|
الدستور الثابت والنخبة المؤقتة
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1312 - 2005 / 9 / 9 - 12:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن التجارب الدستورية للأمم هي التعبير الأرقى عن مستوى إدراكها السياسي والاجتماعي والقانوني والوطني. بمعنى أن الدستور هو الحصيلة الأكثر تجريدا وسموا عما يعتمل في رؤيتها السياسية وعما يختمر في مواقفها الاجتماعية وعما هو متراكم في وعيها الحقوقي وعما يعتمل فيها من هموم تعكس مستوى تمثيلها للمصالح الوطنية العليا. وهي معايير يمكن تطبيقها على كافة التجارب الدستورية، التي تبرهن بدورها على أن الهمّ الأكبر وراء كتابة الدستور وبلورة وتدقيق مواده كانت محكومة في الأغلب بنوعية النخبة السياسية ومستوى تطور وعيها السياسي والاجتماعي والحقوقي والوطني. وذلك لان النخبة السياسية الحقيقية هي التعبير العملي الأفضل عن مستوى إدراك الواقع والبدائل. وهو إدراك أكثر ما يتجسد في نوعية الدستور حالما يصبح الوثيقة الكبرى بالنسبة لبناء الدولة الشرعية ومؤسساتها وعلاقتها بالمجتمع. ولا ضرورة للخوض في تتبع مجريات الأحداث التاريخية ونتائجها بالنسبة لتطور المجتمعات والدول أو انحطاطها للبرهنة على هذه الحقيقة التي ترتقي من حيث الجوهر إلى مستوى البديهة. بعبارة أخرى إن المسئولية السياسية والاجتماعية والوطنية القائمة أمام النخب السياسية في العراق تقوم في ضرورة تعلمها من تجاربه المأساوية من اجل تلافي الخلل التاريخي في ذاتها أولا وفي الدولة ثانيا. وهي الفرصة التي توفرت بطريقة يمكن تحقيقها من خلال الدستور عبر تحويله إلى وثيقة تتمثل الأبعاد الكلية للتجربة العراقية وليس مصالح النخب المشتركة في تقاسم الثروة والجاه. بينما نقف أمام مسودة مليئة ببقع سوداء تعكس سواد الرؤية السياسية والاجتماعية والحقوقية والوطنية عند النخب "المتساومة" من حيث الجوهر على موقع تحت شمس العراق وليس خدمة مصالحه الموحدة. ذلك يعني أنها لم تتعظ من التجربة الصدامية، كما أنها لم تتمثل تاريخ العراق السياسي. والأتعس من ذلك كله أنها تعيد إنتاج نفسية وذهنية "النخب المغلقة" للنخبة مع ما يترتب عليه من صلابة تمنع قدرتها من الحركة الحرة بمعايير الدستور الحقيقي والدائم للعراق. على العكس، إننا نقف أمام استعادة لنفسية وذهنية الراديكالية السياسية العراقية التي وضع انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 بذرتها "الحية" الكبرى. فقد كان ذلك تبدلا جذريا هائلا جعل من نفسية وذهنية الانقلابات الراديكالية فعلا سياسيا متساميا وشرعيا في الوقت نفسه. وفيه تكمن أسباب عدم الاستقرار الدائم في الحياة السياسية للعراق وكل ما أدى إليه من انحطاط شامل بما في ذلك في نخبه السياسية. لقد تحولت تقاليد المؤامرة والمغامرة إلى مكون صميمي من مكونات النخبة السياسية. وأصبح وصولها إلى هرم السلطة هو الهمّ الهام والشغل الشاغل ومضمون "الإستراتيجية والتكتيك"، باختصار كل مضمون وجودها ومعنى حياتها. وهو السبب الذي جعل من الممكن انقلاب الثامن من شباط و"الحركة التصحيحية" لعبد السلام عارف وانقلاب السابع عشر والثلاثين من تموز 1968 وسلسلة الانقلابات غير المتناهية للصدامية من اجل تقويض كل مؤسسات الدولة وتاريخها المتراكم منذ أن ظهرت بصورتها الجديدة في عشرينيات القرن العشرين. وفي هذا كله تكمن أيضا مقدمات التبدل التاريخي والسياسي المخزي الذي صاحب انتقال جميع القوى السياسية "المعادية للامبريالية" بشكل عام والأمريكية بشكل خاص إلى العمل تحت لواءها!! أي انتقال القوى "التحررية" و"العلمانية" و"الإسلامية" و"الشيوعية" و"الوطنية" و"القومية" التي كان شكل ومضمون إعلاناتها السياسية يترادف مع فكرة الثبات في "الصراع ضد الامبريالية" إلى خادم مطيع لها!! والاستثناء الوحيد هنا قد يكون للجلبي. فقد كان الرجل ثابتا في مواقفه بهذا الصدد. وهو هنا يذكرني بالقصة المروية عن الشيخ الجنيد عندما شاهد مرة رجلا مصلوب مقطوع اليدين والقدمين. وعندما تساءل مستغربا - ماذا فعل؟ - كان يسرق! - لهذا فقط؟ - قطعت كفه اليسرى بعد سرقته الأولى، لكنه استمر في السرقة. فقطعت كفه اليمنى. ثم استمر يسرق برجليه فقطت الأولى. لكنه استمر. فقطعت الثانية. - وماذا بعد ذلك؟ - استمر يسرق بفمه! لهذا قرروا قتله. فاقترب الجنيد من جثة الرجل المصلوب وقبله (باسه). فصاح به مريدوه وأتباعه - أيها الشيخ! تقّبل هذا اللص المصلوب؟! - إني اقبلّه لثباته! اما حقيقة الثبات المفترض بالنسبة للعراق فيقوم في تمثل مصالحه الوطنية الكبرى والصغرى. بينما لا ثبات حقيقي في مواقف اغلب النخب السياسية القائمة في العراق بشكل عام وفي هرم السلطة بشكل خاص. وهو أمر يشير إلى أنها بلا تاريخ سياسي. بمعنى أن تاريخها هو مجرد زمن لا قيمة فيه. أنها لم تعد تفرق بين التغير والتبدل. بينما التغير فضيلة والتبدل رذيلة. فالضرورة ومنطق الحياة والتطور والحقيقة يفترضون التغير، أما التبدل التام فهو دليل على انقلاب في الوعي لا يعني في ظروف العراق الحالية سوى الاستعادة الفجة لتقاليد الراديكالية السياسية وما يميزها من نفسية المؤامرة وذهنية المغامرة. إن الرؤية الواقعية والعقلانية لمصالح العراق الجوهرية تفترض من النخبة السياسية إدراك فضيلة التغيير من خلال توظيفها في شروط ومستوى ونوعية التعامل مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول. بمعنى ضرورة بناءها على أساس النفعية العقلانية وبمعايير الإستراتيجية الوطنية. بمعنى العمل من اجل بناء علاقة متكافئة ونافعة لا علاقة خضوع. فالعبودية ليست فضيلة مهما كانت علاقة السيد "لطيفة" و"مؤدبة" و" لا تتدخل بشئونه الخاصة"!!. وليس هناك من محك فعلي للنخبة السياسية في ظروف العراق الحالية غير الثبات بمعايير الرؤية الوطنية العراقية في مواقفها السياسية والاجتماعية والحقوقية. وتجربة كتابة الدستور ومواده الحالية هي تعبير عن بقاء هذه النخبة ضمن زمن الراديكاليات السياسية والفعل بمعاييرها ومقاييسها. وهي معايير وهمية، بمعنى أنها عرضة للانحلال السريع. وفي هذا يكمن سر الخلل التاريخي للتجربة الدستورية في العراق، بما في ذلك التجربة الأخيرة عما يسمى بمساومة كتابة "الدستور الثابت". بينما تبرهن التجارب الناجحة والفاشلة لجميع الأمم والدول على استحالة تحول الدستور إلى قانون ملزم للجميع وفاعل في عقل الأمة السياسي وضميرها الأخلاقي دون تضافر منظومة الوعي السياسي والاجتماعي والحقوقي بمعايير الهموم الوطنية الكبرى. بعبارة أخرى، إن الدستور الثابت يحتاج إلى نخب ثابتة أيضا! ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أورليان الجديدة وأور القديمة – جذر في الأصوات وقطيعة في الأن
...
-
الحداد الرسمي لفاجعة الكاظمية = مأتم ابدي + ثلاثة أيام
-
جسر الأئمة أم طريق المذبحة المقبلة للانحطاط السياسي العراقي
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية-6 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 5 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 4 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 3 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 2 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 1 من 6
-
حق تقرير المصير- في العراق – الإشكالية والمغامرة
-
هوية الدستور الحزبي ودستور الهوية العراقية؟
-
أشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق-2 من 2
-
إشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق+1 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - التصنيع العرقي 2 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - الهمّ الكردي والهمّ العراقي
...
-
مرجعية السواد أم مرجعية السيستاني? 9 من 9
-
الأهمية الفكرية للمرجعية-8 من 9
-
الاهمية السياسية للمرجعية 7 من 9
-
الأهمية الروحية للمرجعية 6 من 9
-
المرجعية الشيعية ومرجعية التقليد - الواقع والآفاق 5 من 9
المزيد.....
-
تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا ي
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب: خطوة جديدة لتعميق العلاقات الثنائ
...
-
بين الالتزام والرفض والتردد.. كيف تفاعلت أوروبا مع مذكرة توق
...
-
مأساة في لاوس: وفاة 6 سياح بعد تناول مشروبات ملوثة بالميثانو
...
-
ألمانيا: ندرس قرار -الجنائية الدولية- ولا تغير في موقف تسليم
...
-
إعلام إسرائيلي: دوي انفجارات في حيفا ونهاريا وانطلاق صفارات
...
-
هل تنهي مذكرة توقيف الجنائية الدولية مسيرة نتنياهو السياسية
...
-
مواجهة متصاعدة ومفتوحة بين إسرائيل وحزب الله.. ما مصير مفاوض
...
-
ألمانيا ضد إيطاليا وفرنسا تواجه كرواتيا... مواجهات من العيار
...
-
العنف ضد المرأة: -ابتزها رقميا فحاولت الانتحار-
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|