|
المبدع الإيجاسلبي
راضي دخيل شحادة
الحوار المتمدن-العدد: 4655 - 2014 / 12 / 7 - 18:28
المحور:
الادب والفن
المُبدِع الإيجاسَلبي الانفتاح الكوني والانغلاق القبليّ
بقلم: راضي د. شحادة أسئلة مثيرة للجدل: عشرة أسئلة مثيرة للجدل: كيف للمبدع أن يصل الى قمة الحِرَفية والجمال الإبداعي بينما هو خارج إبداعه عنصري وعقائدي ولا أخلاقي، فيعادي أصحاب القضايا الإنسانية العادلة والصادقة، لا بل يطالب بقتل إنسان او مجموعات بشرية بأكملها؟ هل يكفي أن يقاس الفنان النموذجي بشخصيته الإبداعية المميَّزة والحِرَفيّة أم أنّ قمّة النموذجية بأن يتحلى علاوة على ذلك بموقف إنساني تقدمي وطني وثقافة سياسية عالية تنصر القضايا الخاصة والعامة العادلة؟ هل نتغاضى عن موقف المبدع السياسي والاجتماعي نصرةً لفنه الراقي العالمي والإنساني؟ هل يحق للمبدع أن يحمل شخصيتين، إحداها سامية إنسانية مبدعة فيما يبدع، وأخرى مناقضة لها خارج إبداعه؟ هل نحاسب المبدع فقط على إبداعه أم نحاسبه على أساس أنّه صاحب موقف سياسي واجتماعي وفلسفي؟ هل إبداع المبدع وجداني إنساني جمالي عام يختلف عن كتاباته الصحفية وأبحاثه السياسية وتصريحاته الإعلامية في الأمور الحياتية الواقعية التي تصل الى التناقض مع مستوى إبداعه لدرجة اللا-أخلاق واللا-إنسانية؟ هل من الممكن أن يكون "الالتزام" مصطلحا سلبيا وإيجابيا؟ هل نستطيع أن نضع المبدع المحترف والإنساني في خانة "الالتزام" لقضية معينة حتى وإنْ كانت هذه القضية عنصرية؟ عندما يموت المبدع ويعيش إبداعه من بعده، فهل نقول إنّ مصلحتنا فيما أورثه لنا من إبداع وليس في جسده الميت، اي أنّه علينا أن نتغاضى عن مواقفه التي تبناها وهو حي طمعا في إبداعه بعد موته؟ هل ينطبق على المبدع هنا ما ينطبق على المثقف، بين التبعية للسلطة وبين أن يكون مصارعا لها، وأن يكون عنصريا او أن يكون أمميا إنسانيا ويسارياً وليس نافخاً في بوق السلطة؟ معايير مزدوجة: يستطيع المبدع أنْ يكون متمكِّناً من أدواته الفنِّية وأنْ يصل بها الى درجة التكامل في حدود الإنساني العام بدون أن يكون مباشرا في طرحه السياسي او موقفه السياسي. وأيضاً قد يكون المبدع من أرقى المبدعين وأكثر الناس حرفية في مهنته ولديه ذوق فني راقٍ جدا، وقد يعتبره أبناء شعبه وأمّته فخرا لهم يتباهون به أمام العالم كأحد ركائزهم الثقافية، ولكنه قد يحمل الأفكار السائدة لدى ذلك المجتمع المتأثر بعنصرية النظام الذي يعيش فيه، وهو يتباهى بأنّه هو صاحب الحق وهو الإنساني وهو الذي يتمتع بدعم كبير من شرائح مجتمعية كبيرة في محيطه او في العالم، ولكنّ فكره بالمقابل يقوم على إقصاء الآخر، ويرتكز على فكر استعلائي او عنصري او استعماري او استيطاني او أبرتهايدي احتلالي أو جميعهم معاً. يجيز لنفسه ملء مكان يدّعي أنه ملكه الشخصي، بينما في الحقيقة هو قائم على ظلم الآخر، كأن يشارك في حملة تشويه المطرود من وطنه واتّهامه بأنه إرهابي يريد إبادته، بينما الحقيقة الساطعة تقول إنّ الذي أجرم في حقّه هو الحكم النازي مثلا، والمطرود لم يكن له اي حصة او اي مساهمة في كارثته والجريمة التي ارتُكِبت ضدّه فيصبح القاتل هو البريء والبريء هو القاتل. من جهة أخرى فهنالك مبدع راق محترف وسامٍ يقدّم فنّه بكل ما يمكن أن يكون الفن والإبداع في قمّته وهو يشعر أنّ ذلك الماليء لفراغه ولوطنه طارداً ومشرِّداً له يدّعي أنّ ذلك المحتل هو سبب مصيبته وكارثته ونكبته. هنا يوجد فنان ومبدع محترف لا جدال على قدرته التقنية والإنسانية على صياغة إبداعه بشكل مذهل وساحر، وهناك فنان مبدع ايضا لا جدال على قدرته التقنية الإنسانية على صياغة إبداعه بشكل مذهل، فكيف نقيّم هذا وذاك وكلاهما يخدم الخندق الذي يتمترس خلفه؟ هل نعتبر ذلك فنانا تقدميا إنسانيا والآخر فنانا عنصريا، بينما كلاهما يستعملان التقنيات الإبداعية والإنسانية ذاتها عند صياغتهما لفنهما وإبداعهما؟ إذن من الممكن أن يكون الفن فناً في الناحية الشكلية الإبداعية والصبغة الإنسانية العامة، بينما مبدعه عنصريّ ولاأخلاقي. ما دمنا ندّعي دائما أنّ الفن يسمو بذائقة المتلقي ويجعله أسمى إنسانيا، فكيف نستطيع أن نحكم على كليهما بالمعيار ذاته، بينما هما يحملان الضد بالضد؟ قد يخدم الفن الظالم كما يمكنه أن يخدم المظلوم، فبأيّ معيار نقيس الإبداع؟ إذا ادّعينا أنّ الفن يخدم الإنسانية فكيف يمكن أن يخدمها وهو في مثل هكذا تناقض؟ عندما نقول إنّنا كفنانين نطمح من خلال إبداعنا بأن نسمو بذائقة متلقّينا الى درجة أرقى، فكيف نستطيع أن نصل الى ذلك من خلال نِتاجِ إبداعِ وتصرفات فنانٍ محترفٍ و"إنساني"؟ إذن فالفن وسيلة يمكن استخدامها بشكل محترف وذائقي من أجل إيصال رسالة متناقضة من النقيض الى النقيض، ويستطيع المبدع أن يكون متقلّب الأوجه، ونستطيع أن نشكّك في قدرته على الثورية الصافية، فالثورية هنا نسبية لدى أي مبدع يريد أن يمارس أفكاره الآيديولوجية في حياته اليومية بغض النظر اذا كان فنّه راقيا او محترفا او مقبولا لروح المتلقّي، فقد نسمع مقطوعة موسيقية او نشاهد مسرحية إنسانية او نقرأ قصيدة راقية لشاعر وهي في مضمونها إنسانية وتقنيتها قمة في الاحتراف، فنُبدي إعجابنا الكبير بها، بينما صاحبها هو عدوّنا الذي يستغلها لكي يحسِّن صورته "الحضارية" ضدّنا. قد يكون الإبداع في مستواه الفني وفي رسالته الفنية منفصلا عن نوايا المبدع الآيديولوجية، ونحن كبشر لدينا قاسم مشترك فيما نتلقاه من إبداع، بينما نحن نتناقض كليا في مفاهيمنا الحقّانية و"الأخلاقية" والتي تُعتَبَر متفاوتة بين شخص وآخر. هل يَخدِم الإبداع أكثر ما يخدم الناحية التسلوية الترفيهية الرياضية للعقل والمحفِّزة على الخيال والتفكير، ولكنه لا يستطيع أن يكون ثورياً طاهراً؟ هل الثورية الطاهرة او القرارات المصيرية للأمم لا تأتي مباشرة من خلال الإبداع بل من خلال القيادات التي لا تعمل في حرفة الإبداع، بل في إدارة شؤون الثورة او الدولة او القضية التي يسعى الإنسان الى تقويتها ولديه القوة الكافية والوسائل الأخرى التي يستطيع أن يتّخذ قراراته من خلالها خارج لعبة الإبداع الفنّي؟ قد يُستغَل الإبداع من قبل هذه القيادات التغييرية او الثورية فتجيّرها بذكاء لصالح أهدافها الخاصة لما فيها من عناصر قوّة تأثير نفسي ودماغيّ على المتلقّي، ولكنه في الوقت ذاته يمكن ألّا يشكل وسيلة حقّانيّة طاهرة من أجل الوصول الى هذه القوة التقريرية للمصير العام؟ ليس صدفة أن يقال عن الفنون بأنها نوع من الترفيه والتسلية (entertainment). وليس صدفة أنّ المبدع الألماني "بيرتولد بريخت" حاول تجيير الفن لخدمة الثورة والتغيير، ولكنه اصطدم بقوة عاتية وقفت دون ذلك ضده وهي القوة الحاكمة والسلطة السياسية التي أثبتت أنّها أقوى من محاولاته، فلم يستطع أن يُسقِط "الرايخ الثالث"، بل إنّه كثوري استخدم فنه وإبداعه من أجل إنجاح الثورة، فكانت النتيجة أنه تحوّل الى إنسان مطارَد وهارِب من وطنه خوفا من الاغتيال او الإعدام، بدلا من أن تكون قوّة مبدئه وإبداعه هي التي تشكّل خطراً مُحْدِقاً في وَجْهِ طارديه. كل ذلك لا يعني أننا يجب أن نتنازل عن الإبداع بسبب عدم قدرته على المساهمة في القرارات المصيرية بشكل فوريّ، بل قد يحدث ذلك على طريقة العمل بفلسفة "النّفَس الطّويل"، فالفن الذي يدافع عن القضايا الحقّانية العادلة الكبيرة والصغيرة والإنسانية هو الفنّ الأسمى، فهو يتمتع بالحِرَفية والرقي والذائقة السامية. في هذه الحالة على المبدع أنْ يكون واعياً مثقّفاً وخزّاناً للمعرفة لكي لا يقع في فخّ خدمة القضايا القائمة على العنصرية والإقصاء والاحتلال، فالقضية الفلسطينية قضية عادلة، بينما يحاول الطرف الآخر كتابة التاريخ بطريقته الخاصة لكي يحوِّلها الى قضية إرهابية لكي يبرِّر منطقه الخاص في إقصائها لأنها تشكل خطراً على كيانه القائم على حسابها أصلا. لا ننكر أيضاً أنّ التناقض في هذه الفكرة