|
ليلى والخنزير
أماني محمد ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 1317 - 2005 / 9 / 14 - 10:58
المحور:
الادب والفن
كانت ليلى حديث الحارة... بجمالها... وعلمها... وأدبها... وحيائها... وذكائها...وخلقها... كان وجهها كالبدر ليلة النصف ... أبيض ... يشع منه نور روحاني ... ومن عينيها يشع بريق ساحر ... آسر ... وكانت لها جدائل من حرير يحتار أي شاعر في وصف جمالها ووصف هذا الجمال الرباني ... وكثيرا ما كان أحد أفراد الحارة يتحدث عنها لزميله: " يا لجمال هذه الفتاة! فوجنتاها الورديتان مثل تفاحة حمراء، وعيناها الزرقاوان مثل السماء الصافية في الربيع، وشعرها الأشقر المموج مثل سنابل القمح الذهبية. " وكانت تخبئ تلك الجدائل في وشاح من حرير ... وكانت لها ملامح فيها من الأنوثة ما يجعل كل رسام يعجز في تصوير تلك اللوحة الساحرة... ولها صوت قد تذهل منه أنت أيها القارئ لو سمعته يشدو على ضوء القمر ... وكانت حينما تتحدث تأسر قلب محدثها بحديثٍ وثقافة وعذوبة يعجز أي كاتب على أن يأتي بمثل تلك الأحاديث .... وإذا سارت في الطريق... كانت عيون شبان الحارة تتبعها أينما ذهبت وتدعو لها ملائكة الله كي تحرسها... كانوا يتحدثون عن خُلقها وعن العلم الذي اكتسبته عن والدها الشيخ عبد الله... شيخ الحارة... لم تدخل المدرسة يوما ... لكنها حفظت القرآن وأحاديث رسول الله (ص) ... وتعلمت كل أنواع الصلاة ... الفرض والسنة والوتر وصلاة التسابيح وصلاة التراويح وصلاة الولد لوالده وصلاة الوالد لولده وصلاة الاستغفار......... كانت والدتها تجلس معها ساعات وساعات وهي تعلمها آداب استقبال الضيف وآداب الحديث... وآداب معاملة الزوج الذي أوصى به الله ورسوله ... وكانت قد خصصت لها يومين في الأسبوع تعلمها فيهما فنون الطبخ... وطالما نصحتها: _ يا بنيتي إن الصلاة كما قال الله تعالى تنهى عن الفحشاء والمنكر... فإياك ثم إياك أن تقطعي فرضا من الصلاة لأنها من أعمدة التقوى و الإيمان... _ يا بنيتي ابتغي مرضاة الله وتقربي إليه بالصلاة والصوم... واقرأي في كتابه كلما تيسر لك... وكلما ذهبتِ إلى النوم أو استيقظتِ منه اذكري اسم الله تعالى وصلـّي على الحبيب واقرأي المعوذات وآية الكرسي فإن فيهم نجاة من مخاوف الدنيا وعذاب الآخرة... _ يا بنيتي لا تخالفي زوجك يوما بما يرضي الله ... ولا تحاوريه إذا كان غاضبا... أو إذا كان عائدا من عمله... أو إذا كان جائعا... أو إذا كان مريضا أو منهكا من عمل يومه... بل استمعي له في تلك الأوقات فهو بحاجة لذلك... وإذا أغضبته يوما من دون وجه حق فسارعي بالاعتذار له فإنّ ذلك من شيم الزوجة الصالحة ... _ يا بنيتي لا تلتفتي يمينا أو شمالا حينما تكونين سائرة في الشارع ... غُضّي نظرك فإن ذلك من آداب الطريق ... ولا تفتحي باب المنزل لأحد في غياب والديك ... فإنّ أولاد الحرام كثر ... هكذا تربت ليلى على عبادة الله عز وجل وعلى طاعته وطاعة زوجها مستقبلا ً بما يرضي الله تعالى ... باختصار... كان كل شاب يطمح في كسب ودها وطلب يدها... لكن قلبها كان مشغولا منذ الصغر بأحمد ذاك الفتى الكريم النسب والحسب... الساكن قبالة منزلها والذي أصبح فيما بعد خطيبها بمباركة أهل الحارة كلها... كانت تحبه كل الحب... وكان يهواها بجنون... أخذا يبنيان أحلاما وأحلاما... ويتحدثان عن الطفل الذي سيكون شقيا كوالده وذكيا جميلا كوالدته... وكم تبادلا أحاديث الهوى الصادق ... قال لها يوما: - أتدرين يا ليلى من أنا؟ أجابته بابتسامة سلبت لبه: - أنت أحمد حبيبي الغالي... أنت نور عيوني وسراج ليلي ... أنت الهواء الذي أتنفسه ... والماء التي أرتوي منه ... قال لها: _ بل أنا مجنونك يا ليلى... أتدرين ماذا قال مجنون ليلى لليلاه؟ _ ماذا قال لها يا مقلة عيني وسوادها؟!!! أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشتُ دهرا لا أعد اللياليــــــا وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفـــــس بالليل خاليا خليليّ لا والله لا أملك الذي قضى الله في ليلى ولا ما قضا ليا وددتُ على حبي الحياة لو أنه يزادُ لها في عمرها من حياتيــــــا
كانت ليلى تعشق لون السواد في عيون خطيبها... وكان أحمد يعشق بريق عينيها الذي كان يأسره كلما نظر إليه... كانت ليلى تهيم في نبرة الصوت الرخيم الذي يترنم أحمد به كلما تحدث والذي كان يأخذها إلى عالم من الخيال... كله سحر وجمال... وكان مغرما بلطافة أحاديثها ودفء عباراتها التي كانت تنسيه هموم الدنيا وما عليها... كانا هما الاثنان قصيدة أحدهما حلو مطلعها والآخر مسك ختامها ... وكان حبهما هو محتوى القصيدة ... لم تعد بغداد كما هي، لم يبق للأمان مكان في بغداد... هدير طائرات ، أصوات انفجارات ، دوي قنابل ، صراخ بلغات غير مفهومة ... لم تعد شوارع بغداد كما كانت... كانت ليلى تسير وحيدة في منتصف شوارع بغداد ... ذهبت لتشتري دواء لوالدتها... " انتبهي يا ليلى... فالخنزير الشرير يتجول في الطريق عندما يرخي الليل سدوله... وإذا صادفك فسوف تكونين لقمة سائغة له!. " عملت بنصيحتها... لم تلتفت يمينا أو شمالا وهي تسير بالشارع ... وغضت نظرها... ولكن أيادي الغدر كثيرة ... فإذا برجل غريب يعترض طريقها ويصرخ في وجهها ويوجه فوهة بندقيته إلى صدرها... ذعِرَت وتراجعت خائفة مرتجفة للخلف وأخذت تستفهم من هذا الرجل الذي بدا وكأنه لم يفهم شيئا مما قالته... أو فهمها ولم يعرها انتباها... أخذ يحدّثها بلهجة غريبة لم تفهمها... هي اللهجة نفسها التي يتحدث بها أولئك الذين قيل لها أنهم أتوا من بلاد الديمقراطية والحرية ليحفظوا الأمن في البلاد... ثم اقتادها هو وآخران إلى مكان لم تره عيناها من قبل... زُجَّ بها في غرفة صغيرة لا نور فيها ولا هواء... بكت كثيرا وتضرعت لله تعالى أن يخلصها من هؤلاء الأغراب... ظلت هكذا يومين... وحدها في هذا المكان المظلم... تفكر ماذا يريدون منها... ماذا فعلت ليزج بها في هذا المكان؟؟!!.. وكان الرجل الذي اختطفها بالكاد يطل عليها ليقدم لها كسرات من الخبز وقليلا من الماء في الوقت الذي كان يملأ معدته من خيرات بلادها ويشرب حتى الارتواء من مائها الصافية... ويقهقه حتى الثمالة... لم تستطع أن تأكل إلا اليسير من تلك الكسرات... إذ كانت مشغولة بالسبب الذي اقتيدت من أجله إلى هذا المكان... وبوالدها الذي تراه الآن يبحث عنها في كل مكان... وبوالدتها التي ربما قد أغمي عليها من كثرة المرض و البكاء... إذ كانت ليلى وحيدتها... وبأحمد... خطيبها الذي ينفطر قلبه حزنا على حبه الذي كان يكبر معه... مع مرور السنين... وفجأة يُخطف منه في لحظة واحدة!!! في هذا الوقت... وبينما كانت الأفكار المؤلمة تدور في خاطر ليلى... كانت الحارة كلها بشبابها ورجالها وشيوخها تبحث عنها بيأس بالغ وحزن شديد... وكان الأكثر بؤسا وحزنا خطيبها أحمد... فليلى كانت رمزا للعفة والكرامة والكبرياء... وليلى كان يُضرب بها المثـل في الجمال والطهارة