مونيك شومييه ـ جاندرو *
Monique CHEMILLIER-GENDREAU
دخل المجتمع العالمي في شكل من الامبريالية لا تُسأل عنه حكومة في ذاتها إذ ينبع من نظام الرأسمالية المتعددة الجنسية والمشترك بين الحكومات في الوقت نفسه. ولا يفسح في المجال امام اي مقاومة لهذا النظام المفروض. فلا إمكان للاعتراض على حرب افغانستان بينما يسود صمت عميق حول الشيشان وسكوت اليم حول فلسطين في حين تبدو المعارضة للحرب على العراق ضعيفة خشية الظهور في مظهر المدافع عن النظام القائم في بغداد: تلك هي النزاعات الاكثر خطورة التي حقق فيها النظام الامبراطوري الفوز بعدما اخذ البشرية رهينة، دافعا العناصر الاكثر اضطرابا فيها الى مأزق الارهاب المشؤوم.
فهل نحن محكومون بالانقياد ام مضطرون لدفع الجماعة السياسية الوحيدة التي لا تزال قادرة على اتخاذ المواقف، اي اوروبا، الى الدخول في منافسة عسكرية بغية العودة (لكن متى ومن اجل اي هدف؟) الى وضع ثنائي القطب؟ لا، لانه يبقى لدينا سلاح قلما يُستخدم هو سلاح الافكار وتالياً القيم التي تعبّر عنها. فالشعب الفيتنامي والشعب الجزائري وشعوب افريقيا تحت الاستعمار البرتغالي لم تربح حروبها ضد الغرب بموجب ميزان قوى مادية بل على العكس ربحتها بقوة الفكرة، فكرة التحرر وبروز تغيير في المعيار القانوني مع تأكيد مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهذا ما انهى شرعية الاستعمار المعترف به حتى ذلك التاريخ.
ان ما اتاح الانتصار في الحروب المحلية يجب ان يسمح وفق كيفيات اخرى بالوقوف في وجه السيطرة الشاملة. للاسف، فإن القانون الدولي يفقد صدقيته من خلال الصورة التي يعطيها مجلس الامن الدولي بينما يبقى التقدم الكبير الذي احرز داخل الهيئات الدولية لجهة اقرار الحقوق مشلولا بسبب غياب الآليات التطبيقية الفعالة. بيد ان الحق والقيم التي يقوم عليها القانون الدولي تبقى سلاحا يتميز بالفاعلية اذا ما استخدمه المجتمع المدني، هذا الجزء من البشرية المستعد للتحرك، وساهم هكذا في ابراز المبادئ التي لا يمكن التراجع عنها والتي تشكل اسس المجتمع العالمي الديموقراطي.
لقد فرضت الرأسمالية العسكرية ـ المالية شروط توسعها اللامتناهي. وهي من اجل ذلك لا تريد لاي جزء من الارض ان يفلت من سيطرتها. فحيث يكون الوصول الى الموارد شأنا حيويا لناهبي العالم (في الشرق الاوسط او القوقاز) يتحول سحق الشعوب محض فصل من فصول الاحداث. فكل شيء يجب ان يوضع في مصاف البضائع بما في ذلك الافكار والابتكارات وعناصر البيئة والصحة والتربية والكائن البشري والجسد. على ان يتم التفاوض حول ذلك كله عبر العقود وهي خاتمة صفقة لا حصانة فيها لاي قيمة من القيم بما ان كل شيء قابل للتفاوض.
اذا كان صحيحا القول بأن العقد اداة حرية بين اطراف يحتكمون الى القانون، فإن ميزته هذه لا تصح الا اذا كان الفرقاء متساوين في ميزان القوى. وإلا تحوّل أداة استغلال اذا حصل التفاوض بين اطراف متفاوتين من حيث الوزن والقوة. ويأتي العائق الوحيد امام هذا الاستغلال من وجود مبادئ غير قابلة للمسّ، تعبّر عن القيم الاجتماعية التي تقوم عليها الجماعات البشرية. لكن يجب عندذاك الاعلان الواضح عن وجود قيم ذات وضعية قانونية اعلى من باقي المعايير وخصوصا معايير التعاقد. ان هذه الهندسة هي التي تسمح للجسم الاجتماعي بالاستدلال على معايير يبني حولها "النظام العام”.
وهذا المفهوم متداول في القوانين الداخلية لا سيما في قوانين اوروبا القارية حيث يجري التمييز بين نظام الادارة العام ونظام الحماية العام. ويفرض الاول مفهوما معينا للمصلحة العامة بينما يهدف الثاني الى حماية بعض فئات المتعاقدين الذين لا قدرة لهم على التفاوض من دون تعريض حقوقهم للذوبان (١). لكن بغية تأسيس نظام عام، على المجموعة ان تدرك انتماءها الى جماعة سياسية تتكوّن وكل المسألة تدور حول وسائل هذا التكوّن والتي يمكن ان تشمل القوانين الاكثر اهمية والمعروفة بقوانين النظام العام. فالقانون المدني الفرنسي ينص في مادته السادسة على انه "لا يجوز خرق المعاهدات المرتبطة بالقوانين الراعية للنظام العام والاخلاق الحسنة”. كما يمكن ان يتأسس النظام العام على مبادئ توجيهية غير مكتوبة في الضرورة لكن مستقاة من الادراك العام. ولا يمكن إنكار الصعوبة من وجهة نظر الديموقراطية، والتاريخ حافل بتجاوزات لهذا المفهوم.
