أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - العمراني عمر - التطور المفاهيمي للتنمية: من التنمية إلى ما بعد التنمية















المزيد.....



التطور المفاهيمي للتنمية: من التنمية إلى ما بعد التنمية


العمراني عمر

الحوار المتمدن-العدد: 4657 - 2014 / 12 / 9 - 22:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مفهوم التنمية العام
تقديم:
اعتبر ناصر عارف مفهوم التنمية من أهم المفاهيم العالمية في هذا العصر، حيث أطلق على عمليات تأسيس نظم اقتصادية وسياسية متماسكة بما يسمى عملية التنمية . فيما أحال جيلبير ريست ظهوره لأول مرة على الخطاب المؤسس لرئيس الولايات المتحدة الأمريكي هاري ترومان، الذي ألقاه يوم: "20 يناير 1949" عن "حالة الأمة" الذي تحدث فيه عن استراتيجية لدعم الدول المتخلفة ماديا وتقنيا لتجاوز حالة التخلف. قبل هذا التاريخ سادت على الساحة العلمية مجموعة من المفاهيم ذات دلالات متعددة، لكنها غالبا ما تكون مترابطة ومتداخلة، يمكن إحالتها على مفهوم التنمية: كالتقدم والتطور والنمو والتجديد والتصنيع والنماء والارتقاء... جل هذه الاصطلاحات لها خاصيات وسمات مستوحاة من نظرية التطور الطبيعي.
-;---;-- فما المقصود بنظرية التطور الطبيعي؟
-;---;-- وما علاقتها بمفهوم التنمية؟
-;---;-- وما مفهوم التطور والتقدم
دلالات مفهوم التنمية الكلاسيكي:
تقوم نظرية التطور الطبيعي حسب الباحثة الكندية سوزان ترومبلي (Suzanne Trembley) على مبدأ الغائية، وينظر إليها كسيرورة لا متناهية، هدفها تحقيق التراكم وبلوغ التقدم، هذه الخاصيات تمثل دلالات التنمية، ومن تم صار مفهوم التنمية كسيرورة للتغيير لا متناهي، له فعل تراكمي وغاية معينة يراد تحقيقها. وفي هذا الصدد، يرى جيلبيرت ريست أن التنمية لها علاقة بالعملية التي تدمج مفهوم التغيير ضمن سيرورة التطور الطبيعي، مما يسهل لعملية التنمية الانتقال من سيرورة التطور الطبيعي إلى محاولة لتحقيق التغير الاجتماعي؛ والنتيجة صار كل من مفهوم التطور والتغير الاجتماعي من خاصيات ودلالات عملية التنمية؛ وانتهى مفهوم التنمية إلى اعتباره عملية للتغير لا متناهي، له فعل تراكمي وغاية يجرى تحقيقها، وفي نفس التوجه لم تعد عملية التنمية لا متناهية، بل صار ضرورة حتمية وسيرورة للتطور الطبيعي هدفها تحقيق التغير الاجتماعي. هذا الطرح دفع جيلبيرت ريست (1996) إلى ربط التنمية كعملية بمفهوم الاعتقاد، مما أرغم سوزان تروميلي (1990) إلى الاعتراف بصعوبة تحديد وتعريف مفهوم التنمية، لكونه مفهوم مركب ومطاطي ينطوي على مجموعة من المعاني والدلالات، بعضها نظري وآخر إيديولوجي حسب (Serge la touche,1990)، كما يرتبط بالنظرية الاقتصادية(سوزان ترومبلي,1999)... وهذا ما دفع عبد الرحيم العطري إلى اعتبار الكل صار منشغل بها، والكل منهجس بالإفادة من مشاريعها وتدخلاتها، لكن بالرغم من حضورها هنا، تظل بعيدة عن التدقيق المفاهيمي، إنها بلا معنى في حالات التوظيف الأجوف، كما تصير مجرد خطاب فضفاض في سياقات الشرعية وامتصاص الغضب . من جهة أخرى، من أجل الكشف عن دلالات التنمية، نرى من الأهمية بمكان تحديد بعض المفاهيم الكلاسيكية من مثل: مفهوم التطور ومفهوم التقدم، اللذان لا يختلفان من حيث المعنى والخاصيات والأهداف عن مفهوم التنمية؛ فما مفهوم التطور؟ وما مفهوم التقدم؟
مفهوم التطور ومفهوم التقدم:
هيمن كل من مفهوم التطور ومفهوم التقدم على فكر الفلاسفة ورواد السوسيولوجيا في القرن التاسع عشر (19)، الذين انشغلوا ببناء قوانين ونظريات تفسر على ضوئها طبيعة وعوامل ومنحى التغيرات والتحولات التي عرفتها البشرية عموما، والمجتمعات الغربية والأوروبية تحديدا.
اعتبر السوسيولوجي المغربي محمد ياقين مفهوم التقدم ينحو في الغالب إلى التطور والارتقاء نحو الأفضل، يهم هذا تطور النظم الاجتماعية ككل في اتجاه تحسين شروط وجودها وآليات تكوينها واشتغالها. أما التطور، فقد اعتبره لويس مورغان مجرد تعاقب لمجموعة من المراحل أرقاها مرحلة الحضارة، في حين أحال سبنسر تطور تاريخ المجتمعات على تتالي وتعاقب مراحل خاضعة لقانون كوني شبيه بذلك الذي يخضع له تطور الكائنات والظواهر العضوية. لكن مع منتصف القرن العشرين عرف مفهوم التقدم تراجعا، وغدا كل من التغير والتحول مفهومان مركزيان بالمقاربات السوسيولوجية المعاصرة؛ حيث لم يعد ينظر إلى التقدم وفق تصور خطي دو منحى تصاعدي لا متناهي, وفي هذا الصدد، أكد مارسل دول دوبال أن التقدم الجماعي والفردي, المجتمعي والشخصي، صار صيرورة دياليكتيكية تتخللها لحظات من الخلل في التنظيم وإعادة التنظيم, النظام والاضطراب، الحركة والسكون، الانفجار والسيطرة على الأوضاع... وعلى نفس المنوال حاول فرانسيسكو بارالونا تحديد مفهوم التقدم اعتمادا على مؤشرات ومعايير تهم مستويات متعددة: اقتصادية, اجتماعية, سياسية، تقنية... مثلا، اقترح مؤشرات لتحديد وقياس التقدم: كالحرية، العدالة، النظام, الصحة, الثروة, المعرفة المكانة، والمحافظة على البيئة ... وللإشارة، فجل هذه المؤشرات لها علاقة بمفهوم التنمية حرية الذي صاغه عالم الاقتصاد أمارتيا صن تحت عنوان الدور الأداتي للتنمية .
أما بالنسبة لمفهوم التطور، فقد أشار جورج بلاندي أن الاتجاهات التطورية المحدثة (الليبرالية الجديدة) دحضت أفكار ونظريات التطورية الكلاسيكية، وذلك من خلال الرفض الكلي لفلسفة التاريخ ولإيديولوجية التقدم اللامتناهي، والبحث عن الاتجاهات العامة الكلية والعالمية لمفهوم النمو الاجتماعي، والتحفظ إزاء النظرية الخطية التصاعدية للتطور . في المقابل لازال يهتم الباحث النيو-ماركسي سمير أمين بإشكالية التطور، ومنحها موقعا أكثر مركزية ضمن أبحاثه في مجال الاقتصاد السياسي؛ حيث اعتبر التطور ليس مرادفا " للحاق" كما ارتأت بذلك النظرية التطورية المحدثة تحت عنوان "المراحل الخمس" لوالت روستو، بل مجرد مفهوم نقدي للرأسمالية، يفترض أن يكون مشروعا اجتماعيا متجدد له هدف مزدوج:
-;---;-- تحرير الإنسان من الاستلاب الاقتصادي "الاقتصادوي".
-;---;-- إزالة إرث آليات الاستقطاب على الصعيد العالمي.
ويضيف الكاتب أنه لا يمكن لهذا المشروع المجتمعي إلا أن يكون عالميا؛ أي يصبح تدريجيا مشروع الإنسانية بأسرها، مشروع شعوب المركز كما هو مشروع أطراف العالم .
خلاصة القول: نستنتج أن سمير أمين لازال يبالي بنظريته (المركز والأطراف) والتي أعاد تعديلها أو ترميمها ضمن عالم موحد تحت عنوان "المشروع الإنساني الموحد"، لكن الأزمة الاقتصادية-المالية الثانية سنة 2008 دحض أطروحة النظام العالمي الجديد أو نظرية أحادية القطبية، وأفرزت لنا عالما متعدد الأقطاب، المتمثل في قوة ناشئة لها وزنها الاقتصادي والإيديولوجي: كالصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا... قادرة على منازعة القوى التقليدية الغربية خاصة الأنجلو-سكسونية. كانت هذه نظرة موجزة عن مفهوم التنمية الكلاسيكي (التقدم والتطور)، فماذا عن مفهوم التنمية الحديث؟ وما دلالاته وخاصياته؟
الفقرة الثانية: براديغم التنمية(الحديث):
تقديم:
ما من شك أن التقرير الأممي حول التنمية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 1990 حقق نقلة نوعية للمشاريع التنموية وأهدافها الاستراتيجية، حينما أعطى الأولوية لانتظارات وحاجيات الأفراد والجماعات الإنسانية بدل المشاريع ذات النزعة الاقتصادية لفائدة فئة قليلة من أصحاب المصالح المادية-النفعية. قبل هذا التاريخ، اختزل الساسة والاقتصاديون مفهوم التنمية العامة حسب سمير أمين في بعدها الاقتصادوي؛ أي التنمية الاقتصادية أو النمو الاقتصادي للدلالة على حدوث تطور في المجتمع، اعتمادا على مؤشري "التقدم المادي" أو "التقدم الاقتصادي" (ناصر عارف)، ومعيار واحد يرتبط "بالدخل"؛ أي الدخول الشخصية أو الناتج الداخلي الخام أو الناتج الوطني الخام، ومعدلات الإنفاق أو التصنيع أو التقدم التقني أو التحديث الاجتماعي... من دون الجوانب الأخرى الحياتية النوعية؛ كالحرية بمعناها الواسع، خاصة أدوات أو قدرات الحرية من: تعليم وصحة وحرية للتعبير والحصول على المعلومات وفرص اختيار الحياة ... والتي عنونها أمارتيا صن باسم الدور الأداتي للتنمية.
-;---;-- فما التنمية بمفهومها الحديث؟
-;---;-- كيف انبثق هذا المفهوم؟ وكيف تطور؟
-;---;-- وما هي أهم اتجاهاته النظرية؟
-;---;-- وما هي أهم مرتكزاته ودلالاته وأهدافه؟
-;---;-- وهل حققت آمال الباحثين ورواد برامج ومشاريع التنمية؟
انبثاق مفهوم التنمية:
بعد الحرب العالمية الثانية وما أفرزته نتائجها من تغيرات وتحولات على جميع الأصعدة: السياسية والعسكرية والاقتصادية والجغرافية... وبفعل آليات الاستقطاب الدولية بين محورين إيديولوجيين متقابلين متنافسين المعسكر الشرقي-الشيوعي-الإشتراكي والمعسكر الغربي-الرأسمالي– الليبرالي، كان من نتائج ذلك التوافق على تقسيم دولي للعمل والسلطة والنفوذ والموارد المادية والبشرية والرمزية. في تلك الآونة، وفي ظل أوضاع قائمة على صراع النفوذ وحرب باردة أساسها التنافس الإديولوجي والسباق نحو التسلح، مقابل تراجع منظور الإمبريالية-الاستعمارية-العسكرية، ارتأت الولايات المتحدة الأمريكية القطب القيادي للتنظيمات الرأسمالية دعم حلفائها بأوروبا الغربية المدمرة من خلال مشروع مارشال، وتقديم الدعم لهيئة الأمم المتحدة، ومساعدة الدول المستقلة من الاستعمار ماديا وتقنيا؛ حيث كان الغرض من ابتداع مفهوم التنمية: "تنمية المجتمعات المتخلفة المسالمة عبر تعميم المساعدات التقنية لتشمل دول جديدية حليفة بعدما كانت تستفيد منه آنذاك فقط بعض دول أمريكا اللاتينية". لهذا تضمن خطاب الرئيس الأمريكي سنة 1949 هاري ترومان برنامج جديد وطموح يسعى في نفس الوقت إلى تكريس تفوق أمريكا العلمي وتقدمها الصناعي, وكذلك يهدف إلى تنمية المناطق المتخلفة (الدول المتخلفة) Sous-développée، وبالتالي تحسين ظروف عيشها... من المفارقات أن استخدام مصطلح التخلف في خطاب الرئيس الأمريكي ساهم في انبثاق مفهوم التنمية, فحسب Wolf Gang Suchs أن صيغة المناطق المتخلفة انطلاقا من سنة 1949, أضحى ينعت بها ما سماه لاحقا سمير أمين ب(دول المحيط), وهذا يعني نهاية اختلاف الشعوب لدى تلك البلدان المتقدمة ؛ أي أن أكثر من ملياري من ساكنة العالم ومن دون علمهم في غالب الأحيان سيتم تسميتهم بالدول المتخلفة, ولن يتم الاعتراف بهم رسميا إلا كما يراه الآخر دول المحيط . هكذا غدت عملية التغلب على ظاهرة التخلف أو التخفيف من حدته مرادفة لمصطلح التنمية، وصار لزاما على الدول المختلفة أن تقتاد بالدول المتقدمة، وفق النظرية التطورية المحدثة لوالت روستو صاحب المراحل الخمس خاصة، عبر سلك نفس السبل التي حققت نمو وتطور هذه الأخيرة؛ أي عبر نهج استراتيجية اللحاق التي أشار إليها منظرو النيوماركسية فما مدلولات وخصائص مفهوم التنمية بعد الحرب العالمية الثانية؟
تنميط مفهوم التنمية:
في محاولة لرسم مراحل تطور مفهوم التنمية نشير إلى بعض الإجتهادات المهتمة بهذا الشأن, حيث وضع الباحث إدريس ولد القابلة تصنيفا لمراحل تطور مفهوم التنمية, وفقا لمعايير وأسس لها علاقة بالسياقات التاريخية التي أنتجته, والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئة التي أثرت في سيرورة تشكيله وتعديله وتجديده.




