اجرعام محمد
الحوار المتمدن-العدد: 4712 - 2015 / 2 / 6 - 21:04
المحور:
الادب والفن
مدينة روما قبل الف عام من الان.. امبراطورية تقطر بالدم, و شعب يموت كالدواب.. و احرار يصلبون على الاشجار , و ابطال يحرقون في الميادن, عالم رهيب.. ان واقعنا القبيح اجمل بآلاف المرات من مجد روما.. كنت اقول هذا و اواسي نفسي و انا احملق في السقف, و افكر كيف اقضي هذا المساء.. لقد قرأت للان آخر ما وقع في يدي من الكتب , كتاب عن تاريخ روما.. و شاهدت كل الافلام الجديدة.. اتعبني الجلوس في المقاهي و استنشاق عوادم السيارات و روائح الازبال المنتشرة هنا و هناك.. حفظت الشوارع و تسكعت كل الازقة و الاماكن.. صارت هذه المدينة تسكنني اكثر مما اسكنها, مناظر قبيحة و مؤلوفة و اشباه بشر و جثث تمشي هنا و هناك بلا وجهة.. مدينة منغلقة, كل شيء مغلق فيها الا المساجد و الكوميسيريات.. مسجد الحي الذي اقطن فيه, من الخارج اشبه بخربة مهجورة.. لا تزوره الا حفنة من دوي الزغب المنفوش, ينشرون عربات الشاي و خودنجال و السواك و ديفيديات القرآن , و شردمة من الشيوخ و بضع عشرة من الشباب.. و من الداخل اشبه بحظيرة اغمام مفروشة بالموكيت الذي تفوح منه روائح الجوارب النتنة , يعلوها بوق صدئ يصدر اصوات نحاسية كئيبة و كانه بومة تنعق في مقبرة مهجورة.. بابه صلب كصلابة عقول المصلين, خشبه مصبوغ بلون اصفر يسر الناظرين .. لكن تهالكت صلابته و زال لمعانه بفعل قوة الشمس الحارقة.. المكان المخصص للوضوء اشبه بالمعتقلات السرية في زيمبابوي ايام الحرب الاهلية.. مستنقعات صغيرة من الماء هنا و هناك , لا انارة جيدة و لا ماء دافئ, روائح تزكم الانوف, المراحض متسخة بخراء المصلين الذي شكل طبقة جيولوجية سميكة فوق الارضية المهترئة.. على باب المرحاض , تقرا عبارات تذكيرية بوجوب النظافة التي هي جزء من الايمان.. الكراسي منعدمة, الناس يتوضؤون القرفصاء و يمسحون بالماء فوق ملابسهم.. فوق كل هذا الخراء و الماء و الموكيت النتن , تنتصب صومعة عملاقة كقضيب منتصب تجاه السماء.. و كانه لاسلكي للاتصال و ارسال الدعوات الفارغة لسدرة المنتهى.. قرب المسجد , توجد حديقة مهجورة و تحت المسجد اقبية لتحفيظ القرآن, و كانها معتقلات سرية مفروشة بالاحصرة التي تلتهم مؤخرات الاطفال الذين يقرفصون فوقها وهم يحفظون ما تيسر من علوم الارهاب و الكراهية .. عالم كئيب.. الكوميسرية لا داعي لذكرها.. الطريق الرئيسي على طول الشاطئ اشبه بالصفى و المروى.. الناس هناك تجلس لمشاهدت استعراض الملابس الرخيصة و مؤخرات الرائحات و الغاديات.. بجانب الكورنيش, عشرات العمارات الشاهقة و الفنادق الفخمة التي تطل بهامتها المنتصبة على الشوارع.. خلف العمارات محطة الطاكسيات تتراص الى جانبها عشرات الكلاب و السكارى و القطط الضالة و قطاع الطرق و البوليس و العاهرات.. البعض ممدد فوق الارض بفعل السيليسيون و البعض يترنح من شدة السكر و البعض يقف منتصبا كعباد الشمس امام اعلانات بورصة الخيول.. الابخرة تنبعث من باعة السردين المطحون و عيون القطط الجائعة مصوبة الى افواه الجياع كالمسدسات الصامتة.. آلاف المناظر و الانطباعات تتراص في ذهني و انا استعرض المدينة حتى بدت لي الحياة فيها اشبه بفيلم قصير كله ذكريات متراصة تفصلها الاحلام و الكوابيس و الخيبات المتكررة.. لا جديد هناك , الملل و الخيبات و برودة الرصيف.. الواقع يقتل الاحلام , وظيفته هي القتل و تحويل الوقت الى شريط من الملل.. قفزت من مكاني و اعددت طعام الغداء.. بعدها , وضعت الجاكيت في يدي تحسبا لتقلبات الطقس و خرجت اتسكع في السوق.. هناك مررت قرب سوق المتلاشيات القديم فناداني احد الباعة المتجولين.. ثم سألني :
-كم ثمن الجاكيت؟؟
نظرت اليه و انا استغرب من جرأته قبل ان يمد يده ليتحسس جلد الجاكيت.. اجبته في هدوء..
