة مشروعة : " ان النقد الموجه إلينا لم يكن شعريا ، انما في المقام الاول ، ايديولوجياً " ويرى ان الثقافة " وصلت باصطدامها بالسياسة الى نقطة لم يعد ممكنا معها غير الانفجار ... ومن اسباب ذلك تغليب السياسي على الثقافي " . أدونيس ( ها انت ايها الوقت). ولقد أعدّت ، من قبل الاحزاب ، قوائم طويلة بأسماء التحريفيين والعملاء وكتبهم ومؤلفاتهم والتي يحرم على عضو الحزب الاطلاع عليها كما وأعدت قوائم بالمجلات العميلة والممولة من جهات خارجية ، ولم يُترك عضو الحزب حرا في الاطلاع و اتخاذ القرار الواعي ، إذ غالبا ما يتضح ، بعد انجلاء الغبار ، ان هذا الكاتب أو ذاك أو هذا المؤلف وهذه المجلة أو تلك لا علاقة لهم بكل هذا التضليل . وأدى الخطاب السياسي الذي تسلل إلى اللغة الثقافية إلى أن يقوم مثقفون بمساندة أعمال إبادة قومية أو عرقية ومساندة أعمال منافية لحقوق الإنسان لاعتبارات سياسية ضيقة لا يمكن تبريرها تحت أية واجهة فيما كان المنتظر أن يقف المثقف مع الإنسان بالمعنى المطلق للكلمة . وحقيقة تورط الأشكال الإبداعية في الوطن العربي بشكل مباشر بالخطاب السياسي ، وبالرغم من أنها انعكاسٌ للمآسي السياسية التي واجهتنا ، وخصوصا تشريد الشعب الفلسطيني ومحاولة إلغائه ، وتعاقب أنظمة الطغيان والقمع وقمع القوميات الأخرى ومصادرة حقوقها ...الخ ، أدت في كثير من الحالات إلى عدم فهم طبيعة العلاقة المعقدة بين الإبداع والواقع وصرفت العديد من المبدعين عن البحث عن أساليب ورؤى ثورية وجديدة للتعبير . كما وأدت إلى ظهور نتاجات تتسم بالمباشرة وتتملق الجمهور في قضاياه الحساسة ، وهي بذلك أساءت ليس فقط إلى مستواها الإبداعي بل أيضا إلى القضية التي تدافع عنها . فرواية" خريف البطريرك" لماركيز ،على سبيل المثال ، قد أدانت الدكتاتورية واستلاب الانسان ولكن قيمتها تكمن قبل كل شئ في إسلوبها أي الشكل الإبداعي الثوري في اكتشاف طريقة جديدة للخطاب النثري فهي – أي الرواية ـ عديمة الزمن ، عديمة الفواصل ، كما أن بالإمكان قراءتها بدون أي تسلسل ومن أي مكان يرغبه القارئ ان يبدأ فيه القراءة ، ولا مجال هنا للاطالة في الجوانب التجديدية التي شكلت انعطافة ثورية في فن الرواية إذ ان ذلك لا يخفى على احد. وبالرغم من أن ضحايا الدكتاتوريات المحرومين من أدنى أشكال التعبير، سيرحبون باي عمل يدين الدكتاتوريات والقمع بغض النظر عن قيمته الابداعية وسيقرؤونه بنهم بسبب التشفي والشعور بالعجز عن التغيير والرغبة بالتنفيس ، الا ان ذلك لا يشكل معيارا نقديا يعتد به ، وشعورا لدى الكاتب بالرضا ، فعلى ، سبيل المثال لا الحصر، فأن ماركيز يرى أن رواية " السيد الرئيس" لـ ( أوسترياس) رواية رديئة ، وهي حقا كذلك ، بالرغم من انها قد أدانت الدكتاتوريات ، ولقيت شعبية كبيرة لدى القارئ العربي لسبب بسيط أن الرئيس الذي تصوره الرواية يشبه رؤساءنا العرب بشكل مذهل. من هذا المثال نسعى للوصول الى النتيجة التالية : لا يجوز