|
المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ
شريف رزق
الحوار المتمدن-العدد: 4717 - 2015 / 2 / 11 - 11:05
المحور:
الادب والفن
المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ مالارميه عن سوزان برنار- (قصيدة النَّثر مِنْ بودلير إلى أيَّامِنَا) – ص:99
تمهيد إنَّ قَضِيَّةَ المصْطَلحِ مِنْ أكثرِ المشْكِلاتِ الَّتي تُواجِهُ المتابعَ لحركَةِ الشِّعرِ خَارجِ الوزنِ ؛ حيثُ تتنوَّعُ التَّجلِّياتُ وَالاتِّجاهَاتُ الشِّعريَّةُ في هَذَا المشْهَدِ ، في الوقتِ الَّذي تحيطُ فوضَى المصْطَلَحَاتِ المختلِفَةِ ؛ الَّتي لا تدلُّ على الوَعْي بتعدُّدِ تجلِّياتِ هَذَا المشْهَدِ بقدرِ مَا تدلُّ على قَلَقِ الوَعْي بطبيعَةِ مَا يمورُ بِهِ المشْهَدُ الشِّعريُّ الجديدُ ، وَعلى تشتيتِ الرُّؤى ، وعلى عدمِ فَهْمِ طبيعَةِ مَا يحدثُ دَاخِلَ هَذَا المشْهَدِ مِنْ حِرَاكٍ ، وَلَقَدْ أدَّى هَذَا إلى خَلْطٍ أجناسيٍّ ؛ بإطْلاقِ مجموعَةٍ مِنْ المصْطَلَحَاتِ - بكلِّ سهولَةٍ - على مَا يتبدَّى مِنْ تجلِّياتِ شِعريَّةِ في هَذَا المشْهَدِ الشِّعريِّ الجديدِ ، وَمِنْهَا : قَصِيدَةُ نثرٍ ، نثرٌ شِعريٌّ ، شِعرٌ منثورٌ ، نثرٌ فَنيٌّ ، نثيرَةٌ ، نثرٌ مُشَعَّرٌ ، نَثرٌ مُوَقَّعٌ ، بيتٌ منثورٌ ، شِعرٌ حُرٌّ ، نثرٌ مَشْعورٌ ، خَاطَرَةٌ شِعريَّةٌ ، مَنْثُورَةٌ شِعريَّةٌ ، نَصٌّ مُشَعرَنٌ ، شَذْرَةٌ ، شِعرٌ خَارجُ الوزنِ ، نَثرٌ مُركَّزٌ ، نثرٌ بِالشِّعرِ ، كِتَابَةٌ شِعريَّةٌ بِالنَّثرِ، نَصِيصٌ ، عصِيدَةٌ ، نَسِيقَةٌ ، مَقْصُوصَةٌ . وَيَرَى البَحْثُ أنَّ تحديدَ المفهومِ هُوَ أوَّلُ الطُّرقِ لِلوصُولِ إلى الهويَّةِ الإبداعيَّةِ الحقَّةِ للنَّوعِ الإبداعيِّ ، وَلا يَتَأتَّى ذَلكَ سِوَى بِمُسَاءَلةِ هَذَا الخليطِ الإبداعيِّ وَهَذَا الخليطِ الاصْطِلاحيِّ ، ثُمَّ تصنيفِ مَا يمورُ بِهِ مَشْهَدُ الشِّعرِ النَّثريِّ ، قبْلَ الولوجِ إلى رِوَاقِ كلِّ نوعٍ شِعريٍّ فيْهِ ؛ لدِرَاسَةِ سَجَايَاه الشِّعريَّةِ وَمَلامحهِ الجماليَّةِ ، أوْ اسْتِجْلاءِ التَّحقُّقَاتِ الإبداعِيَّةِ لتجاربِهِ ؛ الَّتي تُشَكِّلُ - مُجتَمِعَةً - خَصَائِصَ شَكليَّةً عَامةً ، لنوعٍ شِعريٍّ ، يقتضِي التَّعامُلُ معَهُ الانْطِلاق مِنْ مجالِ طبيعَتِهِ الخاصَّةِ ، لا مِنْ مَوْقعِ طبيعَةٍ أخْرَى ، أوْ مِنْ الفَضَاءِ الشِّعريِّ المضادِ لَهُ ، أوْ مِنْ الفَضَاءِ التِّقنيِّ المناظِرِ لَهُ ، أوْ المؤازرِ لَهُ ، وَالمتوازي مَعَهُ ، وَالمتمثِّلِ أسَاسًا- في أُطروحَةِ سوزان برنار: قَصَيدَة النَّثرِ مِنْ بودلير إلي أيَّامِنَا ": 1958 ؛ الَّتي لا تَتَوَافقُ تمامًا مَعَ مُنْتَجِنَا الشِّعريِّ النَّثريِّ الرَّاهِنِ تحديدًا ، وَشُروطُهَا الأسَاسِيَّةُ الَّتي اسْتَنْبَطتْهَا برنار مِنْ مَسِيرَةِ الشِّعرِ الفَرَنْسِيِّ وَالَّتي وَضَعَتْهَا شروطًا لإبداعِ قصيدَةِ نثرٍ، وَهَيَ:(الإيجازُ: الكَثَافَةُ)، (التَّوهُّجُ: الإشْرَاقُ)، (المجانيَّةُ: اللازمنيَّةُ) ، قَدْ تُوْجَدُ في شِعْرِنَا وَقَدْ لا تُوجَدُ ، وَقَدْ تُوجَدُ كَذَلكَ خَارجَ الشِّعرِ. وَانطِلاقًا مِنْ قَنَاعَةِ البَحْثِ أنَّ أجْلَى مَا يضرُّ الدَّرسَ الأدبيَّ الرَّاهِنَ هُوَ فَوْضَى المصْطَلَحِ ، وَالتَّسرُّعُ في إطلاقِهِ ، وَالمحاوَلاتُ المستمِّرَةُ لِلتَّغلُّبِ على قَلَقِ التَّلقِّي بِدَفْعِ المصْطَلَحَاتِ المصْكُوكَةِ بغيرِ رَويَّةٍ ، وَفي غيرِ سِيَاقاتهَا الطَّبيعيَّةِ ، آثَرَ البَحْثُ أنْ يَصْطَفِي مِنْ هَذَا الزِّحامِ الاصْطِلاحِيِّ الموجودِ مَا يَتَّسِقُ مَعَ حقيقَةِ الأنْوَاعِ الشِّعرِنثريَّة الموجودَةِ ، وَيَضَعَ الأنْوَاعَ الأسَاسِيَّةَ في شِعرِ مَا خَارجِ الوَزْنِ في ثلاثةِ مَسَارَاتٍ أسَاسيَّةٍ : - الشِّعرُ الحرُّ . - قَصِيدَةُ النَّثرِ . - النَّثيرَةُ . وَهِيَ الأشْكَالُ الَّتي يَرَى أنَّهَا تَشْتَمِلُ على أشْتَاتِ المنجَزِ الرَّاهِنِ في شِعرِ مَا خَارجِ الوَزْنِ ؛ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يُنْجَزُ شِعْرًا خَارجَ العَروضِ قَصِيدَةَ نثرٍ، وَقَدْ آثَرَ البَحْثُ أنْ يَتَجَاوَزَ الحديثَ في نظريَّةِ الأنْوَاعِ الشِّعريَّةِ خَارجِ الوَزْنِ ، إلى تقديمِ مُلْحَقٍ يَتَضَمَّنُ نماذجَ شِعريَّةً ممثِّلةً لهذِهِ الأنْوَاعِ في المشْهَدِ الشِّعرِنثريِّ العَرَبيِّ .
الشَِّعر الحرُّ Free verse مَرَّ مُصْطَلَحُ الشِّعرِ الحرِّ في تَاريخِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، بثلاثِ مَرَاحِلَ أسَاسِيَّةٍ ؛ بَدَأتْ المرحَلَةُ الأولى على يديْ أحمد زكي أبي شَادي (1892-1955) ، في دِيوانِهِ: (الشَّفق الباكي): 1926 ،وَفيْمَا تَلاهُ ، وَجَاءَتْ المرْحَلَةُ الثَّانيَةُ مَعَ نازك الملائكة (1923–2007) التي اعتُبرتْ قصيدتُها (الكوليرا) : 1947 إيذانًا بظهور مرحلة جديدةٍ للشِّعر الحرّ ، وجاءت المرحلةُ الثَّالثةُ ، في تجمُّع مجلة (شعر) اللبنانية ، سنة 1960 . وفي كلِّ مرحلةٍ اتَّخذَ المصْطَلَحُ دلالةً مُختلِفةً ؛ فَهُوَ عِنْدَ أبي شَادي حَرَكةٌ عَرُوضِيَّةٌ تَقُومُ علي مَزْجِ بحورِ الشِّعرِ لِلخروجِ على نَسَقِهِ الإيقاعيِّ الثَّابتِ ، وَيُوضِّح أنَّهُ في الشِّعرِ الحرِّ Free verse لا يكتفِي الشَّاعرُ بإطلاقِ القَافيَةِ بَلْ يُجيزُ أيضًا مَزْجَ البحورِ حَسْبَ مُنَاسَبَاتِ التَّأثيرِ (1) ، وَفي مَوْضِعٍ آخَر يُوَضِّحُ أنَّ " رُوحَ الشِّعرِ الحرِّ Free verse إنَّمَا هُوَ التَّعبيرُ الطَّليقُ الفِطريُّ ، كأنَّمَا النَّظْمُ غيرُ نظمٍ ؛ لأنَّهُ يُسَاوقُ الطَّبيعَةَ الكَلاميَّةَ الَّتي لا تدعو إلى التَّقيُّدِ بمقاييس مُعَّينَةٍ مِنْ الكَلامِ ، وَهَكَذَا نجدُ أنَّ الشِّعرَ الحرَّ يجمَعُ أوْزَانًا وَقَوَافيَ مختلِفَةً حَسْبَ طَبيعَةِ الموقفِ وَمُنَاسَبَاتِهِ ، فتجيءُ طبيعتُهُ لا أثَرَ لِلتَّكلُّفِ فيْهَا "(2)؛ فالوَزْنُ ليْسَ غائبًا في مَفْهومِ أبي شَادي وَلكنَّهُ يَتَشَكَّلُ تَشْكِيلاً مُغَايرًا لأنْظِمَةِ العرَوضِ المعروفَةِ ؛ حَيْثُ يمزجُ البحورَ دُونَ أنْ يخرجَ على أصولهَا الأسَاسِيَّةِ ، وَقَدْ وَجَدَتْ دَعْوَةُ أبي شَادي بعضَ الصَّدى ؛ حَيْثُ تَبِعَهَا خليل شيبوب (1891 – 1951) ، بمؤازَرَةٍ مِنْ أبي شَادي الَّذي نَشَرَ لَهُ قَصِيدَتَهُ:(الشِّراع) في (أبوللو) (3) ، وَعَلَّقَ عليْهَا . ثمَّ عَاوَدَ شيبوبُ المحاوَلَةَ في قَصِيدَتِهِ : الحديقةُ الميِّتةُ وَالقَصْرُ البَالي ؛ الَّتي نَشَرَهَا في (الرِّسالة) .(4) أمَّا عِندَ نازك الملائكةِ ، فإنَّ هَذَا المصْطَلَحَ قَدْ رَكَّزَ ، أيْضًا ، على دلالةٍ عَروضيَّةٍ ؛ غَيْرَ أنَّهَا قَدْ اخْتَلَفَتْ عَنْ الدَّلالةِ الَّتي سِيْقَ المصْطَلَحُ إليْهَا عندَ أبي شَادي ، وَهِيَ الحريَّةُ في مَزْجِ البحورِ لتُعبِّرَ عَنْ الحريَّةِ في عَدَدِ التَّفاعيلِ ؛ فَمَفْهُومُ الشِّعرِ الحرِّ عِندَ نازك الملائكَةِ ، يتمثَّلُ في إعَادَةِ تَشْكِيْلِ عَرُوضِ الشِّعرِ العربيِّ الكِلاسِيكيِّ ؛ ليُعْطِيَ الشَّاعرَ حُريَّةً أكثرَ في تَشْكِيلِ عِبَارَاتِهِ الشِّعريَّةِ ، حَسب المعنى ، وَبالتَّالي يُقلِّلُ مِنْ الحشْوِ اللفظِيِّ الزَّائدِ ، وَيُكثِّفُ العبَارَةَ الشِّعريَّةَ . (5) وَهَكَذَا تلتقِي نازكُ الملائكةُ مَعَ أبي شَادِي في وقوفِهِمَا على عَرُوضِ الشِّعرِ العَرَبيِّ ، وَلكنَّهُمَا يختلفَانِ في طَريقَةِ التَّخلُّصِ مِنْ رِقَابَةِ قيودِهِ الثَّابتَةِ . وَقَدْ بَدَأتْ المرحَلةُ الثَّالثةُ لِلْمُصْطَلَحِ مَعَ شُعَرَاءِ مجلَّةِ (شِعر) ، مُنذُ أواخِرِ الخمسينيَّاتِ ؛ لِيَخْرُجَ المصْطَلَحُ تمامًا على الدَّلالةِ العَرُوضِيَّةِ ، ليُعَبِّرَ عَنْ " الشِّعرِ الخَالي مِنْ الوَزْنِ وَالقافيَةِ وَالمحافَظَةِ على نَسَقِ البيتِ" (6)، وَيَسْتنِدُ هَذَا المفهومُ إلى مَرْجِعيَّةِ الشِّعرِ الفَرنسِيِّ وَالإنجليزيِّ الَّتي تَوَزَّعَ عليهِمَا شُعَرَاءُ المجلَّةِ . وَقَدْ ظَهَرَ الصِّدامُ بَيْنَ هَذَا المفهومِ وَالمفهومِ السَّابقِ حينَمَا تَنَاوَلتْ خالدة سعيد (بتوقيع: خزامى صبري) - دِيوَانَ:(حزن في ضَوْءِ القَمَر)، لمحمَّد الماغوط ( 1934 – 2006) ، باعْتِبَارِهِ شِعْرًا ، لا نثرًا شعريًّا(7)؛ فأبْدَتْ نازك الملائكة دَهْشَتَهَا وَاسْتِهْجَانَهَا بقولهَا :" يفتحُ القَارئُ تِلكَ الكُتُبَ ، مُتوَهِّمًا أنَّهُ سَيَجِدُ فيْهَا قَصَائدَ مِثْلَ القَصَائدِ ؛ فيْهَا الوَزْنُ وَالإيقَاعُ وَالقَافيَةُ ، غَيْرَ أنَّهُ لا يجدُ مِنْ ذَلكَ شيئًا ، وَإنَّ مَا يُطالِعُهُ في الكِتابِ نثرٌ اعتياديٌّ ممَّا يقرأ في كُتُبِ النَّثرِ؛ فَلِمَاذَا كَتَبُوا على الغُلافِ أنَّه شِعرٌ ؟، أتُرَاهُمْ يجهلونَ حُدودَ الشِّعرِ ؟، أمْ أنَّهُمْ يُحْدِثونَ بِدْعَةً لا مُسِّوغَ لهَا ."(8) ثمَّ أبْدَتْ نازك تَشَبُّثَهَا بمصْطَلَحِ الشِّعرِ الحرِّ في مُوَاجَهَتِهَا لجبرَا إبراهيم جبرَا (1920- 1994) ؛ الَّذي تَنَاوَلَ شِعرَ توفيق صايغ (1923–1971)؛ بِاعْتِبَارِهِ شِعرًا حُرًّا، وَاتَّهَمَتْهُ قائلةً أنَّهُ " أخَذَ ، دُونَ مُبَالاةٍ ، اصْطِلاحَنَا " الشِّعرَ الحرَّ "؛ الَّذي هُوَ عُنوَانُ حَرَكَةٍ عَروضِيَّةٍ تَسْتَنِدُ إلى بحورِ الشِّعرِ العَرَبيِّ وَتَفْعِيلاتها ، أخَذَ اصْطِلاحَنَا وَألْصَقَهُ بنثرٍ اعتياديٍّ ، لَهُ كُلُّ صِفَاتِ النَّثرِ المُتَّفقِ عليْهَا وَلَيْتَهُ ، على الأقَلِّ ، تَرَكَ اصْطِلاحَنَا ، وَوَضَعَ غيرَهُ حِرْصًا على وُضوحِ الاصْطِلاحَاتِ ، في أذْهَانِ جماهِيرِنَا العَربيَّةِ المتعَطِّشَةِ لِلْمَعْرفَةِ ، وَإنَّمَا أسمينَا شِعرَنَا الجديدَ بِالشِّعرِ الحرِّ ؛ لأنَّنَا نقصدُ كُلَّ كلِمَةٍ في هَذَا الاصْطِلاحِ ، فَهُوَ "شِعرٌ " لأنَّهُ يُنوِّعُ عَدَدَ التَّفعِيلاتِ الحشْوِ في الشَّطرِ ، خَالِصًا مِنْ قيودِ العَدَدِ الثَّابِتِ في شَطْرِ الخليْلِ ." (9) وَكَانَ ممَّا جَاءَ في رَدِّ مجلَّةِ شِعرٍ على نازك ، توضيحها أنَّ الشِّعرَ الحرَّ هُوَ" الشِّعرُ الخالي مِنْ الوَزْنِ وَالقَافيَةِ وَالمحافَظَةِ على نَسَقِ البيتِ"(10) ، وَلمْ يَقْتَصِرْ التَّوضيحُ على هَذَا الحدِّ ؛ فَقَدْ وَاصَلَ شُعَرَاءُ المجلَّةِ وَنُقَّادُهَا تعمِيقَ هَذِهِ الدَّلالةِ ، وَمِنْهُمْ :يوسف الخال وجبرَا إبراهيم جبرَا وكمال خير بك ؛ وَمِنْ ذَلكَ قولُ جبرَا " الشِّعرُ الحرُّ ترجمةٌ حَرفيَّةٌ لمصْطَلَحٍ غَرْبيٍّ هُوَ Free verse بالإنجليزيَّةِ ، verse libre بِالفَرنسِيَّةِ ، وَقَدْ أطْلَقُوهُ على شِعرٍ خَالٍ مِنْ الوَزنِ وَالقافيَةِ كليهِمَا ، إنَّهُ الشِّعرُ الَّذي كَتَبَهُ والت وايتمان وَتَلاه فيْهِ شُعَرَاء كثيرونَ في أدَبِ أمَمٍ كثيرَةٍ ؛ فكُتَّابُ الشِّعرِ الحرِّ بينَ شُعَرَاءِ العَرَبِ اليومَ هُمْ أمْثَالِ محمَّد الماغوط وتوفيق صَايغ وَكَاتِبِ هَذِهِ الكَلِمَاتِ ، في حِيْن أنَّ قَصِيدَةَ النَّثرِ هِيَ القَصِيدَةُ الَّتي يكونُ قوامُهَا نثرًا مُتَوَاصِلاً في فِقْرَاتٍ كَفِقْرَاتِ أيِّ نثرٍ عَاديٍّ ." (11) وَكَانَ مِنْ رَأي محمَّد النِّويهِي أنَّ إطْلاقَ مُصْطَلَحِ الشِّعرِ الحرِّ على شِعرِ التَّفعيلَةِ خطأٌ بَيِّنٍ ؛ لأنَّهُ يُوهِمُ أنَّ هَذَا الشِّعرَ يتحرَّرُ ، مِنْ الوَزْن ، بينَمَا وُضِعَتْ هَذِهِ التَّسمِيَةُ ترجمَةً لِلْمُصْطَلَحِ الإنجليزيِّ Free verse أوْ الفَرَنْسِيّ verse libre،وَهمَا يعنيَانِ الشِّعرَ المنثور"(12). وَقَدْ أكَّدَ س. موريه على مَا ذَهَبَ النِّويهي إليْهِ ، حِيْنَ أوْضَحَ أنَّ " الشِّعرَ الحرَّ في الإنجليزيَّةِ : Free verse ، وَفي الفَرَنسِيَّةِ: verse libre، لا يَتَمَثَّلُ في ذَرائِعَ عَروضِيَّةٍ شَكليَّةٍ." (13) إنَّ هَذِهِ الدَّلالةِ - الَّتي بَدَأتْ مَعَ مجلَّةِ (شِعرٍ) - هِيَ الوَحِيدَةُ الَّتي تَتَّسقُ مَعَ مَا يُنبئُ بِهِ المصْطَلَحُ في شِعريَّاتِ الأممِ الأخْرَى ؛ فالشِّعرُ الحرُّ ، بهذَا الشَّكلِ هُوَ الشِّعرُ الخالي مِنْ الوَزْنِ وَالقافيَةِ ، المكتوبُ في سطورٍ حُرَّةٍ ، قَدْ تطولُ أوْ تَقْصُرُ ، تَبَعًا لِتَدَفُّقِ إيقَاعِ التَّجربَةِ ، وَرُبمَا تكونُ أقدمُ إشَارَةٍ عَنْهُ ، في العَربيَّةِ ، مَا وَرَدَتْ في تعريفِ أمين الرِّيحاني لِلشِّعر المنثور.