الجدول رقم:(1) تصنيفات أو أنماط مفهوم التنمية.
تصنيف لتطور مستويات مفهوم التنمية تصنيف لتطور أبعاد مفهوم التنمية تصنيف لتطور مجلات مفهوم التنمية
مفهوم التنمية (التنمية الاقتصادية). ما قبل مفهوم التنمية. التنمية من تحت.
مفهوم التنمية البشرية. مفهوم التنمية الحديث. التنمية من فوق.
مفهوم التنمية البشرية المستدامة. مفهوم ما بعد التنمية. التنمية من الخارج
مفهوم التنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة. التنمية من الداخل

مفهوم التنمية والاتجاهات الإيديولوجية الحديثة:
عقب الحرب العالمية الثانية، احتكر التفكير في قضية التنمية والتخلف (التنمية في بعدها الاقتصادي) تلك التيارات المستمدة من علم الاقتصاد السياسي بفرعيه الرأسمالي والاشتراكي ، هذه الفترة شهدت اهتماما ملحوظا من طرف علماء الاقتصاد والاجتماع على الخصوص بظاهرة التخلف والتنمية, وظهرت بطبيعة الحال عدة اتجاهات نظرية.
مفهوم التنمية لدى المعسكر الاشتراكي-الماركسي:
يحيلنا مفهوم التنمية (التنمية في بعدها الاقتصادي) لدى الفكر الاشتراكي-الماركسي بناءا على قوتها الدافعة على مفهوم التحول الهيكلي الذي يتمحور حول القطاع الصناعي، خاصة التطور الصناعي والتكنولوجي، انطلاقا من مفهوم تكرار الإنتاج الموسع، والتركيز على الدور الأساسي لعملية تراكم رأس المال وتعظيم الادخار، وتوسع نطاق الاستثمارات المنتجة. أما آلية تحقيق التنمية بهذا المعنى, فإنها ترتكز بالأساس على التخطيط الوطني الشامل ذي الطابع المركزي, الذي يستخدم "الخطة" كأداة تكاملية ملزمة لتحقيق أهداف التحول الهيكلي-التصنيعي، وما يرتبط به من سياق اجتماعي, أو السيطرة العامة على أدوات الإنتاج(قطاع الدولة، والملكية الجماعية، والتعاونيات) . لكن بعد حلول عهد العولمة، تراجع الفكر الماركسي-الشيوعي مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وانفتاح الصين على اقتصاد السوق، وانحصر تطبيق الماركسية فقط في بلدان محدودة القوة والنفوذ: ككوريا الشمالية وكوبا... أما سبب انهيار المنظومة الشيوعية؛ فقد فسرها سمير أمين في عبارة واحدة: " أن النظام السوفيتي على الخصوص لم يتمكن من الانتقال إلى مرحلة التراكم المكثف الجديدة، وتأخر بالتالي عن الثورة الصناعية الثالثة(الثورة المعلوماتية واقتصاد المعرفة) التي انتهى بها القرن العشرون. أما الأسباب الجوهرية لهذا الفشل حسب نفس الباحث، فتبقى عديدة أهمها "العامل السياسي"، حيث تحدث عن الارتداد المضاد للديمقراطية لدى السلطات السوفيتية التي وصفها "بالرأسمالية بدون رأسماليين"، التي لم تنجح في تدخيل هذه الضرورة الأساسية للتقدم نحو الاشتراكية؛ وخلص سمير أمين إلى نتيجة مفادها: "أن الاشتراكية إما أن تكون ديمقراطية أو لا تكون بالأساس، ذلك هو درس القطيعة الأولى مع الرأسمالية" .
مفهوم التنمية لدى المعسكر الغربي-الرأسمالي:
منذ منتصف القرن العشرين، برزت دراسات وأبحاث نظرية وإمبريقية متعددة في مجال الاقتصاد والاجتماع والجغرافية... شكلت اتجاهات مختلفة, لكنها في أغلب الأحيان مترابطة ومتداخلة، منها على الخصوص: نظرية والت روستو، نظرية جوزيف شومبتر، نظرية لينشتين، نظرية الدفعة القوية، نظرية النمو المتوازن، نظرية النمو غير متوازن، النظرية الكنزية والنظرية التطورية المحدثة... جل هذه الاتجاهات إضافة إلى أخرى حاولت مقاربة الواقع على نحو معين، رغم سيادة شبه اتفاق بين علماء الاجتماع خاصة، أن كل الاتجاهات السوسيولوجية انطلقت بشكل أو بآخر، إما من الثرات الماركسي وإما من الثرات الفيبيري ، وفي هذا الشأن، صنف السيد محمد الحسيني في دراسة حول التنمية الاتجاهات السوسيولوجية الحديثة في التنمية إلى ست اتجاهات رئيسية والتي سنأتي على ذكرها لاحقا وهي:
-;---;-- الاتجاه التطوري المحدث( اتجاه الليبرالية الجديدة).
-;---;-- اتجاه النماذج أو المؤشرات(الإحصائية).
-;---;-- الاتجاه السيكولوجي أو السلوكي.
-;---;-- الاتجاه الانتشاري.
-;---;-- اتجاه المكانة الدولية .
-;---;-- الاتجاه الماركسي المحدث أو نيوماركسي .
الفقرة الثانية: التنمية وتطور بناءها النظري-المفاهيمي
تقديم:
ذكر الاقتصادي محمد نجيب بوليف أن المعروف لدى المختصين في دراسة تقدم الأمم ورفاهتها ومستوى معيشتها أن المؤشرات التي استعملت منذ بداية القرن العشرين وإلى أواسط الثمانينات تعلقت في عمومها بالمجال الاقتصادي، بل لم يكن فيها كثير من الضبط اللازم لتحديد التقدم الاقتصادي الحقيقي ؛ ويقصد هنا الكاتب مفاهيم التقدم والتطور والنمو والتجديد... إضافة إلى التنمية التي بقيت تتضمن أبعاد اقتصادية أكثر منها إنسانية-اجتماعية، والتي هدفت حسب ناصر عارف إلى إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين، بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر، بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفرداه؛ بمعنى زيادة قدرة المجتمع على الاستجابة للحاجيات الأساسية المتزايدة للإنسان، ودعمه بالصورة التي تكفل زيادة إشباع تلك الحاجات عن طريق الترشيد المستمر لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة وحسن توزيع عائد ذلك الاستغلال، فما المقصود بالتنمية الاقتصادية؟
المرحلة الأولى: مفهوم التنمية (التنمية الاقتصادية):
تعريف مفهوم التنمية الاقتصادية: يشمل مفهوم التنمية في بعده الاقتصادي مفهوم النمو الذي يعني الزيادة الكمية لكل من الدخل القومي والناتج القومي، وفي هذا الصدد، عرف الاقتصادي S.Kuznets النمو الاقتصادي فيكتابه النمو والهيكل الاقتصادي كـما يلي: "يعتبر النمو أساساً ظاهرة كمية، وبالتالي يمكن تعريفه بالنسبة لبلد ما:"بالزيادة المستمرة للسكان والناتج الفردي"، في المقابل يميز جوزيف شومبتر بين كل من التنمية الاقتصادية التي تعني تحقيق تغيرات جوهرية وتكنولوجية واجتماعية وسياسية، بالإضافة إلى تغيرات في الاقتصاد، بينما يمكن الاستدلال على النمو الاقتصادي في حجم ارتفاع نصيب الفرد من الدخل القومي خلال الدورة الاقتصادية للموارد المتاحة. يرتبط النمو بصفة عامة بحجم الإنتاج الكلي الخام والذي يعني: مجموع السلع والخدمات التي تم الحصول عليها خلال فترة زمنية محددة، ومن تم ينطوي عل الزيادة في الإنتاج، وذو صبغة تدريجية-تراكمية، وغالبا ما تكون عملية النمو بطيئة، وقد يتحقق النمو دون تحقيق التنمية. من ناحية أخرى غالبا ما كان ينظر لاستراتيجية التنمية الاقتصادية كنموذج مثالي ومشروع جاهز للتطبيق أو كما ذكرت سوزان ترومبلي أنه وصفة جاهزة للاستعمال "Prêt-à-porter"، مع إتباع منهجية التطبيق المقترحة من طرف الدول المتقدمة (الغربية-الرأسمالية) من أجل الخروج من غياهب التخلف، وبلوغ مستوى عال من التنمية المنشودة؛ أي أن حالة التنمية التي ينبغي للدول المتخلفة حسب تعبير الرئيس الأمريكي هاري ترومان(1949) التطلع إليها مرادفة لنمط الموجود في البلدان المتقدمة، والذي دعاه والت روستو بمجتمع الاستهلاك الجماهيري المرتفع، ولكي يبلغ أي مجتمع متخلف هذه المرحلة، عليه أن يمر بمجموعة من المراحل (المراحل الخمس) إذا ما أراد تحقيق التنمية المنشودة، والتنمية والتخلف بهذا المعنى يفهمان بشكل متعسف؛ إذ التنمية في نظر أنصار الإتجاه التطوريتتبع نمطا واحدا في كل المجتمعات، والدول المتخلفة تعتبر دول ما تزال متأخرة فقط عن ركب التنمية، حيث مستقبل هذه الدول يشبه حاضر الدول المتقدمة الآن، من هنا يتبين أن نظرية روستو تعاني من غياب المعرفة بتاريخ الدول المتقدمة والمتخلفة على السواء، وطبيعة العلاقات التاريخية بينهما، مع العلم أنه ليس هناك دولة حققت تنميتها باستعانة بمراحل التطور الاقتصادي الخمس لولت روستو الذي ألح على الدور الحاسم الذي تقوم به الدولة في عملية التنمية نظرا لما تملكه من إمكانيات، بينما تغاضى عن دور الجماهير في التنمية، وألغى الدور التاريخي للاستعمار في تكريس الوضعية المتخلفة التي عاشتها تلك البلدان.
