|
مفهوم الحرب لدى فرويد
حسين الموزاني
الحوار المتمدن-العدد: 4668 - 2014 / 12 / 21 - 16:25
المحور:
الادب والفن
هناك ثلاثة علماء جاؤوا في فترة زمنية متقاربة، ومن ديانة واحدة وهي اليهودية التي تنكروا لها أو رفضوها، مفضلين عليها العلم والمعرفة. وهما كارس ماركس والبيرت آينشتاين وزيغموند فرويد. وساهموا على نحو جذري في تغيير البشرية برمتها. فغيّر ماركس نظرة الإنسان إلى الآخر، وعلاقة به وبالمجتمع، وجاء بنظرية صراع الطبقات الذي سينتهي بالثورة الاشتراكية وإقامة النظام الشيوعي المثالي، ثم جاء آينشتاين لغيّر نظرة الإنسان إلى الكون والعالم الفضاء ليعرف مقدرته وقدرته ويعيد اكتشاف نفسه في عالم لا نهاية فيزيائية ولا حدود. وكذلك فرويد الذي غيّر نظرة الإنسان إلى نفسه. واقتحم مجاهيل النفس لكشف عن غرائزها وقوتها وضعفها وأمراضها المزمنة ومنها الحرب الذي سنتناولها هنا بالتفصيل. في عام ألف وتسعمئة وإثنين وثلاثين بعثت آينشتاين برسالة إلى فرويد وسأله فيها عن مدى قدرة الإنسان على وضع حدّ للحروب. جاء فيها "هل هناك إمكانية لتوجيه تطوّر البشر، ليصبحوا قادرين على مقاومة هلاوس الكراهية والإبادة؟" فحاول فريد الإجابة بهدوء وتحليل منطقي قائم على نظرية غريزة القتل و"الإيروس" أو نزعة "الحبّ“ المتأصلتين في النفس البشرية. ويرّكز فيها على أهمية الثقافة والفكر المتحرر من الأوهام والذي من شأنه أن يضمن المستقبل السلمي للبشرية على المدى البعيد. استهل فرويد إجابته بعبارة ساخرة وتحمل في طياتها سمة التواضع، فقال "كنت أتوقع منك أن تختار معضلة تقف على حدود ما هو مدرك ومعلوم الآن. بحيث أن كلانا، عالم الفيزياء والمحلل النفسي، سيعثران على مدخله الخاص، فيعالجانها من مختلف الزوايا ثمّ يلتقيان على الأرضية نفسها. لكنّك فاغتني بالسؤال عما يمكن أن يفعله المرء لدرء كارثة الحرب عن البشر. فشعرت بالرعب من تصوري، وكدت أقول تصورنا، لأن حل هذه المعضلة بدا لي واجباً عملياً ملقى على عاتق رجال الدولة". ينطلق فرويد من الصراعات القائمة على المصالح المختلفة بين الناس لا تحلّ مبدئياً إلا عبر العنف. وهو يستخدم هنا مصطلح "العنف" بدلاً من مصطلح "السلطة" الذي استخدمه آينشتاين. لأن فرويد يرى في السلطة مرحلة متقدمة من التطور الإنسانيّ، بينما يعتبر الغريزة هي النزعة البدائية المتأصلة في دخيلة كلّ إنسان فتدفعه لخوض الحروب والنزاعات المسلحة. ثمّ جاءت مرحلة التفوق الذهني عبر استخدام الأسلحة لتحلّ محل استخدام العضلات. وبذلك أصبح مصير البشرية مهدداً كلّ لحظة باندلاع النزاع المسلح. وبات هدف إزالة الخصم، أي قتله هدفاً أساسياً للحرب، ورسالةً لإرهاب الآخرين وإخافتهم. فضلاً عن أن قتل العدو يشبع رغبة انتقامية تكمن في دخيلة الإنسان، لأنّ الإبقاء على العدو حيّاً يعرض حياة المنتصر نفسه إلى الخطر، ويضعه أمام التزامات أخلاقية وعملية عديدة. بيد أنّ هذا الوضع تغيّر في مجرى التاريخ ووضعت ضوابط جديدة تهدف إلى أخراج الحرب من "غريزة العنف" وتضعها ضمن الإطار القانوني، فأصبح "الحق سلطة للمجتمع". فتسنّ القوانين للتحكم بالسلطة وفقاً لسلطة العقل ومصلحة الجماعة، وخاصة الوحدة الاجتماعية الكبرى، ويعني بها فرويد عصبة الأمم المتحدة، التي يحقّ لها أن تحتكر السلطة التنفيذية في إدارة شؤون العالم. ومع ذلك فإن عالم النفس لا يعتبر هذه الشلطة الدولية ضمانة للأمن والاستقرار، لأنّ هناك بعض الساسة الذين سينتهكون هذه القوانين، ويستخدمون وسائل العنف لقهر الدول وقمعها ويجلبون الدمار والهلاك لشعوبها مثلما فعل المغول والأتراك على حدّ قول فرويد. وبالتالي فإن للشعوب الخاضعة للاحتلال والاستعمار اللجوء إلى العنف بغية التحرر من نير الاحتلال. ويخلص فرويد في هذه النقطة بالذات إلى القول إنّ "درء خطر الحرب ممكن فقط إذا ما اتفق الناس على تشكيل سلطة مركزية مخولة بإدارة جميع النزاعات القائمة على المصالح“. ومع ذلك فإن فرويد يعود إلى موضوعه الأثير وهو ربط الحرب