|
عبد الله العروي مضللا
يوسف رزين
الحوار المتمدن-العدد: 4666 - 2014 / 12 / 19 - 02:38
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تقديم : لا يسع المرء إلا أن يدهش للسطوة التي يمارسها منطق السياج الدوغمائي المغلق على المسلمين خاصتهم و عامتهم . إن هذه السطوة هي من التمكن لدرجة انه حتى أعتى مثقفينا الحداثيين لا يستطيعون الإفلات من قبضتها ، و هو ما سيتضح لنا من خلال معالجتنا لما جاء في كتاب عبد الله العروي بعنوان " مجمل تاريخ المغرب الجزء الأول، الطبعة الخامسة 1996 ، المركز الثقافي العربي ". تمثلت خلاصة عمل العروي في هذا الكتاب في تفنيد الاستنتاجات التي انتهى إليها المؤرخون الكولونياليون بخصوص تاريخ المغرب بل و تقديم قراءة مغايرة لها . لكن هل كان العروي موفقا في اعتراضاته ام لا ؟ بل أكثر من ذلك : هل كان العروي أمينا في نقده أم انه ضلل نفسه و القارئ معا خدمة لمنطلقات إيديولوجية غير علمية ؟ هذا ما سنراه . عمل العروي في كتابه هذا على الرد على كتابات المؤرخين الكولونياليين . لقد وجد نفسه أمام أسئلة حارقة عمل بكل ما في وسعه على تلافي الإجابة عنها . فقد تمحورت أسئلة هؤلاء المؤرخين حول المواضيع التالية : لماذا لم يترومن المغاربة ؟ لماذا تخلوا عن المسيحية و اللغة اللاتينية ؟ لماذا رفضوا المسيحية و اعتنقوا الإسلام ؟ لماذا قاوموا الشمال الروماني و رحبوا بالشرق المسلم لماذا رفضوا الثقافة الآرية و قبلوا بالثقافة السامية ؟ لماذا لم يتقدم المغاربة باعتناق الإسلام ؟الخ ... كانت هذه أسئلة تسير في اتجاه اقتحام السياج الدوغمائي المحيط بأذهان المغاربة، لكن الغريب هو ان العروي بدلا من أن يستفيد منها لتحرير ذاته أولا و المغاربة ثانية من هذا السياج فإنه تصرف كحارس أمين له . إن الحقيقة المرة التي تطالعنا كل مرة و هي أن هذا السياج له مثقفوه من شتى الأصناف و الاتجاهات . لا يغرنك الإسم . هذا السياج له مثقفوه السطحيون كسيد قطب و محمد قطب أو مع شيء من العمق كعبد السلام ياسين أو مثقفين يملكون ناصية المفاهيم الفلسفية كطه عبد الرحمان و أيضا مثقفين حداثيين يملكون ناصية المناهج الفكرية الحديثة كعبد الله العروي التي يستخدمها في غير ما وضعت له ، أي الاتجاه التضليلي ، فكيف ذلك ؟ هذا ما سنراه . وجد العروي نفسه و هو يدرس أعمال المؤرخين الكولونياليين في وضع غير مستساغ . انه وضع مساءلة و محاكمة الفترة الإسلامية بالمغرب . و لأنه لم يستسغ هذا الوضع الجارح للنرجسية الجمعية فإنه عمد للتهرب من هذه المحاكمة إلى منهجية تضليلية تمثلت في الأتي : استخدام الصرامة المنهجية مع الكتابات الكولونيالية و اللجوء إلى التسامح المنهجي مع الإسطوغرافيا الإسلامية كخطة مرواغة للدفاع عن الفترة الإسلامية بالمغرب و إعفاءها من أية مساءلة . و لتوضيح ذلك نذكر أن منهجية العروي الصارمة مع الكتابات الكولونيالية هي في الواقع منهجية عدائية و ليست صارمة. إنها تهدف إلى تصيد الأخطاء و تضخيمها . منهجية جعلت من العثور على خطأ ما سببا كافيا لرمي الرضيع مع ماء الغسيل ، و بذلك صارت كل أعمال المؤرخين الكولونياليين بدون فائدة لأنهم ارتكبوا خطأ هنا أو هناك . و لم يكتف العروي بذلك بل خرق أهم قواعد النقد العلمي المتمثلة في نقد الأفكار لا الأشخاص فطعن في أعمال هؤلاء المؤرخين لمجرد أنهم كولونياليون و بالتالي أراح نفسه من الإجابة على أسئلتهم لأنهم باختصار كولونياليون ذوو نوايا سيئة يعملون لصالح الإدارة الاستعمارية . ثم أضاف إلى نقده اللامنهجي هذا ادعاءه بان كتابات هؤلاء المؤرخين تنتمي الى القرن 19 في حين أنها تنتمي أيضا إلى القرن 20 كما اعتبرها كتابات تقليدية لا تختلف عن الاسطوغرافيا الإسلامية و ادعى بأنها تنتمي إلى المدرسة الوضعانية المقتصرة على دراسة الوثيقة المكتوبة فقط في حين أن أعمال هؤلاء المؤرخين اعتمدت على العلوم المساعدة من اركيولوجيا و اثنولوجيا و انثروبولوجيا الخ..ثم في النهاية بعد ان خلط بين الاسطوغرافيا الإسلامية التقليدية و بين كتابات المؤرخين الغربيين في تضليل ماكر دعا إلى نقد كتاباتهم " التقليدية" وفق المنهجية الحديثة المبنية على العلوم المساعدة من اركيولوجيا و انثروبولوجيا و لسانيات و الكترونيات . و كأن هذه الكتابات اقتصرت فقط على الوثائق المكتوبة (المدرسة الوضعانية) . ثم ينتقل العروي بعد هذا النقد المنهجي الوهمي المتصيد للأخطاء و التضليلي المفرط في النقد (النقد من اجل النقد) و المبني على معطيات غير صحيحة مصدرها الادعاء فقط (تقليدية كتابات المؤرخين الكولونياليين) إلى نقد الفترة الإسلامية دون أن يمارس نفس المنهجية الصارمة على الاسطوغرافيا الإسلامية، فلا يشكك في معلوماتها رغم أن هناك العديد من الأسباب التي تدعوا إلى ذلك. نذكر منها أن الاسطوغرافيا الإسلامية الخاصة بفتح المغرب (من الفتوحات حتى نهاية الدولة الادريسية ) خالية من الكتابات المغربية رغم أن الدولة الادريسية كانت دولة مثقفين ممثلة في تأسيسها لجامعة القرويين ، و مع ذلك نضطر إلى اللجوء إلى كتابات المؤرخ المصري ابن عبد الحكم لمعرفة أحداث الفتح الإسلامي للمغرب . لكن و رغم هذه الإشارات المريبة في تاريخنا المغربي يسكت العروي عن ضرورة استخدام المنهجية الحديثة لنقد الاسطوغرافيا الاسلامية فلا يطالب مثلا بدلائل اركيولوجية لإثبات ما جاء من معلومات في هذه الاسطوغرافيا و التي خارج أي منطق منهجي تتحول إلى قرآن منزل . لهذا نقرر بكل أسف أن نقد عبد الله العروي هو نقد إيديولوجي دعائي لا ابيستيمولوجي . و الغريب انه رمى المؤرخين الكولونياليين بالادلجة و البعد عن الموضوعية . تقوم خطة عبد الله العروي التضليلية على استخدام سياسة الصرامة المنهجية مع الكتابات الكولونيالية و الليونة المنهجية مع الاسطوغرافيا الإسلامية خدمة للاستاتيكو ..خدمة للسياج الدوغمائي المغلق و حماية له من الأسئلة المقلقة التي ستدفعه حينها إلى محاسبة الذات . باختصار العروي مثقف أصولي بقناع علماني حديث . لقد تجمعت بين يديه أعمال المؤرخين الكولونياليين و توفرت له فرصة ذهبية لتنوير أمته و مصارحتها بالحقيقة و قيادتها نحو الوعي التاريخي كما ينادي بذلك دائما ، لكنه جبن عن هذه المهمة و اختار السهل و الطبطبة على ظهور المغاربة و الهمس في آذانهم " الا خوف عليكم و لا انتم تحزنون " . إن التحفظ على إشكالية مطروحة لمجرد أن قائلها هو صاحب نية سيئة لهو منهج غير علمي . نتحفظ في دراستنا على معلومات تاريخية إذا شعرنا أن كاتبها ذا ميول سياسية أما بخصوص الأسئلة و الإشكاليات المطروحة فلا يحق لنا رفض التعامل معها لمجرد أن صاحبها لا يروقنا. لم يشكك العروي في معلومات المؤرخين الكلونياليين بل في خلاصاتهم و استنتاجاتهم و تحليلاتهم و أسئلتهم انطلاقا من التشكيك في نواياهم السيئة و القول بأنهم يطرحون هذه الاشكاليات لأنهم يريدون إدامة استعمارنا و لم يفترض مجرد افتراض واحد أنهم يمارسون عملهم بشكل احترافي موضوعي خال من التوجيه الايديولجي. نشير في هذا الصدد إلى انه من آليات السياج الدوغمائي الدفاعية مناقشة الأشخاص لا الأفكار و اتهام كل من يطرح رأيا مخالفا للإجماع بالهرطقة و النيئة المبيتة . و هذا ما فعله العروي و هو ما سنوضحه بالتفصيل في بقية هذا المقال عبر تتبع أفكاره واحدة واحدة . لذلك نخبر القارئ كمنهجية متبعة بأننا سنعرض مقتطفات من كتابه بالتتابع بين مزدوجتين مع التعليق على كل واحدة منها إما بين قوسين أو أسفل المقتطف. تشريح و مناقشة : يعترض العروي منذ بداية كتابه على كتابات المؤرخين الكولونياليين بالقول التالي : " ص11...