عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4694 - 2015 / 1 / 17 - 15:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أيــــ(4)ــــام صعبة
جاء آخر شباط وبداية آذار 1991، وانتهت أيام القصف...
وحَسَمَ الطيران المعركة، وخسر الجيش العراقي حرباً دون أن يخوضها !
تم لقاء صفوان... وخـُـوّل وزير الدفاع (سلطان هاشم أحمد) التوقيع على شروط وقف إطلاق نار ذليل (صك استسلام) ببنودٍ سرية لازلنا نجهلها...
فبعد أن أدى جنود أمريكان التحية له عند دخوله الخيمة، طالبهم مناقشة نقاط البنود، لكنه صُدم حين أخبروه بأنه إنما جاء للتوقيع فقط، لا للتفاوض !
كان انسحاب قواته (هزيمة وفوضى) وما كان الجيش ولا الشعب يفهم ما يدور، بعد أن ظلّ القائد الميداني متحيراً في أمر بقاءه أم انسحابه، متلهفاً لسماع أوامر (من فوق) طال انتظارها ولم تأتِ !
× × ×
في بداية آذار عاد أحد المهندسين (علي) من الكويت لمساعدتنا بإعادة الأعمار ببغداد، حيث كان مُنسباً قبل وخلال أيام الحرب لإحدى بدالات مدينة الكويت، وكان بإمرته فريق موظفين (أردني ـ فلسطيني) لم يبرحوا موقع عملهم حتى النهاية.
أول ما أخبرنا به أن الكويتيين (مَدينون) له بالفضل، لأنه لم ينفذ الأوامر حين (فخخ) الجيش البدالة هناك، وكانت من صلاحيته ضغط زر معين وتدميرها عند أي انسحاب، وقال بأنه كان من آخر العراقيين المدنيين الذين غادروا الكويت !
وحكي لنا كيف كان ـ كأحد الكوادر المدنية داخل مدينة الكويت ـ تحت إمرة رفاق في الحزب، ثم اختفوا في آخر أيام المعركة حيث بدئوا في التسرّب بالخفاء بشكل سري وإنفرادي إلى خارج المدينة، وكيف (شحتوا) دشاديش خليجية للتمويه من بطش الأهالي الكويتيين الذين جردوهم من سياراتهم (المسروقة أصلا)، ثم سقطوا تحت رحمة الجندي العراقي، فنزعوا الدشاديش ومشوا... عراة... حفاة !
لكنه ولأن أوامر (السيد) محافظ الكويت (علي حسن المجيد) كانت صريحة بأن (يلزم) الكل موقعه بأنتظار تعليماته (الشخصية)، فقد تأخر (انسحابه) ثم قرر أخيراً الاعتماد على نفسه والهزيمة بطرق فرعية وتحت سحابة دخان أسود كثيف ومطر حامضي، وختم حديثه بأنه يجهل اليوم مصير زملائنا الآخرين.
لكنه رأى بعينه أحد فصول مأساة انسحاب الجيش وسحقه وتدمير آلته على طريق الموت (كويت ـ صفوان) وكيف أنه نجا من بين من نجا بأعجوبة !
ولما تعالت أسئلتنا غير مصدقين: هل فعلاً وقفت الحرب هناك؟
قال: نعم... ولا !
لأنه وبينما كان في البصرة يتشبث كالبقية بوسيلةٍ تنقله لبغداد، رأى الجنود الناجين يفترشون الساحات في المدينة، وأن طريق عودته قد أتاح له أن يرى كيف قصف الأمريكان أرتال قوات الحرس الجمهوري التي كانت قد نجحت في الاختباء في رمال الحدود العراقية الكويتية طوال أيام الحرب وبالتالي نجت من كل أذى، وكيف أنها وعند انسحابها أوقعوها بالفخ، لتصبح صيداً سهلاً لطائراتهم التي أجهزت خلال (دقائق) على ما عجزوا عن تدميره خلال شهر ونصف !
فقد دفعت الأوامرالرتل إلى مصيدة على طريق فرعي ضيق تحيطه مياه الهور، فتقيدت حركته وحُوصر حين قـُصف أوله وآخرهُ، ثم (اُمهـِـل) الجنود وقتاً كافياً كي يفروا و(يطمسوا) بالمياه الآسنة، وليشاهدوا بأم أعينهم فلماً ولا بالأحلام، كيف يتم تدمير آلتهم العسكرية التي حافظوا عليها، ولم يُصَب أياً منهم بأذى، فبقدر ما كان الهدف من الغارة هو تدمير الآلة العسكرية الثمينة للحرس الجمهوري، تدمير الحالة النفسية القتالية لجنود النخبة وإذلالهم.
وبدا أنه خرق لاتفاق وقف إطلاق النار الموقع قبل أيام في الخيمة.
وإن كان التستر الأمريكي مُبرر في وقتها بتدمير قوات النخبة كشرط لوقف أطلاق النار، لكن التستر (العراقي) على هذه العملية وعدم تصويرها وإغفالها التام بوسائل الإعلام، (قد) يُفسر بأن هذه الجريمة الأمريكية اللا أخلاقية ومسألة استدراج قوات الحرس الجمهوري لهذا الطريق (ربما) فيها (إنَّ) رُسمت وتم الاتفاق والتوقيع عليها دون كشفها.