(14) وَفي حَالةِ الشِّعرِ الحرِّ نجدُ الشِّعرَ - بِقَدْرِ انْفِصَالِهِ عَنْ النَّظمِ - يَنْفَصِلُ ، أيضًا ، عَنْ النَّثرِ في تَشْكِيْلِهِ لِشِعريَّتِهِ الخاصَّةِ ، وِفْقًا لحركَتِهِ الدَّاخليَّةِ الحرَّةِ ، وَقَدْ مَيَّزَ أبرامز بينَ الشِّعرِ الحرِّ وَالنَّثرِ العَاديِّ بقولِهِ :" الشِّعرُ الحرُّ يُطْبَعُ في أسْطُرٍ قَصِيرَةٍ ؛ دُونَ أنْ يكونَ لَهُ مَا لِلنَّثرِ مِنْ اسْتِمرَاريَّةٍ ، وَيَشْتَمِلُ أكثرَ مِنْ النَّثرِ العَاديِّ على إيقاعٍ محسوبٍ ، لكنَّهُ يفتقرُ إلى أنماطِ النَّبرِ المقطعِيِّ المنتظِمِ في العَروضِ التَّقليديِّ ؛ الَّذي يأخُذُ شَكْلَ التَّفعيلَةِ المتكرِّرةِ . "(15) وَقَدْ بَدَتْ مجلَّةُ (شِعر) مَظَلَّةً لِلشِّعرِ الحرِّ العَرَبيِّ ؛ حَيْثُ ضَمَّتْ المجموعَةَ الأسَاسِيَّةَ الممثِّلةَ لَهُ ، وَمِنْهُمْ : توفيق صَايغ ، وَجبرَا إبراهيم جبرَا، وإبراهيم شُكْرالله ، وَمحمَّد الماغوط ، وَشوقي أبو شَقرا، وَغيرُهُمْ ، كَمَا تَوَلَّتْ نَشْرَ دِيوَانَ محمَّد الماغوط الأوَّل:(حزن في ضوء القمر):1959 ، وَأعْقَبَتْهُ بدواوينَ أخْرَى مِنْهَا : (تموُّز في المدينَةِ) لجبرَا إبراهيم جبرَا، و (لَنْ) لأُنسِي الحاج ، و:(مَاء إلى حِصَانِ العائلَةِ) لشوقي أبي شَقرا ،و(القَصِيدة ك) لتوفيق صَايغ ، غيرَ أنَّ مُصْطَلَحَ : الشِّعر الحرِّ وَاجَهَ مُشْكِلةً أخْرَى ، دَاخِلَ مجلَّةِ (شِعر) نفسِهَا ؛ حَيْثُ تمَّ الخَلْطُ بينَهُ وَبَيْنَ مُصْطَلَحِ : قَصِيدَةِ النَّثرِ ؛ ففي حِين تَشَبَّثَ ذَوو الثَّقافَةِ الإنجليزيَّةِ ؛ كتوفيق صَايغ وجبرَا إبراهيم جبرَا وإبراهيم شُكرالله بِالمصْطَلَحِ ، تَمَسَّكَ ذَوو الثَّقافَةِ الفَرنسِيَّةِ ؛ كأدُونيسَ وَأنْسِي الحاج وعصام محفوظ بمصْطَلَحِ قَصِيدَةِ النَّثرِ، وَتمَّ الخَلْطُ بينَ المصْطَلَحَينِ لِصَالحِ مُصْطَلَحِ قَصِيدَةِ النَّثرِ ، وَاللافِتُ أنَّ المصْطَلَحَ الأخيرَ ظَلَّ يَسْتَقرُّ لِلدَّلالَةِ عَلى كلُِّ شِعرٍ مَكْتوبٍ بالنَّثرِ ؛ حَيْثُ ظَلَّ الوَعْيُ بإنجازِ الشِّعرِ ذَاتيًّا وَمُتَجَدِّدًا، فيْمَا يظلَّ الوَعْيُ النَّظريُّ بِهِ ثابتًا وَوَافِدًا - تحديدًا - مِنْ أطروحَةِ سوزان برنار ، عَنْ الشِّعرِ الفَرَنسِيِّ : قَصِيدَة النَّثرِ مِنْ بودلير إلى أيَّامِنَا ، وَقَدْ تَسَبَّبَ هَذَا الخلْطُ في تَشْويشِ الرُّؤى أمَامَ البَعْضِ ، وَهُوَ مَا أدَّى إلى إتِّهامِ هَذَا الشِّعرِ بأنَّهُ فاقدُ الهويَّةِ المحدَّدةِ ، وَهُوَ مَا يبدو في هَذَا الرَّأي المنفَعِلِ :" وَلَكنَّ هَذَا الشِّعرَ مَازَالَ مِنْ غيرِ جِنْسِيَّةٍ وَهويَّةٍ ؛ فَبَعْضُهُ يُكتَبُ على هَيئَةِ شِعرِ التَّفعيلَةِ وَبَعْضُهُ يُكتَبُ على هَيئَةِ المقَالِ النَّثريِّ ، وَبَعْضُهُ يخلِطُ بينَ الشَّكلينِ، وَهَذَا دَليلٌ على كَوْنِهِ مِنْ غيرِ شَكْلٍ . قَدْ يكونُ الشَّكلُ عبوديَّةً ، وَمَعَ ذَلكَ فالهويةُ لا يمكِنُ لهَا أنْ تَتَمَظْهَرَ مِنْ غيرِ شَكْلٍ"(16) ، وَكَانَ أدونيسُ (1930 - ) أوَّلُ مَنْ رَوَّجَ لمصْطَلَحِ قَصِيدَةِ النَّثرِ ، في العَربيَّةِ أثناءَ عَرْضِهِ لكتابِ سوزان برنار: قَصِيدَة النَّثرِ مِنْ بودلير إلى أيَّامِنَا، في العَددِ الرَّابع عَشَرَ، ربيع 1960، لمجلَّةِ (شِعر) ، وَفي السَّنةِ نفسِهَا صَدَرَ عَنْ دَارِ مجلَّةِ (شِعر)، دِيوَانُ أنسِي الحاج :(لَنْ)، مُصَّدرًا ببيَانٍ سَاخِنٍ ؛ يعتمِدُ بشَكْلٍ أسَاسِيٍّ على الأُفقِ النَّظريِّ لكِتابِ سوزان برنار ،كَانَتْ حماسَةُ أدونيسَ شديدةً ،وَكَانَتْ حماسةُ أُنسِي أشَدَّ ، وَكَانَتْ تنظيرَاتُ سوزان برنار هِيَ المنبَعُ النَّظريُّ الأسَاسِيُّ لكِليهِمَا ؛ فإذَا كَانَتْ برنار ، مثلاً ، تُؤكِّدُ أنَّ قَصِيدَةَ النَّثرِ تَتَمَيَّزُ ، في المقَامِ الأوَّلِ بقوَّةِ دَفْعٍ مُزدَوجَةٍ :" قوَّةٍ فوضويَّةٍ ، هَدَّامَةٍ تجنحُ إلى إنْكَارِ الأشْكَالِ القائِمَةِ ، وَقوَّةِ بناءٍ تهدِفُ إلى تأسِيسِ شِعريَّةٍ كُلَّيةٍ ، وَمُصْطَلَحُ قَصِيدَةِ النَّثرِ نَفْسُهُ يُؤكِّدُ هَذِهِ الازدواجيَّةَ ؛ لأنَّهَا تُصَاغُ في نثرٍ يتمرَّدُ على كُلِّ التَّقاليدِ العَرُوضيَّةِ وَالأسْلوبيَّةِ ، وَتَنْظِمُ شِعرًا يَسْتَشْرفُ شَكْلاً مُنَظَّمًا وَمُنْغَلِقًا على ذَاتِهِ ، وَمُنْبَتًّا مِنْ الزَّمنِ " فإنَّنَا نجدُ الشَّاعرينِ العربيَّينِ لمْ يفعَلا - في الحقِّ - أكثرَ مِنْ أنْ يُعِيدَا صِيَاغَةَ الفِقْرَةِ السَّابقَةِ لسوزان برنار " (17)
أدونيس أنسِي الحاج تتضمَّنُ قَصِيدَة النَّثرِ مبدأ مُزدوجًا : الهدم ؛ لأنَّهَا وليدةُ التَّمردِ ، وَالبِنَاء ؛ لأنَّ كلَّ تمرُّدٍ ضد تمرد ضِدُّ القوانينِ القائِمَةِ مُجْبَرٌ ببداهَةٍ ، إذَا أرَادَ أنْ يُبْدِعَ أثرًا يبقى أنْ يُعَوِّضَ عَنْ تِلكَ القَوانينِ بقَوَانِين أخْرى كيلا تَصِلَ إلى اللاعضويَّةِ وَاللاشكل فَمِنْ خَصَائِصِ الشِّعرِ أنْ يعرضَ ذَاتَهُ في شَكلٍ مَا، أنْ يُنظِّمَ العَالمَ ، أنْ يُعِّبرَ عنه.(18) . في كُلِّ قَصِيدَةٍ نثرٍ تلتقِي مَعًا دُفْعَةٌ فوضويَّةٌ هَدَّامَةٌ وَقوَّةُ تنظِيمٍ هَنْدَسيَّة . لَقَدْ نَشَأتْ قَصِيدَةُ النَّثرِ انْتِفاضًا على الصَّرامَةِ وَالقيدِ . وَمِنْ الجَمْعِ بَيْنَ الفَوضَويَّةِ لِجِهَةٍ وَ التَّنظِيمِ الفَنيِّ لِجِهَةٍ أخْرَى ، مِنْ الوِحْدَةِ بينَ النَّقيضَينِ تَنْفَجرُ دِينَامِيكِيَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ الخَاصَّةِ .(19)
لَقَدْ كَانَ مَا كَتَبَهُ أُنسِي (1937 - ) في: لَنْ ، قَصِيدَةَ نثرٍ ، أمَّا مَا كَتَبَهُ محمَّد الماغوط في: حُزْن في ضَوْءِ القَمَر، فَقَصَائدُ شِعرٍ حرٍّ ، وَلَكِنَّ مُصْطَلَحَ قَصِيدَةِ النَّثرِ بَدَا كأنَّهُ مَظَلَّةُ القََصِيدَتينِ مَعًا . وَهَكَذَا ظَلَّتْ مَعَاييرُ برنار هِيَ اللحنُ الَّذي يُعْزَفُ بأشْكَالٍ وَدَرَجَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مَهْمَا تَنَوَّعَتْ التَّجاربُ الشِّعريَّةُ العَربيَّةُ وَتَبَايَنَتْ ، وَإذَا كَانَ بِالإمْكَانِ مُلاحَظَةُ الفَارِقِ النَّوعِيِّ بينَ قَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ وَقَصِيدَةِ النَّثرِ - وَهُوَ مَا ظَهَرَ في تَعْريفِ جبرَا إبراهيم جبرَا لِلشِّعرِ الحرِّ ، الوَاردِ - فإنَّهُ بالإمْكَانِ ، كَذَلكَ ، مُلاحَظَةُ الفَارقِ النَّوعيِّ بَينَ الشِّعرِ الحرِِّ وَالشِّعرِ المنثُورِ ، على الرَّغمِ مِنْ تَشَابُهِ هَذينِ النَّوعَيْنِ الشِّعريَّينِ شَكْليًّا وَإجرائيًّا، باعْتِمَادِهِمَا على تَشْكِيلِ شِعرٍ مَادتُهُ الأسَاسِيَّةُ نثرٌ، وَاتِّخاذِهِمَا شَكْلاً إيقاعيًّا حّرًّا، وَاتِّحادِهمَا بإيقَاعِ التَّجربَةِ الهارمونيِّ السَّيَّالِ ، وَتحَرُّرِهمَا مِنْ آليَّاتِ إنتَاجِ الدِّلالَةِ النَّصيَّةِ المعروفَةِ ، وَطُموحِهِمَا إلى جَعْلِ اللغَةِ أكثرَ تخفُّفًا وَطَواعِيَةً ، لِتَشْكِيْلِ شِعريَّةٍ جَديدَةٍ ، فَتَصِيرُ مَا لمْ تَكُنْهُ مِنْ قبْل وَالفَرْقُ الأسَاسيُّ بينهُمَا هُوَ الفَرْقُ بَينَ الشِّعرِ وَالقَصِيدَةِ ؛ فَالشِّعرُ عَامٌ ، وَمَفْتُوحٌ ، وَمُتَدَفِّقٌ ، سَيَّالٌ ، أمَّا القَصِيدَةُ فَهِيَ تَبَنْينٌ وَإحْكَامٌ، في القَصِيدَةِ دَائِمًا ، يَظَلُّ البِنَاءُ مَشْحُونًا وَمُغْلَقًا وَلا يَفْنى ، وَلا يَتِمُّ اسْتِيْعَابُهُ إلاَّ بحلولِهِ كَامِلاً...وَكُلُّ محاوَلةٍ لاسْتِدْعَاءِ القَصِيدَةِ لا تَتمَُّ إلاَّ باسْتِحْضَارهَا مِنْ جديدٍ باسْتِمْرَارٍ ، هَذِهِ البنيَةُ النَّصيَّةُ المحُكَمةُ هِيَ مَصْدَرُ القوَّةِ الشِّعريَّةِ وَمجلاهَا مَعًا (20)، وَثمَّةَ فرْقٌ كيفِيٌّ آخَر يَكْمُنُ في طَبِيعَةِ الوَعْي ؛ فبينَمَا يبدو الوَعْيُ في الشِّعرِ المنثورِ رُومانتيكِيًّا، وَرَوحَانِيًّا ، وَغِنائيًّا، يَبْدُو الوَعْيُ في الشِّعرِ الحرِّ حَداثيًّا ، وَمُرَكَّبًا ، وَعَلى الرَّغم مِنْ أنَّ الشِّعرَ المنثورَ هُوَ بِدَايَةُ الشِّعرِ الحرِّ، تَاريخيًّا وَنَوْعيًّا ، إلاَّ أنَّ الشِّعرَ المنثورَ لمْ يكُنْ حُرًّا عَلى النَّحوِ الأدَقِّ ، في أحْوَالٍ كثيرَةٍ ؛ حَيْثُ اسْتَعَاضَ بِضَوَابطَ بديلَةٍ ، وَقَوَافٍ مُتَرَاوحَةٍ وَتَوَازُناتٍ صَوتيَّةٍ ، وَتَوَازياتٍ محسُوبَةٍ ، وَزَخَارفَ بلاغِيَّةٍ ، تَعَلَّقَتْ بهَا شِعريَّتُهُ.(21) وَعلى الرَّغم مِنْ اخْتِصَارِ أجناسِيَّةِ شِعْرِ النَّثرِ في مُصْطَلَحِ قَصِيدَةِ النَّثرِ فَلايَزَالُ مِنْ شُعرَاءِ الشِّعر الحرِّ مَن يتشبَّثُ بالمصْطَلَحِ الأخِيرِ، وَكَانَ مِنْهُمْ سركون بولص (1944-2007) ؛ الَّذي رَفَضَ إدْرَاجَ قَصَائِدَهُ ضِمْنَ قَصِيدَةِ النَّثرِ ، قَائِلاً :".. وَأنَا أُسمِّي هَذَا الشِّعرَ الَّذي أكْتُبُهُ بِالشِّعرِ الحرِّ، كَمَا كَانَ يكتُبُهُ إيليوت وَأودن ، وَكَمَا يكتُبُهُ شُعَرَاء كثيرونَ في العَالمِ الآنَ وَإذَا كُنْتَ تُسَمِّيَهَا قَصِيدَةَ نثرٍ فَأنْتَ تُبدِي جَهْلَكَ ، لأنَّ قَصِيدَةَ النَّثرِ هِيَ الَّتي كَانَ يكتبُها بودلير ورامبو ومالارميه ، وَتُعْرَفُ بـِ Prose Poem؛ أيْ قَصِيدَة غير مُقَطَّعَةٍ ."(22) وَمُعْظَمُ مَا أُنجِزَ مِنْ شِعرِ النَّثرِ هُو شِعرٌ حرٌّ ؛ بَدَأ ذَلكَ مُنذُ أربعينيَّاتِ القَرْنِ الماضِي ؛ وَهُوَ مَا ظَهَرَ في نُصوصِ شُعَرَاءِ مجلَّةِ (التَّطوَر) المصْريَّةِ ، وَفي نهايَاتِ هَذَا العِقْدِ ظَهَرَتْ تجاربُ توفيق صَايغ ، وَفي أواخِرِ الخمسِينيَّاتِ وَأوائِلِ السِّتينيَّاتِ شَرَعَ هَذَا الشِّعرُ في الذِّيوعِ عِنْدَ: محمَّد الماغوط وَجبرَا إبراهيم جبرَا وَأدونيس وإبراهيم شُكْرالله وَأنْسِي الحاج (بِاسْتِثْنَاءِ بَوَاكِيرِهِ الشِّعريَّةِ في :" لَنْ " ، وَ" الرَّأس المقطوع") ، وَشَوقي أبي شَقرا وَفُؤاد رِفْقَة ، ثُمَّ انْضَمَّ إلى القَافِلَةِ - بَعْدَ قليْلٍ - شُعَرَاءُ جماعَةِ كركوك: فاضِل العَزَّاوي ، وَسَرْكون بُولص ، وَصَلاح فائِق ، وَجَان دمو، وَمُؤيَّد الرَّاوي ، وَأنْوَر الغسَّاني ، وَالأب يوسف سعيد، وَتَدريجيًّا صَعَدَ إلى المشْهَدِ آحَادٌ مِنْ مختلَفِ أنحَاءِ الخريطَةِ الشِّعريَّةِ مِنْهُمْ : عبَّاس بيضون ، سَليم بركات ، بُول شاوول ، رياض الصَّالح الحسَين ،وَدِيع سَعَادة ، بَسَّام حَجَّار ، قاسِم حدَّاد ، محمَّد آدم ، أمجد ناصِر ، عقل العويط ، وَليد خازندار ، زَاهِر الغَافِري ، سَيف الرَّحبي ، حِلْمِي سَالم ، زكريَّا محمَّد ، رفعت سَلاَّم ، محمَّد صَالح ، وَتَوَالى حُضُورُ هَذَا الشِّعرِ مُنذُ الثَّمانينيَّاتِ بإسْهَامَاتِ كثيرينَ - في تَوَجُّهَاتٍ عَامةٍ ، وَفَرديَّةٍ ، مَعًا - مِنْهُمْ : علي منصور ، فتحي عبد الله ، إيمان مِرْسَال ، أسَامة الدَّناصُوري ، علاء خالد ، محمود قرني ، أحمد يماني ، محمَّد متولي ، عاطِف عبد العزيز (في مِصْرَ) ، وَيُوسف بزِّي ، يحيى جَابر ، إسْكَنْدر حَبَش ، فادِي أبو خليل ، بلال خبيز (في لبنانَ)، وَنصيف النَّاصريّ ، باسِم المرعبي ، محمَّد تُركي النَّصَار، خَالد جَابِر يُوسف ، صَلاح حَسَن (في العِرَاق)، وَغيرُهُمْ كثيرونَ ، ينتشرونَ ، بكَثْرَةٍ ، مُنذُ مُنتَصَفِ الثَّمانينيَّاتِ في كُلِّ البِقَاعِ العَربيَّةِ ، بِالإضَافَةِ إلى شِعرِ المهْجَريَّةِ الجديدَةِ في لندنَ وَأمريكا وَألمانيا وَباريسَ وَالدَّانماركَ ، وَبِعَطَاءَاتِ هَؤلاءِ وَأقْرَانهمْ حَقَقَّتْ قَصِيدَةُ الشِّعرِ الحُرِّ حُضُورَهَا المكثَّفَ في شَتَّى بقَاعِ الخريطَةِ العَربيَّةِ ، وَتحدَّدَ بهَا سَمْتُ الفِعْلِ الشِّعريِّ لهذِهِ المرْحَلَةِ ، على الرَّغمِ مِنْ أنَّ الإقْرَارَ بهذَا الحضورِ أُدْرِجَ - أحْيَانًا - تحتَ مظلَّةِ مُصْطَلحِ قَصِيدَةِ النَّثرِ .