واردٌ، فنحن لا نقدّم إبداعا او فنّاً شعاراتيا او يتطرّق الى موضوع القضية الفلسطينية بشكل مباشر، لأنّ الفن والإبداع أوسع من الشعار، ويمكننا أن نطرق اي موضوع بشكل إبداعي وحِرَفيّ بدون أن يكون بالضرورة مباشرا وعن القضية الفلسطينية بالتحديد، ولكنّ الأشخاص الذين يقدّمونه يتمتعون بروح مميزة لهويتهم ولتاريخهم ولقضيتهم ولإنسانيتهم، وهم واعون بأنّهم غير محتويين من قبل الآخر الذي قد يجيّرهم لصالحه، وهو عدوّهم وسبب علّتهم ونكبتهم. قد يكون الفنان المبدع محترفا وراقيا ومميزا ويبدع فنّاً لا يُضاهيه فيه أحد من الناحية الإنسانية والتقنية، ولكنه قد يكون "فَنّان بَلاط" او يخدم من يرضيه ماديا ومعنويا، وبالتالي فالتناقض سيبقى مستمرا وخطيرا، ومن الأهمية التنويه الى عدم التعصب للإبداع بشكل أعمى بل يجب أن نوزِنَهُ بحذر وبوعي، وإذا كان لدى المتلقي مستوى كافٍ من المناعة الوعييّة والثقافية فسيكون ذلك كفيلاً بِجَعْلِه لا يسقط في منزلق التعرّض للغسيل الدماغي والتضليل، وإن لم يكن كذلك فسيتحوّل الى جالدٍ لذاته ولقضيّتِه علاوة على كونهما مجلودَين من قبل عدوهما وحلفائه. لقد انتهج الكثير من المبدعين طريق الإبداع من أجل الإبداع وبخاصة في مرحلة لم نصل بعد الى مرحلة التحرر الوطني والاستقلال، وهو أمر غاية في الوضوح بما يتعلّق بقضيتنا الفلسطينية، والأمر ذاته ينطبق على دول عربية لها صبغة الدول ولكنها لا تتمتع بحق تقرير المصير والاستقلال وحرية القرار والأمن القومي. المبدع المؤمن بنظرية الفن من أجل الفن يجد نفسه غير مؤمن وغير مسؤول عن المساهمة في حل القضايا السامية الهوياتية والوطنية، وكثيرون من المؤمنين بذلك مستعدون لصياغة سلطتهم الفردية المنعزلة عن محيطهم النضالي، وهم على استعداد لتقديم منتوجهم لمن يشتري ولمن يدعم، فيخدمون الآخر الذي هو ضد شعبهم وإنسانيتهم. قد يتعصبون لامبراطوريتهم الإبداعية الفردية لدرجة الغرور وجَلْد الآخر وكأنما هم يجلدون ذواتهم في اللحظة ذاتها بسبب انفصاميتهم الفكرية. من المفروض إيجاد تَوازُن بين الموقف الثوري المطالب بالتغيير، وبين الإبداع التسلوي الذائقي المحترف. هنالك حلقة مفقودة او ربما ارتباك وغموض حول مسألة أن يكون الإنسان فنانا محترفا، وبين أن يكون بالضرورة إنسانياً وغير عنصري. إنه غموض في معنى المصطلحات التي تبدو تعميمية مثل "الفنان الملتزم" او "الفنان اللامنتمي" او "الفنان المحترِف إبداعيا والبعيد عن السياسة" او "الفنان الأممي" الذي يتصرف كأممي في ظل زمن اللاتحرر الوطني او في زمن محاولة شعب ما السعي نحو تقرير مصيره بينما هو لا يزال تحت الاحتلال او تحت وطأة الحكام الديكتاتوريين القابعين فوق كراسي عروشهم الى الأبد. إنّ وطنيته قد تدل على وطنية تابعة لنظام وكيان عنصري او تفريقي أو قمعي. قد يدّعي أنّ فنّه ملتزم من هذا المنطلق، أي أنّه متعصّب في فنّه لوطنه الْمُقَام على مباديء عنصرية. أعجب لفنان او أديب يدّعي أنه لا يتدخّل في السياسة وهو عضو في حزب صهيوني او يتقبّل معونات من مؤسسات إسرائيلية معادية لشعبه، وكأنّما أصبح معنى التدخّل في السياسة أنّ هذا الشخص لا ينتقد النظام الصهيوني لأنّ نصرة أحد الطرفين عَلناً قد يُسمَّى "تَدَخُّلاً في السّياسة". عملية الانتقاء والتصنيف: من الممكن بمكان الوصول الى صيغة توضيحية ومعادلة منطقية من خلال اللجوء الى فلسفة الانتقائية والتصنيف. يمكن تقسيم المبدعين الى طبقات لكل طبقة مستواها الإبداعي الذي تتميز فيه سُمُوّاً عن غيرها. إنّ أسمى طبقة من المبدعين هم الذين يصنعون إبداعا راقيا بمستويين غير منفصلين: المستوى الأول يتمثل في كونهم يقدمون إبداعا راقيا وقريبا الى الكمال في الناحية المهنية التي يتطلبها مجالهم، والمستوى الثاني يكمن في كونهم يناصرون القضايا العادلة والإنسانية البعيدة عن العنصرية والمحارِبة لكل أشكال الظلم والتفرقة. هذه الطبقة من المبدعين متنزّهة عن الحاجة لاستمداد