إذا التجأ (القارئ) إلى كتب الأجانب رآها تزخر بأحكام استعمارية تعكر صفو يومه ، فيسخط و يقول اين مؤرخونا ، لماذا لا يعيدون كتابة تاريخنا ؟..." بدورنا نتسائل : اين المشكل اذا عكرت هذه الكتابات صفونا ؟ منذ متى كان للكتابة النقدية دور غير تعكير المزاج ؟ هل دور الكتابة التاريخية هو أن تقنعنا أننا خير امة أخرجت الناس ؟ موقف غريب من العروي . إن الكتابة التاريخية وفق منطق العروي تصبح مهمتها هي إنقاذ هذا الصفو لا غير . يوضح العروي انه يريد تسجيل بعض الخواطر في قضية تجديد التاريخ التي تشغل الأذهان في المشرق و المغرب بينما و نحن نغوص شيئا فشيئا في كتابه نجده يخدم الثبات و الستاتيكو لا التجديد . إن التجديد عنده هو إبقاء الأمور على ما هي عليه حفاظا على النرجسية الجماعية المحمية بالسياج الدوغمائي . يلقننا العروي بضعة دروس حول منهجية التاريخ فيخبرنا بأن المؤرخ لم يعد يهتم بالرواية بقدر ما يهتم بالتحليل ، كما أن التاريخ كمنهاج لم يبق تاريخ أشخاص و عائلات و إنما أصبح تاريخ بنى و تنظيمات . أما بخصوص التأليف الاستعماري فامتاز بتوسيع مفهوم الوثيقة فشرع الباحثون الأوربيون في الحفريات و سجلوا الروايات الشفوية و جمعوا الوثائق المكتوبة الأجنبية رسمية كانت أو أدبية ، ثم وسعوا أيضا مفهوم الواقعة بتجديد مفهوم الدولة ، فلم تعد عندهم المدة الزمنية التي تستقل بالحكم أثناءها جماعة قليلة بل عادت تعني مجموع المؤسسات التي تجسد السلطة العليا. و أنه على هذا الأساس أعطي التاريخ اتجاه و منطق و أقحم في التحقيب الثلاثي المتداول في التواريخ الأوربية و أبدلت فكرة الدورة الخلدونية بفكرة التقدم . بهذه المبادئ كان المؤرخ يحكم على مادة التاريخ المغربي . كان يمارس نقدا هو في الحقيقة مجموع ملاحظات مترتبة عن تلك المبادئ و مطبقة بكيفية آلية على المعلومات التقليدية ..(ص 15 و 16) بعبارة أخرى يقول العروي بأن الغربيين قاموا بتحليلات متعسفة . لكن هل هي فعلا كذلك أم أن العروي يرفض مواجهة الحقيقة هل فعلا واقعنا عصي على المناهج الغربية أم إن العروي يرفض إفقاده عذريته و إبقاءه في دائرة الغموض. و يضيف العروي قائلا : " ص16... و بسبب هذا النقد الافتراضي المنفصل تماما عن ترابط الأحداث أجرى المؤرخون الاستعماريون أحكاما سلبية على تاريخ المغرب، فقالوا انه تاريخ غامض ، تاريخ قبائل متناحرة ..." بدورنا نتسائل : أليست هذه هي الحقيقة ؟ يضيف العروي قائلا : "ص16.. لقد كان (التأليف الاستعماري) رغم تفوقه النسبي على التأليف العربي ، سجين مفاهيم محدودة (لم يوضح لنا كيف ) حول الوثيقة و الحدث و الزمان التاريخي ، لم يكن مفهوما مطلقا كما ظن ، بل كان أيضا محدودا بظروف القرن التاسع عشر الأوربي ، قرن تكوين الدولة القومية.." بدورنا نشير إلى أن هذه إحدى مراوغات العروي لرفض الإشكاليات المثارة من طرف المؤرخين الغربيين . ليخلص في النهاية إلى أن التأليف الاستعماري محدود بإطاره الإيديولوجي . لكن هل هذا صحيح أم هو فقط ما يتوهمه العروي؟ ما دليله على ذلك ؟ ألا يمكن أن يكون العكس هو الصحيح ؟ أي أن يكون العروي خاضعا لايديولوجيا السياج الدوغمائي المغلق . ينتقد العروي المؤرخ الغربي قائلا : " ص17...لذا لم يغير المؤرخ الاستعماري التحقيب التقليدي رغم تبنيه التقسيم الثلاثي . طرح الفترة الاسلامية بكاملها في اطار تقهقر و غموض ، بين عهد السلطة الرومانية و عهد الدولة الاستعمارية الحديثة .." و نتساءل معه : أليست هذه فكرة و ملاحظة جيدة ؟ لماذا يرفض العروي مجرد التفكير فيها ؟ ماذا لو كانت على جانب كبير من الصحة ؟ أليست الفترة المسيحية في أوربا فترة تقهقر و غموض بين عهد السلطة الرومانية و عهد الدولة الاستعمارية الحديثة ؟ هل العروي راض تماما عن الفترة الإسلامية بالمغرب ؟ الم تكن فترة حروب و مجاعات و اوبئة و تخلف و عدم استقرار مثلما هو الشأن في أوربا الفيودالية المسيحية مع بعض الفروقات ليس إلا ؟ يستمر العروي في نقده فيقول : "ص17...و بما أن التأليف الاستعماري كان مليئا بالأحكام السلبية (أليست أحكاما واقعية ؟) المبنية على مفاهيم مسبقة غير مرتبطة ارتباطا عفويا بوقائع التاريخ المغربي (من قال ذلك ؟) ..كان حكم المؤرخ الاستعماري سلبيا فقال : لم يؤسس المغاربة دولة بالمعنى الحقيقي (الروماني و الأوربي العصري) بسبب ضعف في البنية الاجتماعية و نقص في الفكر.."(أليست هذه هي الحقيقة ؟ لماذا يفر العروي منها ؟) ثم يلقي العروي بعض الدروس و يعلمنا كيف نكتب التاريخ فيقول : " ص18...إن تحديد منهاج التاريخ ناتج عن تقدم العلوم الأخرى الاجتماعية مثل الاقتصاديات و الاجتماعيات و النفسيات و العلوم الدقيقة مثل الفيزياء النووية و البيولوجيا و الالكترونيات و الفلسفية مثل الابيستيمولوجيا و النقد الثقافي ..ص19...يخال المؤرخ التقليدي ان الحدث واقع ملموس ، أما المؤرخ المعاصر فإنه يعترف أن الحدث مركب نظري قام بتأليفه تبعا لهمومه التي هي من هموم عصره و تساؤلاته و منهاجه ...هذا الحدث النظري المركب بعد التحليل الطويل الشاق ، لا يوجد كمعطى في الوثيقة التقليدية . تصبح هذه مادة خام يستخرج منها الدارس وثيقة أكثر تجريدا تقوده نحو الجواب عن السؤال المطروح ( ما الجديد في الأمر ؟ ما يقوله العروي هنا هو عينه ما قام به المؤرخون الكولونياليون) ص20...لا يكتب المؤرخ المعاصر بأسلوب وصفي مباشر ، تتخلله تعليقات سريعة كما كان يفعل المؤرخ الوضعاني ، بل يكتب من البداية الى النهاية بأسلوب نظري تحليلي ، لا يقص علينا أحداث الماضي بقدر ما يسرد مراحل تعامله مع المادة التاريخية .." في الواقع نتساءل كقراء ما الفائدة من إمطارنا بهذا الكم من الدروس ؟ ما محلها من الإعراب و ما علاقتها بإشكالية الكتاب ؟ لا يفعل العروي هنا شيئا غير ممارسة الأستاذية و إلقاء دروس في غير محلها و كأن المؤرخين الكولونياليين غفلوا عنها . لماذا يحشر العروي مؤرخين كجيروم كاركوبينو و مركارت و اكصيل في خانة الوضعانيين ؟ هل فعلا اقتصروا في أبحاثهم على الوثيقة و المنهج الوصفي ؟ أم أنهم استعانوا بالاركيولوجيا كما توضح أبحاثهم في دراستهم لتاريخ المغرب . هل يعتبر مؤرخ يستعين بالاركيولوجيا وضعانيا ؟ كانت هذه إحدى مغالطات العروي . تقوم خطة العروي التضليلية على حشر المؤرخين الكولونياليين في خانة المؤرخين الوضعانيين ليسهل عليه بعد ذلك نسف أطروحاتهم من منظور منهاجي هو في الواقع منظور ادعائي لا غير . إن خطة العروي أكثر مكرا من خطط الإسلاميين في رفض مقولات المستشرقين . فبدلا من وصف خصومه بالكفر و الزندقة و كراهية الإسلام و الكيد له فإنه يعمل على نسف مقولاتهم بأسلوب أكاديمي بارد بادعائه امتلاك منهاجية افتقر إليها المؤرخون الكولونياليون .ادعاء نكتشف عند التدقيق انه مجرد مخاتلة علمية و تزوير للحقائق . نتابع معه : " ص21...يدعو كثيرون الى تجديد تاريخ المغرب ، ماذا يعنون بذلك الجد في التنقيب على الوثائق ؟ إعادة تأويل الوقائع ؟ ص22...من مستلزمات التجديد أولا خلق ذهنية معاصرة عند المؤرخين المغاربة و ذلك بتوسيع و تعميم الدراسات المنهجية و الابستيمولوجية . ان مادة تاريخ التأريخ ، أي مراحل تطور صناعة المؤرخ ، مهملة في الجامعات المغربية ..المطلوب هو ان تدرس من زاوية نظرية و نقدية في إطار سيرورة الوعي و التّأليف التاريخيين...و منها ثانيا تأسيس مدرسة وطنية للحفريات تقوم بأعمال منظمة و مبرمجة تهم كل الفترات لا الفترة الرومانية وحدها كما فعلت المدرسة الاستعمارية ..ص23..و منها ثالثا إقرار دراسة اللهجات حسب توزيعها الجغرافي و تطورها الزماني . من المعلوم أن اللسانيات و السيمياء تقدمت في العقود الأخيرة ..لا يمكن الاستفادة من الرواية الشفوية دون استيعاب منطق اللسانيات المعاصرة ..و منها رابعا تعميق مستوى التعرف على الالكترونيات ..سيعرف الباحث المكون على النمط المعاصر ان هناك علاقة موضوعية بين الوثيقة المتوافرة و الإشكالية المفترضة و التنظيمية المدروسة ..ص25..إن تجديد دراسة تاريخ المغرب مشروع في الحقيقة مواز لتحديث المجتمع (هل فعلا يرغب العروي في تحديث مجتمعه ؟!) ..من الواضح اننا لم نتوخ من وراء وضع كتابنا هذا تجديدا في هذا المستوى من الطموح . كان هدفنا متواضعا . أردنا فقط إن نقترح تأويلات غير التي راجت الى حد الساعة متأثرين بمنهجية التاريخ الجديد التي ذكرنا سماتها الجوهرية في الصفحات السابقة ..". هكذا إذن يعد العروي الأرضية لنسف مقولات المؤرخين الكولونياليين و التهرب من مواجهة أسئلتهم . انه يستخدم منهجية التاريخ الجديد بطريقة انتقائية لمنع العقل المغربي من مواجهة ذاته و الإبقاء عليه مخدرا و نائما . يستنجد العروي بمنهجية التاريخ الجديد لمحاصرة أسئلة و أطروحات المؤرخين الغربيين بدعوى انهم تقليديون وضعانيون ينتمون للقرن التاسع عشر . لا يواجه العروي هؤلاء المؤرخين بالمنطق التقليدي الممجد للذات بل يحتال على أسئلتهم باستخدام انتقائي لمنهجية التاريخ الجديد .. نعود مرة أخرى للعروي :ص25..إنما نلفت النظر إلى أن التفسيرات التقليدية بنوعيها البعيد و القريب تقضي على كل تطلع فكري (هل تفسيرات مؤرخي ق 19 تقليدية ؟هل فعلا تقضي على كل تطلع فكري ؟ من قال ذلك ؟ ألا يمكن أن يكون العروي هو من يريد القضاء على كل تطلع فكري ؟) ..لهذا السبب تفنن دعاة الاستعمار في تقديمها لنا في شتى الأشكال و الصور ..إن التاريخ التقليدي بناء عتيق تهاوت منه جوانب كثيرة ..فوجب كنس الأنقاض قبل الشروع في تشييد بناء يخلفه .هذا العمل هو ما رمت القيام به.. " (هو في الواقع هو عمل تضليلي) . كما سبق و اشرنا فإن العروي يحتال على أسئلة المؤرخين الغربيين بجعل أعمالهم تقليدية لا تختلف عن كتابات المؤرخين المسلمين القدامى إلا بشكل نسبي رغم أن المؤرخين الغربيين لم يقتصروا في أبحاثهم على الوثائق المكتوبة بل استعانوا بالاركيولوجيا و الاثنولوجيا و الانثروبولوجيا الخ ..و مع ذلك فهو يجعلهم تقليديين !..لذلك نخلص إلى أن العروي لا يرغب في القيام بعمل تطهري كما يدعي بل يريد إغلاق الثغرة التي فتحها المؤرخون الغربيون في جدارنا الدوغمائي المغلق و هو ما سنوضحه بالتفصيل في بقية هذا المقال . فلنتابع مع العروي . "..ص 27 : لماذا كتبت هذا الكتاب ؟ ان المؤرخين الأجانب الذين كتبوا حول تاريخ المغرب في عهد الاستعمار يرددون نغمة سوء حظ المغرب ، يقولون انه كان من سوء حظه انه لم يدرك ان الغزو الروماني ذو طابع حضاري و انه اعتنق الإسلام و انه سقط ضحية لهجمة بني هلال و انه كان قاعدة للقرصنة العثمانية الخ .. يبدو أن سوء حظ المغرب الحقيقي هو أن تاريخه كتبه لمدة طويلة هواة بلا تأهيل، جغرافيون أصحاب أفكار براقة و موظفون يدعون العلم و عسكريون يتظاهرون بالثقافة ..و بكيفية اعم مؤرخون بلا تكوين لغوي و ارخيولوجيون بلا تأهيل تاريخي.." يطعن العروي في كفاءة المؤرخين الكولونياليين رغم أنهم كتبوا تاريخ المغرب القديم انطلاقا من الصفر . هكذا ببساطة يشطب العروي على كل المجهود الذي قام به مؤرخو الفترة الاستعمارية . هل فعلا كانت أعمالهم سطحية و متحيزة أم أن العروي يتعامى عن الحقيقة ؟ ..هل فعلا يمكن أن نتجاهل دراساتهم الاثنولوجية و الانثروبولوجية و الاركيولوجية للمغرب بدعوى أنهم مؤرخون هواة ؟ يبدو العروي جريئا في هذا الحكم . " ..هذا جيروم كاركوبينو يكتب تاريخ المغرب الأقصى القديم و يملأه بالتخييلات المفرطة ..كيف يفسرها ؟ بالإحالة على حدس و عبقرية ارنست غوتييه .فيسقط في أخطاء فادحة ؟ يقول أن المسعودي عاش في القرن الرابع عشر عوض القرن العاشر (ص138) و يثبت أن الخوارج ثاروا سنة 657 أي قبل إتمام الفتح الإسلامي (ص 299) .." ملاحظاتنا على اعتراضات العروي على كاركوبينو هي أن العروي استدل بأخطاء معرفية ارتكبها كاركوبينو تخص التاريخ الإسلامي أي العصر الوسيط لا تاريخ المغرب القديم الذي ذكر العروي بان كاركوبينو ملأه بالتخييلات المفرطة ..أين هي إذن هذه التخييلات ؟ ! ثانيا فإن العروي نفسه في هذا الكتاب "مجمل تاريخ المغرب ،الجزء الأول" ارتكب أخطاء معرفية ، فذكر بأن شمال المغرب الأقصى حصل على استقلاله سنة 180م عوض 283 م (ص 62) و ان من قتل بطليموس هو كلود و ليس كاليكولا(ص 61) . بهذا المنطق تصبح أعمال العروي لاغية و غير ذات قيمة ! و نستمر مع العروي : "..ص 28 : إذن ما هي الدوافع لتأليف هذا الكتاب ؟ الأول و الأقرب هو أني اقتنعت بعد تجربة كأستاذ في إحدى الجامعات الأمريكية أن مؤلفات عهد الاستعمار حول المغرب التي نهملها و نحتقرها لا تزال تؤثر في أذهان الأجانب ..