قَصِيدَةُ النَّثرِ Prose Poem
يُشِيرُ هَذَا المصْطَلَحُ إلى القَصِيدَةِ النَّثريَّةِ غيرِ المقطَّعَةِ ، قَصِيدَةِ الإيقَاعِ المتدفِّقِ الموصُولِ في خِطَابٍ يَتَدَفَّقُ غَامِرًا مِسَاحَاتِ البَيَاضِ ، في هَيْئَةٍ كَهَيْئَةِ النَّثرِ الموَصْولِ على الصَّفحَةِ ، كأيِّ نثرٍ ، مُسْتثمِرَةً طَاقاتِ السَّردِ في اصْطِيَادِ الشِّعرِ في خَريطَةِ النَّثرِ ؛ لِيُصْبِحَ مِنْ النَّثرِ العَادِيِّ الكِيَانَ الفَنيَّ المحكَمَ الَّذي هُوَ القَصِيدَةُ كَامِلةً في هَيْئَةِ النَّثرِ وَسِيولَتِهِ وَتَدَفُّقِةِ غيرِ أنَّ الوَعْيَ بإنْشَاءِ قَصِيدَةٍ في رُكَامِ النَّثرِ هُوَ وَعْيٌ بإنجازِ نَوْعٍ شِعريٍّ مَقْصودٍ في الأسَاسِ مُنذُ أوَّلِ مَفْرَدَةٍ في إبدَاعِ هَذِهِ القَصِيدَةِ ، اسْتجابَةً لإيقَاعِ التَّجربَةِ المنظِّمِ لِلتَّركيْبِ النَّحويِّ لِلنَّصِّ وَلمعمَارِ النَّصِّ كُلِّه ، وَهَذَا مَا يُشَكِّلُ مِنْهَا قَصِيدَةً ؛ فَهِيَ قَصيدَةٌ تَسْتَخْدِمُ وَتَسْتَثْمِرُ حِيلَ وَإجْرَاءَاتِ النَّثرِ العَاديِّ كَالسَّردِ وَالوَصْفِ وَالاسْتَرسَالِ وَالتَّدفُّقِ الحُرِّ ؛ لأغْرَاضٍ شِعريَّةٍ أكثرَ تحرُّرًا وَبَكَارَةً ، وَبالتَّالي فَهَذِهِ الإجْرَاءَاتُ في قَصيدَةِ النَّثرِ- هِيَ مَوَادٌ خَامٍ لِلشِّعرِ تفقدُ هويَّتَهَا وَغَايَتَهَا السَّابقَةَ في النَّثرِ العَاديِّ حِينَ تحلُّ في جَسَدٍ شِعريٍّ ، وَفي الشِّعرِ دَائِمًا وَعْيٌ خَاصٌّ بطبيعَةِ الإيقَاعِ ؛ وَعْيٌ يُحرِّكُ اللغَةَ وَيُكثِّفُهَا وَيَشْحِنُهَا ، هَذَا الوَعْيُ يختلِفُ عَنْ الوَعْي الإبداعيِّ في إبدَاعِ النَّثرِ ؛ الوَعْيُ الإبداعيُّ بطبيعَةِ النَّوعِ في الشِّعرِ إيقاعِيٌ دَائِمًا ، ينتظمُ البِنَاءُ اللغويُّ فيْهِ ، سَوَاء في قَصِيدَةِ الوَزْنِ أوْ في قَصَائدِ الشِّعرِ الحرِّ أوْ في قَصِيدَةِ النَّثرِ ، هَذَا الوَعْيُ نابعٌ أسَاسًا مِنْ دَلالةِ مُصْطَلَحِ قَصِيدَةٍ ؛ الَّذي يتركَّزُ في الإشَارَةِ إلى قَصديَّةِ الإبدَاعِ الشِّعريِّ ، وَأنَّ الشَّاعرَ قَصَدَ إلى تَشْكِيلِهَا شَكْلاً شِعريًّا في الأسَاسِ ، عَنْ قَصْدٍ وَعَمْدٍ وَوَعْيٍ بِالتبنيُنِ ، وَبالتَّالي تأتي مِنْ مَادةِ النِّثرِ الحيِّ الكامِلِ قَصِيدَةٌ ؛ فَقَصِيدَةُ النَّثرِ قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ قَصِيدَةٌ بالمعنى الدّلالي لا بِالدَّلالةِ العَروضِيَّةِ الشَّائعَةِ ، ففي (لِسَان العَرَب) نقرأُ :" وَقِيلَ سُمِّيَ قَصِيدًا لأنَّ صَاحِبَهُ احْتَفَلَ بِهِ فنقَّحَهُ بِاللفظِ الجيِّدِ وَالمعنى المختَارِ ، وَأصْلُهُ مِنْ القَصِيدِ وَهُوَ" المخُّ السَّمينُ " الَّذي يتقصَّدُ أوْ يتكسَّرُ لِسِمَنِهِ ، وَالعَرَبُ تَسْتَعيرُ السِّمنَ في الكَلامِ الفَصِيحِ ، فَتَقُولُ : هَذَا كَلامٌ سَمِينٌ ، أيْ جَيِّدٌ ، وَقَالوا: شِعرٌ قَصِيدٌ إذَا نُقِّحَ وَجُوِّدَ وَهُذِّبَ ، وَقيلَ سُمِّيَ الشِّعرُ التَّامُ (قَصِيدًا) لأنَّ قائلَهُ جَعَلَهُ مِنْ بَالِهِ فَقَصَدَ لَهُ قَصْدًا وَلمْ يحتسِه حَسْيًا على مَا خَطَرَ ببالِهِ وَجَرَى على لِسَانِهِ ، بَلْ رَوَّى فيْهِ خَاطِرَهُ وَاجْتَهَدَ في تجويدِهِ وَلمْ يقتضِبْهُ اقتضَابًا فَهُوَ فعيلٌ مِنْ القَصْدِ "(23)، وَيُضِيفُ صَاحِبُ (لِسَانِ العَرَب) " أصْلُ (ق ص د): الاعْتِزَامُ وَالتَّوجُّهُ وَالنُّهُودُ وَالنُّهوضُ نحوَ الشَّيءِ "(24) ؛ فَالقَصْدُ في إبْدَاعِ قَصِيدَةٍ ، إذًا ، هُوَ مَا يُميِّزُ هَذِهِ القَصِيدَةِ عَنْ النَّثرِ الشِّعريِّ الموقَّعِ ، أمَّا النَّثريَّةُ في المصْطَلحِ ، فَقَدْ فَرَضَتْهَا دَلالةُ الإضَافةِ ؛ فَقَصِيدَةٌ مُضَافَةٌ إلى النَّثرِ الَّذي هُوَ أصْلُهَا الَّذي تَشَكَّلتْ في تُرْبَتِهِ وَتميَّزَتْ بعناصِرِهِ الَّتي صَاغَتْ مِنْهَا شِعريَّتَهَا الخاصَّةَ ؛ إذِنْ فَمُصْطَلَحُ قَصِيدَةِ النَّثرِ يُرَادُ بِهِ الدَّلالةُ على تَلكَ القَصِيدَةِ الَّتي تُكْتَبُ كَمَا يُكْتَبُ النَّثرُ العَاديُّ ، المكوَّنةِ مِنْ عَنَاصِرِ النَّثرِ التَّامَّةِ ، القَصِيدَةِ الصَّاعدَةِ في مجالِ النَّثرِ، قَصِيدَةٌ هُنَا مُضَافةٌ إلى النَّثر؛ لأنَّ النَّثرَ هُوَ الأصْلُ وَالأسَاسُ ، وَالقَصِيدَةُ هِيَ الخُلاصَةُ الطَّالعةُ في فَضَائِهِ وَالثَّمرَةُ النَّاتجةُ في حَقْلِهِ ، هِيَ (الشَّكلُ) الطَّالعُ في (اللاشَكْلِ) وَ(النِّظامُ) المنبثِقُ مِنْ (اللانِظَامِ) وَ(الصَّيغَةُ) الصَّاعِدَةُ مِنْ(الانْفِرَاطِ) ؛ وَلهذَا أكَّدَتْ سوزان برنار على أنَّ " مفهومَ القَصِيدَةِ جَوْهَريٌّ لَدَى قَصِيدَةِ النَّثرِ"(25) ، وَهَذَا مَا يجعَلُ مِنْ هَذِهِ (القَصِيدَةِ) نَوْعًا (شِعريًّا) صَاعِدًا في خَريطَةِ (النَّثرِ) ؛ الَّتي هِيَ تَفَرُّقٌ وَلا نِظَام ، وَتَبَعثُرٌ وَانْفِرَاط ؛ حَيْث يُوضِّحُ صَاحِبُ (لسَان العَرَب) أنَّ (نَثْرَ) مِنْ: " نَثَرْتَ الشَّيءَ بيدِكَ تَرْمِي بِهِ مُتَفَرِّقًا مِثْلَ نَثْرِ الجوْزِ وَاللوْزِ وَالسُّكرِ ، كَذَلكَ نَثَرَ الحَبَّ إذَا بَذَرَ وَهُو النّثارُ ،وَقَدْ نَثَرَهُ ينثرُهُ نَثْرًا أوْ نثَار ، وَنَثَرَهُ فانْتَثَرَ وَتَنَاثَرَ وَالنّثَارَةُ مَا تَنَاثَرَ مِنْهُ ، وَخَصَّ اللحياني بِهِ مَا يُنْثَرُ في المائدَةِ فيُؤكَلُ وَالنّثارُ فُتَاتُ مَا يَتَنَاثرُ حَواليَ الخوانِ مِنْ الخبزِ وَغيرِ ذَلكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ" (26)، هَكَذَا يكشِفُ مُصْطَلَحُ قَصِيدَةِ النَّثرِ هويَّةَ هَذَا النَّصِّ : صعودُ (النِّظامِ) ، مِنْ (التَّفرُّق)، برُوزِ(الصِّيغَةِ) في (الانْفِرَاطِ) ، انْبِجَاسُ الشِّعرِ في كِيَانٍ (نَثْريٍّ) خَالِصٍ ، تجري في عروقِهِ شِعْريَّةٌ مختلِفَةُ السِّماتِ ، وَيَكْشِفُ تركيبُ المصْطَلَحِ عَنْ إشْكاليَّةِ هَذَا الكائِنِ الشِّعريِّ المسَمَّى قَصِيدَةِِ النَّثرِ؛ الَّذي فَصَلَ مُصْطَلَحِ قَصِيدَةٍ عَنْ العَروضِ ، حِينَ بَرَزَ عنوَانًا على قَصِيدَةٍ أخْرَى تَتَشَكَّلُ بآليَّاتٍ أخْرَى ، خَارجَ هَيْمَنَةِ آليَّاتِ العَروضِ وَالبَلاغَةِ ، وَهُوَ مَا أكَّدَ على أنَّ قَصِيدَةَ النَّثرِ لَيْسَتْ مجرَّدَ قَصِيدَةٍ غيرِ عَرُوضِيَّةٍ . قَصِيدَةُ النَّثرِ- بهذَا - هِيَ شَكْلٌ شِعْريٌّ خَاصٌّ ، يبدو ظاهريًّا - نثرًا شِعريًّا ، وَلكِنَّهُ يختلفُ - جوهريًّا عَنْ النَّثرِ الشِّعريِّ اخْتِلافه عَنْ الشِّعرِ الحرِّ كَذَلكَ ، فَهِيَ تختلِفُ عَنْ النَّثرِ الشِّعريِّ الَّذي يُشْبِهُهَا ظاهريًّا ، وَالَّذي هُوَ نَثْرٌ مَنْعُوتٌ بِالشِّعرِ ؛ لاحْتِوَائِهِ على خَواصٍ إيقاعيَّةٍ وَوِجْدانيَّةٍ ، وَلكِنَّهُ يبقى (نَثْرًا) في الأسَاسِ وَتَبْقَى قَصِيدَةُ النَّثرِ (قَصِيدَةً) ، كَمَا أنَّهَا تختلِفُ عَنْ قَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ في طَبيعَةِ إيقاعِهَا الحرِّ الموصْولِ المتدفِّقِ ، وَالاخْتِلافُ في طَبيعَةِ الإيقَاعِ لا يُحَدِّدُ الشَّكلَ الظَّاهريَّ لِلْقَصِيدَةِ وِفْقًا لأمْوَاجِ التَّجربَةِ فقط ، بَلْ يُهَيْمِنُ على نِظَامِهَا الدَّاخِليِّ بالكَامِلِ ، بما يجعلُهُ بناءً مختلِفًا وَمُتمِيِّزًا ؛ فالإيقَاعُ هُوَ العُنْصرُ المهَيْمِنُ في بنيَةِ النَّصِّ ، وَهُوَ المحدِّدُ للتَّركيبِ اللغَويِّ النَّحويِّ لِلنَّصِّ ؛ مِنْ تقديمٍ وَتأخيرٍ، وَحَذْفٍ وَتِكرَارٍ ، وَفَصْلٍ وَوَصْلٍ ؛ بَلْ وَانْتِخَابِ الأبنيَةِ الصَّرفيَّةِ وَانْتِقَاءِ الكَلِمَاتِ الملائِمَةِ لِلْمِسَاحةِ الصَّوتيَّةِ الَّتي تَتَوَحَّدُ مَعَ حَرَكةِ التَّجربَةِ ؛ وَبالتَّالي يَتَحَكَّمُ الإيقَاعُ في البنَاءِ النَّحويِّ ؛ الَّذي يَتَحَكَّمُ بدورِهِ في أوْجِهِ التَّعبيرِ البَلاغيِّ وَوَسَائلِ إنْتَاجِ الدَّلالةِ ، وَمِنْ ثَمَّ فالاخْتِلافُ في شَكْلِ تجسُّدِ الإيقَاعِ لا يَنْفَصِلُ عَنْ حَرَكَةِ التَّجربَةِ الدَّاخليَّةِ وَهُوَ يمثِّلُ اسْتِجَابةً شَكْليَّةً لِتَحَقُّقِ نَسَقٍ دَاخِليٍّ شَامِلٍ وَمُهَيْمِنٍ يَتَّسِمُ بِالتِّكرَارِ الدَّوريِّ ، وَإذنْ فالاتِّفاقُ في الخروجِ على النِّظامِ العَرُوضِيِّ ، وَاعْتِمَادُ الإيقَاعِ النَّبريِّ ، لا يعني أنَّ النَّوعينِ الشِّعرِنثريَّينِ - الشِّعرِ الحرِّ وَقَصِيدَةِ النَّثرِ - وَجْهَانِ لِقَصيدَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَأنَّ الشَّكلَ الطِّباعيَّ الظَّاهريَّ هُوَ الفيصَلُ بينهُمَا ؛ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا إيقاعيَّةٌ مختلِفَةٌ تَتَولَّى انبنَاءً لُغويَّا لموجَاتهَا ، وَبهذَا فإذَا كَانَتْ قَصِيدَةُ النَّثرِ تحتوي عَلى شَيءٍ مِنْ قَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ ، فإنَّهَا قَصِيدَةٌ مختلِفَةٌ عَنْهَا ، لا تُشَاركُهَا سِوَى في هَاجِسِ الانْبِنَاءِ بمعزِلٍ عَنْ الأصُولِ العَروضِيَّةِ وَالبَلاغِيَّةِ الثَّابتَةِ المقنَّنَةِ ؛ وَبالتَّالي علينَا أنْ نُمَيِّزَ بَينَ هَذينِ النَّوعَيْنِ الشِّعرِيَّينِ ، حَتَّى إنْ وَجَدْنَا قَصِائدَ مِنْ قَصِيدَةِ النَّثرِ مَكتُوبَةً في شَكْلِ قَصَائدَ مِنْ الشِّعرِ الحرِّ ؛ فَالتَّمييزُ هُنَا كَالتَّمييزِ بَيْنَ قَصِيدَةٍ تَفْعِيليَّةٍ وَقَصِيدَةٍ بيتيَّةٍ مُقفَّاةٍ مَكْتُوبَةٌ في شَكْلِ قَصِيدَةٍ تفعيلةٍ ، وَالالتِقَاءُ في فَضَاءٍ إيقاعيٍّ وَاحِدٍ يَضُمُّهُمَا لا يعني كَوْنَهُمَا نَوْعًا شِعريًّا وَاحِدًا ، وَإذَا كُنَّا نَسْتَجْلي هَذِهِ الملامحَ مِنْ طبيعَةِ المنجَزِ الشِّعريِّ العَربيِّ ، فإنَّ مَوْسُوعَةَ برنستون لِلشِّعرِ وَالشِّعريَّةِ تُؤازِرُنَا في هَذَا المسْعَى ؛ إذْ تُعرِّفُ قَصِيدَةَ النَّثرِ على النَّحوِ التَّالي :" هِيَ قَصِيدَةٌ تَتَمَيَّزُ بإحْدَى أوْ بِكُلِّ خَصَائصِ الشِّعرِ الغِنَائيِّ ، غيرَ أنَّهَا تُعْرَضُ على الصَّفحَةِ على هَيْئَةِ النَّثرِ ، وَإنْ كَانَتْ لا تُعَدُّ كَذَلكَ ، وَتختلِفُ قَصِيدَةُ النَّثرِ عَنْ النَّثرِ الشِّعريِّ Poetic prose بأنَّهَا قَصِيرَةٌ وَمُركَّزَةٌ ، وَعَنْ الشِّعرِ الحرِّ Free verse بأنَّهَا لا تلتزمُ نِظَامَ الأبيَاتِ ، وَعَنْ فِقْرَةِ النَّثرِ القَصِيرَةِ بأنَّهَا عَادةً ذَاتَ إيقَاع ٍ أعْلَى ، وَمُؤثِّرَاتٍ صَوْتيَّةٍ أوْضَحَ ، فَضْلاً عَنْ أنَّهَا أغْنَى بِالصُّورَةِ وَكَثَافَةِ العِبَارَةِ "(27)، وَقَدْ مَيَّزَ يوسف الخال (1917- 1987) بينَ قَصِيدَةِ النَّثرِ وَالشِّعرِ الحرِّ بقولِهِ :" قَصِيدَةُ النَّثرِ هِيَ شَكلٌ يختلِفُ عَنْ الشِّعرِ الحرِّ في آدَابِ العَالمِ ، بأنَّهُ يستنِدُ إلى النَّثرِ وَيَسْمُو بِهِ إلى مَصَافِ الشِّعرِ ، فيْمَا يسْتنِدُ الشِّعرُ الحرُّ إلى الشِّعرِ التَّقليديِّ ، وَمِنْ هُنَا جَاءَ التزامُهُ الأشْطُرَ شَكْلاً ، مُكْتَسِبًا مِنْ النَّثرِ العَاديِّ عفويَّتِهِ وَبَسَاطتِهِ وَحُرِّيتِهِ في الأدَاءِ وَالتَّعبيرِ ، وَبُعْدِهِ عَنْ الخطَابيَّةِ وَالبَهْلوانيَّةِ وَالبَلاغيَّةِ وَالبَيَانيَّةِ ، وَكُلُّ ذَلكَ مَعَ الحفَاظِ على إيقَاعٍ ذَاتيٍّ يُحْدِثُ التَّوتُّرَ المرجوَّ مِنْ الوَزْنِ التَّقليديِّ ."