بالفعل، فإنه يمكن لانظمة قمعية ان تصادر فكرة النظام العام لتحوّله نظاما امنيا او اخلاقيا، وهذه النزعة قائمة بقوة في بعض "الديموقراطيات" الاوروبية. ربّ قائل ان النظام العام والذي لا غنى عنه يحتاج في المقابل الى حذر خاص من جراء المضمون الذي يمكن ان يعطى له خدمةً للقيم الرجعية. عندها يكون للنظام القضائي دوره الكبير الى جانب حرية الاعلام الحقيقية والتي تتيح المجال امام مختلف فئات الشعب للتأثير في النقاش الدائر حول المبادئ التي لا يمكن المسّ بها. ونحن نشهد في هذا الخصوص انحرافا يجب وقفه بأي ثمن لان البناء الاجتماعي الضروري والذي بدا مضمونا في المجتمعات الداخلية يتعرض للتلف او للمصادرة على أيدي البعض في حين أن الاستعادة الخجولة التي بدأت في المجتمع الدولي بعد العام 1945 مشلولة اليوم.
فالمجتمعات الداخلية واقعة تحت الضغط الايديولوجي لنظرية التفلت من القيود، ولا يفترض بأي مبدأ من المبادئ ان يعوق توسع السوق او لجم التفاوض التعاقدي الذي يتوسله هذا التوجه. وما انفك اليسار الاوروبي يتراجع كونه لم يواجه ذلك في صورة مقنعة في نظر الناخبين. ومن جهتها تخلت دول العالم الثالث عن انقاذ مجتمعاتها من خلال قبولها بالاستسلام للسوق العالمية في الوقت الذي ادت بها مواقع ضعفها الاصلية الى النزول الى الهاوية. فالقطاع العام او ما تبقى منه بات في موقع دفاعي فيما يصار عند ابرام الصفقات المشبوهة الى إبعاد مبدأ المصلحة العامة التي تشكل مبرر هذا القطاع وتفترض المثابرة على العمل الديموقراطي. وعلى سبيل المثال، فإن شراهة النظام المالي غير المحدودة دفعت بالمصارف الفرنسية الى التفاوض عبر العقود للحصول على منافع مالية في عمليات التدقيق والرقابة على الشيكات التي يصدرها الزبائن من اجل مكافحة الشيكات المزورة. لكن في الواقع يجبر القانون والتشريع هذه المصارف على اجراء عمليات التدقيق هذه في جميع الحالات. بيد ان المصارف حققت ارباحا لا يستهان بها بتقديم الضمان لزبائنها بأنها تقوم بعملية التدقيق مقابل اجر (٢). ان تقاضي البدل المالي مقابل الضمان بتطبيق القوانين يمثل انحرافا لبقا لمبدأ النظام العام لا بل اخلالا حقيقيا بالواجبات يُرتكب عن سؤ نية. هكذا يصبح المجال مفتوحا امام المدرّسين لتقاضي بدل من طلابهم مقابل اعطائهم الضمان بأنهم سيحترمون قواعد الرقابة في الامتحانات المدرسية، او يمكن أياً كان ان يتقاضى من جيرانه بدل ضمان يقدمه بعدم استخدام العنف ضدهم...
اذا كان النظام العام يتداعى في المجتمعات الداخلية فلا وجود له حتى الآن في المجتمع المعولم الذي يسير وفق النمط التعاقدي الكامل سواء بين الدول (المعاهدات) حيث لا مجال للمناورة امام الاكثر ضعفا او بين الشركات والدول (العقود الاقتصادية او التجارية). مع ذلك فإن مبدأ القانون الاعلى منزلة من العقد ليس بالمجهول ومعاييره هي في قواعد القانون الالزامي العام (٣). ويفترض بهذه القواعد العليا ان تبطل المعاهدات التي تتعارض معها لكن الممارسة تهمل ذلك ولم يجر قطّ إبطال اي معاهدة تمنح الدول الكبرى امتيازات مالية واقليمية وعسكرية وبوليسية فوق اراضي الدول الصغرى وذلك مهما كانت النتائج السلبية لهذه المعاهدات على الصعيد الانساني. يعني ذلك انه لا يصار الى نقض التعارض بين هذه المعاهدات وقواعد الحماية الكبرى للحقوق الاساسية. هكذا يبقى القانون ذاتياً داخلياً نابعاً من العلاقات بين الدول وحيث لا تتأمن الحماية للضعيف بسبب تداعي القواعد الموضوعية ذات البعد الكوني والتي يمكن ان تعطي المجتمع المعولم مغزاه.