...التاريخ وحده يعرف الإجابة، لكنه ـ أي التاريخ ـ لم يكن صادقاً أو واضحاً عبر الزمن، بل مجاملاً للمنتصر !
× × ×
كان صوت (علي) والذي يطلقه داخل مركز اتصالات المأمون (12047) المدَمر، له صدى بين الألواح المعدنية المهشمة، وهو يصف لنا كيف رأى بوادر تمرُد في الجنوب، أمتد سريعاً كالنار في الهشيم إلى محافظات أخرى، كان سقـْـط الزند (أي الشرارة الأولى) في ساحة أم البروم بالبصرة، أوقدها بعض من جنود الجيش المهزوم الذين فقدوا أعصابهم بسبب مرارة طعم الخسارة ومذلة الهروب حين سُحقت ألويتهم وهم الذين يَرَونَ فيها شرفهم وسُمْعتهم، وكيف ذهبت (وعود القائد الفذ) هباءً منثوراً، ولاحظوا بأن ضحكته وتكشير أسنانه في صورته المرسومة على الجدارية وسط الساحة هناك، ليست معهم بل عليهم !
لقد كانت كانتفاضة شعب وكردة فعل عفوية، تعتبر ثورة، لكن (للأسف) ما لبث أن أستغلها الإيرانيون و(فرهدوا) عبر الحدود ما سَلم من المؤن في مخازن ومستودعات الجنوب ثم أحرقوها، وحولوا مسيرتها حسب (أجندة) مذهبية مقيتة، فتحولت لفوضى وأنتشر قـُـطاع الطرق وطغى نهب وسلب ومذابح وتصفية حسابات وانتقامات، أفقدها ذلك هدفها وسرعان ما فقدت زمام المبادرة والتأييد الكافي، فالمواطن يميل لا إرادياً لمساندة من يستطيع تطبيق قانون البشر... لا قانون الغاب.
وكان للضوء الأخضر الأمريكي الفضل بقيام النظام وبطانته بما تبقى من آلته وتحت غطاء جوي أطلسي بالإجهاز عليها وقمعها بقوة وقسوة أحرقت الأخضر واليابس.
× × ×
لم تصلنا سوى أخبار مشوّشة عن الموقف في الجنوب، وعن قوات أميركية متمركزة على الخط السريع بين الناصرية والبصرة، واقفة (تتفرج) على المذابح، ينشغل جنودهم بالتقاط الصور فوق (زقورة أور) متخذة أصابعهم شارة الانتصار... ثم سرعان ما عادت قواتهم المنتصرة إدراجها إلى الكويت.
بعد انتهاء يوم إخلاء، وبينما كان عمال التنظيف يقومون بإزالة ركام ما عزلناه كأنقاض، صحتُ على (علي) من الطابق الرابع متسائلا: شنو أخبار الأمريكان ؟
قال: كاعدين على زقورة أور !
ـ وأخبار أبو عدي، بعده طامس ؟
ـ يقولون أموره مليوصة !
قلت بأعلى صوتي وسط فوضى العمل: المهم طار لو بعده ؟
... كلمات قليلة لكن خطَرها عليّ، ممكن أن يكون عظيماً !
... بعد بضعة أسابيع عادت الكهرباء لبعض المناطق، بملحمة سطرتها الكوادر الهندسية والفنية العراقية، فقد نجحت رغم الحصار والدمار بربط المحطات وإعادة تشغيل بعضها، كما نجح الآخرون في قطاعات الأعمار الأخرى كإصلاح بعض الجسور الأستراتيجية وإعادة تدفق مياه الشرب وغيرها، وخلال شهر كان (حي القادسية) من أول المناطق التي أعيدت لها الكهرباء.
لكن للأسف كان أول ما نراه على شاشة التلفزيون بأول بث تلفزيوني هو وجه (القائد) المهزوم لا يدل على هزيمته، فشاهدناه وهو يلتقي (جمهوره) في محافظاته (البيضاء) يرقصون كالعادة ويصفقون له، وأتذكر أولى جولاته العشوائية في الموصل وهو يُطلق من مسدسه طلقات في الهواء يُعلن من خلالها أنه (كسبَ) الحرب، مطـْـلقاً كهكهات بلا استحياء، يتصرف كالمنتصر بنفس وجهه الكريه و(بعين ساقطة) لا تخجل ولا تستحي، بينما كانت الطائرات الأمريكية تحوم فوقه، وكأنه بطلاقاته إنما يُحيي طياريها...
عندها... أيقنت أن الستار لم يُسدل إلا على (فصل) واحد فقط من الحرب، وان هناك فصول أخرى مرسومة، وان اللعبة ستستمر ولم تنتهِ، وهي أكبر وأقوى وأشد وأعظم وأعتى من قابلياتنا وامكانياتنا كشعب عراقي بسيطَ، ثـُلثيه أناس سذّج !
... البقية ستأتي
عماد حياوي المبارك
#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)
Emad_Hayawi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