|
الوقاية من الانحراف والجنوح: مقاربة المنع أم المناعة؟
عبد النبي أشطبي
الحوار المتمدن-العدد: 4715 - 2015 / 2 / 9 - 21:28
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تطرح اليوم بحدة مسألة كيفية بناء مقاربات وقائية فعالة تجاه كل أشكال ومظاهر الانحراف والجنوح المحتملة، فمقولة "الوقاية خير من العلاج" تزداد أهميتها يوما بعد يوم بالنظر إلى التطور التكنولوجي الهائل الذي يعرفه العالم ، و بالنظر كذلك إلى التحولات القيمية العميقة التي تشهدها المجتمعات المعاصرة. من هذا المنطلق أصبح من اللازم على العلوم الإنسانية بصفة عامة و العلوم التربوية على وجه التحديد، أن تنخرط في عملية بناء مقاربات وقائية فعالة تحمي أفراد المجتمع من مظاهر الإنحراف و الجنوح المحتملة، فالقيمة المضافة لهذه العلوم لا تكمن فقط في تشخيص و علاج الأمراض و الأعطاب التي قد تصيب المجتمعات الإنسانية، بل كذلك في تقديم سبل عملية مبنية على أسس نظرية سليمة تبين المناهج التربوية المطلوب إعتمادها اليوم في عملية تنشئة الأفراد حتى يتمكنوا من إمتلاك "مواصفات سيكولوجية" و "آليات دفاعية" تقيهم خطورة "الأعطاب النفسية و الإجتماعية" المحتمل مواجهتها في مسار حياتهم. في هذا السياق تثار العديد من القضايا من أبرزها بالخصوص إشكالية المنع والمناعة والتي يمكن صياغتها من خلال السؤال التالي: ما هو الطريق الأنسب الذي يمكن اتباعه لبناء مقاربة وقائية من مظاهر الانحراف والجنوح؟ هل هو قاعدة المنع التي تقوم على تحريم احتكاك الأفراد بكل المثيرات والعوامل والنماذج التي من شأنها أن تؤدي بالفرد إلى سلوكات منحرفة؟ أم إتباع مقاربة المناعة التي تقتضي تقوية "البعد السيكولوجي والقيمي" للأفراد بشكل يجعلهم قادرين على مقاومة الانحراف والجنوح بكل تجلياته رغم الاحتكاك المباشر به؟ يبدو أن معالجة هذه الإشكالية تتطلب منا المقارنة بين أطروحتين متقابلتين يحيل عليهما السؤال الماثل أمامنا. ففيما يتعلق بالأولى، نجد أن العديد من المجتمعات، وبالخصوص التقليدية منها، تعتمد على قاعدة المنع بهدف القضاء على مختلف مظاهر الانحراف والجنوح وحتى الجريمة، وهذه القاعدة تقوم على أساس مقاربة تربوية صارمة هدفها هو تحريم الاحتكاك المباشر للأفراد بمختلف مظاهر الانحراف والجنوح. هكذا فهذا التصور ينطلق من مسلمة مفادها أن الإنسان قاصر وعاجز عن التحكم في تصرفاته وشهواته وانفعالاته وسلوكاته تجاه مثيرات العالم الخارجي، لذلك فالمطلوب هو تحريم ومنع تفاعله مع كل العناصر التي من شأنها أن تخل بسلوكه وأخلاقه، أو أن تضر بالمعايير الاجتماعية السائدة. هذا التحريم لكي يحقق أهدافه فهو يعتمد على عدة آليات ووسائل زجرية، منها أولا آلية الرقابة، حيث تسمح الجماعة لنفسها بمراقبة تصرفات الأفراد وسلوكاتهم واقتحام حياتهم الخاصة، وتتبعها بشكل مستمر، حتى يتم منع أي احتكاك كيفما كان نوعه بين الأفراد وبين نماذج انـحرافية محتملة، وكمثال على ذلك نستحضر نموذج الأسرة المحافظة التي تراقب وتتبع سلوكات ابنتها الطالبة بالجامعة، حيث أن هذه الأسرة تعتبر أن من حقها معرفة كل صغيرة وكبيرة عن حياة ابنتها الشابة، رغم بلوغ هذه الأخيرة سن الرشد، وذلك بمبرر " الخوف عليها" من أي احتكاك بأشخاص يفسدون أخلاقها، ويفقدونها " القيم" التي سهرت الأسرة على تمريرها لها. ومن الآليات التي تستند عليها مقاربة المنع، نجد كذلك آلية العقاب الزجري والقاسي بكل أشكاله الجسدية والنفسية والرمزية، ذلك أن أي إخلال للفرد بالمبادئ والمعايير المتعارف عليها يجعله معرضا لعقاب قاسي حتى يكون عبرة ونموذجا