التهليل لـ (المبدع) استنادا الى موقفه السياسي أو طبيعة المواضيع التي يتناولها وبالقدر الذي يتماشى مع الرؤية السياسية التي نحملها ، بغض النظر عن المستوى الفني والتقني الذي تتمتع به هذه الاعمال ، كما لا ينبغي أن يتم صرف الاهتمام عن مبدع ما بسبب مواقفه السياسية ومدى اتفاقها مع رؤيتنا السياسية ، فالمرحوم محمد صالح بحر العلوم ربما كان في إحدى فترات حياته مناضلا صلبا ولكنه لم يكن أبدا شاعراً جيدا بالرغم من انه كتب (أين حقي ) التي أحتفي بها كثيراَ . فالشعراء والكتاب والمبدعون عموما من الذين برزوا بسبب مواقفهم السياسية وليس بسبب مواهبهم لم يكونوا مبدعين حقيقيين ، وسرعان ما أنطفئوا ، والمبدعون الحقيقيون ليسوا بحاجة الى الرافعة السياسية. ومن المثير للسخرية أن يصار الى تعداد فضائل الاحزاب السياسية على هذا المثقف أو هذا الشاعر والفنان أو ذاك بدعوى ان صحف الحزب ومجلاته ، على سبيل المثال ، قد قامت بالنشر له أو عنه . والسؤال هو : من يتفضل على من حين يقوم شاعرٌ أو كاتبٌ بالنشر في هذه المجلة أو تلك ؟ . كما انه لا يصح أن يطلب من المثقف ، إنطلاقا من الاقرار بالعرفان السرمدي الخالد ، ان لا يقوم في المستقبل بنقد الحزب أو هذا المسئول أو ذاك مانحا إياهما صكا أزليا بالعصمة ، بالرغم من الاخطاء والكوارث وذلك لانهم نشروا له أو ساعدوه في هذا الموقف أو ذاك. وفي كتابه " الثقافة والامبريالية" يبحث أدوارد سعيد عن الدلالات الامبريالية المبكرة ، كما يرى ، في الاعمال الادبية الروائية لأشهر كتاب اوربا ويركز على مثالين روائيين : " التوقعات الكبيرة " لجارلس ديكنز ، ورواية كونراد " نوسترومو" ، وفي سياق كشفه ، عما يعتبره ثقافة إمبريالية ، لا يتردد في تصنيف هذه الاعمال ضمن الاعمال العظيمة يقول ادورد سعيد : " ان طريقتي هي أن أركز بقدر المستطاع على اعمال فردية بان أقرأها أولا كنتاج عظيم للخيال الخلاق والتأويلي ، ثم أجلو كونها جزءا من العلاقة بين الثقافة والامبراطورية " ص 66
* * * *
الفن والواقع : علاقة معقدة
في العام 1870 شنت بروسيا حربها ضد فرنسا والتي عرفت بالحرب البروسية ـ الفرنسية ، وقبل وقوع هذه الحرب بأكثر من عقد ، كان الانطباعيون الفرنسيون قد دشنوا مدرستهم التي ستلعب لاحقا دورا حاسما في نشوء فن القرن العشرين . كان هؤلاء الفنانون الشباب الممتلئون جرأة وحماسة يرسمون الطبيعة في الهواء الطلق وكان موضوعهم الرئيسي الطبيعة المتألقة في ضوء الشمس أو مجموعات من الشبان والشابات يتناولون طعامهم وشرابهم على الحشائش . وبسبب الحرب قُتل أحد أبرز ممثلي هذه المدرسة (بازل) بعد أن خدم فيها كضابط ، وخدم مانية في سلاح المدفعية وغادر مونية وبيسارو ، الذين كانوا يرون ان الحرب لاتعنيهم ، الى بريطانيا ليواصلوا رسم الطبيعة وليرسما مشاهد من نهر التايمس ومن الريف البريطاني . ولكن لا هؤلاء ولا اؤلئك تخلوا عن بحوثهم الاسلوبية وعن رسم الطبيعة حيث قاموا جميعا