على نفس المنوال سعى اتجاه النماذج أو المؤشرات الإحصائية إلى تحديد مفهوم التنمية وفقا لمؤشرات كمية منها: متوسط الدخل الفردي؛ نسبة السكان الذين يعملون في الزراعة؛ نسبة الأمية؛ النسبة المئوية للسكان الحضريين؛ عدد الأطباء والمستشفيات لكل 100ألف نسمة من السكان... الحقيقة أن هذه المؤشرات قد تعكس بعض مظاهر التقدم، ولكنها غير كافية لتحديد مفهوم التنمية . كذلك الشأن بالنسبة للاتجاه الانتشاري (الاتجاه الثقافوي) الذي يرى أن السبيل الوحيد لتنمية المجتمعات المتخلفة يكمن في مدى انتقال العناصر الثقافية السائدة في المجتمعات المتقدمة إلى المجتمعات التي تعاني من التخلف والفقر، وهذا يعنى فيما يعني حسب عبد السلام فراعي أن السبيل الوحيد لتنمية المجتمعات المتخلفة يجب أن تشهد عملية مثاقفة إذا ما أرادت تحقيق التنمية (...) ويلخص مانتج ناش توجهات الاتجاه الانتشاري قائلا بأنه يقوم على فكرة المثاقفة Acculturation بوصفها طريقا أو أسلوبا للتنمية، فالغرب يتولى نشر ونقل المعرفة والمهارات والتنظيمات والقيم والتكنولوجيا ورؤوس الأموال إلى الأمم الفقيرة حتى تستطيع النهوض بمجتمعاتها وثقافاتها ، في المقابل، تستند جل هذه التصورات لفهم الاتجاه الانتشاري لعملية الانتشار ذاتها بوصفها عملية اقتصادية وسياسية محايدة، وفي ذلك تغطية على الخلفيات السياسية والإيديولوجية التي تنبني عليها عملية الانتشار، وإغفال الدور الذي لعبه الاستعمار في تشكيل البناء الاجتماعي في الدول المتخلفة، وتجاهل لآليات التبادل اللامتكافئ الذي يسود العلاقات الاقتصادية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة . وباختصار شديد، يدعو هذا الاتجاه مجتمعات العالم الثالث إلى استقبال الليبرالية الرأسمالية بمختلف فروعها بصدر رحب . أما الاتجاه السيكولوجي أو السلوكي فيهتم بدراسة التنمية الاقتصادية والتغير الثقافي على ضوء الخصائص السيكولوجية للأفراد، ويرى أن الحاجة والدوافع للسلوك عند الفرد تعتبر الأساس في التنمية الاقتصادية ، ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن الأفكار هي التي تلعب الدور الهام في التغير الاجتماعي. أما بالنسبة لهيجن E .Hagen لا يمكن الانتظار من عملية الاحتكاك وعملية المثاقفة أن تؤدي إلى نتائج محمودة، والبديل الذي يطرحه أن متطلبات التحول إلى التنمية الاقتصادية تتمثل في خلق الإبداع ونشره، تم تدعيم اتجاهات معينة نحو العمل الفني اليدوي، بحيث تصب الطاقات الإبداعية في التجديد أو الاستحداث في مجال تكنولوجيا الإنتاج ؛ من جهة أخرى، يدعو الاتجاه السلوكي شأنه شأن أنصار التنمية الشاملة إلى الاهتمام بالموارد البشرية، من منظور أن العوامل الاجتماعية والثقافية بما فيها نقص التعليم وانتشار الأمراض وأثار البيئة الاجتماعية التقليدية أو المواقف الثقافية تعيق تحقيق التنمية والنمو الاقتصادي، لدى سادت قناعة إلى تحسين الخدمات الاجتماعية التي تهم التعليم والصحة، بهدف تحريك عملية النمو؛ والغاية من تنمية الموارد البشرية (الرأسمال البشري)، زيادة عملية المعرفة والمهارات والقدرات للقوى العاملة القادرة على العمل في جميع المجالات، بغية رفع مستوى كفاءتهم الإنتاجية لأقصى حد ممكن، ولتحقيق هذا الغرض، علق أنصار الاتجاه السيكولوجي أهمية كبيرة على فئة المنظمين (Entrepreneurs Les) التي يمكنها لعب الدور الأساسي في عملية التنمية الاقتصادية حسب جوزيف شومبتر، نظرا لتوفرها على القدرة على الإنجاز والإحساس بالتفوق على سائر أفراد المجتمع، لكن على الرغم من شيوع أطروحة الرأسمال البشري؛ فإن جوهر تصور مكانة الإنسان بها بقي على ما كان عليه، لأن الاهتمام لم يكن منصبا على الإنسان بقدر ما تم التركيز عليه لكن من منظور دوره في خدمة العملية الإنتاجية تراكما وتوسعا، أو كما ذكر أمارتيا صن (2003) أن الدراسات عن الرأسمال البشري تنزع إلى التركيز على فعالية البشر كأدوات في زيادة إمكانيات الإنتاج، اعتبارا أن الإنسان هنا مجرد أداة أو وسيلة للإنتاج، ولتجاوز هذا الإشكال، يطرح أمارتيا صن مفهوما بديلا، استخدم من خلاله مصطلح "رأسمال القدرة البشرية" للدلالة على لرأسمال البشري كهدف وأساس لما اصطلح عليه "مفهوم التنمية-التطوير"، إذ يضع منظور رأسمال القدرة البشرية في بؤرة الاهتمام قدرة (الحريات الموضوعية ) الناس على بناء حياة لديهم أسباب عقلانية للنظر إليها كشيء قيم وعلى تعزيز خياراتهم الحقيقية وكفالة مقومات هذه القدرة وتطويرها، وهنا يكون الإنتاج بمثابة وسيلة لهدف يتمثل في حرية ورفاه الإنسان... الإنسان بمواصفات حضارية جديدة باعتباره الأداة والوسيلة والغاية، والاختلاف بين المنظورين يبقى في أداة قياس التقدير. وعلى نفس المنوال ذهبرشيد داري(2008) الذي اعتبر مفهوم التنمية الشاملة الذي يقوم على مبدأ الرأسمال البشري أسير الأبعاد الاقتصادية والمادية لعملية تطوير المجتمعات وترقيتها؛ حيث ظل هذا المفهوم يعاني من قصور جغرافي واستراتيجي، لأنه ببساطة ظل يحمل دلالات تبعية نموذج التنمية في العالم الثالث للنموذج الحداثي-الصناعي-الغربي، ويحمل أحكاما قيمية تؤكد على اعتبار الثقافات غير الغربية أدنى قيمة قياسا إلى الحضارة الغربية المهيمنة، تكريسا –في رأينا- لمفهوم الإثنية المركزية الرأسمالية الغربية الأورو–أمريكية المتطرفة. هكذا ظل يعاني الاتجاه السيكولوجي من قصور واضح في تجاهله لتاريخ الدول المتخلفة وتنوع وتغير الثقافات والبناءات التاريخية، ويرجع ذلك إلى تصوراته المستندة على ثنائية التقليد-التحديث، ولا يخفى ما تنطوي عليه نظريات الثنائية السيكولوجية من تبسيط وفهم خاطئ لواقع كل من الدول المتخلفة والمتقدمة على السواء، وذلك لأنه يصعب وصف المجتمعات المتخلفة المعاصرة بأنها تقليدية طالما أنها لا تركن إلى وضع ساكن، وأن الثقافات التقليدية تعرف مصادر مختلفة للتغير والتحول الدائم . لهذا لقيت الاتجاهات التنموية السابقة الذكر معارضة ونقد عنيفين، خاصة من الاتجاه الماركسي المحدث أو ما سمي باتجاه التبعية؛ وترمز التبعية كمفهوم إلى مرحلة الاستعمار الجديد حسب عبد السلام فراعي، الذي يشكل امتدادا طبيعيا للاستعمار التقليدي بالرغم من حصول دول العالم الثالث على الاعتراف الشكلي باستقلالها السياسي؛ وفق علاقة تتسم بين الدول المتقدمة والدول الثالثية بالدور الاستغلالي الكبير للشركات الاحتكارية الدولية التي يطلق عليها بالشركات المتعددة الجنسية، والقروض التي تحولت إلى داء عضال ينخر الجسم الاقتصادي لدول المحيط، ونظام تقسيم العمل الدولي القائم على عدم المساواة، واللاتكافؤ المطلق بين الدول المسيطرة والدول المسيطر عليها على جميع الأصعدة، بفضل استخدام وتوظيف أصناف القوة التي تملكها الأولى . في المقابل لم يقدم الاتجاه النيو-ماركسي النقدي بديلا لمشاريع واستراتيجيات التنمية، وظلت كتاباتهم مقتصرة على نقد المشروع الرأسمالي برمته كما فعل الماركسيين الرواد أمثال: كارل ماركس وإنجلز ولينين... فما مبادئ نظرية التنمية العامة؟
مبادئ نظرية التنمية العامة: تتأسس نظرية التنمية العامة على مبادئ مستوحاة من النظرية الاقتصادية التي تقوم على العناصر التالية:
-;---;-- دورة ثابتة للتبادل تهدف إلى تحقق التراكم، ويتم ذلك عبر رفع مستوى الإنتاجية وبلوغ نمو مضطرد.
-;---;-- تحقيق التراكم يؤدي إلى تقسيم للعمل.
-;---;-- تقسيم العمل يقود إلى تعزيز إنتاج الوفرة.
-;---;-- لهذا يعتبر كل من التقدم والتجديد محركان للتنمية الاقتصادية والنمو الاقتصادي.
ومن خلال ما سبق، يتضح لنا مدى التطابق بين كل من النظرية الاقتصادية ونظرية التنمية ذات الخاصيات المستوحاة من نظرية التطور الطبيعي (التقدم والتطور).






