|
الأستاذ
بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 4668 - 2014 / 12 / 21 - 13:46
المحور:
الادب والفن
كان أسعد عاملاً " معلماً ، في معمل يعود لمكتبة عريقة " ، لتجليد الكتب النادرة والثمينة ، أو الجديدة ، بالطريقة " الإفرنجية " ، التي تستخدم الجلود ، وتطبع على ظهر الكتاب ، اسم الكتاب ، واسم المؤلف ، وزخرفات ، بحبر ذهبي اللون .. وألوان أخرى . وكنت أن مبتدئاً مساعداً له مع عدد من العمال . كان يوم عملنا يبتدئ صباحاً مع صحن من الفول من عند " أبو عمر " في منتصف سوق السويقة المجاور للمعمل . وبعد كأس من الشاي المحلى بسكر زيادة ، وبعد أن يقوم المعلم أسعد ، بتوزيع الكتب علينا نبدأ العمل . فكان يعطي الكتب القديمة التي تحتاج لترميم قبل التجليد للعمال المخضرمين بالمهنة ، والكتب العادية والجديدة لأمثالي المبتدئين . وقد كان من الطبيعي أن نتداول الكتب أثناء العمل ، باستثنائه هو ، كأشياء جامدة . أما هو فكان يتعامل معها باحترام ، ويدعونا دائماً لاحترامها مثله . لكن له نظرة خاصة لأصحاب الكتب أو المؤلفين ، الذين يأتون أحياناً إلى المعمل للسؤال عن كتبهم . فإن كان صاحب الكتاب أو المؤلف متواضعاً ويحترم محدثه ، وخاصة في حديثه معنا ، كان يناديه " أستاذ " باحترام . وإن كان مغروراً متعجرفاً ، كان يناديه " أستاذ " بنبرة جافة . وكان يعلل لنا هذه النظرة للأساتذة ، بأن هناك " أستاذ " متعلم فقط ، وهو يتعالى على الآخرين ، لاسيما البسطاء ، بشهاداته ، ويسخرها لاستغلال الناس . وهناك " أستاذ " .. معلم .. والأستاذ المعلم .. يكون متواضعاً ، ويسخر علمه وشهاداته لمساعدة الناس . ومثل هذا الأستاذ يستحق الاحترام .
وكان يقول : = من حظنا .. أننا نتعرف في عملنا على عظماء .. ونتعامل مع عظماء ، من خلال كتبهم ، التي بين أيدينا . إن الكتاب ليس مجموعة أوراق مخطوطة أو مطبوعة ، محفوظة بين دفتين .. إنه خزانة تحوي إبداعات إنسان ، فكر وكتب من أجلنا . ومرة قال : = إن الكاتب " الصادق مع ضميره .. ومع العدالة الإنسانية .. هو نبي عصره . وقال مرات عدة : = نحن بأمس الحاجة للأساتذة " الصادقين .. المعلمين " .
وحين كان يتكلم عن الكتب ، كان ينظر إلينا خلسة ، ليرى انعكاسات كلماته علينا . ثم يتابع الكلام عن الكتاب . فيتناول كتاباً .. ثم آخر .. ويقول : = انظروا .. هذا أبو العلاء المعري .. وهذا طه حسين .. وهذا أبو الطيب المتنبي .. وهذا ابن سينا .. وهذا ابن رشد . ويحرجه أحدنا ، لما يسأله عن مضمون الكتاب ، فيجيب بإيجاز شديد : = هذا فيلسوف .. وهذا أديب .. وهذا شاعر .. وهذا طبيب .. وهذا عالم اجتماع . ويثير اختزال الجواب سؤالاً مضمراً في نفوسنا .. هل لا وقت عنده ليشرح المزيد .. أم أنه لا يعرف ؟ . وذهبت أنا بالسؤال أبعد من ذلك . فكرت .. هل أنه لم يقرأ من هذه الكتب شيئاً .. أو لا يعرف أن يشرح ما قرأ ؟ .. وصرفت النظر عن الفكرة . وشعرت نحوه بعطف بالغ ، واحترام شديد . وبدأت ألفت نظره إلى أنني أتفهمه . وألبي كل طلباته أثناء العمل بشكل متقن .