فكرت و الحالة هذه ، انه من المفيد أن أقدم نظرة مغربية على تاريخ المغرب ، حتى و لو لم آت بأي كشف جديد ، مقتصرا على تقديم تأويلات جديدة للأحداث و الوقائع .." ما قام به العروي في الواقع هو انه عمل على حماية السياج الدوغمائي المغلق من اختراقات المؤرخين الغربيين . " ..ص 29 و 30 : إن البنى الموروثة تؤثر فينا و إن الأجيال الماضية حاضرة بيننا . كل يوم يزداد شعورنا بضرورة استنطاق الماضي عن الظاهرتين اللتين تظللان حياتنا السياسية و الفكرية : التخلف التاريخي ، و استدراكه الواعي : أي التغيير ...سأنقد فيما يلي مؤرخين عديدين بحدة و صرامة .." ما حصل هو أن العروي كان انتقائيا في نقده " الصارم" الذي خصصه للمؤرخين الغربيين ، أما المؤرخين المسلمين فتساهل معهم كثيرا . لم يكن هذا النقد من طرف العروي علميا بل لجاجيا ، تحول في كثير من الأحيان إلى سفسطة الهدف من ورائها إقفال الباب أمام أي إشكال مطروح من طرف مؤرخ غربي . لهذا نقرر أن الدافع الحقيقي لهذا العمل هو خوف العروي اللاشعوري من محاكمة الإسلام و إدانة الفترة الإسلامية و الحكم عليها باللاجدوى . فالعروي هنا مثقف يفتقر إلى الشجاعة و يخشى مواجهة نفسه و البحث عن توازن جديد و اقتحام المجهول . نستمر إذن مع العروي .. " ..المغرب كمفهوم : الطريقة المثلى في نظرنا ان نستهل بحثنا بتاريخ الاسطوغرافية المغربية . أي تاريخ التآليف التي كتبت حول ماضي المنطقة لنراقب ظهور فكرة المغرب و كيف انتهت الفكرة بان طابقت الواقع الجغرافي . قد يتعذر تحقيق هذا المشروع كما امتنعت عنا مشاهدة بداية الحركة التاريخية . قد يصعب علينا أحيانا ضبط انعطافات و تضمينات تطور الاسطوغرافيا لكن عندما نتبع هذا الطريق فإننا على الأقل نعترف أننا سجناء مسار معين ، لا نستطيع تجاوز حدوده و أن الحقيقة التي نتوصل إليها رهينة ذلك المسار الخاص و ليست حقيقة مطلقة ابدية .." رغم كل هذا الكلام عن الاسطوغرافيا و ضرورة تتبع مسارها فإن العروي لم يمارس هذا المنهج فيما يخص الاسطوغرافيا الخاصة بتاريخ المغرب خلال الفترة الإسلامية . " ..إن الفصل بين المركز و المحيط ، بين مجال تاريخي و مجال قبل تاريخي ناتج عن كون الحضارة لم تنشأ في هذه المنطقة من العالم و إنما انتقلت إليها من الشرق الأوسط مهد نشأتها .." من قال ذلك ؟ ! إذا كانت عبادة الماء مثلا أخذها الفينيقيون و الإغريق عن الامازيغ فيكف يدعي ان المغاربة اخذوا الحضارة عن جيرانهم المشارقة ؟ ! يعلي العروي من شأن الكتابة التاريخية و لان المغاربة لا يتوفرون على مصادرهم الأدبية فيما يخص تاريخهم القديم فإنه يعتبرهم مقلدين في مجال الحضارة عن جيرانهم المشارقة. ".. إننا نعي الفصل و نوليه قيمة لأننا نولي التاريخ المكتوب قيمة ..أما و إن ذلك اليوم لم يأت بعد ، فإنني أحافظ على النظرة التي تربط ماضي المغرب بماضي المشرق ..تبدو المنطقة في هذا المنظور لمدة طويلة في صورة أرض تفتح ، تستغل ، تمدن . وقائعها ترديد لوقائع الشرق البعيد ، تاريخها تاريخ سلبي ، غير ايجابي ، اذ سلسلة الحوادث لا تبدأ فيها ..من هنا نميز حقبة طويلة جدا ، يبدو لنا أثناءها المغرب كمجال لمبادرات الغير ، فلا نراه إلا من خلال فاتحيه الأجانب..متى انتهت الحقبة الأولى التي كان المغرب أثناءها منفعلا أكثر مما كان فاعلا ؟ اقترح أن يكون تاريخ نهايتها في أواسط القرن الثامن (م) أي القرن الثاني (ه) . عندما اعتنق الدعوة الخارجية فتحرر من التبعية و اخذ زمام المبادرة التاريخية .." نسجل هنا إحدى أخطاء العروي الفادحة فيما يخص المنهج ، فهو يهمل الدراسات الاركيولوجية الخاصة بهذه الفترة و يقتصر فقط على الكتابات التاريخية علما انها صادرة عن غير المغاربة و يحكم على بني جلدته بأنهم سلبيون منفعلون مقلدون الخ ..من أين له بهذا اليقين ؟ هل هكذا يدرس التاريخ ؟ ألم ينادي العروي في بداية كتابه بضرورة تجديد منهاج التاريخ و أن الحدث لدى المؤرخ هو مركب نظري يأتي بعد التحليل الطويل الشاق ؟ ألم ينادي بتوسيع الدراسات المنهجية و الابستيمولوجية فيما يخص دراسة التاريخ و تأسيس مدرسة وطنية للحفريات و إقرار دراسة اللهجات و الاستفادة من اللسانيات و السيمياء و تعميق مستوى التعرف على الالكترونيات ؟ ! كل هذه المنهجية يتخلى عنها العروي سريعا لإثبات أن المغرب هو فقط صدى للمشرق حسب ما تدعيه الكتابات التاريخية المشرقية. ثم يقوم بتضليل آخر و هو انه يعتبر أن الدراسات الاثنوغرافية تخص فقط الفترة قبل الكتابية حتى يتملص من نتائجها المعاكسة للتاريخ المكتوب في حين ان الدراسات الاثنوغرافية تطال حتى عصرنا الحالي و ليتملص من نتائج الدراسات الاركيولوجية و الاثنولوجية و الانثروبولوجية التي تعارض بطبيعتها ما جاء في المصادر الأدبية . كما يدعي انه إذا تعارض مغرب تاريخي و مغرب قبل تاريخي فلأن المنطقة قسمت الى جزء خاضع تابع و جزء مستقل ! إذن فضدا على أي منهج علمي فإنه يصدق تماما ما جاء في الكتابات التاريخية . لم يعد التاريخ المعاصر لديه تركيبا نظريا قائما على التحليل الطويل الشاق بل صار فجأة أحادي البعد يقوم على تصديق ما جاء في المصادر الأدبية المشرقية دون غيرها من الوثائق . نتساءل بدورنا إذا كان المغرب قد اعتاد على أن يكون منفعلا أكثر مما كان فاعلا طوال تاريخه القديم و حتى أواسط القرن الثامن الميلادي فكيف استطاع بعد هذه المدة الطويلة من الكسل التاريخي أن يكون فاعلا و يأخذ بزمام المبادرة التاريخية؟ أليس المنطقي هو ان المغرب كان فاعلا تاريخيا طوال هذه المدة لولا أن الكتابات التاريخية التي بالمناسبة لم يكتبها المغاربة قد عتمت عليه و لم تعترف به الا عند القرن الثامن الميلادي ؟ في الواقع فإن العروي يقبل بهذه التناقضات ضمن إستراتيجية تضليلية ستتضح معالمها فيما بعد . إن المنهجية التاريخية عند العروي هي ذات شقين : صارمة مع المؤرخين الغربيين و ناعمة مع المؤرخين المشارقة للوصول الى هدف معين و هو عدم إدانة الفترة الإسلامية و حماية السياج الدوغمائي المغلق من الاختراق . يصدر موقف العروي هنا عن منطق أصولي ..أصولي جدا . نعود إلى العروي : "..ص 41 : البحث عن الأوليات : كانت نتائج الحفريات التي تقدمت مناهجها تقدما باهرا في أوربا و طبقت في الشمال الإفريقي ، لا تستعمل إلا لمراجعة و تدقيق المعطيات الأدبية التي كانت تمثل دائما المرتبة الأولى ..بعد 1930 دخلت دراسات المغرب القديم طورا جديدا عندما حل لونيل بالو محل غزيل ، فحصل تغيير عام و قدمت الوثيقة الاثرية على الوثيقة الأدبية ، غير أن الاتجاهين كان يخضعان معا للخلفيات الاديولوجية نفسها ، مما حد من تأثير التجديد المنهجي ..إن أمثال غزيل و بالو هم الذين روجوا باسم العلم الموضوعي تلك الأفكار المشوهة عن ماضي المغرب التي سنتعرض لها بالنقد مرار في الصفحات اللاحقة ..