(28) وَقَدْ رَافَقَتْ قَصِيدَةُ النَّثرِ مجموعَةٌ مِنْ المقولاتِ المنظِّرَةِ لهَا ، وَهِيَ مَقُولاتٌ حَاوَلَتْ أنْ تجتلِي الخاصيَّةَ الشِّعريَّةَ المميِّزَةِ لهَا ، وَيَتَّضِحُ مِنْ هَذِهِ المقولاتِ أنَّ مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنْهَا يَتَحَدَّثُ عَنْ نَوْعَيْ شِعرِ النَّثرِ معًا: الشِّعرِ الحرِّ - قَصِيدَةِ النَّثرِ ، دُونَ تمييزٍ ؛ فيقولُ أُنسِي الحاج أنَّهَا " خَذَلَتْ كُلَّ مَا لا يَعْنِي الشَّاعرَ ، وَاسْتَغْنَتْ عَنْ المظَاهِرِ وَالانهِمَاكَاتِ الثَّانويَّةِ وَالسَّطحيَّةِ وَالمضَيِّعَةِ لقُوَّةِ القَصِيدَةِ ، رَفَضَتْ كُلَّ مَا يحُوِّلُ الشَّاعرَ عَنْ شِعرِهِ ؛ لِتَضَعَ الشَّاعرَ أمَامَ تجربتِهِ ، مَسْئولاً وَحْدَهُ كُلَّ المسئوليَّةِ عَنْ عَطَائِهِ ، فَلَمْ يَبْقَ في وسْعِهِ التَّذرُّع بِقَسَاوَةِ النَّظْمِ وَتحكُّمِ القَافيَةِ وَاسْتِبْدَادِهَا ، وَلا بأيِّ حُجَّةٍ بَرَّانيَّةٍ مَفْرُوضَةٍ عليْهِ."(29)،وَهُوَ مَا أكَّدَ عليْهِ أدونيسُ - في أوَّلِ مَقَالةٍ لَهُ عَنْ نظريَّةِ قَصِيدَةِ النَّثرِ وَخَصَائِصِهَا الأسَاسِيَّةِ - بقولِهِ :" إذَا كَانَتْ قَصِيدَةُ الوَزْنِ مجبرَةً على اخْتِيَارِ الأشْكَالِ الَّتي تَفْرِضُهَا تجربَةُ الشَّاعرِ ، وَهِيَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيةِ ، تَرْكِيبٌ جَدَليٌّ رَحْبٌ وَحِوَارٌ لانهائيٌّ بَيْنَ هَدْمِ الأشْكَالِ وَبنائِهَا " .(30) وَإذَا كَانَتْ قَصِيدَةُ النَّثرِ على هَذِهِ الدَّرجةِ مِنْ الحريَّةِ فإنَّ عَليْنَا أنْ نَنْظُرَ إليْهَا كَنَوْعٍ شِعْريٍّ جَديدٍ وَمُسْتَقِلٍّ ، لا كَمَرْحَلةٍ في سِيَاقِ تَطوُّرِ قَصِيدَةِ الوَزْنِ ، حَتَّى لا نَقُولَ مَعَ غالي شُكري (1935- 1998) إنَّهَا " تَتَّسِقُ مَعَ التَّقاليدِ الأدَبيَّةِ الفَرنسِيَّةِ خُصُوصًا رامبو إلى سان جون بيرس وَلا تَتَّفِقُ مَعَ تَطَوُّرِ الشِّعرِ العَرَبيِّ الحديْثِ "(31) ، وَلَعَلَّ أدونيس قَدْ قَصَدَ مجابهَةَ خُصُومِ قَصِيدَةِ النَّثرِ القَائِلينَ بأنَّهَا وَافِدةٌ دَخِيْلةٌ على الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ حِيْنَ رَبَطَ بَيْنَ قَصِيدَةِ النَّثرِ وَنثرِ المتصوِّفَةِ ؛ بَلْ إنَّهُ رَأى أنَّ هَذَا النَّوعَ مِنْ الكِتَابَةِ عُرِفَ في الأدَبِ العَرَبيِّ قَبْلَ ظهورِهِ في الآدَابِ الأجنبيَّةِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ ؛ لأنَّ الأدَبَ العَربَيَّ أقدَمُ مِنْ الآدَابِ الأوربيَّةِ المعرُوفَةِ ."(32) وَقَدْ تَبَنَّى كثيرُونَ هَذَا الموقِفَ الَّذي يُؤكِّدُ أسْبَقِيَّةَ المنْجَزِ الإبداعيِّ (العربيِّ) عَلى المنْجَزِ الإبداعيِّ (الغربيِّ) الوَافِدِ لِقَصِيدَةِ النَّثرِ ؛ فأشَارَ بُول شَاوول (1944 - ) بِقُوَّةٍ إلى الإمْكانيَّاتِ الهائِلَةِ الَّتي يختزِنُهَا النَّثرُ العَرَبيُّ مِنْ الشِّعرِ(33)، وَوَصَلَ إلى أنَّ قَصِيدَةَ النَّثرِ لمْ تُولَدْ مِنْ عَدَمٍ لأنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ بجذورِ النَّثرِ العَرَبيِّ (34)، وَهُوَ أقْدَمُ بكثيرٍ مِنْ الشِّعرِ الغَربيِّ ؛ فإذَا كَانَ " عُمْرُ النَّثرِ الفَرَنسِيِّ900 عَامٍ ،وَالإنجليزيِّ مِثْل هَذَا الزَّمنِ ، فإنَّ النَّثرَ العَرَبيَّ عُمْرُهُ 1500 عَامٍ .. وَإذَا كَانَ النَّثرُ بمضَامِيْنِهِ وَتَوَجُّهَاتِهِ وَإيقَاعَاتِهِ يحمِلُ التَّنوُّعَاتِ النَّثريَّةَ بمَا فيْهَا الشِّعرُ ، فَكيْفَ لا يمكِنُ لَهُ أنْ يختزِنَ القَصِيدَةَ النَّثريَّةَ مَادَامَ ، بِقُوَّةِ اخْتِزَانِهِ ، يَتَكَلَّمُ النَّثرَ الواقعيَّ وَكَذَلكَ النَّثرَ الشِّعريَّ .(35) وَأشَارَ رَجَاءُ النَّقاشِ (1934-2008) إلى الانبِثَاقَاتِ المتَوَاليَةِ لِلشِّعريَّةِ ؛ في النَّثرِ حِينَ أوْضَحَ أنَّ " الأدَبَ العَربيَّ عَرِفَ مُنْذُ عُصُورِهِ القديمَةِ ذَلكَ النَّثرَ المليءَ بِنَدَى الشِّعرِ وَعُذُوبَتِهِ مُنْذُ كِتَابَاتِ أبي العَلاءِ في :" الفُصُول وَالغَايَات " ، وَكِتَابَاتِ القُدَامَى مِنْ أمْثَالِ " ابن عَربيِّ " وَ" النَّفَّّريِّ " وَكِتَابَاتِ " أبي حَيَّان التَّوحِيديِّ " ،وَقَدْ عَرفْنَا هَذَا اللونَ المليءَ بِرُوحِ الشِّعرِ في كَثِيرٍ مِنْ كِتَابَاتِ المعاصِرينَ مِثْل: طَه حُسين ،وَالرَّافِعيِّ ،وَالعقَّاد ، وَحُسَين عفيف ، وَزكي مُبَارك ،وَميَّ ، وَجُبرَان ، وَأمين الرِّيحاني ."(36) كَمَا أشَارَ عبدُ القَادر القِطّ (1916-2002) إلى الأشْكَالِ المؤسِّسَةِ لِقَصِيدَةِ النَّثرِ في الأدَبِ العَرَبيِّ ؛ حِيْنَ اعْتَبَرَ " قَصِيدَةَ النَّثرِ شَكْلاً مَشْرُوعًا مِنْ أشْكَالِ التَّعبيرِ الإبدَاعِيَّةِ ، كَانَ يُسِمَّى نثرًا فنيًّا أحْيَانًا ، وَشِعرًا مَنْثُورًا في أحْيَانٍ أخْرَى .(37) بَيْنَمَا رَفَضَ البَعْضُ قياسَهَا على النَّموذَجِ الغَربيِّ أوْ التُّرَاثِ العَرَبيِّ ، مُؤكِّدًا على اسْتِقَلالهَا ، وَخُصوصِيَّتِهَا ، وَمِنْهُمْ عَبَّاس بيضون (1947- )؛ الَّذي أكَّدَ على خُصوصِيَّةِ تعامُلِهَا مَعَ اللغَةِ ، وَتخفُّفِهَا مِنْ الإنشَائيَّةِ ، وَعَلى إيقاعاتهَا الخَاصَّةِ ، بقولِهِ :" قَصِيدَةُ النَّثرِ تُقَاسُ عَلى نَفْسِهَا ، وَتجِدُ حُجَّتَهَا في نَفْسِهَا ؛ فَلَيْسَتْ بديلاً وَلا اسْتِعَاضَةً ، هِيَ بِبَسَاطةٍ نَوْعٌ مُخْتَلِفٌ ، وَعَلَيْهَا أنْ تجِدَ مَكَانَهَا وَتُوسِّسُهُ.. قَصِيدَةُ النَّثرِ نَوْعٌ مِنْ أنْوَاعٍ.. إنَّهَا تَتَخَلَّصُ مِنْ أدبيَّةِ اللغَةِ.. قَصِيدَةُ النَّثرِ في قَاموسِهَا وَعِبَارَتهَا وَإيقَاعَاتهَا وَرُؤيتِهَا أقَلُّ اسْتِقبَالاً لأدَبيَّةِ اللغَةِ ؛ أيْ لِتَقَنْينٍ بلاغِيٍّ وَإيقَاعِيٍّ صَارِمٍ ."(38) وَقَدْ لاحَظَ بُول شَاوول عَدَمَ تَطَابُقِ الشُّروطِ (الفَرَنسِيَّةِ)الأسَاسِيَّةِ لِقَصِيدَةِ النَّثرِ - الَّتي حَدَّدتها سُوزان برنار – في: الإيجازِ(التَّكثيفِ) - التَّوهُّجِ - المجانيَّةِ ، مَعَ قَصِيدَةِ النَّثرِ العَربيَّةِ ؛ إذْ يُمْكِنُ أنْ تُوْجَدَ فيْهَا أوْ لا تُوجَدُ ، كَمَا تُوجَدُ ،كَذَلكَ ، في القَصِيدَةِ الموْزُونَةِ ." (39) إنَّ قَصِيدَةَ النَّثرِ شَكلٌ إيقاعيٌّ خَاصٌّ ، وَلا يمكِنُ أنْ تُقاسَ إلاَّ على نفسِهَا ، وَألاَّ تُرَى إلاَّ في أُفقِهَا ، وَمَا رَبْطُهَا بحالاتٍ إبدَاعِيَّةٍ اسْتثنائيَّةٍ ، في التُّرَاثِ العَرَبيِّ - كَالمواقِفِ وَالمخَاطَبَاتِ ، لِلنَّفَّريِّ ، أوْ: الإشَارَاتِ الإلهيَّةِ ، لأبي حَيَّان التَّوحيديِّ - لم يَقْصُدْ أصْحَابهَا وَلا دَارسُوهُمْ المعاصِرُونَ لهمْ اعْتِبَارَهَا شِعرًا ، على الرَّغمِ مِنْ شِعريَّتِها الكَثِيفَةِ ، إلاَّ مجرَّدَ بحثٍ لهَا عَنْ شَرْعيَّةٍ تَسْتَنِدُ إلى التُّرَاثِ ، وَكَونُهَا شَكلاً شِعريًّا مُسْتَقِلاًّ ، وَالوَعْيُ بطبيعَةِ هَذَا الشَّكلِ الشَّعريِّ هُوَ مَا يُقوِّضُ نُبوءَةَ سوزان برنار بأنَّهَا سَتَتَذَاوَبُ مَعَ غيرِهَا وَتَتَلاشَى ؛ حِينَ قَالتْ إنَّ " نَوْعَ قَصِيدَةِ النَّثرِ سَيَذْوي أوْ يَفْقد شَخصِيَّتَهُ.. إلى أنْ يذوبَ في النَّثرِ الشَّعريِّ للأجنَاسِ المجاورَةِ ، وَأنْ تختلِطَ مَعَ الأشكالِ الجديدَةِ الخاصَّةِ "(40)، وَالوَاقِعُ أنَّ هَذِهِ الرُّؤيَا تَتَغَافلُ كَوْنَ قَصِيدَةَ النَّثرِ شِعرًا في الأسَاسِ ، وَقَصِيدَةً مُحْكَمَةً ، لهَا خَاصِيَّتُهَا الشِّعريَّةُ الخالصَةُ قبلَ كُلِّ شيءٍ، وَهَذِهِ رُؤيا تقودُ - في النِّهايَةِ - إلى مَصِيرِ الفِعْلِ الأدَبيِّ كُلِِّهِ - وَلَيْسَتْ قَصِيدَة النَّثرِ وَحْدَهَا ، وَتُوجِّهُهُ إلى نوعٍ وَحِيدٍ كَمَا بَدَأ . إنَّ فَضَاءَ الحريَّةِ الَّذي تَتَحَرَّكُ فيْهِ قَصِيدَةُ النَّثرِ لَنْ يجعَلَ مِنْهَا مَسْخًا أجناسِيًّا ، في النِّهايَةِ ؛ فالحريَّةُ الظاَّهريَّةُ ، فيْهَا ، لا تَنْفِي وُجُودَ وَعْيٍ مُنَظِّمٍ لحركَةِ التَّجربَةِ بِكُلِّ دِقَّةٍ ، وَهُوَ وَعْيٌ إيقاعِيٌّ في الأسَاسِ ، يجعلُهَا تَتَحَرَّكُ في مجالٍ خاصٍّ مَقْصُودٍ مُسْتثمِرَةً إمكانيَّاتٍ خاصَّةٍ في إيقاعَاتِ النَّثرِ ، إمكانيَّاتٍ تَصْطفيْهَا حَرَكةُ التَّجربَةَِ وَتَضَعُ لهَا أنْسَاقَهَا المتحوِّلَةَ في مجرَى كلِّ نَصٍّ ، وَمِنْ هَذِهِ الإمكانيَّاتِ : النَّبرُ وَالتَّوازيَاتُ المختلِفَةُ وَالفَصْلُ وَالوَصْلُ وَالتَّرديدُ وَالالتفافُ الدَّائريُّ ، وَإشكاليَّةُ هَذَا الإيقَاعُ تكمُنُ في أنَّهُ يتشكَّلُ ، دَائِمًا ، مَعَ كلِّ تجربَةٍ تشكُّلاً خاصًّا وَجَديدًا ، وَهُوَ مُتَحَوِّلٌ دَائِمًا ، وَأنظِمتُهُ الَّتي يَضَعُهَا في كُلِّ نصٍّ غيرُ قابلةٍ لِلتِّكرَارِ، وَبالتَّالي فَهِيَ خَارجَةٌ على التَّقنينِ الإيقاعيِّ وَعَابرَةٌ للتَّقعيدِ ، وَ" كُلُّ المحَاوَلاتِ الَّتي تَزْعُمُ أنَّ لِقَصِيدَةِ النَّثرِ إيقاعَهَا الخاصَّ المكافئِ لِلْوَزْنِ ، تَتَشَبَّثُ بأذيَالِ الشِّعريَّةِ القديمةِ ، وَتحاولُ إكسَابَ الشِّعريَّةَ لِقَصِيدَةِ النَّثرِ بموضَعَتِهَا دَاخَلَ التُّراثِ الشِّعريِّ ، وَتأصِيلِهَا فيه ." (41) وَلكِنَّ قَصِيدَة النَّثرِ لمْ تَسْلَمْ مِنْ اسْتِهْجَانٍ- منذُ بَدَأتْ تجلياتُهَا المغايرَةُ ، حَتَّى الآنَ - وَقَدْ اسْتَهْدَفَ - منذُ البِدَايَةِ - مُصْطَلَحَهَا الَّذي يُشِيرُ إلى حَقِيقتِهَا ، وَإلى إشْكاليَّتِهَا كَذلكَ ، وَالَّذي يُعَدُّ مَدْخَلاً مُلائِمًا لِكَشْفِ حَقيقَةِ هَذَا النَّوعِ الشَّعريِّ ، وَالموقِفُ مِنْهُ لمْ يَزَلْ عَصَيبًّا ، غَيْرَ أنَّ اللافِتَ أنَّهُ على الرَّغمِ مِنْ الإلحاحِ على رَفْضِ المصْطَلَحِ ، فإنَّهُ قَدْ أصْبَحَ وَاقِعًا يَسْتَخْدِمُهُ حَتَّى المعَارضُ ؛ فثمَّةَ عَجْزٌ عَنْ تقديمِ بديلٍ عَنْهُ يكونُ دالاً على هَذَا النَّوعِ الشِّعريِّ الخاصِّ ؛ فَهَذَا هُوَ عبد الوهاب البيَّاتي (1926 – 1999) يقولُ: " أعْتَرِضُ على تعبيرِ قَصِيدَةِ النَّثرِ ؛ فَالقَصِيدَةُ تعبيرٌ كِلاسِيكيٌّ مَعْنَاهُ أنَّهَا - أيْ القَصِيدَة - مُكَونةٌ مِنْ ثمانيَةِ أبياتٍ ، وَمَا كَانَ أقلَّ يُسَمَّى مَقْطُوعَةً ، وَرَبْطُ كلمَةِ قَصِيدَةٍ بِالنَّثرِ يبدو مُتناقِضًا." (42) وَهَذَا هُوَ نزار قبَّاني (1923– 1998) يقولُ " قَصِيدَةُ النَّثرِ أنَا ضِدُّ تَسْمِيَتِهَا بِالأسَاسِ ، سمِّهَا كَلامًا جميلاً وَكَلامًا إبداعِيًّا، نَصًّا فريدًا ، هَذَا مَقْبُولٌ ، أمَّا قَصِيدَةٌ ، فَهَذَا غَيْرُ صَحيحٍ ، القَصِيدَةُ لهَا شُروطٌ (...) ، يعني كَأيِّ فنٍّ مثل الرَّسمِ وَالنَّحتِ وَالموسِيقَى ، لهَا عَنَاصِرُ أسَاسِيَّةٌ في تَشْكِيْلِهَا ، هَلْ يَسْتَطيعُ الرَّسَامُ أنْ يَشْتَغلَ مِنْ دُونِ ألوَانٍ ؟ ، فَالشَّاعرُ أيضًا لا يَسْتَطيعُ أنْ يَشْتَغلَ أوْ يَنْظِمَ قَصِيدَةً مِنْ دُونِ أوْزَانٍ ." (43) وَأرْجَعَ محمَّد العبد رَفْضَهُ مُصْطَلَحِ قَصِيدَةِ النَّثرِ ، إلى التَّناقُضِ الظَّاهرِ بَيْنَ العُنْصُرينِ اللغَويَّينِ قَصِيدَةٍ وَنَثْرٍ ، بمَا لهمَا مِنْ مَاهيَّةٍ رَاسِخَةٍ ، وَاعَتْبَرَ هَذَا المصْطَلَحَ أبْتَرَ ؛ لأنَّه يعتمِدُ على سَاقٍ وَاحِدَةٍ هِيَ علاقتُهُ الرُّوحيَّةُ بِالشِّعرِ ، بمَا فيْهِ مِنْ سماتٍ تعبيريَّةٍ وَتَصْويريَّةٍ وَانْفِعَاليَّةٍ ، وَوَصَلَ إلى أنَّ الأنْسَبَ لهذَا الشَّكلِ مُصْطَلَحُ النَّثرِ الشَّعريِّ ؛ لأنَّهُ - في رأيهِ - مَازَالَ مُنْتَسِبًا إلى النَّثرِ وَإنْ تَوَفَّرَتْ لَهُ بعضُ خَصَائِصِ التَّعبيرِ الفَنيِّ الشِّعريِّ ."(44) وَرَأي عبدُ القادرِ القِطّ أنَّ التَّسمِيَةَ تحمِلُ خَطَرًا كبيرًا ؛ لأنَّهَا تُتيحُ لِكلِّ مَنْ تَعْتَمِلُ في نفسِهِ بَعْضُ الخواطِرِ الوجدانيَّةِ ، أوْ بَعْضُ التَّأمُّلِ في النَّفسِ وَالحيَاةِ وَالمجتمَعِ أنْ يَصُوغَهَا في كِتَابَاتٍ لا تبلُغُ الشِّعرَ ذِي المسْتَوَى الرَّفيعِ ، وَلا النَّثرَ الفنيَّ ذِي الطَّابَعِ الشِّعريِّ ، وَيَرَى أنْ هَذِهِ الظَّّاهرَةَ قَدْ نَتَجَتْ عَنْ مَا يُتَصَوَّرُ شُيوعًا لمبادِئ "السَّرديَّةِ "وَ" التَّداوُليَّةِ " وَاقْتِحَامِ تجارَبَ تبدو جَريئَةً حُرَّةً ." (45) أمَّا إبراهيم حمادة فَقَدْ رَأي أنّّ " التَّسْمِيَةَ خَاطِئَةٌ مِنْ النَّاحيَةِ الاصْطلاحِيَّةِ وَالدَّلاليَّةِ ، إذْ فَرَضَتْ - بَدَاءَةً أنَّ القِطعَةَ مِنْ هَذَا الشَّكلِ " قَصِيدَةٌ"، بينَمَا اقْتَصَرَ إطْلاقُ هَذَا المصْطَلَحِ مِنْ ردحٍ مُجَذَّرٍ في الماضِي البعيدِ عَلى صِيغَةٍ قوليَّةٍ مُعيَّنةٍ يُفْتَرَضُ في بِنَائِهَا الشَّكليِّ - قبلَ أيِّ شَيءٍ آخَرٍ- أنْ يكونَ مَوْزُونًا طِبْقًا لمعَايير تفعيليَّةٍ مَعْلُومَةٍ سَلفًا، أوْ - على الأقَلِّ - مُبْتَكَرَةً ، وَمُسْتَخْدَمَةً على نحوٍ تِكْرَاريٍّ مُعيَّنٍ ، وَمِنْ هُنَا يبرُزُ التَّناقُضُ في التَّسمِيَةِ بَيْنَ مَا ينبغِي لَهُ أنْ يَكونَ كَلامًا مَوْزُونًا، وَبَيْنَ مَا هُوَ نَثرٌّ محرَّرٌ تمامًا مِنْ النَّمَطِ الوَزْنيِّ الملْزِمِ ، حَتَّى لوْ تَزَاحَمَتْ فيْهِ الكِنَايَاتُ وَالاسْتِعَارَاتُ وَرُوحُ الشِّعرِ بِالمعنى المألوفِ ."(46) وَيُضِيفُ إبراهيم حمادة : " قَصِيدَةُ النَّثرِ يمكِنُ أنْ نُطْلِقَ عليْهَا :" المنثورَةَ الشِّعريَّةَ "؛ لأنَّهَا في المحلِّ الأوَّلِ نثرٌ ، وَفي المحلِّ الثَّاني مُزَوَّدةٌ بتزَاويقَ شِعريَّةٍ ، أوْ فَلْيَتَسَمَّ هَذَا النَّثرُ المشْعُورُ بـ "جَوَاهِرِ القَوْلِ "، أوْ بأيِّ اسْمٍ آخَر رَنَّانَّ فَخْمٍ وَلكنْ عليْهِ ألاَّ يَتَسَمَّى باسْمِ " قَصِيدَةٍ "، حَتَّى وَلَوْ على سَبيلِ المجازِ ، وَلوْ أنَّ بَعْضَهُ يَتَفَوَّقُ على بَعْضِ القَصَائِدِ الموْزُونَةِ (...) ؛ فَلا يَزَالُ النَّثرُ نثرًا وَالشِّعرُ شِعرًا." (47) وَرَأى محمَّد إبراهيم أبوسنَّه ( 1937- ) أنَّنَا لوْ فَحَصْنَا مُصْطَلَحَ قَصِيدَةَ النَّثرِ ؛ فَسَنَرَى أنَّ كَلِمَةَ قَصِيدَةٍ مُضَافَةٌ إلى كَلِمَة النَّثرِ ؛ فالنَّثرُ مُضَافٌ إليْهِ ، وَالمضَافُ ينتمِي وَيَتْبَعُ المضَافَ إليْهِ ، وَبهذَا المفهومِ فَقَدْ كَفَانَا التَّركيبُ اللغويُّ عَنَاءَ البَحْثِ عَنْ تَبَعِيَّةِ النَّصِّ لِلشِّعرِ ؛ فَقَصِيدَةُ النَّثرِ هِيَ نثرٌ ، وَكَلِمَةُ القَصِيدَةِ مجازٌ أوْ تجوُّزٌ."(48) وَرَأى عبد الملك مُرْتاض (1935-) أنَّهَا لا تنتمِي صَرَاحَةً إلى الشِّعرِ ، وَلا هِيَ تَنْتَسِبُ إلى النَّثرِ يقينًا ، وَأنَّهَا لا تَسْتَطِيعُ أنْ تَقُومَ جنسًا أدبيًّا بذاتِهِ ، وَأنَّهَا شَيءٌ ضِدُّ الشِّعرِ وَالنَّثرِ معًا، وَتَسَاءَلَ : كَيْفَ يُمْكِنُ أنْ نُطْلِقَ على نثرٍ رَتيبٍ سَمِجٍ ( ؟ ) مُصْطَلَحِ الشِّعرِ وَنحنُ لا نَسْتَحِي ؟!(49) وَهُنَاكَ مَنْ تجاوَزَ رَفْضَ المصْطَلَحِ إلى رَفْضِ شِعريَّتِهَا مِنْ الأسَاسِ ، وَمِنْ هَؤلاءِ :علي عشري زايد ؛ الَّذي نَفَى أنْ يَكونَ (شَيءٌ) بهذَا الاسْمِ مَوْجُودًا، وَإنْ صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ شِعرًا " فَكَلامُ العَرَبِ بَاطِلٌ "، "وَهُوَ بهذَا يَسْتَعِيدَ مقولةِ ابْنِ الأعْرَابيِّ الَّتي قالهَا في أبي تمَّام - في القَرْنِ الخامِسِ بعدَ الهجرَةِ - مُعَلِّقًا بأنَّ ابْنَ الأعَرَابيِّ كَانَ مُغَاليًا ؛ لأنَّ هُوَّةَ الاخْتِلافِ بينَ أبي تمَّامٍ وَسَابِقِيْهِ لمْ تَكُنْ بهذَا الاتِّسَاعِ الَّذي يُزْعِجُ ابْنَ الأعْرَابيِّ ، وَرَأى أنَّنَا الآنَ في أشَدِّ الاحْتِيَاجِ " إلى أكْثَرِ مِنْ ناقدٍ في مِثْلِ تَزَمُّتِ ابنِ الأعْرَابيِّ وَفي مِثلِ صَرَامَتِهِ ؛ لِيَقِفَ في وَجْهِ هَذَا السَّيلِ الجارفِ ؛ وَليَزُودَ عَمَّا بَقِيَ مِنْ حدودٍ بَيْنَ أجْنَاسِ الأدَبِ وَأشْكَالِهِ الفَنيَّة ، بَلْ بَيْنَ الأدَبِ وَبَيْنَ العَبَثِ وَالإسْفَافِ وَالابْتِذَالِ ."(50) وَهُنَاكَ مَنْ تجاوَزَ رَفْضَ شِعريَّتِهَا إلى اتِّهامِ شُعرائِهَا وَالطَّعنِ فيهِمْ ، وَمُنْهُمْ نَازك الملائكة ؛ الَّتي رَأتْ فيْهَا خَطَرًا على الأدَبِ العَرَبيِّ ، وَعلى اللغَةِ العَرَبيَّةِ ، وَعَلى الأمَّةِ العَرَبيَّةِ ، بَلْ وَخِيَانَةٍ للغَةِ العَربيَّةِ وَللعَرَبِ (51) ، وَمُنْهُمْ كَذَلكَ شوقي بغدادي(1928- ) ؛ الَّذي أكَّدَ أنَّ الصُّهيونيَّةَ تَقِفُ وَرَاءَ قَصِيدَةِ النَّثرِ ، وَأنَّ البرلمانَ الصُّهيونيَّ قَدْ اتَّخذَ قَرَارًا سِريًّا بتخريبِ اللغَةِ العربيَّةِ وَالشِّعرِ العَرَبيِّ عَبْرَ قَصِيدَةِ النَّثرِ(52)، وَمِنْهُمْ كَذَلكَ صبري حافظ (1941-)؛ الَّذي وَصَف حَرَكَةَ قَصيدَةِ النَّثر بأنَّهَا "حَرَكَة هَدْمٍ وَتَدْمِيرٍ" ، وَاتَّهَمَهَا بالعَمَالَةِ ، وَانْتَهَى إلى أنَّهُ لَيْسَ مِنْ الغَريبِ أنْ تَسْتَشْرِي هَذِهِ الحرَكَةِ في الوَاقِعِ العَرَبي " مَا دَامَ الاسْتِعْمَارَ وَرَاءَهَا"، وَرَأى أنَّهَا لَعِبَتْ دَوْرًا كبيرًا في المخطَّطِ المرْسُومِ لهَا(53)، وَمِنْهُمْ كَذَلكَ عبد اللطيف عبد الحليم (1945-2014) ؛ الَّذي وَصَفَهَا بالمهَزْلَةِ ، وَوَصَفَ شُعَراءََهَا بالهدَّامِين العَجَزَةِ .(54) وَحَاوَلَ البَعْضُ أنْ يَقْتَرِحَ بَدَائِلَ يَرَاهَا أكثرَ مُنَاسَبَةً لهذَا الشَّكلِ ؛ وَهِيَ بدائلُ لا تُخْفِي الرَّغبةَ في سَحْبِ شَرْعيَّةِ اعْتِبَارِهَا شِعرًا مِنْ الأسَاسِ ، وَمِنْهَا بَدَائلُ مَطْرُوحَةٌ مِثْل:(النَّثرِ الشَّعريِّ) ، وَمِنْهَا فضفاضٌ كـَ(جَوَاهِرِ القَوْل) ؛ الَّذي طَرَحَهُ إبراهيم حمادة ، وَمِنْهَا مَا يَتَّسِمُ بالطَّرَافَةِ واَلتَّعجُلِ ، مِثْل :(عَصِيدَة)؛ الَّذي اقْتَرَحَهُ أحمد درويش (1943- )(55)، أوْ مُصْطَلَح:(مَدِيدَةِ النَّثرِ) ؛ الَّذي اقْتَرَحَهُ أبو الفَضْلِ بدران (1959- )(56)، وَمِنْهَا مَا حَاوَلَ اسْتِعَادَةَ مُصْطَلَحٍ قديمٍ وَدَفْعَهُ إلى دَلالاتٍ جديدَةٍ ،كَمَا فَعَلَ عبده بدوي (1927- 2005)؛ حِينَ اقترَحَ مُصْطَلَحَ:(نثرِ النَّظمِ) ؛ رَغبةً في إحْيَاءِ مُصْطَلَحٍ قديمٍ يُعِّبرُ إلى حَدٍّ مَا عَنْ هَذِهِ القَضِيَّةِ ، ذَلكَ لأنَّ الثَّعالبيَّ رَفَعَ كِتَابًا لخوارِزْم شَاه ببغدَادَ ، بعنوانِ: " نثر النَّظم وَحَلّ العَقْد "(57). وَاللافِتُ هُنَا أنَّهُ إذَا كَانَ المصْطَلَحُ التَّركِيبيُّ : قَصِيدَةُ النَّثرِ مُشْكِلاً إلى هَذَا الحدِّ ، أفَلا يَكُونُ مجرَّدَ لَفْظِ قَصِيدَةٍ مُشْكِلاً - في الوَقْتِ الحالي - ؟؛ إذْ " كَيْفَ نُدْرِجُ - بِاطْمئنَانٍ - في دَائِرَةٍ وَاحِدَةٍ (قَصِيدَةً) لِلمتنبِّي ، مَعَ (قَصِيدَةٍ) لمحمَّد عفيفي مَطَر ، مَعَ قَصِيدَةٍ لِسَليم بَرَكَات ، مَعَ (قَصِيدَةٍ) لِبَسَّام حَجَّار؟.. وَكُلُّ هَذَا (شِعرٌ) ، وَكُلُّ هَذِهِ (قَصَائِدُ) غيرُ مَنْكُورَةٍ ؟، وَمَا مَفْهُومُ(القَصِيدَةِ) الَّذي يحتَوِي على كُلِّ هَذِهِ (القَصَائدِ) ؟ ، أليْسَ ثمَّةَ اتِّسَاعٌ حَاليًا في مَفْهُومِ (القَصِيدَةِ)؟ (58) وَالملاحَظُ هُنَا - أنَّ هَذِهِ الآرَاءَ تَنْطَلِقُ - بدرجَةٍ كبيرَةٍ مِنْ الانفعاليَّةِ - مِنْ مفهومِ الشِّعرِ القديمِ المتوَارَثِ، لا مِنْ مَفْهُومِ الشِّعرِ الَّذي تَطْرَحُهُ قَصِيدَةُ النَّثرِ ، أوْ مِنْ مجالهَا الشِّعريِّ المخْتَلِفِ ؛ وَبالتَّالي غَلَبَ على مَوْقِفِهَا النَّفيُ ؛ الَّذي يعكِسُ موقفًا مُنَاهِضًا لِتفُجُّرِ المصْطَلَحِ وَاسْتِقْرَارِهِ وَتَرسِيْخِ مَلامِح شعرية أخرى ، مُسْتَقلَّةٍ ، وَدَؤبَةٍ ، في مَتْنِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، وَمِنْ غيرِ المنْطِقِي أنْ تُقَاسَ قَصِيدَةُ النَّثرِ على أيِّ قَصِيدَةٍ تنتسِبُ إلى آليَّاتِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، في أيِّ مَرْحَلةٍ مِنْ مَرَاحِلِهَا العَديدَةِ . قَصِيدةُ النَّثرُ تُقَاسُ على ذَاتِهَا هِيَ ، وَلا تُرَى إلاَّ في مَشْهَدِهَا الخَاصِّ . وَقَدْ أصْبَحَتْ قَصِيدَةُ النَّثرِ لونًا مُتميِّزًا بإسْهَامَاتِ أُنسِي الحاج في دِيوانِهِ:(لَنْ) ، وَ( الرَّأس المقطوع)، وَسَليم بَرَكات في مُعْظَمِ أعْمَالِهِ، وَمِنْهَا:(الجَمْهَرَات) وَ(الكَرَاكِي) وَ(بِالشِّبَاكِ ذَاتها بِالثَّعالِبِ الَّتي تقودُ الرِّيحَ) وَ (البَازيَار) ، وَوَديع سَعَادَة في نَصِّهِ:(لحظَات مَيِّتَة)، بديوانِهِ:(بِسَبَبِ غَيْمَةٍ على الأرْجَح)، وَدِيوانِهِ:(محاوَلة وَصْل ضَفَّتَينِ بِصَوْت) ، وَبَسَّام حَجَّار في دِيوانِهِ:(حِكَايَة الرَّجُل الَّذي أحَبَّ الكَنَاري) وَدِيوَانِهِ: (مجرَّد تَعَب) ، وَبُول شَاوول في دِيوانِهِ (مَوْتُ نرسِيس) ، وَرِفْعَت سَلاَّم في دَوَاوِينِهِ (إشْرَاقَات رِفْعَت سَلاَّم) وَ (وَهَكَذَا قُلْتُ لِلْهَاويَة) وَ(كأنَّهَا نهايَةُ الأرْضِ) ، وَقَاسِم حَدَّاد في دِيوَانِهِ:(قَبْر قَاسِم) ، وَعَاطِف عبد العزيز، في دِيوَانِهِ:(مِِخْيَال الأمْكِنَة)، وَأعْمَال أخْرَى ، جَاوَرَتْ هَذِهِ الأعْمَالَ ، وَأعْمَال أخْرَى تَبِعَتْهَا .