في آخر يوم عمل في نهاية الأسبوع ، اقترب مني بود ظاهر ، وقال بصوت خافت ، لا تذهب اليوم بسرعة .. أريد أن أتحدث معك لوحدنا . ذهب بقية العمال .. وبقينا أنا وهو في المعمل . وبعد أن شربنا كأساً من الشاي . قال لي : = أنا أعرف أنك لم تكمل دراستك ، لأنك يتيم مثلي .. لكنك تعلمت أكثر مني . أنا أقرأ في هذه الكتب وغيرها .. لكنني أفهمها . صحيح أنها مكتوبة باللغة العربية .. لكن الأساتذة وكأنهم يكتبون لبعضهم البعض ، وطريقتهم في التعبير صعبة علي . قلت له = لماذا لا تذهب إلى مدرسة ليلية ؟ .. قال : = أولاً أنها مكلفة .. وعلي أن أمضي سنوات فيها ، حتى أصل بدايات مشواري الطويل . صمت قليلاً ، ثم تكلم كمن حزم أمره على شيء : = أنا عندي مشروع أسرع .. وأرخص .. = وما هو ؟ .. = أن نكون أنا وأنت شركاء في القراءة .. أنت تقرأ .. وأنا أسمع .. ونتعاون على شرح وفهم ما قرأنا . قلت له : = هذا يحتاج إلى وقت طويل أيضاً .. ويحتاج إلى .. قاطعني وقال : = فلنجرب .. أنا واثق أننا سننجح . سنقرأ مساء بعد العمل .. يومان أو ثلاثة في الأسبوع فقط .. = وصاحب المعمل ؟ .. = لا يهم .. إنني أنام في المعمل بموافقته ورغبته .. ويعرف أنني أتصرف بالمكان بعد العمل كبيتي .
وبدأنا بالكتاب الأول . استغرقت قراءته أسابيع عدة . وحين بدأنا بقراءة الكتاب الثاني ، انضم إلينا أحد الزملاء في العمل ، ثم انضم ثان وثالث . أصبحت الجلسة ممتعة . لم يعد للوقت عندنا حساب . أحياناً نستمر في القراءة ، والحديث حول ما نقرأ ، إلى منتصف الليل ، دون أن نشعر بجريان الوقت والتعب . لم تعد الكتب التي بين أيدينا تلبي تطلعاتنا . إذ أن بعضها .. أو كلها .. تحتوي موضوعات لأزمنة ولت ، وانطوت قضاياها وخصوصياتها ، أو تهتم برموز ليس لرؤاها مستقبل . ورحنا نشتري كتباً جديدة ، كان أسعد المساهم الأكبر بثمنها .
وتابعنا قراءتنا ، واضعين الزمن خلفنا . قرأنا كتباً ، للشيخ خالد محمد خالد ، وجورج حنا ، وتوفيق الحكيم ، وعمر فاخوري ، ومكسيم غوركي ، وتشيخوف ، وعبد الرحمن الكواكبي ، وجمال الدين الأفغاني ، وابن طفيل . وقرأنا كتباً تحكي عن كومونة باريس ، وثورة أوكتوبر ، وثورة سبارتاكوس ، وعن المعتزلة والقرامطة . بعد سنوات من القراءة ، والنقاش ، حول المطابقات ، والتوقعات ، والاحتمالات ، شعرت أنني صرت إنساناً آخر ، وأعتقد أن الزملاء المشاركين قد شعروا بذلك أيضاً ، وصار أسعد في مكانة هامة بيننا . كان يلتقط الفكرة ، التي نتعثر في التعامل معها ، ويسترسل في الحديث عنها بأسلوب شيق ممتع .. كمعلم متمكن ..