للآخرين، ولكي يفقد قيمته ومكانته وسط الجماعة، وهنا ربما تبدو بعض أشكال العقاب التي تمارسها المجتمعات الشرقية تجاه " الأفراد الجانحين" باسم الدين أبرز مثال يمكن سياقه لتوضيح آلية العقاب هاته. إذا أردنا أن نقوم بتقييم أولي لهذه المقاربة، فيمكننا القول أنها تمثل أحد ركائز المنظومة التربوية التقليدية التي تريد إخضاع الأفراد لمعايير أخلاقية وقيمية صارمة بحيث لا مجال للرفض أو الاعتراف بالحق في الاختلاف أو التميز أو التمتع بما يعرف اليوم " بالحريات الفردية". فمقاربة المنع تنظر لكل شخص بأنه لازال يعيش تحت حالة الوصاية، وأنه لا يمتلك القدرة على التفكير السليم، أو اتخاذ القرارات المناسبة في حياته، لذلك من اللازم مراقبته ومنعه بكل الوسائل الزجرية حتى لا يصبح " طائرا يغرد خارج السرب" ويهدد " المقدس" الذي تؤمن بهذه الجماعة. هكذا يبدو أن هذه المقاربة تتعارض كليا مع المبادئ العالمية لحقوق الإنسان ومع أسس قيم الحداثة التي تمجد حريات الإنسان وكرامته، وتعترف به كذات عاقلة مفكرة مسؤولة عن تصرفاتها وأفعالها. من جهة ثانية فمقاربة المنع هذه تعتبر عائقا حقيقيا أم مظاهر الإبداع والخلق التي تسير بالمجتمعات والحضارات الإنسانية إلى الأمام مادامت تهدف إلى إعادة إنتاج نفس النماذج الأخلاقية والسلوكية والقائمة. وأخيرا وليس آخرا فمقاربة المنع لا تحقق أهدافها المتمثلة في منع انتشار مظاهر الانحراف والجنوح، بقدر ما تكرسها وتزيد من احتمال وقوعها، لأنه هناك قاعدة سيكولوجية معروفة تقول " أن كل ممنوع فهو مرغوب" وهذا يعني أن كلما منعت على الإنسان شيئا أو سلوكا ما بالاعتماد على العنف والقوة، إلا وازدادت رغبته في التعرف عليه ومحاكاته بكل الطرق الممكنة. وهنا نستحضر ما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو من أجل توضيح قاعدة الممنوع مرغوب « المجتمعات الأكثر تحريما للجنس هي الأكثر هوسا به» فمثلا تحريم الثقافة الجنسية في مجتمعات دول الخليج، يجعل الأفراد مهووسين بمشاهدة الأفلام البورنوغرافية في المواقع الإباحية، حيث بينت بعض الدراسات فيه الشبكة العنكبوتية أن سكان دول الخليج هم أكثر سكان دول العالم مشاهدة لهذه المواقع الإباحية. يتضح مما سبق أن الانتقادات الموجهة لمقاربة المنع، تسمح لنا بالحديث عن مقاربة أخرى ، تختلف أولا من حيث التصور الذي تحمله حول الإنسان، وتعتمد ثانيا على آليات وطرق تربوية حديثة، مؤسسة على البحث العلمي في ميدان العلوم الإنسانية، إنها تحديدا " مقاربة المناعة". فبالنسبة لهذه الأخيرة فهي تنطلق من تصور جوهري حول الإنسان مفاده أن الكائن البشري هو ذات عاقلة مفكرة قادرة على التمييز، ومالكه للإرادة والحرية في الفعل والتصرف وبالتالي قادرة على تحقيق الاستقلالية وتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية. وهذا المبدأ يقلب المعادلة التربوية التقليدية ويغير آلياتها جذريا. ذلك أنه للوقاية من مختلف أشكال الانحراف والجنوح ليس المطلوب هو المنع والتحريم والقمع والترهيب بل إنما المطلوب هو تقوية" المناعة السيكولوجية للأفراد" من خلال آليات تربوية حديثة تحترم القيم الكونية لحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت تنفتح على مستجدات البحث العلمي في ميدان علوم التربية: ولكي يتحقق هدف تقوية " المناعة السيكولوجية للأفراد تجاه مظاهر الانحراف والجنوح" لابد في اعتقادي من فهم ومستويات هذه المناعة في علاقتها بأبعاد شخصية الإنسان والتي توضحها مثلا دراسات باز لتون Brazelton في ميدان سيكولوجية الطفل: أول هذه الأبعاد هو البعد المعرفي، فالطفل لا يولد متمركزا على ذاته كما قال بذلك بياجي، بل إنه يولد وهو مزود بمصفاة معرفية تجعله، إذا حصل على تربية سليمة، قادرا على التمييز بين ما هو سلبي وما هو إيجابي، وهذا يعني، وللوقاية من الانحراف لابد للطفل من يعرف مثلا بوجود الإدمان على المخدرات في المجتمع، لكن ما سيعرفه تحديدا هي الآثار الكارثية لهذه الآفة على كافة المستويات النفسية والجسدية والاجتماعية، وبمعرفته هذه يصبح هذا الطفل قادرا على تجنب الإدمان حتى ولو احتك بزملاء له مدمنين لأنه يعي مسبقا نتائج فعل الإدمان. بالنسبة للبعد الثاني فهو البعد الوجداني العاطفي إذ تؤكد هذه الدراسات أن الطفل لا يولد وهو كائن نرجسي بل إن لديه استعدادات كبيرة للتعلق للآخرين، هذه الاستعدادات ينبغي استثمارها للوقاية من الانحراف، من خلال توفير مناخ نفسي اجتماعي سليم للطفل داخل الأسرة والمدرسة حتى تصبح مواصفات الثقة بالنفس والاعتماد على الذات والاستقلالية هي مميزات هذا الطفل عندما يحتك مع مثيرات تسبب الانحراف. وفيما يتعلق بالبعد الثالث من شخصية الطفل فتؤكد هذه الأبحاث أن الطفل هو كائن اجتماعي بامتياز قادر على التفاعل مع الآخرين رغبة منه في احتلال مكانة له وسطهم، هذا البعد يمكن أيضا استثماره للوقاية من الانحراف من خلال تطوير إمكانات التواصل لدى الطفل بالشكل الذي يجعله قادرا اختيار أصدقاء مناسبين وجماعة" غير جانحة" إن صح التعبير. أيضا فالطفل لديه ما يسمى بالبعد المشاريعي، فهذا البعد تؤكده ملاحظة الباحثين لقدرة الطفل على التوقع و إستشراف المستقبل، بحيث أن إرتباط الأطفال بإشباع حاجياتهم في الحاضر لا يعني أنهم منغمسون كليا في الزمن الحاضر ذلك أن لهم القدرة على ترقب أفعال الأشخاص المحيطين بهم و توقعها بالشكل الذي يتناسب مع رغباتهم و حاجاتهم. إن هذا البعد كذلك يمكن إستثماره بشكل فعال من أجل بناء شخصية قوية لا تتأثر أو تضعف عندما تحتك بمظاهر الإنحراف و الجنوح المحتملة، بحيث أن تأهيل الطفل داخل الأسرة و المدرسة لكي يمتلك مشروع حياة يحقق من خلاله طموحاته و رغباته و يصل بفضله إلى النجاح المهني و الإعتراف الإجتماعي هو مسألة جد مهمة إذا ما أردنا تقوية المناعة السيكولوجية و القيمية للأفراد. هكذا يتضح إذن أن تقوية المناعة السيكولوجية للإنسان هي أنسب طريق يمكن الاستناد عليها ونحن نتحدث عن سبل الوقاية من الجنوح، ولن تتم هذه التقوية إلا من خلال الأخذ بعين الاعتبار الحاجات النفسية للإنسان داخل منظوماتنا التربوية أولا، والالتزام ثانيا بمبادئ حقوق الإنسان الكونية التي تؤمن بالكرامة والحرية لأي شخص. ولا ننسى أخيرا، أن مقاربة المناعة هذه ليست إلا عنصرا يتكامل مع مقاربات أخرى تنفتح على ما هو قانوني وسوسيولوجي وسياسي.
#عبد_النبي_أشطبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما المقصود بالخطاب -الكوني-؟
المزيد.....
-
كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
-
إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع
...
-
أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من
...
-
حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي
...
-
شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد
...
-
اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في
...
-
القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة
...
-
طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
-
الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
-
الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|