و نجد سر توالي النظريات في النوايا السياسية أكثر مما نجده في تقدم العلوم الموضوعية .." كما سنلاحظ فإن العروي تحت ستار النقد المنهجي و مصادرة النوايا يرفض خلاصات أعمال المؤرخين الكولونياليين لكن فيما يخص المؤرخين المسلمين فإنه يقبل بكتاباتهم دون نقاش . هل من حقنا أن نرفض الإجابة عن الإشكالية المطروحة من طرف مؤرخ لمجرد انه كولونيالي ؟ هل التشكيك في النوايا منهجية علمية؟ نتابع مع العروي : " ..ص 48 ..يكون هذا الإهمال خطرا كبيرا على الثقافة المغربية . من جهة ترجع كل تشويهات ماضي المغرب إلى كيفية عرض أحداث القرون الأولى . و من جهة ثانية توظف دراسة تلك القرون المناهج التي تعرف اليوم تقدما باهرا ، مثل الحفريات و اللسانيات و الإنسانيات . إذا بقينا سجناء الوثيقة المكتوبة التي كثيرا ما تجر الباحث إلى الخطأ العفوي و الكسل ، إن لم نقل إلى الدعارة ، فسنتخلف ثقافيا أكثر فأكثر .." لا يلاحظ العروي أن كلامه هذا يتناقض مع ما قاله في الصفحة 33 : "..إننا نعي الفصل و نوليه قيمة لأننا نولي التاريخ المكتوب قيمة ..أما و أن ذلك لم يأت بعد فإنني أحافظ على تلك النظرة التي تربط ماضي المغرب بماضي المشرق .." في الصفحة 33 يولي التاريخ المكتوب قيمة و في الصفحة 48 يحذرنا من البقاء سجناء الوثيقة المكتوبة ! سنتابع فيما يلي إستراتيجية العروي القائمة على القسوة المنهجية الانتقائية التي لا تكون صارمة إلا مع المؤرخين الكولونياليين أما نظرائهم المسلمين فلا .. "..ص 49 : ..لا احد يستطيع اليوم و في المستقبل القريب أن يحرر دراسات قبل تاريخ المغرب من قبضة أساتذة " جامعة الجزائر الاستعمارية" ..إن القارئ العادي المشارك في علم التاريخ ، يرى بوضوح الهوة التي تفصل نتائج بحوثهم التقليدية و تقييماتهم النهائية ..فمن حقه أن يطالبهم بأن يتحلوا على الأقل بالحذر الذي يتحلى به زملاؤهم و أحيانا هم أنفسهم عندما يتعلق الأمر بغير المغرب . لا ينكرون أن مصادرهم صعبة و غير واضحة .. النقوش الليبية مثلا ما زال اغلبها مغلقا إلى يومنا هذا ..و يبدو حسب القرائن أنها تكرر المعلومات الهزيلة نفسها (هل هي حقا هزيلة كما يدعي العروي ؟) أما النصوص الأدبية ، اليونانية أو اللاتينية فإنها مليئة بالألغاز و المعميات التي تحتمل تأويلات متناقضة و تكثر من ذكر الغرائب و المفارقات .." ألا ينطبق هذا الحكم أكثر على التاريخ الإسلامي المملوء بالادعاءات و التدليس كما ذكر ابن خلدون ؟. ".. ص 51 : خلاصة كامبس : " ..تجري اليوم في الجزائر ثورة صناعية شبيهة بالثورة التي غيرت وجه أوربا أثناء القرن التاسع عشر ، فيما يواصل رعاة الشاوية النفخ في الناي ..و تزيين الأواني بأشكال ترجع إلى آلاف السنين ، معتقدين أن مجتمعهم أزلي ، غير واعين أن عالمهم العتيق على وشك الانقراض" ..يريد المؤرخون الاستعماريون أن يسجنونا ، نحن المغاربة في المأزق التالي : اذا قصصتم أحداث التاريخ فإنكم تقصون في الحقيقة أعمال الغزاة الدخلاء على ارض المغرب أما إذا أردتم أن تتكلموا عن السكان الأصليين فلا يمكنكم أن تخرجوا من نطاق قبل و قبيل التاريخ ..اعتقد أن المأزق مصطنع و هذا هو احد أهداف هذا الكتاب ، كون المغرب تلقى الحضارة من الخارج فهذا آمر صحيح و غير استثنائي ..إن الدافع الحقيقي لموقف كامبس و زملائه هو رفض صورة الحضارة التي قبلها المغاربة عن طواعية و ينفي فكرة التاريخ من ماضي المغرب و إبقائه في ميدان قبيل التاريخ يظن هؤلاء أنهم سيقضون على تلك الصورة الخاصة (اي الصورة العربية الإسلامية) لأنهم يتحسرون على إخفاق صورة أخرى (الصورة الرومانية) .." نرد على العروي بالقول بان الحضارة الإسلامية لا ترقى أبدا لمستوى الحضارة الرومانية و أنها فقيرة من ناحية النظم التشريعية و القانونية و السياسية و الإنتاجية و الإدارية . و لذلك كانت الدولة الإسلامية تنهار في مدة أقصاها 120 سنة بينما استمرت الدولة الرومانية لقرون عدة. ان الحضارة الإسلامية في المغرب لا تختلف عن الحضارة المسيحية في أوربا من ناحية النوع و إن كانت أفضل منها في الدرجة إلا أن هذا لا يمنع من الإقرار بأن الحضارة الإسلامية حكمت على الإنسان المغربي بأن يحيا في عصور وسيطية ظلامية متخلفة كالتي عاشها الإنسان الأوربي في ظل حكم الكنيسة مع بعض الإلتماعات الفكرية في عصر الموحدين ليس إلا . لقد ظلت الدول المغاربية المتعاقبة خلال الفترة الإسلامية أسيرة الحروب الأهلية و المجاعات و الأوبئة و اللااستقرار و الإنتاجية المنخفضة . لذلك لا مانع عندنا من وصف الفترة الإسلامية بقبيل التاريخ كما جاء على لسان كامبس. " ..ص 52 : ..و في ختام هذا الفصل نلفت النظر إلى سلبية ثانية ناتجة عن تعميمات كامبس و رفاقه . يتصور هؤلاء أن تاريخ المغرب يسير على خط واحد تحت تأثير جبرية مادية قاهرة .." لا نختلف في الواقع مع هذا الطرح لأنه في نظرنا لم يستفد المغاربة شيئا من طردهم للاحتلال الروماني . فبعد حصولهم على استقلالهم و مساهمتهم الفعالة في تدمير روما بمشاركتهم القوية في هجوم الجيش الوندالي على روما فإنهم غرقوا في البداوة و الإنتاجية المنخفضة و لم يكتسبوا شيئا من نظم الحضارة الرومانية ، و غرقوا في نفس التخلف الذي وقعت فيه القبائل الجرمانية بعد تدميرها لروما .الفرق بيننا و بينها (المغاربة و القبائل الجرمانية) هو أن هذه الأخيرة شعرت بخطئها و كفرت عنه و استعادت الحضارة الرومانية و تبنتها و أحيتها و استلهمتها (عصر النهضة) لتنطلق من جديد تحت اسم الأمة الألمانية أو الفرنسية أو الانجليزية الخ ..أما نحن فمازلنا لم نشعر بعد بهذا الخطأ و لهذا مازلنا خارج التاريخ . "..ص 57 ..إن المؤرخ المعاصر يعتمد على الوثيقة المكتوبة ..فهو قارئ نهم و متسرع يتعود على ، أو يضطر إلى البحث عن تاريخ شعب ما في تاريخ شعب آخر . إذا لم يحذر ، إذا لم يجهد ليتحرر من المنظر الذي تفرضه عليه هذه العادة السيئة ، فإنه يحكي ، بدون ادنى شعور ، تاريخ الأجانب و هو يظن انه يحكي ماضي الأهالي . خاصة إذا كان تاريخ الأجانب ملحمة باهرة ، فيترك بالضرورة في ذهن القارئ الانطباع أن المغاربة أشخاص عارضون يمثلون في تلك الملحمة الجانب السلبي الذي تتبلور فيه أخطار ارض وعراء . جملة القول إن معظم الكتب التي تؤرخ للحقبة المذكورة تؤرخ في الواقع لروما و لروما وحدها .." كلام جميل ، و لكن العروي لا ينتبه إلى أن هذه المنهجية الحذرة و اليقظة يطبقها فقط على التاريخ الذي كتبه الرومان أما التاريخ الذي كتبه العرب –تاريخ بن عبد الحكم- فإنه لا يطبق عليه هذه المنهجية و يقبل به على الفور . هنا يكمن التضليل الذي يمارسه العروي و المتمثل في المنهجية النقدية الانتقائية التي تكون صارمة مع المؤرخ الغربي و متسامحة مع نظيره العربي. للإشارة فان ابن عبد الحكم هو أيضا أرخ للعرب وحدهم و هو أيضا حكم على البربر بالسلبية.