الدول النامية وأبعاد التنمية العامة:
A. عوامل داخلية:
اتسمت البلدان النامية بخاصيات طبعت تطورها التاريخي بعد الاستقلال، حيث وجدت نفسها في مواجهة تحديات كبرى ترتبط بعصرنة مفهوم الدولة وتحديث البنيات والهياكل الإدارية العمومية وتقوية اقتصادياتها الوطنية، والأكثر من ذلك تأسس مفهوم الدولة خاصة التي حازت استقلالها على احتكار شبه مطلق للحياة العامة وسيادة نظم توتاليتارية أو عسكرية لا تتفاعل أبدا مع محيطها الداخلي أو الخارجي، وغير منفتح مع باقي الفاعلين المحليين والوطنيين والدوليين... ضمن هذا التوجه، اعتبر الاقتصادي المغربي عبد السلام أديب أن الدول الثالثية بعد حصولها على الاستقلال أدارت ظهرها اتجاه الاستثمارات الأجنبية الخاصة؛ نظرا للذكريات الأليمة التي خلفها الاستعمار واستراتيجيته الاقتصادية والاجتماعية التي كانت لها أهداف إمبريالية-استغلالية تخدم فقط مصالح الغرب الاستعماري والطبقات والفئات المحلية الموالية له، لهذا اعتمدت الدول المستقلة على جهاز الدولة المركزي كأداة لتسريع وتيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير شروط تقدم وارتقاء شعوبها، وغالبا ما كان تخطيط السياسات العامة يتم إما من منظور فوقي مركزي متصلب أو منظور خارجي مستورد ونمطي جاهز.
I. براديغم التنمية من فوق: هيمن على المشاريع التنمية خلال عهد الدولة المنعمة، يقوم على نهج مركزي يعطي أهمية للتخطيط أو الخطة الوطنية، يسهر على وضع وتنفيذ مشاريع التنمية كل من الدولة (الحكومة المركزية) والأجهزة التابعة لها(الوزارات) فما التنمية من فوق؟
يقوم براديغم التنمية من فوق أساسا على مفهوم التنمية الاقتصادية، والتي تعني دائما زيادة كمية على المستوى الأفقي، وغالبا ما تختزل في زيادة الدخل وإجمالي الناتج القومي من أجل تحقيق تغيرات جوهرية وتكنولوجية واجتماعية وسياسية والتي تشمل كذلك مفهوم النمو. أما آلية تحقيق التنمية تبقى التخطيط الوطني الشامل ذي الطابع المركزي الذي يستخدم الخطة كأداة تكاملية ملزمة لتحقيق أهداف التحول الهيكلي-التصنيعي وما يرتبط به من سياق اجتماعي في ظل الملكية والسيطرة العامة الدولة على أدوات الإنتاج ، وفي هذا الصدد نشير أن الدول النامية تأثرت مقارباتها التخطيطية بالنموذج الإشتراكي-الشيوعي كأداة أساسية لمحاربة التخلف وتنمية الاقتصاد الوطني في غياب تام للأدوات التدبيرية الحديثة التي تقوم على التدبير والتخطيط الاستراتيجي التشاركي أو الإدارة الاستراتيجية؛ وهكذا انساقت الدول النامية وراء الفكر التنموي التقليدي الذي كان سائدا آنذاك، والذي أعطى للاستثمارات دورا رئيسيا في التنمية؛ أي أن مفهوم التنمية ظل مرادفا لتزايد معدل النمو رغم أن هذا المعدل ليس سوى عامل من عدة عوامل أخرى للتنمية أبرزها التنمية الإنسانية والتنمية المستدامة... الأمر الذي تسبب في انحراف هذه المخططات عن أهدافها الأساسية وعدم جدوائيتها في إيجاد حلول لانتظارات شعوبها، وإبقاء الحال على ما هو عليه من حيث المستوى الحضاري من دون كل الجوانب الحياتية النوعية الأخرى؛ ونعني بذلك استراتيجيات التنمية الإنسانية-الاجتماعية الشاملة والمتكاملة والمستدامة.
2. براديغم التنمية من الخارج: يقصد به في الغالب نقل التجارب الجاهزة التي تم التنظير لها وتجريبها من الدول الغربية المتقدمة إلى الدول المتخلفة أو النامية كوصفة جاهزة للاستعمال " Prêt à porter " وكنموذج مثالي يمكن تجريبه في جميع أنحاء المعمور، مع إتباع نفس الخطوات (المراحل الخمس لوالت لروستو)من أجل الخروج من غياهب التخلف، والذي ارتبط في الغالب -كما سبقت الإشارة-بمشاريع التنمية الاقتصادية كحالة وليس كعملية أو استراتيجية. من جهة أخرى ساعدت سهولة الحصول على الاقتراضات الخارجية بأسعار ميسرة إلي إهمال تنمية الموارد المالية والبشرية والرمزية الذاتية.
وفي ظل تجاذب هذين العاملين سواء الرغبة في تحقيق معدلات هامة في مجال التنمية ذات البعد الإنتاجوي-الاقتصادوي التي تقوم على مبدأ رفع مستويات الاستثمار، أو الحاجة المتزايدة إلى تعبئة قروض خارجية ضخمة لتأمين تمويل برامج التنمية، بدأت معالم ارتفاع نسب المديونية الخارجية تتكشف وتتفاقم أو أثر سلبا على جهود التنمية المبذولة، وانعكس هذا على استراتيجية الدولة ودورها التقليدي في مجال تدبير شؤونها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية... والنتيجة حسب عبد السلام أديب بلغت الأزمة ذروتها في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات حينما عجزت العديد من الدول عن الوفاء بالتزاماتها الخارجية مثل: المغرب والمكسيك سنة 1982، حيث كرست أزمة المديونية وأزمة القطاع العمومي الأزمة العامة الاقتصادية والمالية التي عرفها المغرب سببا رئيسيا في خضوعه لإرادة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، من خلال وصفة برامج التقويم الهيكلي، علما أن الخضوع لهذا البرنامج يعني تخلي الدولة عن كل تدخل اقتصادي أو مالي أو اجتماعي، وكذا التخلي عن تدبير شؤون القطاع العمومي منصاعة بذلك لأفكار منظري التطورية المحدثة أو الليبرالية الجديدة.
B. عوامل خارجية:أدت السياسات التنموية التقليدية(الاقتصادوية) القائمة على براديغم التنمية من فوق والنهج المركزي المتصلب خلال العقود الذي تلت الاستقلال، إلى أزمة مديونية خانقة بالنسبة الدول النامية أو الثالثية، التي وجدت نفسها في حاجة إلى دعم اقتصادي غربي على غرار الدعم المالي الذي تأتى عبر عملية جلب الاستثمارات الخاصة وإحلالها محل الاستثمارات العمومية التي استنفدت ميزانيات الدولة، خاصة بعد صدور تقرير لستر بيرسون (رئيس وزراء كندا السابق) سنة 1968، بإيعاز من ماكنامارا رئيس البنك الدولي السابق أساسا لتحديد المناخ الاستثماري المطلوب تحقيقه بالبلاد المتخلفة أو النامية لتشجيع تدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة لها، وفي هذا الصدد، ذكر هذا التقرير أن ضعف تدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة يعود إلى كون الدول المتخلفة تتبع سياسات غير مرغوب فيها من وجهة المستثمرين الأجانب، وأن الاستفادة من هذه الاستثمارات يتطلب توفر المناخ المناسب والظروف الملائمة لنشاط الرأسمال الأجنبي مع ما يتطلبه ذلك من: الاتجاه نحو الاقتصاد الذي يسمونه الحر؛ والابتعاد عن التخطيط الاقتصادي؛ وتقليص نطاق القطاع العام العمومي؛ وتشجيع القطاع الخاص؛ وإطلاق قوى السوق في توزيع الموارد بين الاستخدامات المختلفة؛ وعدم المغالاة في التشريعات المالية والاجتماعية؛ والتخفيف من القيود الواردة على النقد الأجنبي وبالأخص ما كان منها متعلقا بإعادة تصدير الأرباح إلى الخارج وإعفاء هذه الأرباح من الضرائب؛ وحماية المشروعات الأجنبية من التأميم والمصادرة. ويضيف عبد السلام أديب حقيقة مفادها: أن عودة حاجة الدول النامية إلى الاستثمارات الخارجية لم تكن فقط تحت طلب أو ضغط شعبي داخلي سببته الأزمة الهيكلية لبرامج التنمية من فوق، بل كان هناك دافع أكثر إلحاح من جانب الدول الرأسمالية الصناعية، بسبب الأزمة الدورية التي يعيشها الاقتصاد الرأسمالي بين الحين والآخر .
I. براديغم التنمية من تحت: برز في سبعينيات القرن العشرينتحت مسمى "التنمية الذاتية"أو "التنمية بالمشاركة"، فاتحا الباب أمام جل المشاريع التنمية العمومية أو المبادراتية كي تقوم على مقاربات مثل التنمية المحلية أو الجهوية أو الحضرية... كخيار يقوم على التخطيط ذي البعد الاستراتيجي التشاركي، يدمج كافة الحساسيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في وضع ومتابعة ومراقبة المشاريع التنموية، في إطار حكامة محلية هادفة. منذ ذلك الحين صار براديغم التنمية من تحت خيار استراتيجي يقابل أو ينافس مشاريع وبرامج واستراتيجيات التنمية من فوق، اعتبارا أن جل خاصيات وأبعاد ومستويات ومجالات التي يقوم عليها براديغم التنمية من فوق، صار من خاصيات وعناصر ومكونات التنمية من تحت مثلا: يقابل مفهوم التنمية الاقتصادية من حيث المستوى مفهوم التنمية الاقتصادية المحلية أو مفهوم التنمية الاقتصادية الإقليمية أو مفهوم التنمية الجهوية... وكذلك الشأن بالنسبة للتنمية الثقافية أو التنمية الاجتماعية أو التنمية الإدارية... لذا فمن أجل بلوغ منطق التحليل وموضوعية النتائج نرى لزومية الوقوف على خصائص ودلالات وسمات التنمية العامة باعتبارها الأصل والمنطلق لكل فروع التنمية؛ مستوياتها وأبعادها وأقسامها وأقطابها لاحقا... على نفس المنوال لم يخرج مفهوم التنمية المحلية عن هذه القاعدة،والذي عرف تطورا ونحتا متواصلا تبعا للتطورات والتغيرات والتحولات المجتمعية، حيت لم تعد بعد صياغة مشاريع تنمية قابلة للتطبيق في أي زمان ومكان، بل يتطلب الأمر مراعاة خصوصية المجالات المحلية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية...
خلاصة: كان هذا نموذجا لمفهوم التنمية العامة الكلاسيكي الذي ساد إلى حدود نهاية سبعينيات القرن 20، لكن مع بداية التمانينات من نفس القرن، بدا يتغير كل شيء، خصوصا بعد حلول عهد العولمة وما يرتبط بها من تجديد للنظريات والبراديغمات والمفاهيم لارتباط بشكل مباشر أو غير مباشر بمفهوم التنمية، برزت على الساحة العلمية مفاهيم مثل: التنمية المستدامة، التنمية البشرية والتنمية الإنسانية... خصوص بعد استصدار "ميثاق الحق في التنمية"، ولا زال مفهوم التنمية يثير جدلا حتى الساعة بين الباحثين والدارسين حول ظهوره وتقسيماته ومجالات تدخله وطرق استخدامه وأشكال الاستفادة منه ومنهم المستفيدين منه.
المرحلة الثانية "مفهوم التنمية البشرية" 1990
تقديم:
كان أول ظهور لمفهوم التنمية البشرية على الساحة العلمية على إثر استصدار أول تقرير من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 1990؛ لكن كانت هناك بعض الاجتهادات العلمية الأكاديمية قبل ذلك بسنوات قليلة اهتمت بقضايا التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان،هدفت إلى لفت الأنظار لبعض القضايا للتغلب على بعض الظواهر الاجتماعية، والنتيجة استصدرت قوانين ومواثيق... ومن بين تلك الاجتهادات التي ساهمت في نهاية المطاف إلى بلورة مفهوم التنمية الإنسانية الشاملة والمتكاملة والمستدامة... نذكر منها على الخصوص: مفهوم الحق في التنمية؟
الحق في التنمية: دخل "الحق في التنمية" جدول أعمال لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة سنة 1977, كمرحلة جديدة من مراحل تطور حقوق الإنسانوالذي اعتبر الجيل الثالث للحقوق؛ حيث طرح كارل فاسيك مبدع فكرة "الحق في التنمية" الحقوق الجديدة من منطلق "حقوق التضامن": كالحق في السلام وفي بيئة نظيفة، بعد الجيل الأول المتمثل في الحقوق المدنية والسياسية التي تستمد روحها وجوهرها من الحقوق التي أرست دعائمها الثورة الفرنسية سنة 1789، تلتها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي مثلت الجيل الثاني والتي سبق أن ناضل من أجلها كل من الطبقة العاملة وفعاليات المجتمع المدني في القرن التاسع عشر، وتمثل مسألة "الحق في الديمقراطية" الجيل الرابع لحقوق الإنسان؛ فما الحق في التنمية؟
تعريف مفهوم الحق في التنمية: ينظر إلى الحق في التنمية كحق الفرد مثلما هو حق للجماعة ويتطلب تطبقه ونهجه ديمقراطيةوطنية ومحلية، وبالتالي على الجماعة والمجتمع أن يحترما حقوق الفرد لكي تتحقق أهداف الديمقراطية، وتصير عملية شمولية ترمي إلى ضمان جميع حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، باعتبارها حق من حقوق الإنسان غير قابلة للتصرف، وجزء لا يتجزأ من الحريات الأساسية، استنادا على مما جاء به "إعلان الحق في التنمية" الذي اعتبرها: عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وبيئية... تهدف تحقيق التحسن المستمر لرفاهية جل السكان والأفراد، يتم من خلالها بلوغ حقوق الإنسان والحريات الأساسية على أساس مشاركتهم النشطة والحرة والهادفة إلي التنمية والتوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها... , ولبلوغ هذا الغرض, تضع الجمعية العامة للأمم المتحدة في اعتبارها مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدةالمتصلة بتحقيق التعاون الدولي في حل المشاكل الدولية ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإنساني... وفى تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحرياتالأساسية للجميع دون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين،وترى أنهيحق لكل فرد، بمقتضى أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن يتمتع بنظام اجتماعيودولي يمكن فيه إعمال الحقوق والحريات المبينة في هذا الإعلان إعمالا تاما،