بالغرائز الجنسية للبشر، ويرى أن من السهل تماماً تعبئة الناس لخوض غمار الحرب بسبب نزعة الكراهية وحبّ الإبادة. وليس هناك أية قوى إنسانية أخرى يمكن أن يقف حائلاً دون نشوب الحرب سوى "الإيروس" Eros بالمفهوم الإفلاطوني. لأن الدافع الحقيقي الذي يقف خلف الموت يكمن في النزعة التدميرية المتأصلة في البنية العضوية والتركيب الجسدي للإنسان. ويعترف فرويد بأنّ الطاقة الطبيعية التدميرية لدى البشر هي أقوى بكثير من الإرادة الخيّرة ونزعة الحبّ، ويؤكّد على أن من الصعب استئصال ميل الإنسان إلى العدوانية، لأنه مجبول على ذلك وراثياً. ويسخر من طوباوية النظام البلشفي "السوفيتي" الذي يدعي بأنه يسعى إلى إشباع الحاجات المادية للشعب وتحقيق العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع، ويعتبره وهماً. ويتهم بالنظام السوفيتي بتأجيج النزاعات الدولية والاعتماد على أيديولوجية قائمة على العدوان والحرب. ويشدد فرويد على أهمية الحبّ الذي يجرده من أهدافه الجنسية ويقول إن علم التحليل النفسي لا يخجل من توظيف مصطلح الحبّ لأنّ التعاليم الدينية نفسها تنصح بحبّ الآخرين. ويعرّف فرويد هذا النمط من الحبّ بالشعور بالارتباط مع الآخرين والتماهي معهم Identifizierungen. فرويد يشكو أيضاً من ظاهرة عدم التكافؤ الخلقي والفكري بين الناس الذين ينقسمون بسهولة إلى قادة وخاضعين، وهم الأغلبية المطلقة في كلّ مجتمع. ويدعو إلى ما أسماه بـ "دكتاتورية العقل" وتربية النخبة المستقلة والمتحررة التفكير والباحثة عن الحقيقة إلى قيادة الجماهير غير المستقلة. فرويد يطرح سؤالاً لم يتطرق إليه آينشتاين في سؤاله وهو لماذا يرفض معظم الناس الحرب ولا يقبلون بها مثلما يقبلون المحن والكوارث الطبيعية؟ ويجب فريد عن السؤال باقول إن "لكل إنسان الحقّ في أن يعيش حياته الشخصية كما يشاء، ولأن الحرب تدمر حياة الناس المفعمة بالآمال وتضع الإنسان في مكان محرج فتهين كرامته وتجبره على قتل الآخرين، رغم رفضه للقتل، وتدفعه إلى تدمير القيم المادية النفيسة وثمار العمل الإنساني وغير ذلك. فضلاً عن أن الحرب في شكلها الحالي لا تتيح الفرصة للأمثلة البطولية الموروثة، كما أنها، وبفضل تقدم الأسلحة الفتاكة قادرة على إبادة طرف أو كلا الطرفين المتحاربين". فرويد لا يكتفي برفضه للحرب بل يكشف عن هويته وقناعته السياسية وهي النزعة الإنسانية المسالمة ويقول إننا، ويقصد آينشتاين أيضاً، "مسالمون، لأننا، ولأسباب عضوية، لا نستطيع أن نكون إلا هكذا". ويخلص فرويد إلى نتيجة مفادها أن درأ خطر الحرب يكمن في العملية التربوية الثقافية التي انتجت الفكر التنويري الإنساني المسالم. ويعتقد فرويد بأنّ هذه العملية تشبه عملية التدجين بعض الأنواع الحيوانية والتي ستتمخض عن تحولات في المفهوم الجسدي والجنسي. لكنها لا مناص منها إذا ما أردنا التصدي إلى الحرب والعدوانية داخل أنفسنا أو في نفوس الآخرين. فكلّ خطوة في اتجاه التربية الثقافية هي محاولة للتصدي إلى الحرب. وأخيراً يعتذر فرويد لعالم الفيزياء آينشتاين بأنّه ربّما قد خيّب آماله بأجوبته هذه. وما يهمنا هنا هو ليس معرفة أسباب الحرب، خاصةً وأنّ هذه الأسباب قد تعود إلى أسباب نفسية مرضية يحملها هذا الزعيم السياسي أو المالي المتنّفذ أو ذاك، بل في كيفية مواجهة الحرب عبر التربية الثقافية. فنحن نعلم بأنّ الحرب الدائرة الآن في منطقتنا العربية تهدف ليس فقط إلى تبديد الثروات الطبيعية وإبادة المدنيين الأبرياء، بل تدمير الموروث الثقافي المشترك الذي هو عماد الشعب ووحدته. فليس الطائفة أو العرق أو الانتماء السياسي أو الديني هو الذي يشكل الوحدة الوطنية للشعب، بل الثقافة والتاريخ الفني والأدبي لكلّ شعب. ولذلك فإننا نرى بأنّ الغرب، وخاصة الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل مصرتان على تدمير ما بقي قائماً من الموروث الثقافي في العالم العربي.
#حسين_الموزاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|