قوتها من السلطة او من الحاجة الى خدمة السلطة على حساب رُقيّهم في هذين المستويين. هؤلاء لا يمكنهم أن يتشبّثوا بنظرية الفنّ من أجل الفن لأنّ هذه النظرية فيها تهرّب من اتخاذ مواقف ثورية حادة والاكتفاء بالتفرغ كليا للمهنة ولأدواتها. قد نجد أديبا صهيونيا محترفا في مهنته الإبداعية ومترجَما لعدّة لغات ومحبَّباً لدى الكثيرين من متلقِّيه، كأن يكون فكره صهيونيا احتلاليا اعنصريا يجعله متمترساً حول قناعات تضليلية كأن يعظ بأنّه يحق له أن يستعيد العبرانيين اليهود أرض آبائهم وأجدادهم من النيل الى الفرات، وأن الفلسطينيين مضطرون للاعتراف بيهودية دولة إسرائيل وبأنه لا يحق لهم العودة الى وطنهم الذي طُردوا منه لأن هذا الوطن عاد الى ممتلكيه الأصليين بعد أن قام النازيون بمحاولة إبادة اليهود في الحرب العالمية الثانية. هذا النوع من الآيديولوجيا لا يخوّله الى الارتقاء في إبداعه الى مرحلة الصّفاء الإبداعي الذي يحتوي على المستويين آنفي الذكر، فالفلسطينيون لم يرتكبوا أية جريمة بحق اليهود في ألمانيا، واليهود الفلسطينيون العرب الذين عاشوا معنا في فلسطين كانوا عربا وفلسطينيين بكل معنى الكلمة، فكيف نتغاضى عن محاسبة قاتلهم النازي ونعاقب من لم يعتدِ عليهم ولم يقتلهم ولم يسعَ الى إبادتهم؟ ثم أنّ هذا النوع من التفكير مهما كان مرفوداً بالحجج والبراهين فإنه لن يكون مقنعاً لأنّ هذه البلاد لم يعش فيها فقط يهود عبر التاريخ بكل حقباته وتقلّباته، بل عاش فيها كل أنواع البشر ومرَّت عليها كل أنواع الحضارات والاحتلالات، وساكنوها إمّا أنّهم عاشوا فيها من قبل او أنّهم أتوا وأصبحوا جزءا من بيئتها مع مرور الزمن. كانت فلسطين أممية في تركيبتها الديمغرافية. إذا كان هذا المبدع حقّانياً فَعَلَيه الاعتراف والاقتناع بأنّ هذه البلاد لجميع مواطنيها وهي ليست مقتصرة على اليهود لكي يتفرّدوا بامتلاكها، وهو منطق لا يمكن لعاقل أن يرفضه بأن تعود فلسطين دولة لجميع سكانها، وليس أن تكون تحت سلطة مستعمرين أتوا من الغرب لكي يدّعوا أنها لليهود فقط لأنّهم قد يكونون من نسل 12 قبيلة كانت تسكن فيها مع آخرين منذ ألفي سنة. إذن فهنالك حاجة للانتقائية والتصنيف في الحكم على المستوى الثوري او الوعيي للمبدعين الذي يحملون كلا المستويين آنفي الذكر. منهم من هو ثوري بوطنيته وبالتزامه الوطني والسياسي ولكنه لا يستعمل أدوات مهنته الإبداعية على أكمل وجه، او بأدواته المتعارف عليها، فإبداع محمود درويش يمكن أن يكون هو أفضل مثال على الرقي الإبداعي والمهني والفكري والثوري الذي قد يشكّل المثال الأسمى لهذا النموذج، بينما هنالك ثوريون مثقَّفون مبدعون تقدميون لا نشك للحظة بثوريتهم، ولكنهم في "مهنتهم" وأدواتها وتقنياتها ومتطلباتها يبدون شعاراتيين وأدواتهم لا ترقى الى مستوى المهنية الحرفية التي اذا ما ترجمناها الى لغات بشر آخرين فستنفضح ركاكة أدواتها الإبداعية والتقنية. واذا ما عدنا الى برتولد بريخت كنموذج راق يحمل المستويين آنفي الذكر فإننا نقول إنه كان متمكِّناً من أدواته الشعرية والمسرحية بشكل مِهَني سامٍ، وحَمَل فكراً ثورياً تحدى به السلطة الحاكمة، ولكنّ أدواته مهما كانت مُحكَمة وواعية وثورية فإنها ستقود الى إبداع يمتلك سلاحا فكريا إبداعيا وليس سلاحا ماديا سلطويا، ما قد تستغله السلطات الحاكمة لصالحها كما تستغل السلاح الفعلي والسلاح الاقتصادي الذي تستمد منه قوتها باتخاذها القرارات المصيرية. لم تكن قوة الحسم هذه متوفّرة لدى بيرتولد بريخت، لذلك فقد هرب من المانيا عندما تعرّضت حياته للخطر. لم تستطع امبراطورية سلاحه الفكري الإبداعي أن تهزم امبراطورية الرايخ الثالث. قد يكون سلاح الإبداع ضعيفا أمام أسلحة السلطة الحاكمة. ربما هو سلاح ضعيف مرحليا وحاليا وفي فترة الحرب الحقيقية الحاسمة، ولكنه سلاح يعطي نتائج قوية بعد فترة طويلة، فهو ليس سلاح الثوريين الانقلابيين الذين يقومون بالثورة المفاجئة، بل