أهم المواد التي تضمنها إعلان الحق في التنمبة:
I. المادة :
1- الحق في التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف،وبموجبه يحق لكل إنسان ولجميع الشعوب المشاركة والإسهام في تحقيق تنمية اقتصاديةواجتماعية وثقافية وسياسية... والتمتع بهذه التنمية التي يمكن فيها إعمال جميع حقوقالإنسان والحريات الأساسية إعمالا تاما.
2- ينطوي حق الإنسان في التنمية أيضاعلى الإعمال التام لحق الشعوب في تقرير المصير، الذي يشمل مع مراعاة الأحكام ذاتالصلة من العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان، ممارسة حقها غير القابل للتصرف في ممارسة السيادة التامة على جميع ثرواتها ومواردها الطبيعية.
II. المادة:
1- الإنسان هو الموضوع الرئيسي للتنمية وينبغي أن يكونالمشارك النشط في الحق في التنمية والمستفيد منه.
2- يتحمل جميع البشر مسؤوليةعن التنمية، فرادا وجماعيات، آخذين في الاعتبار ضرورة الاحترام التام لحقوق الإنسانوالحريات الأساسية الخاصة بهم، فضلا عن واجباتهم تجاه المجتمع الذي يمكنه وحده أنيكفل تحقيق الإنسان لذاته بحرية وبصورة تامة، ولذلك ينبغي لهم تعزيز وحماية نظامسياسي واجتماعي واقتصادي مناسب للتنمية.
3- من حق الدول ومن واجبها وضع سياساتإنمائية وطنية ملائمة تهدف إلى التحسين المستمر لرفاهية جميع السكان وجميع الأفرادعلى أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة، في التنمية وفى التوزيع العادل للفوائدالناجمة عنها.
III. المادة
1-تتحمل الدولة المسؤولية الرئيسية عن تهيئة الأوضاعالوطنية والدولية المواتية لإعمال الحق في التنمية...ويبقى الجديد في إعلان الحق في التنمية ربط الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية صراحة بعملية التنمية...