ننتقل الآن إلى مناقشة منهجية العروي فيما يخص تاريخنا الوسيط و كما سنلاحظ فإن العروي يقبل على الفور بما جاء في المصادر الإسلامية الخاصة بتاريخ المغرب دون أدنى اعتراض . فلنتابع معه إذن : "..ص 132..نظمت حملة كبرى قادها عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، والي مصر آنذاك . توقفت في طرابلس حيث التحق بها مجاهدون كثيرون ، ثم دخلت منطقة المرناق ، أي القسم الجنوبي من إفريقيا الرومانية . كان يحكم البلاد آنذاك البطريق غريغوار ، جرجير كما تقول النصوص العربية ، الذي كان قد انتهز عدم موافقة الكنيسة الإفريقية على اختيارات امبراطور القسطنطينية في ميدان العقيدة ليعلن عن استقلاله . تقدم جرجير لمبارزة الجيش العربي الذي قدره المؤرخون بعشرين ألف مقاتل . التقى الجمعان قرب سبيطلة (سفوتيلا) فهزم القائد البيزنطي و قتل . عندئذ تفرق العرب و شنوا الغارات في كل الجهات ..متحاشين على ما يبدو المدن الشمالية الحصينة ..فطلب الروم ، حسب الرواية العربية ، من الفاتحين مغادرة البلاد مقابل مكافأة مالية كبيرة ، فاستجاب العرب و غادروا البلاد ..كانت الأوضاع في إفريقيا (المنطقة الخاضعة لحكم البيزنطيين) قد تدهورت أثناء الثماني عشرة سنة السابقة بسبب الصراعات العقائدية .. " تعليقنا على هذا المقطع هو انه كيف يعقل ان ينتصر العرب و يتفرقوا في كل الجهات بدلا من تركيز هجومهم ؟ ثم ان هجومهم من الجهة الجنوبية و تحاشيهم الشمال يدل على بداوتهم الصحراوية و عجزهم عن اقتحام المناطق الجبلية ، كما أن استجابة العرب لفكرة المكافأة المالية دليل على عدم قدرتهم على فتح البلاد عسكريا .أما بخصوص تدهور الأوضاع في إفريقيا الشمالية فإن العكس هو الصحيح فحصول افريقية (تونس الحالية) على استقلالها في عهد جرجير معناه حصول كل من المغرب الأوسط و المغرب الأقصى على استقلالهما منذ زمن طويل بحكم البعد الجغرافي و بالتالي فإن النتيجة التي نخلص لها هي أن كلا من تونس و الجزائر و المغرب كانوا قد دخلوا طور التحرر و الاستقلال و بالتالي لا يمكن أن نقول أن أوضاع إفريقيا الشمالية قد تدهورت بل تحسنت . و نعود الى العروي : "..ص 124 ..كان عقبة بن نافع يعرف المغرب حيث شارك في غزوة عبد الله بن سعد و قاد الجيش الذي استولى سنة 42-662 على واحة غدامس . لذا لما عين على رأس المجاهدين كانت لديه خطة مدروسة محكمة . التحق بجنوب إفريقيا سنة 50-670 و لكي يعطي للوجود الإسلامي صفة دائمة طبق نصيحة عمر بن الخطاب عند تخطيط الكوفة ، فاختار وسط البلاد نجدا فسيحا و خط فيه مدينة القيراون. تم ذلك على الأرجح سنة 53-652. بعد ذلك لم يتجه شمالا ليحاصر المدن البيزنطية الحصينة ، بل اتجه شرقا و اخترق منطقة الهضاب المرتفعة..و هنا تتضارب الأخبار . هل دخل المغرب الأقصى أم لا . لا شك انه وصل إلى ناحية تلمسان ...فارتكب خطأ كبيرا و فرق جيشه..انحاز المجاهدون الى طرابلس في انتظار ان تهدأ فتنة عبد الله بن الزبير .." ملاحظاتنا على ما جاء في هذا المقطع هو كون عقبة بن نافع قد شيد مدينة القيراوان في مكان فسيح فلأن ذلك يناسب طبيعة العرب البدوية الصحراوية التي لم تعتد بعد سكنى المدن ثم أن العروي يقول أن عقبة تجنب المدن البيزنطية ، و سؤالنا هو عن أي بيزنطيين يتحدث اذا كانت تونس قد استقلت عن بيزنطة في عهد جرجير؟ ! ثم يقول أن عقبة اتجه شرقا بينما المفروض هو أن يتجه غربا لأنه أصلا قادم من الشرق و يضيف أن عقبة اخترق منطقة الهضاب المرتفعة بينما وفقا لمبدأ المطابقة الخلدوني فإن عرب الجزيرة لا يمكنهم اختراق هذه المنطقة لأنهم ألفوا الكثبان الرملية لا المرتفعات ثم نصل إلى حكاية الخطأ الكبير الذي ارتكبه عقبة بتفريق جيشه و كيف أن العروي يصدق هذه الرواية بكل سذاجة و تنطلي عليه ألاعيب الاسطوغرافيا المشرقية ، فقول ابن عبد الحكم المؤرخ المشرقي أن عقبة فرق جيشه هو حيلة منه لتبرير مقتله على يد كسيلة ، فالقائد العربي لا يهزم حسب متطلبات النرجسية العربية إلا إذا اخذ على حين غرة أو قاتل بمعزل عن جيشه.ثم نقف هنيهة مع مصطلحات العروي و نسجل باستغراب استخدامه لعبارات : " المجاهدون " و " استشهد عقبة " و نتساءل هل فعلا يلتزم العروي بشرط الحيادية و عدم إصدار أحكام القيمة . في الواقع نراه يعاني من استلاب نفسي فيصف غزاة بلاده ب " المجاهدين " و يضفي لقب الشهيد على قائدهم . استلاب مفهوم لأنه (العروي) واقع تحت سلطان الاسطوغرافيا المشرقية و إيديولوجيتها و ما كتابه هذا إلا محاولة مخلصة منه للدفاع عنها في وجه الاختراق الذي أحدثه المؤرخون الفرنسيون . نعود إلى العروي : ".. انحاز المجاهدون إلى طرابلس في انتظار أن تهدا فتنة عبد الله بن الزبير ..حاول زهير بن قيس البلوي أن يستعيد المبادرة فأحرز بعض النجاح . خرج منتصرا من معركة ممس سنة 67-686 حيث قتل كسيلة ثم دخل القيروان لكن البربر تجمعوا من جديد و حاصروا المسلمين ، فاضطر زهير إلى مغادرة البلاد و الالتحاق ببرقة حيث توفي .." من الملاحظات الغريبة أن العرب ينتصرون في معاركهم ضد البربر و لا يتقدمون إلى الأمام فيفتحون البلاد ، بل يتقهقرون إلى الوراء و يموت قوادهم بطريقة أو بأخرى . "..قام بعده حسان بن النعمان بمحاولة أعطت نتائج أفضل. استرجع القيروان سنة 72-691 ثم قصد قرطاج فدخلها عنوة في السنة التالية ، لكن يبدو أن البيزنطيين طرقوا من البحر في تاريخ لا نعرفه بالضبط بين 692 و 695 ..." كيف ستصل البحرية البيزنطية إلى تونس و نحن نعلم أنها انهزمت أمام المسلمين في معركة ذات الصواري و أنها فقدت سيطرتها على البحر الأبيض المتوسط بعد تأسيس معاوية بن ابي سفيان للبحرية الإسلامية . ثم ما هي هذه البحرية التي تترك الهجوم على سوريا او لبنان او مصر لتحاول استعادة منطقة بعيدة كتونس؟ !! "..حارب حسان الروم طويلا و انتصر مرارا عليهم ناحية بنزرت حتى ظهر عنصر جديد ، هو تجمع البربر تحت قيادة الكاهنة الاوراسية بتحالف مع جماعات بيزنطية مسلحة .حينذاك خانه الحظ في مواجهات دارت في منطقة باغاي و تبسة فقرر الالتحاق بطرابلس في انتظار ان يأتي المدد من دار الخلافة.." لا ينتبه العروي إلى أن المؤرخ العربي ابن عبد الحكم يرجع انتصارات البربر إلى العامل البيزنطي لأنه بساطة يغار منهم . إن هؤلاء " البيزنطيين " الذين يهزمون العرب في كل مرة على ارض المغرب هم بكل بساطة بربر محليون و إلا فكيف حقق العرب انتصاراتهم الحاسمة على البيزنطيين في الشام و مصر و تعثروا أمامهم كل هذا التعثر في ارض المغرب ؟. ينقد العروي المؤرخين الغربيين حينما يتناولون تاريخ المغرب .