هو سلاح يحفُر في الوعي كما يحفر الماء في الصخر. ولكن في المقابل فالحُكّام أيضا يطوّرون أدواتهم السياسية والسلطوية والعسكرية، وهم أذكياء بما فيه الكفاية لكي يجيّروا لصالحهم هذا المدّ البطيء للإبداع الذي قد يشكل خطرا عليهم. أكبر مثال على ذلك هو ذكاء سلطة امبراطورية رأس المال العظمى المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية التي تربَّعت على عرش الكرة الأرضية، والتي استطاعت أن تجيّر "هوليوود" ونجومها لكي يخدموا مخططاتها في حروبها في فيتنام وغيرها، ومن خلال امبراطورية الميديا عبر الانترنت وثورة المعلومات لكي تمتدّ باستعمارها الى معظم بقاع الكرة الأرضية، بالإضافة الى نجاحها في تحييد تدخّل المواطن الأمريكي في قراراتها السياسية الكبيرة، بحيث أنّها جعلته عبداً للدولار ولا يهتم كثيرا بالسياسة بل بالتفكير بشؤونه الحياتية الداخلية الفردية، وأصبح من المعلوم أنه مواطن يتمتّع باللامبالاة في الوضع السياسي لامبراطوريته. إنّ لعبة الديمقراطية في هذه الامبراطورية بقيت محصورة في حزبين يتناوبان السلطة فيما بينهما ويتحكم بهما بضع عائلات احتكارية ذكية تلعب بمصير البشر اقتصاديا وفكريا وثقافيا، وفي معظم الجولات الانتخابية لم تتجاوز نسبة المقرِّرين من المواطنين في التصويت 33% من الذين يحق لهم الإدلاء بأصواتهم. لقد نجح النظام الرأسمالي في تجيير الفنون لكي تبدو في قمة تقنياتها العلمية والمهنية والتسلوية والاستهلاكية، ولا ننكر أنّ الكثير من الأعمال الإبداعية صُنعت بشكل إنساني ومهني وتقنيّ راقٍ، وهذا ينطبق ايضا على الأعمال الإبداعية التجارية مثل المسرح التجاري والسينما التجارية، ولكن في المجمل فإنّ النظام الرأسمالي مَيَّع قضية استغلال الإبداع كوسيلة ثورية للتغيير ولتحدي النظم السائدة، بل إنّ الاحتكارات الرأسمالية القوية اقتصاديا وتقنياً كانت سَبّاقة في تجيير الإبداع لصالحها وتقريبِهِ أكثر الى مجال التسلية والإمتاع، وجعلت منه سلعة للاستهلاك التجاري، وأبعدته الى أبعد الحدود عن كونه عاملا ثورياً مؤثرا في تقرير مصير القضايا الكبيرة التي أقنعتنا هذه القوى الاحتكارية الحاكمة بأنّ هذه مهمتها هي وليست مهمة الإبداع، بل تسعى جاهدة لجعل الإبداع خادما لمصالحها، ومن أجل ذلك فهي تُغدق العطاء على المبدعين لكي يقدِّموا أفضل ما لديهم من إبداع، ولكن في حدود متطلبات المؤسسة الداعمة. بل إنّ الشركات الاحتكارية على استعداد لترويض الفنانين المشهورين فتدفع لهم مبالغ طائلة لكي يتحوّلوا الى مروّجين لبضائعها التجاريّة عبر الإعلانات التجارية، ومعظم الفنانين يُقبِلون بشَغَف على هذه الإغراءات لما فيها من مردود مادي ضخم خلال دقائق او ثوانٍ من الإعلانات التجاريّة، مدّعين أنّهم يعيشون في عالم رأسمالي فلسفته أنّ "الشاطر من شطارته" وأنّه من غير الممكن أن تكون اشتراكيا في نظام رأسمالي. المبدع الذي يبدع بشكل متفانٍ وبصورة يكون فيها مشغولا كليا في عالمه الإبداعي الخاص ويفضّل أن يكون إبداعه هو مملكته الخاصة التي تشغله يجد في مُتَلَقِّيهِ اكتفاءً ذاتياً، فهو يشعر أنّ إبداعه المقبول من جميع الفئات البشرية وينتشر على رقعة مساحات واسعة من البشر على اختلاف شرائحهم، كافٍ لكي لا يُقَوقِع نفسه في شريحة معينة او آيديولوجيا بعينها او حزب معين، فمملكته أضمن له وأوسع من قضية الانتماء لفكر مؤدلجَ بعينه، وهكذا فهو يشعر بأنه يلعب في المكان الآمن. اذا كان في إبداعه الراقي يرقى الى المستوى العالي المفيد إنسانيا وذوقيا ووعيياً وثقافياً، فلماذا يحشر نفسه في "الالتزام" المباشر او في "الوطنية" المباشرة او "التدخّل في السياسة"، بينما هو في "رقيّه الابداعي" يستطيع أن يخدم القضية الكبيرة التي ينتمي إليها لكونه يوازيها قدراً؟ لقد عانى محمود درويش من هذه المعادلة، ولكنه عنّد على البقاء في المنطقة الآمنة التي يلعب من خلالها في مملكته الخاصة دون أن يكون منعزلا عن قضيته الأم، فقد وصل الى مرحلة التوأمة مع القضية الفلسطينية في رقيّهما. ولكن يبقى السؤال هل هو صاحب القرارات المصيرية الكبيرة ام انه جزء من الخادمِين للقضية الكبيرة على طريقته الراقية الخاصة، ام أنّه ليس مطلوبا منه بأن يلعب مكان أصحاب القرارات الحاسمة والمصيرية من المختصين الآخرين في مجالاتهم القيادية السياسية والوطنية والحزبية والخطابية والتسلّحية؟ نماذج متطرّفة في انفصاميتها الإنسانية والإبداعية: كم كان المتنبي عظيما في فلسفته وحِكَمِه وقُدرته الشعرية واللغوية، ولكنّ سقطته العنصرية التي عبّر عنها بالشعر ستلازمه الى الأبد، فمهما كانت أسباب غيظه من تعامل "كافور الاخشيدي" معه فقد حوّل مشكلته الشخصية مع أحد السُّود الى موقف معادٍ لجميع السود في العالم، ونفث من شيطان غروره واستعلائه وعنصريته الميكافيليّة ما أفقده الكثير من عظمته عندما قال: لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلّا والعَصَا مَعَه إنَّ العبيدَ لَأَنْجاسٌ مناكيدُ مَنْ علَّمَ الأسودَ الْمَخصِيَّ مَكْرمَةً أقومُهُ البيضُ أم آباؤه السُّود؟ وبعد أن ساهم موقفه هذا بالفتك بسمعته الإبداعية والأخلاقية، أدّى به أحد أبياته الشعرية التي عبّر فيها عن غروره الى أن يُقتَلَ فَتكاً جسدياً على يدي "فاتك بن أبي الجهل الأسدي" لقوله: "الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفُني والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ". كان مرتبكا بين إنسانيته وغروره وميكافيليته وطمعه في موقع سياسي واجتماعي، وبين طموحه الى الخلود كفيلسوف وكشاعر متمكّن من أدواته. وأما "أدولف هتلر" فقد كان اشتراكياً لدرجة النازية، وكان رساما وتعلم من أديب يدعى "فريدريك نيتشة" المبشر بالقوة وبتفضيل بشر عن بشر حسب الطهارة العرقية والقوة، فنتج عن ذلك شعار :"المانيا فوق الجميع"، و"الدم الآري هو أنقى دماء البشر". كان الأول رساماً نازياً والآخر أديباً عظيماً نَهَل الفكر النازي من نظريته، وفي الوقت ذاته لا أحد ينكر مدى عطائهما العبقري في فترة صاخبة من حياتهما. ثم هل نصفّق للكاتب "علي سالم" ونمجّده على براعته في كتابة نص مسرحية "مدرسة المشاغبين" ونغفر له دفاعه المستميت عن سياسة التطبيع مع إسرائيل بحجة دعم مشروع "السلام" وسياسة الانفتاح الساداتية؟ وهل نغفر لنجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل لأنّه دعم زيارة السادات الى إسرائيل، علماً بأنّ جزءا كبيراً من دوافع منح جائزة نوبل هو سياسي؟ ألم ينزع الأديب الفلسطيني "إميل حبيبي" صفة "أديب" عن الأديب الإسرائيلي "أ.ب. يهوشوّع" لأنّه يوجد تناقض مبدئي ومنطقي بين أن تكون إنسانيا وان تكون صهيونيا عنصريا؟ فنان فلسطيني محترف من الفنانين المشهورين المخضرمين هُجّر من بلدته ولا زال يعيش هنا في الوطن انجرف الى لعبة الانتخابات فقبِلَ على نفسه، أن تُنشَر صوره على صفحات الجرائد كمؤيّد لمرشَّح صهيوني شغل منصب حاكم عسكري في الضفة الغربية. هو محترف في مجاله الإبداعي ومحبوب من قبل مشاهديه، ولكن كيف نستطيع تقييمه عندما نجده في خطابه الإبداعي قمة في الإنسانية وأحيانا قمة في الوطنية من جهة، بينما هو في سقطات مواقفه على النقيض من ذلك من جهة أخرى؟ هل هو الضعف أمام لقمة العيش والإغراءات المادية ام الانفصام في الهوية؟ شويعر جُل طموحه أن يصدر ديوان شعر على حساب "وزارة الثقافة الإسرائيلية" يُنَظِّر في برنامج على الفضائية الإسرائيلية الرسمية عن كيف يجب أن يكون الشعر ويزاود على سائر الشعراء، ويفاخر بإنسانية شعره وحِرَفِيّته وهو لا زال يحبو في قواعد اللغة وأصول الأوزان والموسيقى الشعرية ومقاييسها. شاب أحبّ مجال المسرح والتمثيل وأجاد فيه، ولكنه منتسب لحزب صهيوني متطرف ويؤمن بمبادئه، فهل أغفر له انتسابه السياسي مقابل موهبته الكوميدية في الأدء المسرحي؟ كم كان المغني فضل شاكر جميلا وعذب الصوت، وكم أصبح قبيحا ًعندما انتهج العنصرية الدينية المتطرفة! سعيد عقل نموذج للمبدع المنفصم: يبدو أنّ الشاعر سعيد عقل ولبنان الكرامة والإبداع يعيشان الانفصام ذاته. لبنان البلد الصغير الذي وَلّد فنانين عباقرة في جميع المجالات الإبداعية والفنية غمروا العالم العربي بكتبهم وموسيقاهم وأدبهم وغنائهم وأصواتهم الجميلة، هم هم الذين يعانون من الطائفية والقبلية والولاء للخارج. لا ألوم شاعراً يحب وطنه لدرجة العبادة والشوفينية والقبليةّ، وله أن يدّعي أنّ لبنان الصغير حجما وعديدَ سُكان هو أقوى وأرقى دولة حضاريا وام الحضارات وصاحب المجد والأنفة والقوة، وقال عنه: "مبتدأ الكون والحضارة"، فحب الوطن فرضٌ على جميعنا، وحب العالم العربي كعالم يجمعنا أمّة ولغة وتاريخا هو أسمى أنواع الحب. الواقع الحالي يقول شيئا آخر، فنحن كلنا في "الهوى سوا"، و"أمر مبكياتك وليس أمر مضحكاتك" يا بيروت ويا قدس. كيف لنا أن ندّعي هذا المجد ورأسنا في السماء وأرجلنا غاطسة في الوحل؟ نرزح كما كل العرب تحت قيود الطائفية والْمِلَليّة والتفرقة، ونخضع لسلطة أمراء طوائف و18 قبيلة وسِبْط يزيدون عن أسباط "الإسرائيلياني" بثمانية، ومعظم الجالسين على كراسي عروش الأوطان للأبد وبالوراثة يعتمدون كالفطريات على الولاء للخارج وعلى لوثة مال الخليج والتبعية لفرنسا وأمريكا؟ نعتزّ بالمجد الغابر، وعندما نضيق ذرعا بحالنا نستنجد بالإسرائيلياني ألدّ أعداء لبنان والعرب لكي يأتي ويساعدنا على إبادة أخوتنا الفلسطينيين عن بكرة أبيهم، وقد قرفناهم(حسب رأيه) لكونهم ضيوفا دائمين غير مرغوب فيهم في امبراطوريتنا الضعيفة صاحبة المجد التليد، بعد ان كفرنا بعروبتنا وباللغة العربية التي استقينا إبداعنا العالمي الجميل منها. صيغة الجمع هذه تحتوي بداخلها انفصامية سعيد عقل وصيغة الفرد تحتوي صيغة بعض الجمع. دمّرَنا مشروع التقوقع في الأنا المحدودة وانتهاج المشروع الديني المتشدد والمدمّر والاعتماد على طلب النجاة من الغير والغيب بعد أن عجز العاجزون عن إيجاد بديلهم الخاص في بناء أنفسهم بأنفسهم بدلا من الاحتماء بالخارج والاعتماد عليه. أصبح لبنان بلداً فيه الكثير من الحرية الفردية، والوفرة من العبثية الديمقراطية السياسية. أصبحت عدوى اللجوء الى الغير والغيب سمةً مشتركة لكل العالم العربي. يبدو أنّ عَدْوى التعصب الديني والطائفي في لبنان انتقلت ايضا الينا نحن الفلسطينيين بعد أن كنا نتغنى بتميّز فلسطين في كونها أممية الهوى والهواء. ربما تعلَّمنا من لبنان الطائفية والانفصام والانشقاق! هنالك الكثير الكثير من المشترك بيننا، فمثلا أكثر من ضِعْف عدد السكان في لبنان مهاجِرون مثلنا، مع أننا هُجِّرنا قسراً، بينما اختار اللبنانيون الهجرة بمحض إرادتهم بعد أن توقف لبنان عن كونه سويسرا الشرق. سعيد عقل أحب السيدة العذراء والسيد المسيح رمزيّ المحبة والسلام واللاعنف، وهو سيد الدارسين لعلم اللاهوت. المريمتان، العذراء والمجدلية، شهدتا صَلْبَ ابن الله الوحيد ولم تطالبا بإبادة صالبيه، فإذا كان سعيد عقل من فلاسفة علم اللاهوت كما يحلو للبعض نعته، فهل لاهوته نيتشوي ام مسيحي؟ كيف له أن تكون العذراء والمسيح نموذجَيْهِ المفضَّلَين ويستنجد بالإسرائيلياني صالب المسيح لكي يبيد الفلسطيني ابن جلدته وأمّته حتى وإن اعتبرنا أنفسنا أبناء فينيقيا وكنعان او أبناء سوريا الكبرى؟ صحيح أنّ المسيح قال أحبّوا أعداءكم حتى وإن كانوا صهاينة، ولكنه لم يقل أبيدوا أخوتكم في العروبة. أليس هذا انفصاما مريباً؟ كيف تستوي فلسفته الإبداعية مع فلسفته الحياتية؟ كيف له أن يتباهى بحبِّه للمسيح نبي التسامح وهو في إبداعاته يعبّر عن قمة إنسانيته، بينما فيما يعتنقه من مبدأ هو عكس ذلك؟ فيروز أرقّ المخلوقات غنّت شعره الجميل الراقي عن فلسطين ومكّة ودمشق والأردن، وقد طلب من ربّه أن يعزَّ الناس كلهم "بيضا فلا فرّقتَ او سودا". بدأ مسيرته قومياً عروبيا وانقلب الى مُطالبٍ باستقلال لبنان عن العالم العربي لكونه فينيقي الهوى والحضارة. هو القائل في شعره: "أنا لا انساك فلسطين". ما قيمة فلسطين بدون أهلها، وهل أصبح أهلها مستوطنيها الجُدد؟ وهو القائل: "أجراس العودة فلتقرع". عودة مَن؟ عودة المستعمرين الى وطن التوراة والانجيل؟ لماذا انقلب مائة وثمانين درجة وشَلَح جلده وطالب ربّه بأن يكون عَوناً للإسرائيلياني بقيادة الزعيم "مناحم بيغن" لكي يبيد الفلسطينيين عن بكرة أبيهم ويخلّصه من دنسهم وإرهابهم ووحشيتهم؟ يا للعبث. طلبَ من اليهود بأن يبيدوا الفلسطينيين بعد أن كان اليهود ضحية للإبادة من قبل النازيين. أليس سعيد سيد العارفين بأنّ سبب وجود الفلسطينيين في لبنان هو احتلال الإسرائيلياني لوطنهم، فلولا وجود إسرائيل وكونها الولاية الأمريكية المتحدة الحادية والخمسين لما كان الفلسطينيون لاجئين في لبنان، ولما كان حالنا نحن العرب على ما هو عليه الآن، فكيف يستنجد بالحرامي لكي يكمل جريمته بإبادة المسروق؟ قد نغفر ذلك لشخص عادي ولكن من الصعب تبرير موقفه كشخصية عامة، وتكون الجريمة أكبر عندما نجده مؤيدا لمجزرة صبرا وشاتيلا ووصفه لها بأنّها بطولة وإبداع لبناني إسرائيلي. صرح سعيد في مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي الرسمي قائلا بكل صفاقة: "ما فيه خطوة ثانية. خطوة واحدة هي إنّه يكمّل هالبطل "بيغين" بتنظيف لبنان من آخر فلسطيني. هذا المطلب اللي بدّو اياه لبنان. اذا هالأمر هذا ما تمّ أنا بكون تعيس، والشعب اللبناني بيكون تعيس معي. أول ما فات الجيش الإسرائيلياني على لبنان كان لازم كل لبنان يقوم يقاتل معه. أنا لو انه عندي تنظيم حربي هلّق بقوم أقاتل مع الجيش الإسرائيلي وما بخلّي الجيش الإسرائيلي يقاتل لوحده. أنا بجريدتي اليوم انا وعم باشكُر الجيش الإسرائيلي وبقول انا مبسوط لسببين، لأنه هالجيش بيخلّصنا، لأنه "بيغين" عم بيخلّص العالم وعم بيسحَق راس الحيّة اللي اسمه الإرهاب، بس أنا عم بقول أنا زعلان لأنه مش نحنا اللي عم بنخلّص لبنان مع الإسرائيلياني من هالوسخة اللي اسمها العنصرية الدموية الفلسطينية.. الشعب اللبناني بهالحرب عمل حرب حلوة ضد الفلسطينية..اللي بيقول (عن جيش إسرائيل) جيش غزو بدّو قص راس. انا بقول لك باسم كل لبنان انه هذا الجيش الوحيد جيش الخلاص". (لاحظْ أنّه ذكر كلمة أنا الغروريّة في هذه المقابلة أكثر من عشر مرات وهو يتحدّث باسم كامل الشعب اللبناني). قال ذلك خلال فورة دماء ومجازر وقد تكرّرت خلالها مقولة: "على كل لبناني أن يقتل فلسطينيا". يا ترى، بما أن عدد سكان اللبنانيين يساوي عدد سكان الفلسطينيين، فلو تحقّقت أمنية الثأر لدى الطرفين بأن يقتل كل لبناني فلسطينيا وأن يقتل كل فلسطيني لبنانياً، فحتماً ستكون النتيجة انقراض الطرفين.. و"نيّالك يا إسرائيل"! هل الحل البديل هو عزل لبنان عن عروبته وزجّه في أحضان إسرائيل؟ بماذا يختلف في مبدئه هذا عن جيش جنوب لبنان و"أنطوان لحد" و"سعد حداد" الذين وعدتهم إسرائيل زورا وبهتانا بأنها ستقيم لهم دولة مسيحية في لبنان إن هم قضوا على الفلسطينيين الإرهابيين؟ صحيح أنّه في كتاباته وإبداعاته الإنسانية حظي بإعجاب الكثيرين من الناس، وعندما غنت له فيروز قصائده انحنينا اجلالا له ولها، وصحيح أنّه كان لاهوتيا فيلسوفا عبقريا ذكيا كريما عفيفا، ولكنه في فكره الثقافي الآيديولوجي وقع في فخّ العنصرية، فَشَوَّهَ بذلك صورته النموذجية. بدا في تصرّفه كأنه شخصيتان في جسد واحد، شخصية منفتحة على الكون والبشر "منافقة" لإبداعه لكي يكسب رضى جميع البشر ولكي يُرضِي أناه الفوقيّة المبدعة ليصل بذلك الى العالمية من جهة، وشخصية أخرى خارج إبداعه أوقعته في فخّ التقوقع والانغلاق من جهة أخرى. (انتهى)
*راضي د. شحادة - كاتب ومسرحي فلسطيني من الجليل
#راضي_دخيل_شحادة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشرف المطعون
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|