هكذا ينظر إلى الحق في التنمية: كعملية شمولية متكاملة تتضمن جميع حقوق الإنسان، وهي غير قابلة للتجزئة، ولكي يتم تأمين هذه الحقوق وربطها مع الحقوق الأخرى فلا بد من جهود جميع الفاعلين في العملية الاجتماعية سواء كانوا دولا أو مجموعات أو كيانات أو أفراد...على هذا الأساس، ينظر إلى التنمية والديمقراطية كوجهان لعملة واحدة, حيث لا يمكن تحقيق تنمية عادلة فعلا وبشكل مستدام إلا بالأخذ بعين الاعتبار بمجموعة من المبادئ العامة أهمها: سياسات رشيدة اقتصاديا واجتماعيا؛ شفافية حكومية وقابلة للمحاسبة المالية؛ حرية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية؛ تدابير لمحاربة الفساد؛ احترام القانون وحقوق الإنسان؛ حرية الصحافة والتعبير؛ حق الوصول إلى المعلومة... أننا ونحن نتحدث عن جدلية التنمية والديمقراطية والترابط والتداخل والتكامل بينهما، نستحضر مفهوما أخر لا يقل من حيث الأهمية، الأمر يتعلق بمفهوم الحكامة؛ لأن الديمقراطية والحكامة معياران لتطور وقياس مصداقية الدول وجودة عمل الحكومات، ذلك أن كلا المفهومين يحملان مجموعة هامة من المبادئ والمعايير والإجراءات التي تتسع باستمرار، ويتم دعمها وإغناؤها بالأفكار والممارسات النظرية والإمبريقية، والحكامة الجيدة والسليمة لابد أن تعتمد على عدد من المبادئ الديمقراطية منها صيانة الحرية؛ أي ضمان وتوسيع خيارات الناس والمشاركة الشعبية؛ وتفعيل آليات المساءلة الفعالة والشفافية الكاملة في ظل فصل السلطات والتوازن بينهما، وسيادة القانون والقضاء المستقل والنزيه والكفء... لذا فالحكامة الجيدة والسليمة في أي مجتمع وأي تنظيم وأي مؤسسة حكومية كانت أو غير حكومية، تبقى من أهم الضروريات لإنجاح المشاريع التنموية، مادام تطبيقها يتطلب سيادة مناخ أو بيئة تسودها الشفافية والمسؤولية ودولة القانون والمشاركة واللامركزية والتنسيق بين كل المتدخلين. إن مسلسل البناء الديمقراطي وتفعيل الحكامة الجيدة مرتبطان ومتداخلان ومتكاملان مع بعضهما البعض، ووسيلتان لتحقيق التنمية الشاملة والمتكاملة والمستدامة، وتحسين مستمر للمؤسسات والممارسة الديمقراطية.
وعلى هذا الأساس فإن وحدة المبادئ ووحدة المنهاج تؤدي دائما للكل من الحكامة كإطار موجه والديمقراطية كعملية وسيرورة سياسية-تنموية إلى وحدة الأهداف ولو بشكل نسبي، وبالتي استخدامهما يحقق العناصر التالية:
-;---;-- قدرة المصالح العمومية على ضمان حقوق وأمن المواطنين.
-;---;-- تفادي النزاعات والصراعات الاجتماعية والاثنية والسياسية...
-;---;-- خلق جو ملائم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال الحفاظ على مصالح المستثمرين الوطنيين والأجانب.
نشير في هذا الشأن أنه بعد ذيوع وانتشار الحق في التنمية برز على الساحة العلمية عدد من المفاهيم العلمية التي لا تقل أهمية عن المفهوم الأول من قبيل: التنمية البشرية؛ والتنمية الإنسانية.




المرحلة الثالثة "مفهوم التنمية البشرية المستدامة"(1996):
يتشكل براديغم التنمية البشرية المستدامة من مفهومين أساسيين هما: مفهوم التنمية البشرية وكذلك الشأن بالنسبة لمفهوم التنمية المستدامة -هذا الأخير سنأتي على تعريفه لاحقا-، وقد توالت الاجتهادات في هذا الباب خصوص بعد ملتقى الأرض بريو دي جانيروبالبرازيل، حيث استصدر جيمس غوستافو سبيث تقريرا تضمن مفهوم مركبا تحت عنون التنمية البشرية المستدامة؛ فما مفهوم التنمية البشرية؟ فما مفهوم التنمية البشرية المستدامة؟
تعريف مفهوم التنمية البشرية: ينظر إليه كعملية توسيع خيارات المتاحة أمام الناس, ومن حيث المبدأ فإن هذه الخيارات لا حدود لها، وتتغير مع مرور الوقت، مادام البشر هم الثروة الحقيقية للأمم, ففي كل يوم يمارس الإنسان خيارات متعددة، بعضها اجتماعي وبعضها سياسي وبعضها ثقافي, وحيث أن الإنسان هو محور تركيز الأنشطة المنجزة في اتجاه تحقيق التنمية، فإنه ينبغي توجيه هذه الأنشطة لتوسيع نطاق خيرات كل إنسان, في جميع ميادين النشاط البشري لفائدة الجميع ؛ إي أم التنمية البشرية لا تنتهي عند تكوين القدرات البشرية مثل: تحسين الصحة وتطوير المعرفة والمهارات، بل تمتد إلى أبعد من ذلك, حتى الانتفاع بها سواء في مجال العمل، من خلال توفير فرص الإبداع أو الاستمتاع بوقت الفراغ واحترام الذات وضمان حقوق الإنسان أو المساهمة الفاعلة في النشاطات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية... وهكذا صارت التنمية البشرية توجها إنسانيا للتنمية الشاملة والمتكاملة والمستدامة وليس مجرد تنمية الموارد البشرية؛ فما هي أهم مؤشرات قياس مفهوم التنمية البشرية؟ تعتمد تقارير التنمية البشرية على مؤشر تجميعي لقياس ومقارنة إنجاز الدول في مجال التنمية البشرية يسمى مؤشر التنمية الإنسانية "Human development index" الذي يستخدم في مقارنة وترتيب الدول حسب جهود التنمية البشرية، إنه مؤشر تركيبي يتم حسابه من ثلاثة عناصر رئيسية هي:
1) متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي (مؤشر لقياس مدى الحصول على الموارد اللازمة لتحقيق مستوى حياة كريمة).
2) العمر المتوقع عند الميلاد (مؤشر لقياس طول العمر).
3) نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة (مؤشر لقياس اكتساب المعرفة) .