النَّثيرةُ : نثرُ شِعْرِ النَّثر إنَّ القَصِيدَةَ - دَائِمًا - نِظَامٌ مَقْصُودٌ ذُو عَلائِقَ دَاخِليةٍ تُحدِّدُهَا طبيعَةُ الإيقَاعِ المنظِّمَةِ لِتَشَكُّلِهَا ؛ وَلهذَا فَالقَصِيدَةُ - دَائمًا - بِنَاءٌ يَنْتَشِرُ في الوَقْتِ كِكِيَانٍ مُتَمَاسِكٍ وَلا يَتَفَكَّكُ أوْ يَنْتَهِي ، وَلا يُمْكِنُ اسْترجَاعه أوْ اسْتِعَادَته إلاَّ كَمَا هُوَ ،كَامِلاً ، وَقَصِيدَةُ النثرِ بِنَاءٌ شِعريٌّ ، يَتَشَكَّلُ في فَضَاءِ النَّثرِ ، وَيَفْرضُ عليْهِ تنظيمًا فنيًّا يجعَلُ مِنْهُ وِحْدَةً وَاحِدَةً وَخَاصَّةً (59)، إنَّ التَّنظيمَ الشِّعريَّ الدَّاخليَّ الخاصَّ في قَصِيدَةِ النَّثرِ ، هُوَ المسْئُولُ عَنْ تَشْكِيلِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، وَتمييزِهِ عَنْ النَّثرِ المكتُوبِ في شَكْلِ شِعرٍ ؛ الممْتَلِكِ خَاصِيَّةَ النَّثرِ الرَّئيسَةِ ؛ حَيْثُ يَتَلاشَى حُضُورُ بنائِهِ بمجرَّدِ حُضُورِ المعنى ، بَيْنَمَا يَظَلُّ البِنَاءُ الشِّعريُّ ، في شَتَّى محاوَلاتِ اسْتِعَادَةِ القَصِيدَةِ ، لا نَكَادُ نَفْرَغُ مِنْ القَصِيدَةِ حَتَّى تُعِيدُنَا ذُيولُهَا إلى بِدَايَاتهَا مِنْ جديدٍ ، في حَرَكةٍ دَائريَّةٍ ، وَتَظَلُّ - فيْمَا بَعْدُ - تحفُرُ بأصْدَائِهَا اللانهائيَّةِ ، وَإذَا كَانَتْ الشِّعريَّةُ خَاصِيَّةٌ إبداعيَّةٌ عَامَّةٌ ؛ قَدْ تُوجَدُ في أيِّ نَصٍّ أدَبيٍّ بدرَجَةٍ مَا بَيْنَ عَنَاصِرَ أخْرَى عَديدَةٍ وَمُؤسِّسةٍ لِلنَّصِّ ، فإنَّهَا في الشِّعرِ تكونُ أبْرَزَ الخَوَاصِ الفَاعِلَةِ في النَّصِّ وَالمهَيْمِنَةِ على الفِعْلِ الشِّعريِّ برُمَّتِهِ ؛ لِتأسِيْسِ نَسِيْجٍ (شِعْر)يٍّ خَاصٍّ ، هَكَذَا يَتَشكَّلُ الشِّعرُ ، غيرَ أنَّ الشِّعرَ شيءٌ، وَالقَصِيدَةُ شَيءٌ آخَر ، وَليْسَ كُلُّ شِعرٍ قَصِيدَةً بالضَّرورَةِ ؛ فَالقَصِيدَةُ فِعلٌ شِعريٌّ مَقْصُودٌ يقومُ بِتَحويْلِ مَادةِ الشِّعرِ إلى بِنَاءٍ شِعريٍّ محكَمٍ ؛ أيْ وِحْدَةٍ كُليَّةٍ مُتَمَاسِكةٍ ؛ أيْ قصيدة ، وَالقَصِيدَةُ تَقْطَعُ تِلكَ المسَافَةِ مِنْ " اللاشَكْل " إلى الشَّكلِ ، مِنْ المادَّةِ الأولى: الشَّاعريَّةِ المتدفِّقَةِ إلى البِنْيَةِ .هَذِهِ المسَافَةُ الَّتي تعبرُهَا الشَّاعريَّةُ كَمَوَادٍ أوْلى لِتَصِيرَ قَصِيدَةً ، لا تَتَمُّ بِشَكْلٍ اعتباطيٍّ ، وَلا عَشْوَائيٍّ ، وَلا تِلقَائيٍّ إنَّهَا فِعْلُ الشَّاعرِ أوَّلاً وَأخيرًا ، فَالشَّاعرُ هُوَ الَّذي يُحَوِّلُ كُلَّ هَذِهِ الموادِ إلى شَكْلٍ جَديدٍ مُخْتَلِفٍ لا يَتَكَرَّرُ."(60) لابُدَّ مِنْ اسْتِشَعَارِ هَذَا الفَرْق بَينَ الشِّعرِ وَالقَصِيدَةِ ، كَذَلِكَ بَينَ الشِّعرِ وَالكَلامِ المكتُوبِ في شَكْلِ شِعرٍ ، وَيَرَى البَحْثُ بَينَ قَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ وَقَصِيدَةِ النَّثرِ نَوْعًا ثالثًا يختلِطُ بهمَا - شَكليًّا - في المشْهَدِ الشِّعريِّ ، يقترحُ لِتَحْدِيدِهِ مُصْطَلَحًا مَطْرُوحًا على كُلِّ شِعرِ النَّثرِ ؛ هُوَ(النَّثيرَةُ)(61) ؛ حَتَّى لا يُضِيفَ إلى الزِّحَامِ الاصْطِلاحِيِّ جَديدًا ، بِالإضَافَةِ إلى قَنَاعَتِهِ بأنَّ هَذَا المصْطَلَحَ ، بِالتَّحديدِ ، دَالٌّ على حَقيقَةِ هَذَا النَّوعِ الأدَبيِّ ؛ بدَلالةِ النَّثرِ المعْجَمِيَّةِ ؛ الَّتي يَتَمَحَورُ حَوْلهَا هَذَا المصْطَلَحُ ، في الوَقْتِ الَّذي لا يَرَاهُ مُنَاسِبًا بأيِّ حَالٍ لمفْهُومِ القَصِيدَةِ ؛ فَدَلالةُ النَّثرِ كُلُّهَا تدورُ حَوْلَ التَّبعثُرِ وَالتَّفرُّقِ وَالتَّسَاقُطِ وَالتَّطايُرِ(62)، وَبهذَا تَنْتَفِي عَنْ هَذَا المصْطَلَحِ - النَّثيرَةِ - دَلالةُ القَصديَّةُ ؛ الَّتي تُؤسِّسُ - في كُلِّ شِعرٍ- بِنيَةَ القَصِيدَةِ - الَّتي لا تَتَحَقَّقُ إلاَّ بتدفُّقِ حَالةٍ إيقاعيَّةٍ مُحَدَّدةٍ تُهَيْمِنُ بحرَكتِهَا على مُسْتَوَيَاتِ تَشْكِيلِ النَّصِّ الشِّعريِّ ، وَتَسْتبطِنُ أجْوَاءَ التَّجربَةِ وَأدْغَالهَا . هَذَا الحضُورُ الإيقَاعِيُّ الجيَّاشُ هُوَ الشَّكلُ البَاطِنيُّ المجرَّدُ لِلتَّجربَةِ ، وَهُوَ العُنْصُرُ الفَعَّالُ الأشَدُّ التِحَامًا بحركَةِ التَّجربَةِ ، وَالأقدرُ على احْتَوائِهَا في بَنَاءٍ لغَويٍّ مُكثَّفٍ وَمُتَوَهِّجٍ ، وَهُوَ الوَقُودُ الَّذي تَتَوهَّجُ بِهِ شِعريَّةُ القَصِيدَةِ وَتَتَعَيَّنُ . أمَّا طروحَاتُ مَا يَرَاهُ البَحْثُ تحتَ مُصْطَلَحِ النَّثيرَةِ فَيَكْشِفُ - بِشَكْلٍ عَامٍ - عَنْ رَكَاكَةٍ في التَّعبيرِ، وَفَقْرٍ في التَّكثِيفِ اللغَويِّ - نَظَرًا لِغِيَابِ البُعدِ الإيقاعيِّ - وَالظَاهِرُ أنَّ فِعْلَ الكِتَابَةِ فيْهَا يبتدِئُ مِنْ فِكْرَةٍ جَاهِزَةٍ وَكَامِلَةٍ وَتَأخُذُ هَذَا المسَارَ : فكرَةٌ تعبيرٌ إيقاعٌ ، بينَمَا تأخُذُ القَصِيدَةُ مَسَارًا عَكْسِيًّا تمامًا فتبتدِئُ مِنْ : إيقاعٍ تعبير فكرة ، وَمِنْ هَذِهِ الوِجْهَةِ تخلو النَّثيرَةُ مِنْ حَرَارَةِ التَّوتُّرِ الشِّعريِّ ، وَمِنْ وَهَجِ الحالةِ الَّذي يَتَدَفَّقُ مَعَ تَدَفُّقِ حَرَكَاتِ الإيقَاعِ ،كَمَا يقلُّ فيْهَا الوَعْيُ بطبيعَةِ بِنيَةِ الخِطَابِ الشِّعريِّ الَّذي يتأسَّسُ على وَعْي بـِ" المظْهَرِ الصَّوتيِّ أوْ المظْهَرِ التَّلفُّظِيِّ أوْ حَتَّى المظْهَرِ الدَّلاليِّ (63)، وَتَنْهَضُ النَّثيرَةُ - كَشَكْلٍ - عَلى صِلاتٍ ظَاهريَّةٍ بِالشِّعرِ الحرِّ ؛ فَتَعْتَمِد عَلى وَسَائِلِهِ وَآليَّاتِهِ وَذَرَائِعِهِ ، كَمَا تَلْتَبِسُ أحْيَانًا بِالشَّكلِ الظَّاهريِّ لِقَصِيدَةِ النَّثرِ- غيرَ أنَّهَا تكونُ أقرَبَ إلى النَّثرِ الشِّعريِّ في هَذِهِ الحالةِ - وَالنَّثيرَةُ في أحْسَنِ أحْوَالهَا جَسَدٌ شِعريٌّ مُصَابٌ بِنَقْصِ المنَاعَةِ ، فيْهَا تتبدَّى تقنيَاتٌ أثيرةٌ شَائِعَةٌ في قَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ وَقَصِيدَةِ النَّثرِ كِلتيهِمَا ، وَأبرَزُهَا : التَّفاصِيلُ الحياتيَّةُ ، الشَّخصانيَّةُ ، السِّرياليَّةُ ، المنَاجَيَاتُ العَاطِفيَّةُ .. وَلكنَّ النَّصَّ يأتي - في النِّهايَةِ - خاليًا مِنْ الوَعْي بِطَبيعَةِ شِعرِ النَّثرِ كَبِنَاءٍ لُغَويٍّ خَاصٍّ ، مُحْكَمٍ وَمُكثَّفٍ ، يَتَأسَّسُ بَيْنَ " قُوَّتينِِ مُتنَاقِضَتينِ : قُوَّةٍ فوضويَّةٍ مُدَمِّرَةٍ وَقُوَّةٍ تنظيميَّةٍ فنيَّةٍ (64)، وَهَذَا مَا يجعلُ نَصَّ النَّثيرَةِ فَاقِدًا صَلابَة الخِطَابِ الشِّعريِّ وَتَكْثِيفِهِ وَتَوَهُّجِهِ . وَالنَّثيرَةُ بهذَا تقعُ في مَنْطِقةٍ وُسْطَى بَيْنَ القَصِيدَةِ - الَّتي لا يَكتبُهَا سِوَى شَاعرٍ - وَالخاطِرَةِ الشَّاعريَّةِ الَّتي يَكتُبُهَا الشَّبابُ في بِدَايَاتِ عَهْدِ الشَّبابِ بِنُزوعٍ عَاطِفيٍّ رُومَانتيكِيٍّ هَائِمٍ ، هَذَا على الرَّغمِ مِنْ طُموحَاتِ النَّثيرَةِ في أجْوَاءِ الشِّعرِ ؛ فَهَيَ قابلةٌ لِلاسْتِهلاكِ وَلِلذَّوبَانِ السَّريعِ وَللتَّبديلِ دُونَ أنْ تَتْرُكَ أثرًا يُذْكَرُ ، وَلَكنَّ القَصِيدَةَ - دَائمًا - كِيَانٌ حَيٌّ مُتَمَاسِكُ الأعْضَاءِ ، مُحْكَمُ البِنَاءِ ، مُشِعٌّ وَعَابرٌ للزَّمنيَّةِ ؛ وَبالتاَّلي لا تُسْتَهَلَكُ القَصِيدَةُ - الحقيقيَّةُ – وَلا تَتَفَكًّكُ وَلا تَزولُ ، وَتَتبَدَّى النَّثيرَةُ خَاليَةً مِنْ وَهَجِ التَّجربَةِ الحقيقيَّةِ ، خَاليَةً مِنْ الدِّفءِ الإنسَانيِّ وَمِنْ نَبْضِهِ ، بَلْ هِيَ غيرُ إنْسَانيَّةٍ في الحقيقَةِ ؛ حيثُ تبدو مَبْتُورَةً وَبعيدَةً عَنْ مَرْجِعيَّتِهَا الإنسَانيَّةِ وَالمحليَّةِ ، وَبهذَا فإذَا كَانَتْ النَّثيرَةُ تختلِطُ شَكْليًّا بِقَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ أوْ بِقَصيدَةِ النَّثرِ - وَهَيَ في الحقيقَةِ تُقَدِّمُ نفسَهَا تحتَ أيٍّ مِنْ هَاتينِ القَصِيدَتينِ - فإنَّهَا سرعَانَ مَا تَتَكَشَّفُ لنَا بهشَاشَةِ خِطَابهَا المصْنُوعِ الملحُوظَةِ وَميوعَتِهَا الظَّاهِرَةِ وَتَقَشُّفِهَا الجليِّ . هَذَا مَا يُفرِّقُ النَّثيرَةَ عَنْ القَصِيدَةِ : قَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ أوْ قَصَيدَةِ النَّثرِ ، على الرَّغمِ مِنْ اشْتِرَاكِهَا مَعَ هَذينِ النَّوعينِ الشِّعرييَّنِ في الوسَائلِ التَّعبيريَّةِ الدَّالةِ ، وَفي الاعْتِمَادِ على التَّشكيلِ مِنْ مَادةٍ أسَاسِيَّةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الجمْلةُ النَّثريَّةُ ، وَفي الاعْتِمَادِ - كَذَلكَ - عَلى إيقَاعٍ دَاخِليٍّ عَابرٍ لِلتَّقاليدِ العَرُوضِيَّةِ ، وَتَبْقَى القَصِيدَةُ - دَائِمًا - تَنْظِيمًا دَاخِليًّا محْكَمًا لحرَكةِ الذَّات في اللغَةِ بما يقودُ إلى تخلُّقٍ دَائبٍ لعَالمٍ مُنْبنٍ بقوانينَ خَاصَّةٍ وَنِظَامٍ دَاخِليٍّ مُحْكَمٍ خَاصٍّ ، وَتَبْقَى النَّثيرَةُ شَكْلاً ناتجًا عَنْ اندِفاقِ الرُّؤيَا أوْ الفِكْرَةِ أوْ الحالةِ في كَلامٍ غيرِ مُتَأنٍ ، يُدَارُ كَمَا يُدَارُ في غَيْرِ خِطَابِ القَصِيدَةِ ؛ خِطَابِ مَا قَبْلَ القَصِيدَةِ أوْ مَا بَعْدَهَا ، وَفي قَصِيدَةِ النَّثرِ كَمَا في قَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ يَنْطَلِقُ الشَّاعرُ مِنْ النَّثرِ إلى الشِّعرِ بينَمَا في النَّثيرَةِ ، يَنْطلِقُ على العَكْسِ مِنْ ذَلكَ ؛ فَيَتَوَجَّهُ مِنْ الشِّعرِ إلى النَّثرِ ؛ وَهَذَا يُفسِّرُ لنَا ظَاهِرَةَ شُعرَاءِ التِّسعينيَّاتِ الرِّوائيِّينَ ؛ الَّذين بدءُوا مِنْ الشِّعرِ وَانْتَهَوا إلى القِصَّةِ والرِّوايَةِ وَمِنْهُمْ : ياسر شعبان ، هدي حسين ، ياسر عبد اللطيف، سهير المصادفة ،علاء خالد ، صبحي موسى، وَغَيْرهُمْ كثيرونَ ، وَثمَّة أسماء عديدةٌ تكتبُ النَّثيرَةَ - تحتَ هَاجِسِ القَصِيدَةِ - وَتُراوحُ أحْيَانًا بينَهَا وَبَيْنَ قَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ ، وَمِنْهَا: ظبية خميس ، خالد المعالي ، لينا الطِّيبي ، مُنذر عامر، حمدة خميس ، تيري بباوي ، خلود المعلاَّ ، رشيد الضَّعيف ، عبد الله الرِّيامي ، غادة السَّمان ، عائشة أرناؤط ..وَإنْ كَانَ لِبَعْضِ هَذِهِ الأسماءِ بَعْضُ القَصَائدِ النَّاجزَةِ ، أوْ مَقَاطِعُ - على الأقَلِّ - في الشِّعرِ الحرِّ أوْ قَصِيدَةِ النَّثرِ . وَلا يجدُ البَحْثُ - في الوَقْتِ الحاليِّ - مِنْ وَسِيلةٍ لِلتَّمييزِ بَيْنَ قَصِيدَةِ الشِّعرِ الحرِّ وَقَصِيدَةِ النَّثرِ مِنْ نَاحِيَةٍ ، وَالنِّثيرَةِ مِنْ نَاحِيَةٍ أخْرَى سِوَى الاحْتِكَامِ إلى الذَّوقِ المدَرَّبِ الخبيْرِ وَالإصْغَاءِ إلى الإيقاعيَّةِ الدَّاخليَّةِ لِلصَّوتِ السِّريِّ في النُّصوصِ ؛ حَيْثُ اسْتَلَبَتْ النَّثيرَةُ الظَّواهرَ السَّطحيَّةَ الَّتي يمكِنُ الاسْتِنَادُ إليْهَا - ممَّا جَعَلَ البَعْضُ يَتَحَدَّثُ عَنْهَا كَقَصَائد نثرٍ - وَجَرَّتها إلى حَيِّزِ الإنتاجيَّةِ الآليَّةِ وَالاسْتهَلاكِ السَّريعِ ، بمعزلٍ عَنْ أتُونِ التَّجربَةِ ، وَيُمْكِنُنَا اسْتِشَعَارَ هَذِهِ الفُروقَ مِنْ الامتِثَالِ إلى أصْوَاتِ النَّمَاذجِ المطروحَةِ لهذِهِ الأنْوَاعِ في مُلْحَقِ الدِّراسَةِ .
الإحالات والتَّعليقات (1) أحمد زكي أبو شَادي – الشَّفق الباكِي – المطبعة السَّلفية بمصر - 1926 - ص : 535 . (2) مجلَّة:(أبوللو) - المجلد الثَّاني - العدد العاشر- 1934- ص : 900 . (3) رَاجِعْ القصيدَةَ في عدد نوفمبر1932- ص ص :227 - 231 ، وَقد عَقَّبَ أبو شَادِي عليْهَا بقولِهِ :" نُرحِّبُ كلَُّ التَّرحيبِ بِصياغَةِ هَذِهِ القَصيدَةِ إلى جانبِ رُوحِهَا الفنيَّةِ الممتعَةِ ، وَلا نقُولُ هَذَا مُجَامَلةً ؛ فَليْسَ لِلْمُجَامَلَةِ سَبيلٌ إلى هَذِهِ المجلَّةِ ، وَإنَّمَا يَرْجِعُ تقديرُنَا لِلشِّعرِ الحرِّ free verse إلى سَنَوَاتٍ مَضَتْ ".رَاجِعْ :" مختار وحي العام " – ص: 44- وَفي مَوْضِعٍ آخَر قَالَ :" وَفي اعْتِقَادِنَا أنَّّ الشِّعرَ العَرَبيَّ أحْوَجُ مَا يكونُ إلى الشِّعرِ الحرِّ وَالشِّعرِ المرسَلِ verve blank إذَا أرَدْنَا بِهِ نهضَةً حَقِيقيَّةً " .