ينقدهم بشكل قاس تحت شعار الكتابة التاريخية المنهجية ، لكن هذه المنهجية تختفي عند تناوله لكتابات المؤرخين المسلمين رغم أنها تعاني من نفس العيوب التي الصقها بكتابات المؤرخين الغربيين و أهمها : التحيز و التزوير و الكذب . و رغم انه يذكر بأن المصادر العربية تبدأ بداية غامضة إلا انه لا يشكك فيها أبدا على عكس ما يفعله مع المصادر الإغريقية و الرومانية و الغربية . " ..ص139 ..تحدثنا الأخبار على الحروب قبل أي شيء آخر ، و كذلك الحروب تكاد تنحصر في منطقتين : الجزء الشرقي و الناحية الممتدة بين تلمسان و طنجة. أي في الجهات التي كانت محاور الفتح العربي . لماذا ؟ ..؟ أم أن لأن العرب كانوا يحاربون في السهول متحاشين التلال و الجبال الوعرة ؟ .." سؤالنا للعروي : هل العرب يتحاشون التلال المرتفعة أم يخترقونها لأنك سبق وذكرت في الصفحة 124 بان عقبة بن نافع اخترق الهضاب المرتفعة ؟ !! " ..ص142 ..لان القسم الأكبر من المغاربة ، منذ بداية القرن الخامس و ربما من قبل ، كان قد قطع الصلة بأي سلطة سياسية ، فالحروب التي ستدور رحاها طوال خمسين سنة ليست في الحقيقة سوى تتمة لحروب القرنين الخامس و السادس التي استهدفت كل حكم مركزي نظامي غير بربري يروم تجاوز ما أسميناه بالمخدع القرطاجي .." هذا دليل على ان منذ القرن 5 تأسست دولة مغربية مركزية قاومت جميع الهجومات الخارجية بما فيها هجومات العرب . "..ص 144 .. عين خلفاء بني أمية على المغرب ، بعد موسى بن نصير ، ثمانية ولاة .." أولا هؤلاء عينوا في القيروان و لم تتعد سلطتهم بلاد تونس . ثانيا كثرة التعيينات في مدة قصيرة تعني صعوبة ضبط المنطقة و شدة المقاومة و أن سلطة العرب حتى على تونس كانت ضعيفة و مضطربة بدليل مقتل العديد من الولاة على عكس ما كان عليه الحال في المشرق . ثم إن القول بوجود ولاية طنجة بقيادة عبيد الدين الحبحاب هو مجرد ادعاء لا تسنده أي آثار اركيولوجية . " ص 146 ..بعد سنة 124-741 لم تعد تحدثنا الأخبار إلا عن الأندلس و افريقية .." هذا دليل على التعتيم الممارس على المغرب و المقصود من طرف المؤرخين العرب المشارقة . " ص 148 ..من المحقق أن أكثر الخوارج حماسا أيام الحكم الأموي كانوا ينتسبون إلى الجزيرة و اليمامة و اليمن ، أي إلى مناطق كانت تغلب عليها البداوة و لا تكاد تعرف حياة حضرية .." هل فعلا اليمامة (البحرين حاليا) و اليمن هي مناطق تغلب عليها البداوة ؟ العكس هو الصحيح . "..ص 149 ..إذا تذكرنا ما كانوا يتميزون به من تقشف و قناعة و شورى ، بل ما آل إليه أمرهم في مجتمع مزاب مثلا ، جاز لنا أن نعكس مقالة غوتييه و نقول ... إن عقولهم كانت في أساسها تجارية حضرية شبيهة إلى حد مدهش بعقلية الكالفينيين .." يعترف العروي بعقلية الخوارج الحضرية دون يشعر بتناقضه بعد أن وصفهم بالبداوة ! " ..في اواخر القرن الثامن الميلادي فقط تحققت كل عوامل الاستقلال ، و ربما هذا هو السبب الذي جعل المغرب يعتنق الإسلام بصفة نهائية .." في رأينا فإن المغرب حقق استقلاله قبل مجئ العرب في القرن الخامس و كون دولة قومية من المغرب إلى الجزائر على اقل تقدير عاصمتها وليلي (كسيلة كان زعيما لقبيلة اوربة ) .اما القرن الثامن فيمكن اعتباره قرن تفكك هذه الدولة القومية إلى مجموعة إمارات و مع ذلك عجزت دولة الخلافة المشرقية (العباسية هذه المرة) عن احتلالها. "..ص 153.. تدل الوقائع منذ القرن الأول ق .م إلى القرن الثامن الميلادي على أن هدف البربر الوحيد كان إعادة بناء الممالك التي كونت في العهد القرطاجي الأول . من هذه الزاوية يمكن القول أنهم نجحوا في النهاية . الإشكال الوحيد ، و له أهميته ، هو أن العملية طالت أكثر من اللازم . و نتج عن هذا التأخير أن التنظيمات الوقائية ( الأسرة ، العشيرة ..) التي كانت في الأصل مؤقتة تجمدت و فقدت مع مر الأيام كل مرونة و ليونة .." في الواقع ، الذي حدث هو أن الدولة القومية للمغاربة التي تأسست منذ القرن الخامس تفككت الى دويلات صغيرة (الإمارات الإسلامية) ثم اجتاحتها القبائل الصنهاجية الصحراوية البدوية المرابطية ، ثم بعد ذلك القبائل المصمودية البدوية الجبلية ثم القبائل الزناتية البدوية بدورها ، مما حكم على البنية السياسية و الاجتماعية للمغرب بالتبدي و التقهقر و التخلف ، و إن كان هذا لا يمنع من استمرار وجود أشكال ديموقراطية لدى الامازيغ ربما ورثوها عن الرومان الى يومنا هذا ممثلة في : مجلس الأربعين أو اجماعة أو انفلاس . " ص 155.. واجب المؤرخ هو تفكيك آلية . و الآلية هنا هي ما يلي : أوقفت روما بالعنف تطور المغرب العضوي التلقائي لمدة طويلة جدا ، و لما استأنف المغاربة الحركة بعد انتظار دام قرونا كانت البنية الاجتماعية التي نتجت عن التطور المعاق قد تجمدت و اتصفت بصفة الديمومة – أي أصبحت تبدو و كأنها طبع مميز للشعب المغربي – لان كل تعثر لاحق كان يعيد لها شبابها الأول . ليس في هذا ما يشير إلى لعنة أو حتمية تاريخية . كان من الوارد أن تحتل روما المغرب إلى حدود نهر النيجر أو أن تجلو عنه بسرعة ، و في كلتا الحالتين كانت تتجه اتجاها مغايرا . لم تتخذ روما أيا من القرارين المذكورين فاضطر المغاربة ان ينتظروا قرونا قبل أن يتحركوا من جديد . هذا هو جوهر الأحداث و لا داعي إلى افتعال أسباب أخرى سوى الميل إلى تبرئة روما في كل حال .." في الواقع ، احتلال روما الطويل ليس مسؤولا عن إيقاف تطور المغاربة . بالعكس وجود روما على ارض المغرب كان كفيلا بتعليم المغاربة نظم الإدارة و السياسة و الاقتصاد . و هو الشيء الذي حصل في المغرب بعد الاحتلال الفرنسي . إن بلدا يقع تحت احتلال بلد أكثر تحضرا منه يجعله يتعلم منه كما حصل مع مصر المملوكية بعد قدوم نابليون ، و لهذا قال ابن خلدون بأن : المغلوب مبهور بغالبه . إن التخلف الذي صار عليه المغرب و جمود بنيته الاجتماعية و الفكرية يعود بالأساس الى سيطرة المغرب الصحراوي على مغرب الوسط و المغرب المفتوح بصعود قبائل صنهاجة الصحراوية ثم قبائل مصمودة الجبلية فقبائل زناتة البدوية الرعوية بمعنى أن الغلبة في الديالكتيك المغربي كانت للعنصر الرعوي غير المنتج (البتر) و ليس للعنصر الزراعي المنتج (البرنس) و ينضاف إلى ذلك حرق كتب الدول المغربية المنهارة حيث تم تدمير مكتبات الادارسة و من تلاهم مما افقد المغاربة ذاكرتهم و حرمهم من تكوين وعي تاريخي و جعلهم تحت رحمة الاسطوغرافيا المشرقية . المغاربة و روما : لقد اختار العروي الطريق