والصدق والوفاء... ليلى كانت الوسام الذي وُضِع على صدر حارتها... حارة ليلى ... كان اختفائها حدثا مهما في هذه الحارة... وفي الوقت الذي كانت الحارة تبحث فيه عن ليلى ... كانت ليلى بين أنياب ثلاثة من الرجال أحدهم ضخم الجثة وهو الذي صوّب فوهة بندقيته نحوها ... كانوا ثلاثتهم يلبسون الثياب نفسها... وكانوا من دعاة الديمقراطية والحرية... ولكنهم بدل أن يفعلوا ذلك... تآمروا على شرفها وتبادلها بعد جريمتهم النكراء... لم تجدِ شيئا مقاومتها... ولا بكائها ... ولا حتى جمالها شفع لها... بل بالعكس.. ذاك الجمال الذي كان نعمة الحارة وآمال شبابها به... أصبح نقمة عليها بين أيادي هؤلاء (الخنازير) الذين فقدوا الرحمة من قلوبهم ... والذين لا غرابة أن تكون أمهاتهم وأخواتهم بائعات هوى... وإلا بماذا يُفسّر انقضاضهم على شرف فتاة لا حول لها ولا قوة... ولا ذنب لها سوى أن تصادف مرورها أمامهم في الوقت الذي كانت غريزتهم الحيوانية في أوج اشتعالها !!!! بدأوا بتعريتها من ملابسها وهي التي لم يجرؤ أحمد الشاب الأصيل الكريم النسب أن يلمس يدها يوما خوفا على مشاعرها ... ولا أن يلمس وشاحها خوفا من أن يخترق حرمة شعرها الذهبي ... اجتمعوا ثلاثتهم ... ثلاثة رجال من بلد الديمقراطية والتقدم والحضارة والازدهار والتي تنادي بالحرية اجتمعوا عليها !!! اقترب إليها الأول من الأمام... فقاومته بكل ما تملك من قوة... دفعته عنها... ولكنها كانت أضعف من ثلاثة(خنازير) مجتمعين عليها... وأفرغ شهوته الحيوانية فيها دون أن يرق قلبه لصراخها ومقاومتها... وكيف يرق لها وهو الذي أعمته غريزته الحيوانية عن كل ما هو إنساني... و كان الآخر يضمها إليه من الخلف ليفرغ شهوته الحيوانية أيضا وكأنه قد جاء من أقصى البلاد ليمارس طقوس عبادته لتلك الشهوة... في الوقت الذي كان فيه الأخير ينتظرهما بفارغ الصبر حتى يليق به اسم الذئب المفترس أمام فريسته الضعيفة... أليس لديهم أخوات يخافون عليهنّ ؟!!! أليس لديهم أمهات يحفظون شرفهنّ؟؟!!! أليس لديهم بنات يخافون عليهنّ رجال الهوى ؟!!! أم أن بلد الحرية لديهم تعني بلد تفريغ الشهوات بحرية ؟!!! أهكذا تربوا في بلادهم بلاد الديمقراطية والتقدم والحضارة والازدهار والحرية أن يقتلوا الأبرياء ويستبيحوا النساء ؟!!! هذا هو شرفهم ... أن يسلبوا شرف فتيات البلاد التي اغتصبوها ... وهذه الديمقراطية التي ينادون بها ... سلب شرف العرب واغتصاب أراضيهم ... مزقوا ثيابها قطعة قطعة كما يمزق الوحش فريسته الطريدة... وهي التي كان يُضرَبُ المثل بلباسها وحشمته ... مزقوا توسلاتها وآهاتها... مزقوا وجهها وشوهوا ذاك الوجه القمري.. مزقوا جسدها وشوهوا حورية الحارة... مزقوا.... مزقوا شرفها ... وهي التي كانت شرف الحارة الذي يُـرفع الرأس به ... قطفوك وردة صغيرة لم ترتوِ بعد من خيرات بلادها... وقطفوك يا ليلى قبل أن يحيـن موسم القطاف !!! دنسوا سراجك الطاهر يا ليلى ... ودنسوا الزيت فيه ... احتالوا عليه وأطفئوا النور فيه ... وأبدلوا ضياءه بظلام ما بعده ظلام ... ماتت ليلى... لم تستطع تحمل هذا الذل وهذه الإهانة... لم تستطع أن تصدق هذه الوحشية... لم تستطع أن تفهم ما يفعله هؤلاء... لم يستطع القلب الطاهر البريء أن يتحمل كلّ هذه الآلام... فتوقف عن النبض...
#أماني_محمد_ناصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رايس في بلاد العجائب
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|