ص: 231 . ( 4) رَاجِعْ القَصِيدَةَ كَامِلةً في :(الرِّسالة) - 13 ديسمبر 1943 – ص: 998 ، وَقَدْ صُدِّرتْ بـِ(مِنْ الشِّعرِ الحرِّ) . (5) رَاجِعْ كِتَابهَا: قَضَايَا الشِّعرِ المعُاصِرِ- بيروت 1962 - ص ص :37 - 40 ، وَتجدرُ الإشَارَةُ إلى أنَّ دُريني خَشَبَة ( 1903 - 1964 ) قَدْ سَبَقَ نازك الملائكة بِعِدَّةِ أعْوَامٍ في تعريفِهِ للشِّعرِ الحرِّ عَلى أسَاسٍ عَرُوضِيٍّ ؛ حَيْثُ أوْضَحَ أنَّ الشِّعرَ الحرَّ هُوَ " الشِّعرُ الَّذي لا يتقيَّدُ بعدَدِ التَّفعيلاتِ في البيْتِ الوَاحِدِ ؛ فَقَدْ يَتَرَكَّبُ البيتُ فيْهِ مِنْ تفعيلَةٍ وَاحِدةٍ ، وَقَدْ يكونُ تفعيلتَينِ ، وَقَدْ تَصِلُ تفعيلاتُهُ إلى ثمانيَ أو ْعَشْرٍ أوْ اثْنَتَي عَشْرَةَ ، وَذَلكَ في القَصِيدَةِ الوَاحِدَةِ " . دُريني خَشَبَة - مجلَّة :(الرِّسَالة) – العدد: 583 – السَّنة الحادية عَشَرَة - 25 أكتوبر 1943 – ص: 847 . (6) مجلَّة:(شِعر)- العدد:22 – ربيع 1962 - باب:(أخْبَار وَقَضَايَا) ص:132 - دُونَ توقيعٍ . (7) خَالدة سعيد - البَحْثُ عَنْ الجذورِ- دَار مجلَّة (شِعر)- بيروت- 1960- ص :71 . (8) نازك الملائكة - قَضَايَا الشِّعرِ المعُاصِرِ - سَابق - ص: 213 . (9) السَّابق - ص ص : 216 - 217 . (10) مجلَّة :(شِعر) - العدد: 22 - سَابق . (11) جبرَا إبراهيم جبرَا - الرِّحلة الثَّامنة - المؤسَّسة العربيَّة للدِّراسَات وَالنَّشر - بيروت - 1979 – ص: 14. وَرَدَ في: (الحدَاثَة الأولى) ، لمحمَّد جمال باروت – اتحاد كُتَّاب وَأدباء الإمارات - الطَّبعة الأولى - 1991 - ص :208 . (12) محمَّد النِّويهِي - قَضِيَةُ الشِّعرِ الجديد - الخانجي وَدَار الفِكر - القاهرة - الطَّبعة الثَّانية -1971 – ص ص : 453 -454 . (13) س. موريه - الشِّعرُ العَربيُّ الحديث:1800- 1970- ترجمة د. شَفيع السَّيد ود . سَعد مصلوح - دار الفِكر العَربيّ - القاهرة - 1986 - ص : 302 . (14) رَاجِعْ تعريف الرِّيحاني الشِّعرَ المنثُورَ الَّذي يُوضِّحُ فيْهِ أنَّ هَذَا النَّوعَ يُدْعَى VERS LIBRES بالفَرَنْسِيَّةِ ، وَبِالإنجليزيَّةِ free verse أيْ : الشِّعر الحرِّ أوْ بالحري المطْلَقِ .. الرِّيحانيَّات - الجزء الثَّاني - المطبعَة العِلميَّة ليوسف صَادر- بيروت - 1923 - ص :182 ، وَرَاجِعْ ، أيضًا ، أمين الرِّيحاني - الكِتَابَاتُ الشِّعريِّة - دار الجيْل - بيروت - د. ت - ص:75 . (15) عَنْ : علي جعفر العلاَّق - الشِّعرُ خَارجُ النَّظم ، الشِّعرُ دَاخِل اللغَةِ - مجلَّة: (نِزْوَى)- العدد الأوَّل - نوفمبر 1994 ص : 31 . (16) رَشِيد يحياوي - في المتاهة الشِّعريَّة - مجلَّة: (نِزْوَى) - العدد الثَّاني - مارس 1995 - ص : 39 . (17) محمَّد دِيب - الجنسُ الأدَبيُّ بينَ الموهِبةِ الفَرديَّةِ وَالرَّافدِ الغَربيِّ - مجلَّة :(علامات) ، النَّادي الأدبي الثَّقافي بجدَّة ، يونيو 1994 - ص : 153 ، غَيْرَ أنَّه مِنْ الوَاجِبِ هُنَا أنْ نُوضِّحَ أنَّ الشَّاعرينِ العَربيَّينِ لمْ يَكْتُمَا التأثُّرَ بِسُوزان برنار ؛ فَأدونيسُ قَدْ ذيَّلَ دِرَاسَتَهُ المنشورَةَ في العَدَدِ الرَّابعَ عَشَرَ: (ربيع 1960)، بإقرَارِهِ أنَّهُ اعْتَمَدَ في كِتَابَةِ هَذِهِ الدِّراسَةِ على كِتَاب سُوزان برنار ،كَذَلكَ بَيَّنَ أًُنسِي الحاج أنَّهُ يَسْتَعِيرُ بتلخِيصٍ كُلِّيٍّ مَاهِيَةَ قَصِيدَةِ النَّثرِ مِنْ كِتَابِ سوزان برنار ، بِالتَّحديدِ ، وَكَانَ هَذَا بِدَايَةَ التَّعامُلِ مَعَ كِتَابِ برنار بِاعْتِبَارِهِ دستورَ قَصِيدَةِ النَّثرِ وَكِتَابهَا المقَدَّسَ . (18) أدونيس - في قَصِيدَةِ النَّثرِ - مجلَّة: (شعر) – العدد: 14 - ربيع 1960 – ص: 78. (19) أنسِي الحاج - لَنْ - المؤسَّسة الجامعيَّة لِلدِّراسات وَالنَّشر وَالتَّوزيع - بيروت – الطَّبعة الثانية - 1982 - ص ص : 17 - 18 . (20) رَاجِعْ: بحث في عِلْمِ الجمَالِ - لجان برتلمي- ترجمة : د. أنور عبد العزيز - نهضة مصر - د. ت - ص : 300 . (21) مِنْ ذَلكَ ، هَذَا المقطعُ لحسين عفيف ، مِنْ دِيوانِهِ:(الغسق) : " أتُرَى نلتقِي في الغَيبِ ، كلقائِنَا في الدُّنيَا هُنَا ؟ وَأرَاكِ لَحْمًا وَدَمًا ، لا خَيَالاً يُنكِرُ وُدَّنَا ؟ أمْ أنَّ الوَدَاعَ وَدَاعُ الأبَدِ ،وَغَدًا نَنْسَى مَا بنَا ؟ وَتَضِيعُ صُحْبَةُ العُمْر سُدىً ،وَكَأنَّنَا عِشْنَا وَحْدَنَا ليْتَ الَّذي قَدْ كَانَ إذنْ مَا كَانَ يومًا بينَنَا ! " (22) سركون بولص ، مِنْ حِوَارٍ مَعَهُ بمجلَّة:(نِزْوَى) - العدد السَّادس - إبريل 1996- ص: 188 . (23) ابن منظور - لِسَان العَرَب - ج11- دار إحيَاء التُّراث العَرَبي - بيروت -1999 - ص : 180 . (24) السَّابق - ص : 181 . (25) سوزان برنار - قَصِيدَةُ النَّثرِ - ترجمة د. زُهير مجيد مَغَامِس ، مُرَاجَعَة د. علي جواد الطَّاهر - الطَّبعة الثَّانية - الهيئة العامة لقصورِ الثَّقافة - ديسمبر1996- ص : 141 . (26) لِسَان العَرَب – ج 14 - ص : 37 . (27) عَنْ : محمَّد دِيب - الجنسُ الأدبيُّ بينَ الموهبَةِ الفرديَّةِ وَالرَّافدِ الغَربيِّ - سَابقٍ- ص: 147. (28) نقلاً عَنْ : الحدَاثَةِ في الشِّعرِ المعُاصِر: بيانها ومظاهرُها- د. محمد حمُّود - الشّركة العالميَّة للكتاب ، دار الكِتاب اللبنانيّ - بيروت - 1986 - ص: 189 . (29) مُقَدِّمةُ دِيوَان: (لَنْ) - الطَّبعة الثَّانية - سَابق- ص : 18 . (30) أدونيس- في قَصِيدَةِ النَّثرِ- مجلَّة :(شِعر) العدد: 14- ربيع 1960- ص :75 . (31) د. غالي شُكري - ثقافتُنَا بينَ (نَعَم) و (لا) - الهيئة العَامة لقصورِ الثَّقافة - يوليو 1991 - ص 143 . )32) عَنْ : محمَّد دِيب - الجنسُ الأدَبيُّ بينَ الموهبَةِ الفَرديَّةِ وَالراَّفدِ الغَربيِّ- سَابق - ص : 161 . (33) بُول شَاوول - مُقدِّمةٌ في قَصِيدَةِ النَّثرِ العَرَبيَّةِ - مجلَّة :(فصول) - مج 16 /صيف 1997 - ص : 150 . (34) السَّابق - الصَّفحةُ نفسُهَا . (35) السَّابق - الصَّفحةُ نفسُهَا. (36) عَنْ : قَصِيدَة النَّثرِ بينَ الزَّخمِ النَّقديِّ وَالسَّيطرَةِ على المنتَجِ الشِّعريِّ العَرَبيِّ - تحقيق صَحَافي لطارق حَسَّان - مجلَّة:(الحرس الوَطَني) - أكتوبر / نوفمبر 1996 - ص : 84 . (37) السَّابق - ص : 88 . (38) عبَّاس بيضون - في حِوَار مَعَه بمجلَّة :(نِصْف الدُّنيا) - 17 أكتوبر 1993 - ص ص : 67 - 68 . (39) قَصِيدَةُ النَّثرِ بينَ الزَّخمِ النَّقديِّ وَالسَّيطرَةِ على المنتَجِ الشِّعريِّ العَرَبيِّ - سَابق - ص ص: 154- 156 . (40) سَوزان برنار - قَصِيدَة النَّثرِ - سَابق - ص : 99 . (41) كمال أبو ديب - قَصِيدَةُ النَّثرِ- مجلَّة:( نِزْوَى) – العدد: 17- يناير1999- ص : 22 . (42) عبد الوهاب البيَّاتي ، في حِوارٍ مَعَهُ ، بمجلَّةِ:(الشِّعر) - العدد: 87 - صيف1997 - ص :53 ، وَنُشِيرُ ، هُنَا ، إلى أنَّ البيَّاتي كَتَبَ هَذِهِ القَصِيدَةَ ؛ الَّتي يَرْفُضُهَا، هُنَا، في آخِرِ إصْدَارٍ شِعريٍّ لَهُ ، بِعنوَانِ:(نصوص شَرقيَّة)؛ الصَّادر عن دَارِ(المدى) بدمشق سنة 1998 . (43) نِزَار قبَّاني - في حِوَارٍ مَعَهُ بمجلَّة:(الكويت) ، العدد: 165 - يوليو1997 - ص : 35 ، وَنُشِيرُ ، هُنَا ، إلى أنَّ نِزَارَ كَتَبَ هَذِهِ القَصِيدَةَ ؛ الَّتي يَرْفُضُهَا ، هُنَا - في دِيوَانٍ كَامِلٍ بعنوَانِ: (100رسَالة حُبّ) ،وَآخَرُ قَصِيدَةٍ نُشِرَتْ لَهُ كَانَتْ مَنْثُورَةً ، وَهِيَ قَصِيدَةُ : (المتَنَبي وَأمُّ كلثوم على قَائِمَةِ التَّطبِيع) ، وَمَوْقِفُ نِزَار مِنْ قَصِيدَةِ النَّثرِ مُتَذَبْذِبٌ ، وَمُلْتَبِسٌ ؛ فَهُوَ يَقْبَلُهَا، حِنْيًا ، وَيَرْفُضُهَا حِيْنًا ، وَيُهَاجِمُهَا حِيْنًا ، وَيَكْتُبُهَا حِيْنًا ، وَلَنْرُاجِعْ حِوَارًا آخَر مَعَهُ بمجَلَّةِ: (الكَرْمِل) ، العَدَد: 28 - 1988؛ حَيْثُ يَتَغَزَّلُ فيْهَا قائِلاً إنَّهَا " أجملُ بِنْتٍ أنجبَتْهَا مجلَّةُ (شِعر) ، وَإذَا كَانَتْ لمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى الآنَ ، فَلأنَّ العِرْسَانِ العَرَبَ لا يحبُّونَ البَنَات اللواتي يَلْبَسْنَ الجينزَ وَيُدخِّنَّ سَجَائرَ المالبورو، وَبِيَدِهِنَّ العِصْمَةُ ". الكَرْمِل – العدد: 28 - 1988 ص : 29 . (44) د. محمَّد العبد – اللغَةُ وَالإبدَاعُ الأدَبيُّ- دار الفكر- القاهرة / باريس - 1989 - ص ص : 177 - 178 . (45) د. عبد القَادِر القِطّ - رُؤيَةُ الشِّعرِ العَرَبي المعَاصِرِ في مِصْر - مجلَّة : (إبداع) -مارس 1996 - ص : 17 . (46) د. إبراهيم حمادة – قَصِيدَةُ النَّثرِ- مجلَّة:(القَاهرة) – العدد: 73 - 15 يوليو1987- الافتتاحِيَّة . (47 ) السَّابق - الصَّفحَةُ نفسُهَا . (48) مِنْ حِوَارٍ مَعَهُ ، أجْرَاهُ :عماد غزالي ، مَنْشُورٌ في مجلَّةِ :(الشِّعرِ) – العدد: 75 - يوليو1994 ، تحتَ عنوَانِ :(السَّليقَةُ العَربيَّةُ سَلِيقَةٌ مُوْسِيقيَّةٌ) . (49) عبد الملك مُرْتَاض- قَصِيدَةُ النَّثرِ : إشْكاليَّةُ الماهِيَّةِ ، وَالبَحْثُ عَنْ التَّجنيسِ - مجلَّة:(أوان) ، كُليَّة الآدَاب ، جامعة البَحْرَين - العدد السَّادس- 2004 . (50) د. علي عَشْري زايد - إنْ كَانَ هَذَا شِعرًا فَكَلامُ العَرَبِ بَاطِلٌ- مجلَّة :(إبداع) مارس 1996 - ص : 25 . (51) نازك الملائكة - قَضَايَا الشِّعرِ المعَاصِرِ - مَنْشُوَرَاتُ مكتبَةِ النهضَةِ- الطَّبعَة الثَّالثة - بغداد - 1967 - ص : 183 . (52) رَاجِعْ مجلَّة :(نِزْوَى) – العَدَد: 12- أكتوبر 1997 - ص : 32 . (53) صبري حافظ - مجلَّة : الآداب - السَّنة الرَّابعة عَشَرَة - العدد الثَّالث - 1966- آزار (مارس) : ص : 156 . (54) في حِوَارٍ مَعَهُ ، بِصَحِيْفَةِ:(الوَفْد) – العَدَد: 6389 - 21 أغسطس 2007 - ص : 10 . (55) انْظُرْ : د. أحمد درويش - عَصِيدَةُ النَّثرِ ، مُصْطَلَحٌ مُقْتَرَحٌ - جريدة:(الأهْرَام) مُلْحَق الجمْعَة : 9/8/1996 - صَفْحَة :(ثَقَافَة) . (56) انْظُرْ :د. محمد أبو الفضل بدران - مَدِيدَةُ النَّثرِ – جَريدَةُ:(الأهْرَام) ، مُلْحَق الجمعة : 6/9/1996 – صَفْحَة: (ثقافة) . (57) د. عبده بدوي - قَضَايَا حَوْلَ الشِّعرِ – الجزءُ الأوَّل - الهيئة المصْريَّةُ العَامَّةُ لِلْكِتَابِ - 1992 - ص: 122 . (58) شريف رزق - قَصِيدَةٌ مِنْ خَارجِ الرَّحم - جريدَةُ:(القُدْس العَرَبيّ) - لندن - 20يناير1997 ، مجلَّة :(الحرَس الوَطِني) السُّعوديَّة - مارس1997- ص : 94 . (59) رَاجِعْ : سُوزَان برنار - قَصِيدَةُ النثرِ- تَرجمة : زُهير مجيد مَغَامس ، مُرَاجَعَة د: علي جَواد الطَّاهر - الطَّبعة الثَّانية - الهيئة العَامةُ لقصورِ الثَّقافَة - ديسمبر 1996- ص :141 . (60) بُول شَاوول - عِلاقَةُ القَصِيدَةِ العَربيَّةِ المعَاصِرَةِ بِالفُنونِ الأخْرَى - ضِمْن أبحاثِ نَدْوَةِ (دورة البَارُودي) - مُؤسَّسة جائزة عبد العزيز البَابَطِين للإبْدَاع الشِّعريِّ - الكويت - 12/14 ديسمبر 1992- ص :416 . (61) أَطَلَقَ هَذَا المصْطَلَحَ : محمَّد ياسر شَرَف ، في مَقَالٍ لَهُ بجريدَةِ :(الرِّياض) ، العدد:453 ، بتاريخ 5/7/1400(1980) وَجَعَلَهُ عنوانًا لِكِتَابِهِ :(النَّثيرَة القَصِيدَة المضَادَّة ) ، صَدَر عَنْ : النَّادي الأدَبي بالرِّياض - 1401/1981 ، وَهُوَ يَرْفُضُ فيْهِ شِعرَ النَّثرِ جُمْلةً وَتَفْصِيلاً ؛ لخلُّوهِ - في رأيِهِ- مِنْ الإيقَاعِ ، وَاعْتَبَرَ- في المقَابِلِ- ألفيَّةَ ابنِ مَالكِ وَمَنْظُومَةَ ابنِ سِينا العَيْنِيَّةِ الَّتي يَشْرَحُ فيْهَا فَلْسَفَتَهُ ، وَمَطْلَعُهَا: هَبَطَتْ إليْكَ مِنْ المَحَلِّ الأرْفعِ وَرْقاءُ ذَاتَ تَعَزُّزٍ وَتَرَفُّعِ ، أنَّهُمَا وَإنْ لمْ يَكونَا شِعرًا جَيِّدًا فإنَّهُمَا شِعْرٌ !. رَاجِعْ: (النَّثيرَةُ وَالقَصِيدَةُ المضَادَّةُ)- ص ص:212-213 . (62) رَاجِعْ: لِسَان العَرَب - جـ 14 - ص : 38 . (63) فاطمة الطَّبَّال بَرَكَة - الألسنيَّة عِنْدَ رُومَان جاكبسون: دِرَاسَةٌ وَنُصُوص - المؤسَّسة الجامعيَّة للدِّراسَاتِ وَالنَّشر - بيروت - 1993 - ص : 58 . (64) سوزان برنار- قَصِيدَةُ النَّثرِ- سَابق - ص : 241 .
مُلحق النُّصوص
الشِّعر الحرُّ
أمجد ناصر أثَرُ العَابِرِ(مُخْتَارَاتٌ شِعريَّةٌ)- دار شَرْقيَّات ، القاهرة – 1995.
انْطِبَاعَاتٌ خَاطِئَةٌ
مَنْ أعْطَى هَذَا الانْطبَاعَ عَنْ بيوتِنَا الجَديدةِ نَحْنُ الذين ترْكَنَا مَصَاطبَ الرَّيحَانِ وَرَائحَةَ القرفَةِ وَمَضَينَا إلى حَوَافِ الميَاهِ ؟ مَنْ قالَ لهُمْ : إنَّ حَيَاتَنَا في الجُزرِ غير حَيَاتِنَا على البرِّ الآخَرِ ؟ أصْدقائِي ، الَّذين ظلُّوا يَتَطوَّحونَ بَيْنَ ذَوَائبِ النِّسَاءِ وَالمُروءَةِ المُفْتَعَلةِ تَحَدَّثُوا كَثِيرًا إلى مَنْ صَادَفُوهُمْ في الشَّوارعِ عَنْ بيتِي الجَديدِ . أصْدقائِي ، الَّذينَ ظلُّوا يَحْتَفِظُونَ بوصَايَا أُمهَاتِهِمْ ، حَتَّى بَعْدَ أنْ جَاوَزُوا الثَّلاثِينَ أمْسَكُوا أُنَاسًا في الشَّوارِعِ وَرَاحُوا يُحَدِّثونَهُمْ عَنْ بيتِي الجَديدِ مَنْ أعْطَى هَذَا الانطبَاعَ عَنْ ثيابِنَا الجَديدَةِ ، نحنُ الَّذينَ خَلَعْنَا الصَّداري المُزَرْكَشَةَ وَأحْزِمَةَ الخِصْرِ المَجْدُولةِ مِنْ جلْدِ الأفاعِي وَارْتَدَينا الحَرَاشِفَ ؟ مَنْ قالَ لَهُمْ إنَّ قُمْصَانَنَا في الجُزرِ لمْ تكلحْ عِنْدَ الإبطَينِ كَمَا على البرِّ الآخرِ ؟ أصْدقائي الَّذين ظلُّوا يَتَلَصَّصونَ تَحتَ الشُّرفاتِ الوَاطِئةِ حَتَّى بَعْدَ أنْ جَاوَزوا الثَّلاثينَ ، جَلَسُوا في المَقَاهِي وَرَاحُوا يَتََحَدَّثون إلى المَارةِ عَنْ ثيابنَا الجَديدَةِ أصْدقائِي الَّذين أقلَعُوا عَنْ الكِتابةِ إليَّ ، ذَهَبُوا إلى جيرَانِنَا وَرَاحُوا يُحَدِّثونَهُمْ عَنْ قَميصِي الجديدِ أصْدقائِي الَّذين ظلُّوا يكشِفُونَ عَنْ صُدورِهِمْ ، وَيُشَمِّرونَ عَنْ زنُودِهِمْ رَغَمْ أنَّهُمْ جَاوَزُوا الثَّلاثينَ ذَهَبُوا إلى أُمِّي وَرَاحُوا يُحَدِّثونَهَا عَنْ حَيَاتي الجَديدَةِ . ( نيقوسيا 5/1985)
سَيف الرَّحبي رَجُلُ الرَّبعِ الخَالي – دار الجديد – بيروت -1993.
ليْلُ أمْرِئِ القَيْسِ ليْلٌ لا يُمْكِنُكَ أنْ تَقْطَعَهُ بمِنْشَارٍ أوْ تَعْتَقلُهُ في كَأسٍ ليْلٌ ثَعْلَبيُّ المِزَاجِ . أحْيانًا يُشْبهُ مُهَرِّجًا في سَاحَةٍ عَامةٍ وَينزلِقُ أمْلَسًا كِفِرَاءِ العَرُوسِ ليْلُ العَرَّافاتِ وَسَائِقي الشَّاحِنَاتِ لمْ يُرْخِ سُدُولَهُ بَعْدُ لكنَّهُ أوْعَزَ إلى مَخْلُوقاتِهِ بالنَّمِيمَةِ الغُرَباءُ يُطلُّونَ مِنْ شُرُفاتِهِمْ أمَامَ البَحْرِ وَالسُّفنُ غَارَتْ في ذاكِرَةِ البَّحَارَةِ ليْلٌُ غيرُ قابلٍ للاندِحَارِ على شَوَاطِئِهِ تلمِلمُ الصَّرخَةُ أشْلاءَهَا مِنْ فمَِ الغَريقِ ليْلٌ وَعْرٌ وَقَدْ أرْخَى سُدولَهُ على العَالمِ .
عقيل علي جُنَائنُ آدَم – دار توبيقال للنَّشر – المغرب – .199.
إمْرَأةٌ امْرَأةٌ تَنْقَرِضُ في أفْكَارِي امْرَأةٌ تَتْرُكُ مَفَاتيحَهَا في صَيْحَتِي امْرَأةٌ أسْحَبُهَا نَحْوَ المَوْجَةِ فتسْحَبُ خَلْفَهَا ذِئبًا يتكئُ الآنَ على عَويلِي امْرَأةٌ لا تُحْصَى . امْرَأةٌ لا تكفُّ عَنْ قَضْمِ الوَاحَاتِ . شِلوٌ أنَا ... يأكلُ شَهْوَتَه الخَاليةَ امْرَأةٌ تَتْرُكُ صَيْحَتِي مُبَعْثَرَةً في قَصَائِدي .
قصيدة النَّثر
بُول شاوول مَوْتُ نرسِيْس – دار الحَداثة – بيروت -1990 .