-هذا ليس للبيع.. هذا للطوارئ فمن يدري قد تمطر , فعلاقة السماء مع الارض جيدة هذه الايام..
اعتذر لي و انكمش كالحلزون في جلبابه ثم انصرف.. عدت اتسكع و انا العن جشع البشر.. تعالى صياح الباعة و الريكلام و السجائر بالتقسيط.. كل شيء يباع هنا.. ادوية قديمة , ملاعق صدئة , احذية متهالكة , كتب و مجلات , ملابس الرجال و النساء , الخشب , الحديد , اواني , سجائر , النباح والصياح و العويل و المسروق و القديم و الجديد.. كل شيء.. سرحت في هذا العالم الصغير اتأمل , ثم وقع بصري على وجه رجل صدئ علاه الغبار و ملامح دفنها الزمن بقسوة تقلباته.. كان يحملق بعينين غارقتين بالموت و التجاعيد في ورقة يانصيب ببلاهة , الى جانبه يتمدد كلبه الاجرب.. نفخ من الغيض و مزق الورقة.. انزلقت انا الى الصف التالي و سمعت امرأة تدعو للجميع بالصحة و العافية و طول العمر و النجاح و المال الوفير.. لا احد يهتم بها .. اكثر من ذلك كانوا يستمتعون بدعواتها دون ان يدفعوا لها درهما واحدا.. يا لها من حياة هه ضحكت , ربما افرجت ضحكتي عن شيء خفي اجهله.. تعودت على الضجيج و انا العاشق لسكون الطبيعة.. لم يخرجني من تأملاتي الى رجل سمين دو لحية منفوشة كلحية التيس.. جلبابه ليس قصيرا و بطنه ليس منفوخا.. كان اشبه بسكان المغرب الاولون.. اعتقدت للحظة اني عدت بالزمن الى الوراء الى فرنسا القرن السابع.. اخرج شيئا من جيبه و قدم لي هاتف محمول سامسونج تاكتيل.. قال لي ثمنه بسيط.. لك انت وحدك.. مائة درهم.. و كان يلتفت يمينا و شمالا.. توجست من الامر لاني اعلم ان هذه حركات اللصوص.. راودني شيطان الغفلة ان اشتري الهاتف فمائة درهم ثمن بسيط مقابل هذا الهاتف الثمين.. على الاقل ثمنه ستمائة درهم.. لكن راودني سلطان الشك و قال لي من يدري ربما هو هاتف صالح لساعة واحدة فقط.. اكيد هو سرقه.. و كان الرجل كان يسمع خواطري فقال لي نعم هو مسروق.. ناولني السعر و توكل على الله.. قلت في قرقارة نفسي لا بأس.. حتى و ان توقف عن العمل بعد ايام سوف اقوم ببيعه بنفس السعر على الاقل.. ناولته الورقة النقدية.. ثم انصرفت و انا احاول اجراء مكالمة لاحد الاصدقاء على سبيل التجربة.. لقد تم الاتصال بنجاح , فعلا انه هاتف جيد و همزة لن تتكرر.. حين وصلت الى غرفتي و القيت بجثتي فوق السرير.. كنت لا ازال استمتع بالهاتف و انا ابحث فيه.. فجأة بدات اسمع صوتا غريبا ينبعث من ذلك الهاتف.. كانه صوت استغاثة , انه صوت الرجل الذي سرق منه في احد الازقة.. كان يصرخ و يستنج بي و اللكمات تهوي على وجهه بلا رحمة.. كان اللصوص يقاتلونه على لقمة العيش بالاسنان و المخالب.. سالت الدماء من الهاتف و القيته بعيدا عني و انا ارتجف.. لا زلت صوت الرجل مبحوحا ينبعث من داخل الهاتق يطلب النجدة.. فجأة اطل علي طيف ابيض بوجه شاحب تكسوه الدماء كوجه ميت صدمته سيارة.. قرات في وجهه عبارات الكفاح السيزيفي المستمر لاجل البقاء.. كان يتخبط في الهواء, ثم اخرج شيئا من فمه و ناولني اياه .. كانت سجارة محشية بالحشيش و قال لي بصوت مرتفع.. استيقظ يا عزيزي اين رحت.. لقد اتصلت بي للتو تسألني هل انت هناك .. استيقظت فعلا فقد كنت لازلت اجلس في مكاني ادخن الحشيش رفقة احد الاصدقاء.. اخدت نفسيا عميقا و رحت من جديد اصغي الى اصوات كثيرة متداخلة في ما بينها..
#اجرعام_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