ذات مساء حضر موعد قراءتنا فجأة أحد أصدقاء الحارس . وقد عبر عن سعادته بلقائنا وبما نقرأ . لكن الحارس لم يعجبه حضوره ، وطلب منه أن يغادر المكان فوراً ، وألاّ يعود إلى هنا مرة أخرى . وصرخ به متوعداً : = والله إذا تضرر أحد من هؤلاء .. وأشار إلينا .. ستكون نهايتك على يدي . وبعد أن ذهب ذاك الشخص ، سأل أسعد الحارس .. ما الخبر .. قال : = الحقير بعد التحاقه بالجيش انضم إلى المكتب الثاني . أتعرفون من هو المكتب الثاني ؟ .. إنه سلك ظالم ، لا يخرج سجين من عنده دون أذى بجسده أو عقله . وعدنا لمتابعة القراءة . لكن أسعد قال : = يكفنا قراءة هذه الليلة . واستمعنا لفيروز تغني .. سنرجع يوماً إلى حينا ..
وكانت تلك الليلة هي آخر ليلة قراءة لنا . في اليوم التالي ، أعطاني أسع عدداً من الكتب وقال : = كل الكتب التي اشتريناها هي ملكنا كلنا . وأي كتاب يحتاجه أحدكم ، هو تحت تصرفه .
ذات يوم ، بينما كنت مندمجاً مع حركة الآلة في معمل آخر ، فوجئت بعدة رجال مسلحين يهبطون درج المعمل . ثم انتشروا في المعمل ، وأخذوا يسألون العمال ، واحداً .. واحداً . وجاء أحدهم إلي وسألني عن اسمي بالكامل . ولما سمع اسم العائلة ، قال تعال .. قلت إلى أين .. قال لا تكثر حكي .. هيا . وخرجت مع رجال الأمن من المعمل مقيد اليدين ، ورجال الأمن يسيرون حولي . نظرت حولي .. فوجدت في الشارع .. هنا .. وهناك .. تجمعات صغيرة من المارة وسكان الحر يرقبون ما يجري . حين وصلنا مقر الأمن ، كان عدد من الأشخاص بعضهم من عمال يعملون في ورشات في المنطقة ، واقفين تلفهم حالة من الرعب والهلع . أخذوني إلى مكان آخر في المقر ، فوجدت أسعد يتلقى الصفعات على وجهه وهو يرد على أسئلتهم . ولما استدار صدفة على اليمين رآني ، فابتسم . وأخذونا مساء كلنا إلى السجن . ووضعونا في زنزانة جماعية ، هي أسوأ مكان في قسم الزنازين . جلسنا أنا وأسعد إلى جوار بعض . وبادر بالقول متعاطفاً ومندهشاً : = حتى أنت اعتقلوك ..؟ .. ثم سألني : = لماذا جاؤوا بك ؟ قلت : = لا أعرف . قال : = عن ماذا سألوك ؟ . = عن أحد أبناء عمي اسمه محمود . = وماهي قصة محمود . = ما أعرفه عنه أنه لما كان يافعاً ، تطوع بالجيش الإنكليزي . لكنه ما لبث أن هرب بسلاحه والتحق بسلطان باشا الأطرش . وهو الآن يعمل رغم كبره حمالاً . وعقب أسعد على قصة محمود بوقار واضح : = يبدو أنه الآن يحمل هم البلد .