مِنْ : (مَوْت نرسِيْس) كُلُّ هَذَا الزَّمنِ السَّادِرِ زَمَنُكَ يانرسِيْسُ ، زَمَنُكَ المُسْتَرْخِي في حَاضِرٍ لا ينتهي ، في حَاضِرٍ لا يَتَزَحْزَحُ وَلا يَصِلُ ، باركًا في فَجْوَتِهِ البَاردَةِ ، كُلُّ هَذا التَّألقُ مِنْكَ يَانرسِيْسُ . مَاؤكَ مِنْكَ شَمْسُكَ مِنْكَ .هَوَاؤكَ مِنْكَ . لا يَمْلِكُ عُصفورٌ أنْ يُسْقِطَ ريشَةً على حِصَارَكَ الجميْلِ ،لا تَمْلُكُ امْرَأةٌ أنْ تَخْدِشَ حُضُورَكَ الشَّاسعَ . افتَحْ حَواسَكَ على حَواسِكَ . عَينيْكَ على عَينيْكَ ، كفَّيْكَ على كفَّيْكَ ، ذَاكرَاتَكَ على ذَاكرَاتكَ ، فهُنَاكَ الكُنُوزُ الأبديَّةُ ، كُنُوزُكَ، أنْتَ الأبُ وَالابنُ وَالزَّوجُ وَالزَّوجَةُ وَالبُرْعُمُ وَالوَرْدَةُ وَالثَّمَرَةُ وَالحَديقَةُ، الذَّكَرُ وَالأنْثَى ،الأوَّلُ وَالأخيْرُ ، البَتُولُ، الأبَدَيُّ ، مَصُونًا في بُرْجِكَ العَاجيِّ كَعَذَارَى المَلاحِمِ لا يُدْركُكَ صَوْتٌ ، لا تَسْتَبيْكَ إشَارَةٌ وَلا يُغْري فَمَكَ الخَالدَ فَمٌ فانٍ ، فَاسْتَوِءْ على عَرْشِكَ الأوْحَدِ يانرسِيْسُ ، اغْسِلْ بجَمَالِكَ مَرَايَاكَ الَّتي تَمْلأ العَالمَ مِنْ أقْصَاهُ إلى أقْصَاه ،وَانثُرْ الزَّهرَ وَالعُطُورَ على وَجْهِكَ المُطْمَئِنِ ،وَجْهِكَ الثَّابتِ خَلْفَ قَسَمَاتكَ المُطْمَئنَةِ المُتَوهِّجِ في انتِصَارَاتِهِ الخَالدَةِ. (19/10/1982)
هَذَا الضَّوءُ البعيدُ يَانرسِيْسُ ليْسَ ضَوْءَكَ ، لكِنَّ عَينيْكَ مَفْتُوحَتَانِ كَشَهَوَاتِ الغَابَةِ ، هَذَا الصَّبَاحُ القَويُّ ليْسَ صَبَاحَكَ يانِرسِيْسُ ، لكِنَّكَ تَمْلأ نَوَافذَهُ بجَسَدِكَ . هَذَا المَسَاءُ يأتِي ، وَليْسَ مَسَاءَكَ ، لكِنَّكَ تَنْتَفِضُ بكُلِّ رِمَالكَ وَنبَاتكَ تَحْتَ أجنِحَتِهِ الشَّاسِعَةِ ، هَذَا الهَوَاءُ تَعْرفُهُ الشَّجَرَةُ الَّتي لا تَعْرفُهَا ، وَالطُّيورُ الَّتي لمْ تَرَهَا وَالصُّورُ العَاليةُ الَّتي لمْ تَضُمُّهَا ، لكِنَّكَ كَمْ تتبَعُ خَجَلَهُ الأخْضَرُ ، لكِنَّكَ كَمْ تتنفَّسُ في عُريهِ القريْبِ ، في عُريْهِ المَجْهُولِ ،وَتُرْسِلُ دَمْعَكَ مَعَََهُ إلى حَيْثُ لا تَعْرفُ يَانرسِيْسُ ، إلى حَيْثُ لنْ تَصِلَ .
بَسَّام حَجَّار حِكايَةُ الرَّجلِ الَّذي أحَبَّ الكَنَاريَّ - دار الجديد - بيروت - 1996 .
مِنْ : (حِكَايَة مَوْتي) كُلمَّا أرْخَيْتُ جِسْمِي وَأسْلَمْتُهُ إلى الوَهَنِ الغَامِضِ الَّذي يُسَاكنُهُ مُنْذُ بَعْضِ الوَقْتِ ، أحْسَسْتُ بأنَّهُ يَتَلاشَى كَأنَّ في الفِرَاشِ الصُّلبِ مِنْ تَحْتِي ثُقبًا يَتَسَرَّبُ مِنْهُ الجسْمُ الَّذي أصْبَحَ وَهَنًا خَالِصًا إلى غَوْرٍ أجْهَلُهُ . لِذلكَ اعْتَدْتُ أنْ أبْقَى صَاحِيًا مَا اسْتَطَعْتُ ،فَلا أغْفُو إلاَّ إذَا نَامَتْ زَوْجَتِي على السَّريرِ بجَانِبي ،وَحِينَ أسْمَعُ أنفاسَهَا المُنْتَظِمَةَ أُدْرِكُ أنَّني مَازلْتُ على قَيْدِ الحَيَاةِ ؛ وَلذلكَ أيْضًا لا أتَوَقَّفُ عَنْ التِّجوَالِ بَيْنَ الغُرَفِ وَالرِّوَاقِ وَالمَطْبَخِ ، جيْئةً وذِهَابًا ،وَلا يَسْتَوقِفُنِي في رِحْلَتِي بينَ الجُدْرَانِ إلاَّ النَّافذة لهُنَيْهَاتٍ ، أُسَرِّحُ نَظَري المُتْعَبَ إلى أقْصَى مَا يَصِلُ إليْهِ قبْلَ أنْ تَغْشَاهُ دَوَائرُ سَوْدَاءُ مُتَدَاخِلَةٌ وَيَنْتَابُني دُوَارٌ خَفيفٌ ،فأسْتأنفُ السَّيرَ بينَ الغُرفِ وَيَظُنُ مَنْ يَرَانِي أنَّ الضَّجرَ وَقَعْدَتي في البيْتِ قَدْ أنْهَكا برودَ أعْصَابي ثُمَّ لا يلبَثُ وَاحِدُهُمْ أنْ يَنْصِرَفَ إلى شَأنِهِ لأنَّني بَلَغْتُ مِنْ الحَيَاةِ مَا ينبغِي أنْ يُقنَعَنِي أنَّ الضَّجرَ تَرَفٌ ، لا بَلْ خَرَفٌ في مِثْلِ هذِهِ السِّنِّ . وَلكنَّني لمْ أضْجَرْ يَوْمًا . بلَغْتُ سَبْعِيني بَعْدَ أنْ صَرَفتُ أيَّامَهَا اليَومَ تِلوَ اليَومِ . وَلمْ أَضْجَرْ . كَانَتْ الأيَّامُ جميلةً في مُعْظمِهَا وَمَا كُنْتُ أطلُبُ مِنْ الدُّنيَا أكْثَرَ مِنْ ذَلكَ ،حَتَّى أبي في ثَمانينِهِ كَانَ يُدخِّنُ أرْبعينَ سِيكارةً في اليومِ ، وَيَمْكُثُ جالِسًا على أفريزٍ حَجَريٍّ قُبالةَ البَابِ سَاعَاتٍ لا تنتهِي إلاَّ حِينَ يَخْلُدُ إلى النَّومِ ،وَيَضَعُ تَحْتَ وِسَادَةِ سَريرِهِ نِصْفَ رَغيفٍ مِنْ الخُبزِ الأسْمَرِ ،وَبجَانِبِهِ كُوْبُ مَاءٍ . هُوَ أيْضًا لمْ يَضْجَرْ ، غَفَا ذَاتَ يَوْمٍ وَلمْ يَنْهَضْ في الصَّبَاحِ . وَقبْلَ أنْ نَسْتَدْعِي طبيْبَ المُسْتَشْفَي الحكومِيِّ القريْبِ تَفَقَّدنَا نِصْفَ الرَّغيْفِ ، وَجَدْنَاهُ كَمَا هُوَ، وَكُوْبَ المَاءِ لمْ يَنْتَقِصْ قَطْرَةً ، وَقُلْنَا في سِرِّنَا ، قبْلَ أنْ يُخْبرَنَا الطَّبيبُ ، أنَّهُ فارَقَ الحَيَاةَ . قَبْلَ مُنْتَصَفِ الليْلِ ،قبْلَ أنْ يأكُلَ الخُبْزَ وَيَشْرَبَ المَاءَ ، أصْبَحْتُ لا أنامُ، أُغْمِضُ جَفْنَيَّ بقُوَّةٍ على صُورةٍ وَاحِدةٍ ، أحْفَظُ تفاصِيلَهَا جَيِّدًا خِلالَ النَّهارِ، أثْنَاءَ سَيْري بينَ الغُرَفِ ، وَأضِيفُ تفاصِيلَ أخْرَى ،وَتَكُونُ الصُّورَةُ الَّتي لا تُبَارحُ رَأسِي إلى أنْ يَحِينَ مَوْعدُ رُقَادي . أغُمْضُ جَفْنَيَّ بقُوَّةٍ ،وَأرَوحُ أتنفَّسُ عَمْدًا بنَخيْرٍ مَسْمُوعٍ يُؤلمُ رِئتيَّ أحْيَانًا ، وَفي اعْتِقَادي أنَّنِي لنْ أُفَارقَ الحَيَاةَ مَادُمْتُ أسْمَعُ أنفاسِي .
وَديع سَعَادَة بسببِ غَيْمَةٍ على الأرْجَحِ – دار الجديد – بيروت - 1992 .
مِنْ :( لَحَظَات مَيِّتَة) بَيْنَ غُرْفةِ النَّوم وَغُرْفةِ الجلوسِ تَرْتَفعُ يدي لِترتِّبَ شَعْري ، مَسَافةٌ قَصيرَةٌ ، مَعَ ذَلكَ يُخيِّلُ إليَّ أنَّ شَاحِنَاتٍ سَريعَةٍ وَأصْوَاتًا غَريْبَةً تقطعُهَا ، وَيجِبُ فعْل أيِّ شَيءٍ لِلوُصولِ إلى مقْعَدٍ ، أُمَرِّرُ يَدي عَلي شَعْري ، وَهِيَ الَّتي لا تَحْمِلُ شَيئًا يُمْكِنُهَا بسهولةٍ أنْ تَرْتَفِعَ إليْهِ ، شَعْري طَويْلٌ ، وَكَكُلِّ الَّذينَ يَنَامُونَ يَتَشَعَّثُ في الليْلِ ، غَيْرَ أنِّي أمرِّرُ يَدي عليْهِ دَائمًا ؛ لِيَبْقَى صَدِيقي ، يُصْبحُ العَالمُ أجْمَلَ هَكَذا ،حِيْنَ يكونُ الشَّعرُ صَدِيقًا ، العَالمُ قَريْبٌ مِنْ القَلْبِ مَعَ الأعْضَاءِ الصَّديقَةِ ، حِينَ تُحبُّكَ أعْضَاؤكَ يَنْقُصُ عَدَدُ الأعْدَاءِ ، حَتَّى أظَافرُكَ الَّتي تَجْمَعُ الغُبَارَ ، تَكونُ تَجْمَعُ شَيئًا مُحَبَّبًا . أتَقَدَّمُ خُطْوَتينِ وَأصِلُ إلى النَّافِذَةِ ، لايَزَالُ العُمَّالُ أنفُسُهُمْ وَالإسْفَلْتُ وَالسَّيَّارَاتُ ، وَالقِطَّةُ تَنَامُ في الزَّاويَةِ ، أصْوَاتٌ تَصِلُ إليَّ مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ وَأشْعُرُ أنَّهَا أصْوَاتٌ جَميلَةٌ ، حَتَّى النَّاسُ يَبْدُونَ رَفيقينَ من بعيْدٍ . مَاذَا سَأفْعَلُ اليَومَ ؟ ، ليْسَ في نيَّتي فِعْلُ شَيءٍ وَلَسْتُ مُضطرًا لِفِعْلِ شَيءٍ ، يُمْكِنُني عَلى الأرْجَحِ أنْ أعْقِدَ صَدَاقةً ،مِنْ هُنَا ، مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ ، مَعَ هَؤلاءِ النَّاسِ في الشَّارعِ ، لايَزَالُ النَّهَارُ في أوَّلِهِ ، وَبضْعُ دَقائقَ مِنْ الصَّدَاقَةِ تَكْفِي اليَومَ ،بَعْدَ ذَلكَ يجبُ أنْ أخْرُجَ إلى الشُّرفَةِ وَأسْقِي الزُّهورَ ،وَيَجِبُ ، رُبَّمَا ، أنْ أتَمَشَّى قليْلاً في المَدينَةِ ، وَأجْلِبَ قِنِّينةَ عرَقٍ . النَّافِذةُ مُقْفَلةٌ ،وَأنَا رَجُلٌ قصِيرٌ وَرَاءَهَا ،طُولُهُ 165 سَنْتيمِترًا ، وَيَعْقِدُ صَدَاقةً مَعَ شَارعٍ طويلٍ ، يُمَرِّرُ يَدَهُ بَيْنَ وَقتٍ وَآخَر على شَعْرِهِ ، وَمَا يَسْقُطُ منْهُ يَحْملُهُ ببطءٍ وَيَرْمِيْهِ في القِمَامَةِ ، رَجُلٌ هادِئٌ ، حَتَّى أنَّهُ بَيْنَ غُرْفَة النَّوم وَالمَطْبَخِ يَتَوقَّفُ مِرَارًا لِيَسْهوَ أوْ لِيَسْتَريحَ ، يَلفُّ سِيكارتَهُ على مَهَلٍ ، يشِيْلُ التَّبغَ الزَّائدَ مِنْ طَرَفيْهَا ، يَنْظُرُ إلى الوَلاَّعَةِ لَحْظَةً، ثمَّ يُخْفِضُ رَأسَهُ وَيُشْعِلُهَا . أشْعَلْتُ سِيكارةً وَلَهَوتُ بدُخانِهَا ، كُلُّ شَيءٍ هادِئٌ ، حَتَّى الهِرَّةُ الصَّغيرَةُ في زَاويَةِ الشَّارعِ لا تَنْظُرُ إليَّ ، كُلُّ شَيءٍ هادِئٌ في هَذِهِ الغُرْفَةِ مُنذُ سَنَوَاتٍ ، وَبِتُّ أعْتَقِدُ نَفْسِي جِدَارًا وَإذَا خَرَجْتُ سَتَهْبِطُ . أحْيَانًا أفكَِّرُ أنَّ حَديدَ الغُرْفةِ مِنْ عِظامي . لكِنَّ عِظامِي رَقيقَةٌ وَهشَّةٌ ولارَيْبَ أنَّ هَذَا الجَسَدَ مَحْمُولٌ بدَعَائِمَ أخْرَى . كَيْفَ مَشَتْ مَعِي هَذِهِ العِظَامُ سَنَوَاتٍ دُونَ أنْ أسْمَعَ أزِيزَهَا أوْ أرَى انْهيَارَهَا المُفَاجيءَ عَلى الطُّرقَاتِ ؟ ، غَيْرَ أنَّي وَحِيدٌ تَمَامًا ، وَلذَلكَ يَخِفُّ وَزْنِي . لمَاذَا أتذكَّرُ أبي الآنَ ؟، كُنْتُ طِفْلاً حِيْنَ أوْصَلتُهُ إلى القَبْرِ، لكِنَّهم كَانُوا يَنْظرُونَ إليَّ وَكَانَ مِنْ اللياقَةِ أنْ أشِيخَ أمَامَهُمْ ،هَؤلاءِ الَّذين اعْتَقَدْتُ أنَّهُمْ يُحبُّونَني لمْ يَفْعَلوا شَيئًا مِنْ أجْلِي ، لمْ يَقُولوا لي أنْ أذْهَبَ وَألْعَبَ مَعَ الأوْلادِ ، ظلُّوا يُحَدِّقونَ بي حَتَّى طَالتْ قَامَتي وَحَمَلْتُ مَعَهُمْ الجُثْمَانَ إلى القَبْرِ ،كَانَ مُقْفَلاً بمَسَاميرَ ، أليْسَ أكثرَ لُطْفًا أنْ يَرُدُّوا الغِطَاءَ على المَوْتَى بهدُوءٍ كَلِحَافٍ ناعِمٍ اعْتَادُوه في بيوتِهِمْ ؟، عُلْبَةُ التَّبغِ عَلى الطَّاولةِ أمَامِي، وَيَكْفِي أنْ أُحَرِّكَ يدي قليلاً ، لكِنْ يُخيَّلُ إليَّ أنَّهَا يَدٌ فَرَغَتْ مِنَ الدَّمِ ، وَإذْ تَتَحَرَّكُ أحْيَانًا فبزَخَمِ حَرَكةٍ قَديمَةٍ . العُمَّال أمَامي لا يكفُّونَ عَنْ الحَرَكةِ بخِفَّةِ مِنْ تأكَّدِ لَهُ أنَّهُ يَسْتأثرُ بدمِ الحَيَاةِ ، حَاوَلتُ أنْ أقنعَ نَفْسِي بأنَّ الأعْضَاءَ المُتَحرِّكَةَ شَيءٌ جميْلٌ ،وَأنَّ لِلرَّجُلِ عَادةً عرُوقًا صَغيرَةً يجري فيْهَا دَمٌ نقيٌّ لكِنَّهُ شَيءٌ مَقيْتٌ أنْ تَكونَ مِثْلَ آلةِ ضَخٍّ ، هَكَذا مَعَ سَائلٍ رَتيْبٍ كُلَّ العُمْرِ، كَمَنْ ليْسَ عِنْدَهُ شَيءٌ لِيَفْعَلَهُ .
النَّثيـرَةُ
ظَبيَة خَمِيس القُرْمُزيُّ – مطبوعات الظَّبية – القاهرة – 1995 .
تَوريَةٌ أمْلأُ مُخيِّلةَ الفرَاغَ بكَ أسْكبُكَ ذَهَبًا في الوَقتِ تَخْرُجُ مِنْ دَوائرِ الدُّخَانِ أنْظُرُكَ في المِرْآةِ لا شيءَ يلْتَمِعُ اللحْظَةَ حَتَّى عَينَاكَ مُطفأً تَقِفُ في مُنْتَصَفِ الفَرَاغِ بينَكَ وَبَيْنَ الحَقِّ صَحَرَاءٌ مِنْ التَّحديقِ في غُرْفَةِ الظَّلام أزجُّ بكَ أتَوَهَّمُ أنَّكَ لَنْ تكبرَ مِنْ جديدٍ شَبَحًا تكونُ لِذكرَى قَديمَةٍ تَتَوَارَى كَيْ لا تَسْحَبُهَا تيجَانُ المَلِكاتِ إلى العَرْشِ المتكئِ على جُدْرَانِ القلْبِ. (7 نوفمبر1993)
لينا الطِّيبي شَمْسٌ في خزَانَةٍ – منشورات (ل . ن) – د. ت -
يومُ قوسِ قُزَح وَحْدي في مَنْزِلٍ كَطيْفٍ لمْ يخطُ صَدَاهُ وَحِيدةً كَالشَّمْسِ كَالعنكبُوتِ سَاكنِ الزَّاويَةِ كالمُطلَّقةِ وَحْدِي في مَنْزِلٍ . بينِي وَبَيْنَ الليْلِ خَيْطٌ قَرَأتُ نفسِي ارْتَجَلْتُ كلمَةَ عَزَاءٍ غيَّرتُ حِذائِي ثيابي فُرْشَاةَ أسْنانِي وَحيدَةً كيومِ قَوْسِ قُزح . (1988)
رشِيد الضَّعيف أنسِي يلْهُو مَعَ رِيتَا – المؤسَّسة الجامعيَّة للدِّراسَاتِ وَالتَّوزيع – بيروت – 1982 . خَرَجَ أُنسِي مِنْ قَعْرِ المَاءِ وَمَضَى نَحْوَ المَدينَةِ فالتَقَى امْرَأةً فقالَ لهَا : لازِلْتُ خَارجًا مِنْ المَاءِ وَلا وَالدَةَ فأنْتِ وَالدتِي ، فَقَالَتْ لَهُ : وَلكنِّي لمْ ألدْكَ ، فَقَالَ : لِدينِي ، فَقَبِلَتْ لَكِنَّهَا أوْضَحَتْ لَهُ أنَّهَا لا تَسْتَطيعُ ذَلكَ إلاَّ إذَا عَانَقَهَا رَجُلٌ ، وَأشَارَتْ عليْهِ برجُلٍ تُحبُّهُ فتَابَعَ أُنسِي طَريقَهُ ، وَقَالَ لأوَّلِ رَجُلٍ التَقَى بِهِ: لَمْ يتبقَ عَليَّ لِيتمَّ كُلُّ شَيءٍ إلاَّ أنْ أجِدَ وَالِدًا لِي ، فأنْتَ وَالِدي، ثُمَّ انْحَلَّ فيْهِ وَاخْتَفَي ، عَانَقَ الرَّجُلُ المَرْأةَ فَحَبلَتْ ، ثُمَّ وَضَعَتْ طِفلاً ذَكرًا أسْمَيَاهُ أُنسِي .
#شريف_رزق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عَذَابَاتُ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ في وَحْشَةِ العَالمِ
-
شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ
-
لانبعَاثَاتُ الأولى لقَصِيدَةِ النَّثر في مَشْهَدِ الشِّعر ا
...
-
شِعريَّاتُ المشْهَدِ الشِّعريِّ المصْريِّ الجديد في قصيدَةِ
...
-
تداخُلاتُ الأنواعِ الأدبيَّةِ والفَنيَّةِ في قصيدةِ النَّثرِ
...
-
إِشكاليَّاتُ النَّوعِ الشِّعريِّ في قَصِيدةِ النَّثْر
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|