تعريف مفهوم التنمية البشرية المستدامة: تضمن مشروع التقرير الذي تقدم به جيمس غوستافو سبيث المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي للتنمية البشرية تعريفا للتنمية البشرية المستدامة والذي تمت صياغته بتاريخ 01/10/1996، كما يلي: " لا تكتفي التنمية البشرية المستدامة بتوليد النمو وحسب، بل تسعى إلى توزع عائداته بشكل عادل أيضا، وتحاول تجديد البيئة بدل تدميرها، وتمكن الناس بدل تهميشهم، وتوسع خياراتهم وفرصهم وتؤهلهم للمشاركة في القرارات التي تؤثر في حياتهم. من هنا ينظر إلى التنمية البشرية المستدامة كتنمية في صالح الفقراء والطبيعة، تسعى إلى توفير العمل، وتعلي من شأن المرأة، وتضمن حقوق الجميع، وتشدد على أهمية النمو الذي يولد فرص عمل جديدة ويحافظ على البيئة، وتسعى التنمية إلى تمكين وتحقيق العدالة؛ تتشكل العناصر والمكونات الأساسية لمفهوم التنمية البشرية المستدامة من:
1_الإنصاف. 2_الإنتاجية. 3_ الاستدامة. 4_التمكين .
كما اعتبر مفهوم التنمية البشرية المستدامة محور اهتمام إعلان الألفية للتنمية، حيث صادقت المجموعة الدولية بنيويورك سنة 2000 على حزمة من الأهداف المتضمنة لغايات خاصة ومؤشرات محددة بوضوح ضمن عنوان: "أهداف الألفية الثالثة للتنمية" وعددها ثمني وهي:
1) الهدف الأول: تقليص عدد الأشخاص ضحايا الفقر المدقع والجوع إلى النصف.
2) الهدف الثاني: ضمان التعليم الابتدائي للجميع.
3) الهدف الثالث: تشجيع المساواة بين الجنسين والعمل على تحقيق استقلالية المرأة.
4) الهدف الرابع: تقليص نسبة وفيات الأمهات عند الوضع بثلاثة أرباع (3/4).
5) الهدف الخامس: تخفيض معدل وفيات الأطفال.
6) الهدف السادس: مكافحة فيروس نقص المناعة المكتسبة(الإيدز) والملاريا وغيراهما من الأمراض.
7) الهدف السابع: حماية البيئة وكفالة الاستدامة البيئية.
8) الهدف الثامن: إقامةشراكة عالمية من أجل التنمية.
كما أكدت الدول الصناعية الكبرى خلال مؤتمر إعلان الألفية أو المؤتمرات والقمم التي تلته التزامها بتقديم المساعدات الإنمائية من أجل محاربة الفقر وتحقيق التنمية المستدامة في العالم. وفي هذا الصدد. دعت الدول المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة إلى تعزيز التعاون بين هذه الهيئة والحكومات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والقطاع الخاص، في إطار المقاربة التشاركية محليا ووطنيا ودوليا... للإسهام في تنفيذ أهداف الألفية الثالثة للتنمية.
المرحلة الرابعة "مفهوم التنمية الإنسانية الشاملة والمتكاملة والمستدامة(2006)":
تم استخدام مفهوم التنمية البشرية –كما رأينا سابقا- منذ أوائل تسعينات القرن العشرين، هدفت التنمية البشرية إلى توسيع فرص الإنسان التي لا حدود لها، والتي ترتبط بمحددات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وبيئية... لكن مع حلول سنة 2006, استعاض صانعي التقارير المهتمين بمجال التنمية بمفهوم أوسع تحت عنوان: مفهوم التنمية الإنسانية، حيث تم الانتقال من مصطلح التنمية البشرية إلى مصطلح التنمية الإنسانية كمفهوم مرادف، وهذا يعني الانتقال بالأفراد كمجموعة من الكائنات إلى حالة راقية من الوجود البشري، فلفضة الإنسانية تعبر عن سمو الوجود البشري ، ومن تم صارت التنمية الإنسانية توجها إنسانيا في إطار من الشمولية والتكامل والاستدامة وليس مجرد تنمية بشرية أو تنمية الموارد البشرية التي أنتقدها الاقتصادي الهندي أمرتيا صن؛ فما التنمية الإنسانية الشاملة والمتكاملة والمستدامة؟
سنحاول ملامسة هذا البراديغم من خلال تفكيك عناصره وتبيان خصائصه ودمجه ضمن براديغم جديد:
1) تنمية شاملة: تشمل كل مناحي الحياة بالدولة سواء: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية... وكذا جل المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وكافة المواطنين على اختلاف جنسهم أو لونهم أو معتقداتهم... وأي فرد بذاته جسديا ونفسيا وروحيا... أن هذا النمط من التنمية لا تترك أي منحى من مناحي الحياة في الدولة أو المجتمع إلى وشمله.
2) تنمية متكاملة: تهتم بجميع الأفراد والجماعات والتجمعات، وجل المجالات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية من حيث تفاعلها مع بعضها، وألا تكون متنافرة ولا متناقضة، ولا يمنع نمو هذا أو ذاك نمو الآخر أو يعرقله.
3) تنمية مستدامة: تسعى دائما للأفضل، وتكون قابلة للاستمرار من وجهة نظر اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية وثقافية، هذا البعد الاستدامي يعتبر الإنسان فاعلا أساسيا في عملية التنمية، وليس مجرد مستفيد من منتجاتها دون مشاركة نشطة وفاعلة، مع الأخذ بعين الاعتبار الأجيال الراهنة والأخرى اللاحقة، وهذا يعني ما يعني أن التنمية الإنسانية الشاملة ومتكاملة والمستدامة تتطلب جهود رامية إلى بناء نمط حياة مستدامة في محاولة لإحداث تكامل بين الإجراءات المتخذة في ثلاث مجالات رئيسية هي:
النمو الاقتصادي والعدالة: إن التنمية الاقتصادية تستلزم نهجا متكاملا لتهيئة النمو طويل الأمد، مع ضمان عدم تخلف أية دولة أو مجتمع عن الركب.
حفظ الموارد الطبيعية والبيئية: يتأتى ذلك من خلال إيجاد حلول قابلة للاستقرار اقتصادي للحد من استهلاك الموارد وإيقاف التلوث وحفظ الموارد الطبيعية.
التنمية الاجتماعية: تعتبر كل البشر بحاجة إلى العمل والغداء والتعليم والطاقة والرعاية الصحية والماء وبيئة اجتماعية وإيكولوجية مواتية ورعاية اجتماعية.
هذه المجالات التنموية تكمل بعضها البعض بهدف تعزيز بشكل مباشر قدرات الناس، بل تستطيع أكثر من ذلك أن تقوي وترسخ بعضها بعضا، ومن الأهمية بمكان أن ندرك هذه الروابط المتداخلة عند التفكير في سياسات التنمية-التطوير؛ إذ التنمية بمفهومها العام والشامل تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية... تروم تحقيق تنمية وتطوير وتقدم... دائم في حياة السكان أفرادا وجماعات ومجتمعات... ماديا وبشرية ورمزيا...
نستنتج من مما سبق, أن أي تنمية فعالة وهادفة تكمن في تحقيق نجاح في إطار من العلاقات المترابطة والمتداخلة والمتكاملة بين كل من التنمية الاقتصادية وباقي مجالاتها وأبعادها ومستوياتها خاصة التنمية الاجتماعية، أخذا بالتعريف الذي صاغه جيمس سبيت: لا يكفي التنمية البشرية المستدامة بتوليد النمو وحسب، بل بتوزيع عائداته بشكل عادل ايضا... إذ أن النمو الاقتصادي يتيح زيادة الاستثمار في التنمية الاجتماعية، كذلك تعزز التنمية الاجتماعية قدرات الأفراد والجماعات، فيصير بإمكانهم المشاركة المنتجة في عملية التنمية الاقتصادية، معنى ذلك لزومية إرساء توازن بين استراتيجية لكل من التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، بحيث ترفد أحداهما من فوئد الأخرى وفق منظور شمولي ومتكامل من أجل تحقيق التغير الإيجابي، وهذا ما أكده مؤتمر منظمة العمل الدولية عن الاستخدام في العالم المنعقد سنة 1976، والذي تبنى مقاربة الحاجات الأساسية للتنمية؛ التي اعتبرها بديل تنموي تهدف بصراحة إلى إعادة توجيه السياسات والاستراتيجيات التنموية وترقية فرص الاستخدام الدائم المرضي مجتمعيا والمجزي عائدا، وتوجيه الناتج القومي لصالح إشباع الحاجات الأساسية من الخدمات والسلع الفردية والعمومية والاهتمام بحاجات الفئات الأفقر لسكان البلد المعني، ولا تقصد مقاربة الحاجات الأساسية أن تكون بديلا عن سياسة النمو الاقتصادي, بل على العكس من ذلك، إنها تكمله وتسعى إلى توجيهه، وبذلك ترى أن الأمر يتطلب بالضرورة تغيرات في نمط الإنتاج ليكون أكثر توجها نحو إشباع الحاجات الأساسية وتغيرات هيكلية لتعبئة الموارد الإنتاجية. في نفس التوجه اعتبر السوسيولوجي المغربي عبد السلام فراعي " أن التنمية لا يمكن اختزالها في مجرد اقتباس نموذج رأسمالي أو غيره، باعتباره الوصفة الطبية لمعالجة مرض التخلف المزمن، ومن هذا نرى –حسب نفس الباحث- بأن النظرة التنموية الصحيحة لا بد وأن تكون نظرة تكاملية وشمولية (لاسيما فيما يتعلق بالجانبين الاقتصادي والاجتماعي)،لأن قصرها على أحد هذين الجانبين، إنما هو من قبيل السير على ساق واحدة, الأمر الذي يجعل العملية التنموية تسير بصورة عرجاء شوهاء من جهة، ولا تستطيع التقدم إلى الأمام بالسرعة المطلوبة من جهة ثانية (...) ليخلص عبد السلام فراعي إلى قاعدة مفادها: أن التنمية بصفة عامة سيرورة سياسية واجتماعية واقتصادية منسجمة ومتناسقة . على نحو مماثل ذهب كل من أمرتيا صن وجين دريز في كتابيهما تحت عنوان "الجوع والأداء العام"، ميزا فيه بين نمطين من النجاح في مجال الخفض السريع لنسب الوفيات، وسمياهما على التوالي:
عملية بواسطة النمو الاقتصادي: يتحقق من خلال النمو الاقتصادي السريع؛ ويعتمد نجاحه على أن تكون عملية النمو واسعة النطاق وشاملة اقتصاديا (ومتجهة نحو عمالة مكثفة)، وتعتمد كذلك على الاستفادة من الرخاء الاقتصادي المدعوم لتوسيع نطاق الخدمات الاجتماعية وثيقة الصلة بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي...
عملية بواسطة الدعم: إنها على العكس آلية العمل بواسطة النمو، لا تعمل من خلال النمو الاقتصادي السريع، وإنما تتحقق من خلال برنامج للدعم الاجتماعي الماهر للرعاية الصحية والتعليم وغيريهما من الترتيبات الاجتماعية وثيقة الصلة ...
نختم هذه الفقرة بملحوظة هامة مفادها: في إطار البحث المتواصل حول مفهوم التنمية والاجتهادات والتجديدات التي لحقته والتعديلات التي اعترت مضامينه، لا يفتنا استعراض أهم تحليل علمي ونقد ابستيمولوجي اهتم بالتنمية والإشكالات المرتبطة بها ونعني بذلك براديغم ما بعد التنمية التي صاغته الباحثة الكندية سوزان ترومبلي؛ ما مفهوم ما بعد التنمية؟ما عناصره وأسسه وخصائصه؟