سويعات قليلة ، واستوعب الشباب آلام الضرب والتعذيب ، وغطوا وسط صمت الزنازين ، في سبات عميق . لكن صوتاً مرتفعاً قليلاً ، جاء من زنزانة قريبة ، مخترقاً رهبة القضبان الحديدية ، والظلام الذي خلف ظلاله تحت مصابيح خافتة ، يقول بنبرة رجولية : = أحييكم شباب .. أنا أخوكم أبو عيسى .. السجن للرجال .. ولا يهمكم .. كام يوم وتذهبون إلى بيتكم وأهلكم ورأسكم مرفوع . وكرر أبو عيسى رسالته ، ليتأكد أن الشباب قد سمعوها . وساد الصمت مرة ثانية . لم أستطع النوم .. وكذلك أسعد . كانت الأماكن التي انهالت عليها العصي في جسمي تؤلمني .. وتورم في رأسي يصدعني . وكان أسعد يكابد آلامه بصمت مثلي . وفكرت أن أمازحه ، لعلنا نتجاوز الألم .. قلت له : = ما رأيك بكتاب جديد نمضي معه هذه الليلة الزفت ؟ .. ابتسم وقال : = الكتاب الذي يملأ رأسي بعد الآن ، ليس أي كتاب ، وإنما هو الكتاب الذي يحكي .. عن آلامنا نحن .. والظلم الذي يسلبنا حريتنا ولقمتنا .. ويعبر عن خصوصيتنا وأحلامنا .. ومستقبلنا نحن .. ويكون باللغة التي نفهمها نحن . وقلت له بصوت يغلب عليه الرجاء : = اكتب أنت .. لماذا لا تكتب . إن لك تجربة غنية . أنا لم أتأخر كثيراً .. حتى عرفت ماذا تكنز .. في أعماق تواضعك وبساطتك .. نظر إلى نظرة الواعد ورد علي : = سأكتب .. وأنت يجب أن تكتب .. لمن ليس للتحليق في عالم الشهرة ، أو حباً في تزيين رفوف المكتبات . بل للتوصل إلى الخيار الصح ,, والطريق الصح .. وسألته لأطمئن وأتأكد : = ستكتب يا أستاذ .. ؟ .. قال : = نعم سأكتب .. وتذكر هذا الوعد . لكن إياك أن تكرر مناداتي " أستاذ " مرة أخرى .. وضحكنا .
وكبر أسعد العامل .. المعلم .. في عيني أكثر . وازداد تعاطفي معه .. واحترامي له .. وعدت لأقول في نفسي .. سأذكر ذلك .. يا أستاذ .. يا معلم .
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التعذيب جريمة حرب وجريمة استبدلد
-
حلب تصنع ربيعها القادم
-
الصراع السوري مع الغرب الآن .. لماذا ؟
-
مائة عام من الصراع مع الغرب .. إلى متى ؟
-
داعش على ضفاف الراين - إلى ريحانة كوباني -
-
في التصدي للوجه الآخر للإرهاب
-
طعنة في ظهر ابن رشد
-
النقابات السورية والنضال العمالي والحرب
-
كوباني .. هذه المدينة البطلة
-
ضد الإرهاب وحرب الخديعة الجوية
-
بدر الدين شنن - كاتب يساري ونقابي عمالي سوري - في حوار مفتوح
...
-
وليمة لذئاب حرب الإرهاب
-
مع غزة .. أم مع .. تل أبيب ؟ ..
-
السؤال المستحق في اللحظة العربية الراهنة
-
متطلبات مواجهة الإرهاب الدولي
-
أنا والحرية والحوار المتمدن
-
أنا مقاوم من غزة
-
غزة تستحق الحياة والحرية
-
غزة لاتذرف الدموع .. إنها تقاتل .
-
المؤامرة والقرار التاريخي الشجاع
المزيد.....
-
شاهد.. -موسى كليم الله- يتألق في مهرجان فجر السينمائي الـ43
...
-
اكتشاف جديد تحت لوحة الرسام الإيطالي تيتسيان!
-
ميل غيبسون صانع الأفلام المثير للجدل يعود بـ-مخاطر الطيران-
...
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
-
إحياء المعالم الأثرية في الموصل يعيد للمدينة -هويتها-
-
هاريسون فورد سعيد بالجزء الـ5 من فيلم -إنديانا جونز- رغم ضعف
...
-
كرنفال البندقية.. تقليد ساحر يجمع بين التاريخ والفن والغموض
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|