السهل ، طريق صم الآذان و التعامي عن الإشكاليات، و لذلك فقد قررنا متابعة المسير و مناقشة أطروحات المؤرخين الكولونياليين ، و أن نرد عليهم فيما يخص رفض المغاربة للرومنة و اللغة اللاتينية و المسيحية و اعتناق الثقافة المشرقية السامية (العربية و الاسلام) بالقول بان الأوربيين هم بدورهم اعتنقوا ثقافة مشرقية ممثلة في المسيحية كما أنهم هم أيضا تخلوا عن اللاتينية إبان نهضتهم . إذن لا يوجد تمايز بيننا و بينهم في هاتين النقطتين لكن التمايز الحقيقي الذي يفصلنا عنهم يتمثل في كوننا نحن أيضا اشتركنا مع شعوب دول أوربا الغربية في تدمير الدولة الرومانية غير أن هذه الشعوب كفرت عن ذنبها هذا أما نحن فلا . فشعوب النهضة الأوربية (باستثناء ايطاليا) هي نفس الشعوب التي عانت الويلات من الدولة الرومانية و التي انتقمت منها و دمرتها و نفس الشيء ينطبق على المغاربة الذين بدورهم خربوا روما بمساهمتهم الكثيفة و النشطة في الجيش الوندالي المقتحم لروما . لكن شعوب أوربا الغربية (القبائل الجرمانية) نهضت بوصولها الى مرحلة الوعي التاريخي الذي هو في الواقع وعي مزدوج : - وعي أول تمثل في كون محاربة روما لا يعني محاربة حضارتها . فعدم اعتماد انظمتها الادارية و المالية و الإنتاجية و الديموقراطية و التشريعية و القانونية أغرقها في الظلام الدامس ، لذلك اقتنعت هذه الشعوب الجرمانية البربرية بوجوب اعتماد النظام الحضاري الروماني من إدارة و تشريعات و قانون و ديموقراطية و إنتاج منظم الخ .. - وعي ثان اعتبر أن اعتماد النظام الحضاري الروماني مسألة غير كافية . فهذا النظام و إن دام 10 قرون و هي مدة طويلة جدا فإنه مع ذلك انهار بسبب خطأ ارتكبه و هو اعتماده على نمط الإنتاج العبودي لذلك قامت هذه الشعوب الجرمانية بإصلاحه و تعويضه بالنظام الرأسمالي القائم على تقسيم العمل الحر . و بهذين الوعيين التاريخيين المتكاملين ضمنت الشعوب الجرمانية انطلاقتها الحضارية الصاروخية ممثلة في في نهضتها الحديثة و انتقالها من البربرية الى الحضارة . و قد استلزم هذا الصعود الصاروخي للأمم الجرمانية التخلص من ثقافتها الشرقية (المسيحية) او جعلها مسايرة للدولة الرومانية (الإصلاح الديني) و استلزم كذلك التخلص من اللغة اللاتينية و تعويضها باللهجات المحلية تحريرا للعقل الجرماني . إذن يمكن القول أن الحداثة الأوربية هي حداثة انتقائية واعية قامت على التخلص من اللغة اللاتينية (ثقافة رومانية) و المسيحية (ثقافة مسيحية) و اعتماد الأنظمة الادراية الرومانية مع إصلاح نمطها الإنتاجي . و أما فيما يخص المغاربة فإنهم يشتركون مع القبائل الجرمانية في " فضيلة تدمير روما " ، كما أن اعتناق المغاربة للإسلام لا يختلف عن اعتناق القرون الجرمان للمسيحية لهذا فكلاهما غرق في ظلام القرون الوسطى و التاريخ الدائري ، و خارج اي نرجسية خادعة لا يسعنا إلا أن نقول أن المغاربة لم يستفيدوا شيئا من الإسلام على المستوى الحضاري . فلم يتعد عمر الدولة المغربية الإسلامية 120 سنة ، كما أن التاريخ المغربي الوسيطي هو تاريخ حروب أهلية و بداوة و إنتاجية ضعيفة و أوبئة و مجاعات ، فالدولة الإسلامية هي دولة خواء إداري حكم عليها بالانهيار المستمر و عدم التراكم التاريخي . لهذا نتفق مع المؤرخين الكولونياليين في كون التاريخ المغربي هو تاريخ دائري بسبب الفراغ المؤسساتي الذي كانت عليه الدولة الاسلامية . و لهذا إذا قدر لنا كمؤرخين أن نقود المغاربة إلى الوعي التاريخي جاز لنا أن نملي عليهم الأفكار التالية : - مقاومة روما لا تعني مقاومة حضارتها . - ضمان الديمومة للدولة المغربية يستلزم حقنها بالمؤسسات الإدارية الرومانية . - اشتراك المغاربة مع الجرمان في ملحمة روما تدمير روما يستلزم عليهم ان يشاركوهم في ملحمة بعثها من جديد . - اللغة العربية هي لاتينية أخرى يجب التخلي عنها و تعويضها بلهجة محلية. - عانى المغاربة (الامازيغ البرانس) حضاريا من هجمات البدو (الامازيغ البتر) أكثر مما عانوا من الاحتلال الروماني . لهذا فتفتح زهرة التاريخ المغربي يستلزم ضبط المجال الصحراوي وقبائله البدوية . - الانتصار لكل ما هو حضري زراعي ضد ما هو بدوي رعوي من اهتمام بالزراعة و تشييد المدن و نشر التعليم و الانتقال من إسلام البداوة (الاسلام السني) إلى إسلام الزراعة (الاسلام المعتزلي) . - ربط وجدان المغاربة بالتراث الإغريقي الروماني و تحريره من سيطرة التراث العباسي . - التحول من التباهي بالانتصارات الحربية المتضمنة في تاريخنا الوسيطي إلى التباهي بالانتصارات الإنتاجية . ختاما نقول بأن النهضة المغربية مستقبلا هي الحلقة المتبقية من مسلسل النهضة الغربية . فكلا المغاربة و الجرمان دمرا روما و كلاهما يتحملان مسؤولية إحيائها و حمايتها من عوادي الزمن .
يوسف رزيــــــــــــن
#يوسف_رزين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في كتاب : شدو الربابة بأحول مجتمع الصحابة ،خليل عبد ال
...
-
كفاح بن بركة
-
النظام الدولي : النشأة و التطور
-
الحركة الوهابية النشأة و التطور و المآل
-
الجزائر الفرنسية ..حكاية تطور مجهض
-
عبادة الماء في المغارب القديمة
-
سوسيولوجيا الأعيان
-
حيرة شيخ - قراءة في مقال لعبد السلام ياسين -
-
أحداث 23 مارس 1965
-
الكتابة على الجسد..بحث في الدلالات
-
وداعا نابليون
-
أنثروبولوجيا الحرام
-
تاريخ المطبخ الفرنسي
-
شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة
-
الحرية الجنسية في الإسلام
-
نشأة علم التاريخ عند العرب
-
فلسفة التاريخ بين هيغل و ماركس
-
تاجر البندقية .. إعادة تفكيك
-
إشكالات بخصوص التاريخ الإسلامي
-
أنثربولوجيا الأضحية ..محاولة للفهم
المزيد.....
-
صور سريالية لأغرب -فنادق الحب- في اليابان
-
-حزب الله-: اشتبك مقاتلونا صباحا مع قوة إسرائيلية من مسافة ق
...
-
-كتائب القسام- تعلن استهداف قوة مشاة إسرائيلية وناقلة جند جن
...
-
الجزائر والجماعات المتشددة.. هاجس أمني في الداخل وتهديد إقلي
...
-
كييف تكشف عن تعرضها لهجمات بصواريخ باليستية روسية ثلثها أسلح
...
-
جمال كريمي بنشقرون : ظاهرة غياب البرلمانيين مسيئة لصورة المؤ
...
-
-تدمير ميركافا واشتباك وإيقاع قتلى وجرحى-..-حزب الله- ينفذ 1
...
-
مصدر: مقتل 3 مقاتلين في القوات الرديفة للجيش السوري بضربات أ
...
-
مصر تكشف تطورات أعمال الربط الكهربائي مع السعودية
-
أطعمة ومشروبات خطيرة على تلاميذ المدارس
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|