براديغم ما بعد التنمية

في إطار النقاش حول منظور(براديغم) ما بعد التنمية الذي اقترحته Suzzane T في مقالة لها تحت عنوان "مفهوم ما بعد التنمية"، تحدث Alain Lipietz عن نموذج جديد لاستراتيجية التنمية؛ فيما اعتبره Serge Latouche مشروع واعد لمجتمع ما بعد الحداثة؛ بينما اقترحت مجموعة لشبونة ميثاق عالمي جديد يتأسس على مفهوم التنمية المستدامة.
رغم تعدد التأويلات التي همت مفهوم التنمية العامة،وفي إطار الجهودلوضع صياغة جديدة له ترى سوزان ترومبلي ضرورة تحليل التركيبة المفاهيمية للتنمية، ونشير في هذا الصدد أننا سبق أن اعتبرنا مفهوم التنمية يستمد أصوله الفلسفية نظريا من النظرية التطورية الكلاسيكية، حيث اعتبر منظروها التنمية كمعطى طبيعي وكسيرورة متطورة ذات منحى خطي تصاعدي (والت روستو ونظريته المراحل الخمس)، لهذا تتساءل سوزان ترومبلي بشأن النظرية التطورية: هل هي خاطئة أم غير مكتملة؟ إرتأت الباحثة أنه من الممكن ألا يتم تفسير النظرية التطورية من خلال عمليات النمو والمنافسة والاختيار الطبيعي... حيث أثبتت الملاحظة العلمية عبر عقود من الزمن أن المنافسة والاختيار أو الانتقاء الطبيعي والقدرة على التكيف من الممكن ألا يكون هدفهم الجوهري والمعلن والأوحد تحقيق النمو، بل خلق توازن إيكولوجي، وتحقيق انسجام العناصر الداخلية للنظام الإيكولوجي. هذه الرؤية الجديدة اتجاه الطبيعة طرحتها الحركة الإيكولوجية التي تنطلق رؤيتها وتوجهاتها من منظور مناهض للنظرية التطورية أو الاتجاه التطوري، الذي يقوم مبدأه على الصراع أو التنافس الحاد بين الأنواع والأجناس على حد تعبير Murray Bookchin؛ مقابل ذلك نجمل أهم مبادئ علم البيئة فيما يلي:
-;---;-- تحقيق توازن إيكولوجي.
-;---;-- تنمية متناغمة اتجاه الاختلافات الطبيعية.
-;---;-- وعي وتطور متزايد اتجاه الطبيعة.
عكس ذلك جل هذه العناصر تتعارض مع علم الاقتصاد الذي يسعى دائما وأبدا نحو توحيد المجتمع والأفراد والطبيعة؛ أي يواجه البشر مع بعضهم البعض ومع المجتمع ومع الطبيعة، في إطار صراع ضاري قد يؤدي إلى تدمير كوكبنا من أجل تحقيق أهداف نفعية صرفه لأقلية دون الأغلبية العظمى من الأفراد أو الجماعات أو المجتمع...
هكذا ترى الباحثة أنه يجب ترك تأويلات النظرية التطورية القائمة على أساس استراتيجية النمو اللامتناهي وتحقيق الإنتاجية والتراكم والمنافسة والصراع... واستبدالها باستراتيجية أكثر اعتمادا على التناغم والانسجام وتوازن الأنساق والنظم الإنسانية مع الطبيعة... أي الابتعاد عن أهداف النمو ذي النزعة الإنتاجيوية الاقتصادوية؛ وبالتالي التخلي عن البناء المفاهيمي الكلاسيكي للعلوم الاجتماعية؛ فما هي الأسس التي ينبني عليها براديغم ما بعد التنمية؟
للإجابة على هذا التساؤل تعترفسوزان ترومبلي انه من الصعب تقديم جواب تام وشاف، خاصة بعد أكثر من قرنين من هيمنة التنظير الكلاسيكي للبراديغم البراغماتي للتنمية القائم على مبدأ النمو المتواصل واللامتناهي؛ لكن مع ذلك تتكشف لنا بعض المبادئ المستخلصة من أفكار الاتجاه الإيكولوجي المناهض لبراديغم التنمية الكلاسيكي, مع العلم أن براديغم ما بعد التنمية انبثق من البراديغم الكلاسيكي للتنمية نفسه، وفي هذا السياق ترى سوزان ترومبلي منذ البداية أنه من الأهمية بمكان وضع المقاربة الثقافية ضمن السياق المفاهيمي لبراديغم ما بعد التنمية. بل يجب وضع الثقافية في صلب عملية التغيير الاجتماعي وليس فقط أخد بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية لكل مجتمع على حدا مع أهمية ذلك، ومادام مفهوم التغير الاجتماعي يدفعنا لتجنب الحكم على تنظيم اجتماعي ما انطلاقا من نظام اجتماعي آخر؛ أي الدعوة إلى تجنب إعطاء محتوى ثقافي عالمي للتنمية كالذي حولت منحه الدول المتقدمة لدول الجنوب(استراتيجية اللحاق) حسب سمير أمين، ومن تم تعتقد سوزان ترومبلي أنه من اللازم الأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي ووضعه ضمن إطار المجال والمجتمع؛ أي في صلب العلاقات الإنسانية والتنظيمات الاجتماعية والأطر الثقافية، بعيدا عن أي نزعة اقتصادوية-انتاجوية للتنمية، بعبارة أخرى يجب إعادة الإنسان إلى الطبيعة، وتجنب النزعة المتمركزة حول الإنسان "الإثنية المركزية الإنسانية" كما ذكر روبرت فاشون (1990)، حتى لا يصير الإنسان سيد الكون، بل فقط جزء من هذا الكون، ومن تم تكون إي محاولة لإدماج الجنس البشري في الطبيعة نقلة نوعية تعيد الاعتبار للطبيعة، وتعطي منظورا متجددا للطبيعة، وبالتالي احترام هذه الطبيعة التي يعتبر الإنسان عنصرا من عناصرها وليس سيدها الأوحد.
لبلوغ ذلك يشير روبرت فاشون أنه بمجرد التخلص من الافتراضات الإيديولوجية للمفهوم التنمية (النظرية التطورية والمركزية الإنسانية) وهدفه الاقتصادوية-الانتاجوية ومسعاه النفعي-البراغماتي، يمكننا بذلك إدماج الأبعاد الاجتماعية والثقافية في صلب العلاقات الإنسانية-الاجتماعية، ومن تم نكون قد وضعنا أسس وآفاق براديغم ما بعد التنمية، لكن مع أخد بعين الاعتبار عناصر نظرية التنمية الذاتية وأقلمة (Territorialisation)التنظيمات الاجتماعية، والخصوصيات المحلية، وتاريخ تلك المجتمعات والمعارف المحلية ضمن عملية وسيرورة الإنتاج. جل هذه العناصر تشكل رؤية اجتماعية وثقافية لما بعد التنمية أو نموذج جديد للتنمية أو حركة لما بعد التنمية، التي يمكن أن تسهم في تأليف براديغم مناهض للتنمية الكلاسيكي وليس بالضرورة اعتبار فقط براديغم ما بعد التنمية كوسيلة وليس غاية في حد ذاته.
ومن وجهة نظرنا رغم التطور الذي عرفته النظريات والمناهج والمباحث العلمية النظرية والمقاربات الممارساتية-الإمبريقة لعملية التنمية قد تظل بلا نموذج كما أشار بذلك عبد الرحيم العطري؛ فالعملية التنموية سيرورة دينامية متغيرة تبعا للواقع الاجتماعي المتغير، وهنا تكمن صعوبة صياغة نموذج تنموي مثالي صلاح للتطبيق والممارسة في أي زمان ومكان لحقيق الأهداف التنموية المنشودة.
خاصيات براديغم ما بعد التنمية: من أجل الوقوف على خاصيات مفهوم ما بعد التنمية نرى من الأهمية بمكان تحقيق تحليل مقارن بينه وبين المفهوم الكلاسيكي للتنمية لعل ذلك يعطي القارئ صورة عن الاختلاف والتشابه في الدلالة والأهداف.
المفهوم الكلاسيكي للتنمية: يتسم بكونه ذو نزعة اقتصادوية-انتاجوية، يقوم على مبدأ النمو الاقتصادي ذي المنحى الخطي اللامتوقف والتصاعدي والمتسارع، ضمن بيئة تنافسية – صراعية، من أجل تحقيق إنتاجية وفيرة ومتزايدة ومتراكمة وربحية عالية... لفئة قد تكون قليلة دون الأغلبية العظمى للأفراد والجماعات أو المجتمعات الإنسانية.
براديغم ما بعد التنمية: يضع المقاربة الثقافية في صلب عملية التغير الاجتماعي وإدماج الأبعاد الاجتماعية والثقافية ضمن العلاقات الإنسانية والتنظيمات الاجتماعية بمجال اجتماعي وترابي ما.
لبلوغ ذلك يتطلب الأمر إعادة الاعتبار للطبيعة والحياة الطبيعية، بغاية مناهضة المركزية الإنسانية, كي لا يصير الإنسان سيد الطبيعة، بل فقط جزء لا يتجزأ منها، ومن تم إدماج الجنس البشري في الطبيعة باعتبارها أحد عناصرها، بغاية تجنب إعطاء محتوى ثقافي عالمي للتنمية، يتطلب هذا الأمر الأخذ بعين الاعتبار الإطارات والخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحلية وتاريخ تلك المجتمعات والمعارف المحلية في خضم عملية وسيرورة الإنتاج، وذلك يتم من خلال اعتماد مقاربات التنمية الذاتية وأقلمة (Territorialisation) التنظيمات الاجتماعية.
إن قراءة فاحصة لدلالة براديغم ما بعد التنمية قد ترشدنا إلى مجموعة من العناصر الأساسية الضمنية مثل:
-;---;-- المقاربة المجالية والتنمية الذاتية أو التنمية المحلية.
-;---;-- التنمية المستدامة والتدبير البيئي.
-;---;-- التغير الاجتماعي.
-;---;-- الأبعاد الثقافية والاجتماعية وعلاقتها بالخصوصيات المحلية.



#العمراني_عمر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التطور المفاهيمي للتنمية: من التنمية إلى ما بعد التنمية


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - العمراني عمر - التطور المفاهيمي للتنمية: من التنمية إلى ما بعد التنمية