رغم الحرب بالوصول بالانطباعية الى أبعد درجات نضجها في تجزئة ضربة الفرشاة واكتشاف ما عرف بالمزج البصري لكي يسلموا راية التجديد الى جيل آخر ممن عرفوا بـ ( ما بعد الانطباعيين) . فأسماء لامعة مثل فان كوخ وبول سيزان وسورا ولوتريك وفيما بعد بيكاسو وماتيس وآخرون ، والذين سيلعبون الدور الاكثر ثورية في تاريخ فن الرسم على الاطلاق كانوا قد اسسوا فنهم على طريق استكمال الاكتشافات الاسلوبية لجيل الانطباعيين . لو أن هؤلاء الفنانين قامو بترك مسار اكتشافاتهم الفنية لكي يقوموا برسم مواضيع عن الحرب ، لما كان بإمكاننا ان نتصور حجم الكارثة التي سيسببها ذلك لمسار فن الرسم العالمي ولتطور الفن عامة ولكن لحسن الحظ فان اوربا أكثر واقعية من أن تطلب من الفنان ، أو ان يطرح هو على نفسه ، الاستجابة التسجيلية للأحداث . وسيكون من المثير للضحك أن نرى ان هذه الحرب قد حزَبت فناني المانيا لمساندة سياسة (بسمارك) وفناني فرنسا لمساندة ( تيَير). ولكن لنرَ فيما اذا كان فن الانطباعيين كما يبدو للوهلة الاولى فنا محايدا بسبب اهتمامه بالدرجة الاولى برسم الطبيعة في ضوء الشمس المتألق ، إنه لم يكن كذلك على الاطلاق بل انه كان فنا يعبر عن صعود مزاج الطبقة البرجوازية الفرنسية المنفتح والمتفائل كطبقة سائدة اجتماعيا وثقافيا بعد ان كانت قد حققت نصرها السياسي في الثورة الفرنسية 1789 هذه الطبقة التي نجد أفضل تمثيل لمزاجها وطرائق حياتها في لوحات رينوار ومونية ، بالدرجة الاولى ، والتي تمثل شبانا وشابات يرتمون بعفوية على حشائش الحدائق الفرنسية ياكلون ويشربون ويمرحون . وكانت العفوية والحرية طاغية هي الاخرى على الاسلوب الذي بدا في حينها بدعة تثير الاستنكار ولكن ذلك كان اصدق تعبير عن طبقة متفائلة رمت عن كاهلها السلوك الرسمي المحافظ والمتزمت لطبقة النبلاء التي غادرت المسرح السياسي والاجتماعي تاركة منتجات ممثليها الفنية الممثلة بلوحات (بوشية) و( فراغونار) و التي تمثل ، ضمن أشياء أخرى ، بورتريهات لرجال ونساء وأطفال غاية في التكلف وقد لبسوا ملابسهم الفخمة والمزركشة ، أو لأولئك الذين يحملون عشرات الاوسمة في داخل قلاعهم وقصورهم الفخمة التي تفتقر الى الضوء الطبيعي مما يثير الملل والكآبة. ربما أكون قد أطلت في الاقتباس التاريخي ، لكنني أردت أن أقول : لو أن هؤلاء الانطباعيين كانوا ، على سبيل الافتراض ، في أي من البلدان العربية قد انغمروا في هذه البحوث الاسلوبية اللونية دون اكتراث لإحدى حروبنا التي لا تنتهي ، والتي لم تحقق اية نتيجة سوى الخراب ، لكانوا اتهموا في أحسن الاحوال بعدم الاكتراث لقضايانا المصيرية . وما أقوله ليس من قبيل التكهن فقد كتب أحد ( النقاد) معلقا على معرض عن الطبيعة أقيم على قاعة الاورفلي في بغداد في الثمانينات متسائلا ومستنكرا :" كيف يسمح فنان عراقي لنفسه برسم الطبيعة في الوقت الذي تخوض فيه بلادنا حربا مصيرية ؟ " . يقول ماتيس : انني اسعى الى فن يشعر الانسان فيه بالراحة ، مثل الاريكة الوثيرة لإنسان مكدود متعب . يا عزيزي ماتيس : كم ستشعر بالتعاسة لو أنك بعثت بين ظهرانينا الآن وبعد اكثر من قرن !! ان مقولة ماتيس ليست صحيحة على وجه الاطلاق ، ولا تمثل حصرا هدف الفن . ولكنها صحيحة قطعا بالنسبة لماتيس ولرؤاه . فعلى الضد من العلم ، يسعى الفن الى رؤى واساليب فردية وليس الى نتائج موضوعية متطابقة. ان قوانين الابداع المعبر عنها باللون والشكل والكلمة والنغمة تستمد وجودها من الواقع ، ولكنها ليست انعكاسا فوتوغرافيا حرفيا له ، أي ليس كما تعكس المرآة الواقع ، انما هي انعكاس معقد ، انعكاس إبداعي يمر بالذهن البشري الذي يمتلك خصائص غير عادية في أعادة وتمثل الصورة الواصلة الى الذهن عبر الاحساسات . كما ان الهموم الابداعية وطرق رؤية العالم وإعادة تكوينه أوسع بكثير من الهموم اليومية المباشرة والشكل الملموس للمشاكل السياسية . ان الموقف لدى المبدعين يجب ان يكون نابعا عن قناعات التجربة الذاتية ، وان ما يسمى ( التزام قضايا الجماهير ) ، كما يرغب الخطاب السياسي أن يسميها ،هي ليست فرضا منزليا يوضع من قبل (المعلم) على دفتر يومية الفنان أو الأديب ، واجب التنفيذ في اليوم اللاحق . فلا اللوحة ولا القصيدة أو القطعة النثرية ولا القطعة الموسيقية ستؤدي ، كما يرى السذج ، حال الفروغ منها الى حالة ثورية غير مسبوقة . كما لا يمكن إجبار الفنان أو الكاتب على الاستجابة ما لم تحن اللحظة الحاسمة التي لا يستطيع أحد ، ولا حتى المبدع نفسه ، أن يتكهن بها. أن الاختيار الحر هو وحده الذي ينتج فنا وأدبا حقيقيا . اما ( الابداع ) الناتج عن الضغوط بأبسط أشكالها فانه لا ينتج الا ( ابداعا ) عابرا سرعان ما يموت وينسى . لقد أدت هذه الذهنية ، أي ذهنية وظيفية الفن ، الى تنظيم المعارض والامسيات الثقافية استنادا الى المناسبات السياسية و(الوطنية) . ويمكن أن نقرأ على صفحات الصحف في العديد من البلدان العربية العبارة الشائعة : " بمناسبة العيد ... لثورة الـ .. المباركة تقيم نقابة الفنانين معرضها..الخ" وهذا ينطبق بنفس القدر على الامسيات الادبية والشعرية. واصيبت بعض الاحزاب المعارضة هي الأخرى بالأمراض السلطوية وامراض الدكتاتوريات والارث الشمولي فقامت بتنظيم المعارض والامسيات الثقافية ، بل وحتى الانشطة الرياضية لتغطية نشاطاتها لما يعرف بـ ( فن المناسبات)
منير العبيدي برلين 15ـ10ـ2004 [email protected]
#منير_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديمقراطية وإمكانيات التصدير
-
الفنان التشكيلي عدنان شينو - الحنين الخلاق
-
الماركسية وافق البديل الاشتراكي - كارل ماركس
-
دور اللغة في التاريخ
-
المرأة ومشاكلها الوجودية , لدى التشكيليات العراقيات
-
إتحاد الشعب تسمية ملائمة لحزب ذي إرث نضالي مجيد
-
الديمقراطية الليبرالية وتيارات الفكر السياسي العراقي المعاصر
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|