في العام 1945 بدا ميثاق الامم المتحدة كهيكلية اولى للقانون العالمي. وبالرغم من طبيعته التعاقديية، حمل الميثاق بعدا كونيا تأكد من خلال الانتساب الواسع للدول الى هذا الميثاق. ويؤكد النص اهميته التأسيسية حيث تتقدم موجبات الميثاق على اي اتفاق دولي آخر (المادة 103 ). لكن المؤسف ان مجلس الامن الذي اعفى نفسه من ضرورة احترام هذا الميثاق، كسر التوجه نحو نظام عالمي اممي عام. وخير برهان على هذه الاعاقة، المناورات الراهنة حول القرارات الخاصة بالعراق. فهي تشكل خرقا للميثاق عندما تتجاهل ان بغداد لا تفسح اي مجال لمجلس الامن كي يفتح باب الحرب ولو خلسة امام الدول الاعضاء. فالامن الجماعي من مسؤولية المجلس الكاملة في جميع مراحل العمليات المقررة: "يقوم مجلس الامن بوضع الخطط الخاصة باستخدام القوة المسلحة وذلك بمساعدة لجنة الاركان العسكرية" (المادة 46). هكذا لا يمكن تشريع الحرب المعلنة من الولايات المتحدة على العراق عبر قرار تمت صياغته في صورة توافقية ولكنه ليس في مطلق الاحوال سوى تعبير اضافي عن النظام الامبراطوري.
تتعرض فكرة النظام العالمي العام للافشال ايضا من خلال الافلات من العقاب وروح المساومة التي افسدت امكانات العدالة. فالمفاوضات التي جرت حول النص التأسيسي للعدالة الجزائية الدولية اضعفت من صلاحيات محكمة الجزاء الدولية. وهناك دول لم تشارك فيها تسعى بالرغم من ذلك الى الحد من قدرتها من طريق ابرام الصفقات، ومن هذه الدول الولايات المتحدة التي تجهد للحصول على موافقة اكبر عدد ممكن من الدول على ان المواطنين الاميركيين سوف يفلتون من العقاب في مختلف الظروف. هكذا تحرف طبيعة القانون الجزائي وهو في جوهره نابع من "النظام العام" كما لا يحتمل تطبيقه اي استثناءات.
اخيرا فإن غياب النظام العام الذي يرتّب المعايير في التعاملات ما فوق الوطنية، يلحق الضرر البالغ بالشعوب في مجال حقوق الانسان. وبالرغم من التوافق على تأكيد القيمة العليا لهذه الحقوق فإن الآليات القضائية مختصرة في شكل لا يسمح اليوم الا بإمكانات نادرة لابطال القرارات التي تتضمن خرقا مباشرا او غير مباشر لهذه الحقوق. فالليبيرالية التي تحمل لواءها منظمة التجارة العالمية، تتسع في مجال التطبيق بسرعة كبيرة. ولا يوجد مجال لقيام حل مناسب عند التعارض بين المعيار التجاري والحقوق الانسانية التي تتعرض للتدمير بينما تبقى الخطب العامة او مواقف الاستنكار دون فائدة تذكر.
علينا التوصل الى تجسيد قاعدة اساسية وهي قاعدة المصلحة العامة الشاملة وتحويلها في مختلف الظروف الى معيار لفرض الرقابة على استخدام القوة ووضع حدود لمنطق السوق. لكن هناك شرطان مطلوبان في هذا الصدد: الاول بلورة بحث نظري حول مبدأ المصلحة العامة الشاملة المفترض ان تكون في صلب مشروع الديموقراطية العالمية وان لا تتم مصادرة هذا المفهوم بواسطة جهاز غير ديموقراطي هو مجلس الامن الدولي. اما الشرط الثاني فيقوم على تعزيز موقع القاضي الدولي على ان ترفع اليه جميع الحالات المشكوك في كون الدول البالغة التسلح تستخدمها على حساب حماية السكان او الحالات التي تتسبب فيها آليات السوق بخرق للحقوق الاساسية. يعني ذلك ان علينا من جهة اولى وضع مجلس الامن الدولي تحت رقابة ديموقراطية عالية في انتظار اصلاحه الضروري، والمطالبة من جهة ثانية بتحويل صلاحيات المحاكم الجزائية الدولية الى صلاحيات الزامية. نكون قد بلغنا هكذا اول اشكال التعبير عن نظام دولي عام يشكل سدا في وجه النظام الامبراطوري.
--------------------------------------------------------------------------------
* استاذة في جامعة باريس السابعة (دني ديدرو).
١ انظر
Jacques Ghestin, L utile et le juste dans le droit des contrats , Archives de Philosophie du Droit Tome XXVI,1981, pp. 35 et s.
2 انظر
Quand les banques font payer un service gratuit ?, Le Monde, 17 Août 2002.
3 راجع عبارة "النظام الدولي العام" او
Ordre public international في Dictionnaire de Droit International Public, sous la direction de Jean Salmon, Bruylant, Bruxelles, 2001.
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم