|
قراءة في الشر -8 - كمصدر للمعنى ضد استحقاقات الوجود العبثي
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4653 - 2014 / 12 / 5 - 01:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يحتاج الجمع ُ المؤمن ُ بحضور العنصر ِ الإلهي و منظومته الدينية إلى استمداد ِ المعنى و استدرار استدامة ِ الحضور الإلهي من خلال النظر ِ إلى الشر ِّ العامل في العالم و تفسيرِه على أنَّه َ عنصر ٌ فاعل ٌ من عناصر التأثير في العالم و التي يسمح ُ الإله بحكمته غير المُدركة و إرادته غير ِ معروفة ِ السبب ِ الدافع ِ و المُحدِّد ِ، بوجودِه و اتِّخاذِ دوره ِ الجدليِّ .
لكننا و إذ ننظر ُ إلى هذا الشرِّ من خلال الإطار ِ الظرفيِّ لوجودِه ِ، و الذي هو إطار ُ النتيجة ِ الطبيعة ِ من السَّبَب ِ المُولِّد ِ لها، نجد ُ أن الشرَّ في حد ِّ ذاتِه ما هو إلَّا استبباع ٌ من الظَّرف ِ للمُتَوَلِّد ِ عنه من نتيجة، و أن ما نعتبرهُ شرَّا ً هو مجرَّدٌ ردِّ فعل أو نتيجة ُ فعل ٍ لا أكثر، لكنها أصبحت شرَّا ً لأن تأثيرها على الإنسان جاء َ متعارضا ً مع رغباتِه ِ أو استمراريته أو صحَّته أو بقائِه أو لذته أو خططه للمستقبل.
و بالتوازي مع نظرتنا العقلية ِ المنطقية ِ السابقة إلى الشر، لا نستطيع ُ من خلال معيشتنا في مجتمعاتنا الدينية إلا أن نلاحظ َ أن الجمع َ المؤمن ِ يُخالفنا هذه النظرة َ، و يُعطيها معنى ً آخر َ يخدِم ُ الأدلجة َ الدينية و يُثبِّتها في نفوس الجمع ِ و يجعل ُ منها ختم الصلاحية و شهادة َ المصداقية و توقيع َ الضمان ِ الغيبي ِّ ، فيُصبِح ُ هذا الشر ُّ إذا ً تبريرا ً للضرورة ِ لوجود ِ الفردوس القادم، و العذاب المُصاحب ِ الدائم، من خلال ِ استحداث ِ نظام ٍ يقول ُ بـ ِ و يُؤكد ُ على وجود ِ دار ٍ أُخرى يُجازى بها المُسئ و يُكافؤُ بها المحسن، تحقيقا ً لعدالة ٍ مفقودة ٍ، يعترف ُ بـِ و يُدرك ُ فقدانها اللاديني و الديني، في حين ِ أن الأوَّل َ يُلحِقها بالتاريخ و الظرف و السياق الإنساني و الاستتباع ِ المنطقي من قانون السبب ِ و النتيجة، بينما الآخر ُ يجدها في حكايات الإيمان، وتاريخ الحضرة الإلهية الموروث و شخوصِه غير المرئية و مُتطلبات الإيمان، و ممارساتِ العقيدة و مُسلَّمات ِ الدين.
و يتحتَّم ُ علينا من خلال ِ هاتين ِ النظرتين ِ المُفارقتين ِ لبعضهما أن نسأل و نتساءَل َ و نتعجَّب َ و نُدرِكَ حقيقة َ الاختلاف ِ، فنُعمِل َ العقل َ لكي نفهم َ ماهِية َ هذا الشرِّ من حيث ُ حقيقة ُ كونِه لا دينيا ً مُخرج َ السبب ِ و النتيجةِ الحتمية للحياة كما هي في نتائجِ تفاعلات ِ شبكة ِ العلاقات، ثم نسأل َ لم َ لا تستطيع َ المنظومة ُ الدينية أن تُقدِّم َ لنا ذات ِ التفسير ِ و مُماثِل ِ السبب؟
إن َّ الجواب َ على السؤال ِ السابق ِ هو استتباع ُ الالتزام ِ بالمنظومة.
فاللاديني منظومته الحياتية تخلو من الغيبيات ِ و فعلها، و ترتكزُ على التاريخ والحاضر ِ كأفعال ِ إنسانية ٍ بحتة ناتِجة ٍ عن برمجة ِ الجينات ِ البيولوجية ِ التي تُحدِّدُ حاجات ِ الكائن ِ الحيِّ و ما يستلزم ُ أن يفعله ُ ليلبيها، و بالتالي تتكوَّن ُ منظومة ُ القيم ِ لديه وفقها، مع مراعاة ِ اختلاف ِ المجتمعات ِ في إيجاد ِ و تحديد ِ آليات ِ الاستجابة ِ لهذه الحاجات ِ بحسب السياق التاريخي ِ و الثقافي ِّ و التطوري ّ، حتى إذا ما وجد َ هذا المجتمع ُ توازنَه ُ التوافقي صاع َ دستوره َ الحياتي و القانوني إنسانيا ً مُنسجما ً مع الطبيعة و قدِر َ و اقتدر َ أن يأتي بما يعكس ُ كينونة ً حقيقية ً لهذا الوجود و لذلك َ التوازن بتصالُح ٍ و تلبية ٍ لتلك الحاجات.
و لن يتحرَّج َ المجتمع اللاديني من الاعتراف ِ بعبثيِّة ِ الوجود ِ و غياب ِ الهدف ِ منه، ثمَّ النهوض ِ بنفسِه ِ لإيجاد ِ هدف ٍ جمعي ٍّ سيادي خارجي تدعمُهُ أهداف ٌ فردية ُ قد تكون ُ منسجمة ً معه أو مفارقة ً له من حيث ُ كونُها على المستوى الشخصي الأدنى من الجمعي، لكن ِ التي ِ تصبُّ في قالبهِ و إطاره الجامع ِ المُعترِف بصلاحية ِ و أحقِّية وجودها، طالما أنها تتضافَر ُ في النهاية لتشكيل ِ حُريِّات ٍ و حقوق ٍ غير ِ خافية ٍ و ظاهِرة ٍ بقوَّة ِ و استحقاقات ِ البيولوجيا العضوية، و التي لا بُد َّ لانها حقيقية ٌ من أن تُشكِّل َ وعيا ً مُتفوِّقا ً قادرا ً على بناء ِ وعي ٍ جمعي ٍّ مُتفوِّق ٍ على البوهيمية ِ الجينية.
و معنى الفكرة ِ الأخيرة ِ مما أوردتُه ُ أن َّ المُخرجات ٍ الفرعية ِ للنظام اللاديني الليبرالي العلماني الحر، و إن كانت تصدم ُ بعض مُكونات المجتمع من حيث خروج ِ الحرِّية ِ عن المألوف ِ و المقبول ِ للجمع إلأ أنها ضرورية لحفظ ِ توازُن المجتمع و سلامة ِ كيانهِ، فتأتي الحريات و الشر الناتج عنها، و الخير المرافق لها كعوامل ِ اتزان له، مع الاعتراف ِ بالحاجة ِ لضبطها و تنظيمها، و ترك المساحة الفردية لممارساتها.
أمَّا في المجتمع الديني المضبوط ِ بقوّة ِ الأيمان المُتأطِّر ِ في ثبات ِ الممارسة و رفض تنوعها و جمود ِ العقيدة و نُكران ِ حاجتها للمراجعة، فإن َّ الحُريات الضابطة للمجتمع و المُبرزة لأخص ِّ ما في الطبيعة البشرية تغيب ُ عن الحضورِ لصالِح ِ رؤية لا طيفية تتخدُ من اللون ِ الواحد الشامل معيارا ً بسيطا ً غير مُعقَّد ٍ للُحكم ِ على السياق التاريخي و ظرف ِ الحاجة و ثقافة ِ هذا المجتمع و طموحَه ُ و مُحدِّدات ِ تفاعلاته مع أفراده و المجتمعات الأخرى.
و سوق يترتّب ُ على هذه الرؤية مخالفة ٌ طبيعية لشروط ِ الوعي و الإدراك التي تطلبها الطبيعة البشرية من جهة ِ استيعاب الأحداث كما تمليها الحواس و يفرض ُ تفسيرها العقل و المنطق، فتنشأ لدينا بقوة ِ الأيمان تفسيرات ٌ غيبية ٌ مفارقة ٌ للواقع و مُتحدِّية ٌ له و مُتعارضة ٌ مع قانون ِ السبب و النتيجة، و لذلك إذا ما استقرَّت للأنفس ِ القصصُ و الأيدولوجيات ُ المفارقة كأسباب ٍ و تفسيرات برزت ِ النتائج ُ كإشكاليات ٍ لا بُد َّ و أن تتسبَّب بتعقيدات ٍ إضافية ٍ و تسير بذاك َ المُجتمع ِ الديني نحو صدام ٍ جديد ٍ مع الواقع و صراع ٍ ناتِج ٍ عن الفشل ِ في تلبية ِ الحاجات سيقود ُ في النهاية إلى مزيد ٍ من الاضطراب الداخلي للفرد، و الانحدار ِ الجمعي ِّ للمجتمع.
لا تستطيع ُ المجتمعات ُ الدينية ُ رؤية الشر ِّ على حقيقتِه و لا بدَّ لها من أن تُعطيه معنى ً خيرا ً بأن يكون َ خادما ً للهدف النهائي و الغاية ِ المرجوة و هي تحقيقُ العدالة ِ الإلهية الشاملة، فيصبح الشرُّ عندها مقبولا ً و إن كان مكروها ً ، و ذا حيز ٍ حَقيٍّ أي ذي حق ٍّ في الوجود و إن كان مصدر َ تعاسة، و بالتالي تمتنع ُ عن إدانته، أو تدينه داخل إطار ٍ هو في الحقيقة ٍ تمجيد ٌ خفي ٌّ مُحتف ٍ راغب ٌ في استدامتِه ما دام الخادم َ المطيع للألوهة ِ و نظامها الديني و حتميتِها القائلة ِ بزوالِه بشرط ِ قبوله أولا ً.
و أعتقد ُ أن الفلسفة َ الدينية َ و هي رافضة ٌ جملة ً و تفصيلا ً لعبثية ِ الوجود، سوف تستمر ُ في إيجاد ِ أسباب ٍ و تبريرات ٍ لقبول ِ هذا الشر، بل إنها سوف تحتضنه و تُلبسه لبوسات ٍ مُختلفة ٍ بزخارِف َ و تجملات ٍ تطورية ٍ لا تنضب ُ و لا تقر ُّ و لا تهدأ حتى لو كانت -و هي كذلك- مُستعيرة ً من المنظومة ِ الدينية ِ النظرة َ التجريدية َ و المنهج العلمي الذي تعتمده بقشورهِ دون جوهرة، لكي تبقى.
قديما ً قالوا أن الشر لا يوجد بدون الخير، و أن العدل نعرفه بوجود الظلم، لكن أسر َ هذه المفاهيم لقول ِ الباطل ِ محمولا ً على و مُنطلقا ً من قواعد الحق و الصحيح، هو مزية ٌ للمنظومة ِ الدينية ِ تُتقنها بفعل ِ السنين و قوة ِ البنية التحتي، و عدد الأتباع الموروثين. و عليه فإننا نستطيع ُ القول َ بكل ثقة أنه لا استمرار للدين في وجه العلم إلا حينما يرتدي هذا الدين ُ لباس ذلك العلم، فيكون ُ المظهرُ للأعمش ِ واحدا ً و الجوهرُ في كلِّ الحالات ِ مُختلفا ً مُفارقا ً غير مُتصالح!.
من كان له عقل ٌ للفهم، فليفهم!
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بوح في جدليات – 8 – نباتيون، متعصبونَ، وحشيونَ و متحضرون.
-
سقوط كوباني الوشيك.
-
بيريفان ساسون
-
قراءة في اللادينية – 4 – الإحيائية، الطوطم و التابو كمدخلٍ ج
...
-
قراءة في اللادينية – 3 – الإحيائية، الطوطم و التابو كمدخلٍ ج
...
-
أين التحالف من كوباني؟
-
قراءة في اللادينية – 2 - ما قبل َ مأسسة الدين.
-
قراءة في الشر -7 - المقدس التعويضي و الشر الخلاصي.
-
وباء السلفية التكفيرية –6 – لامركزية المرجعية و استتباعاتُها
...
-
بوح في جدليات – 7 – أبي أنا ذاهب.
-
في الموت – قراءة رابعة، بوابة الانتقال.
-
قراءة في جدلية ما بين المنظومة الدينية و الواقع- 2 – المقدس
...
-
بوح في جدليات – 6 – ارتدي ثيابك َ لقد تأخرنا.
-
وباء السلفية التكفيرية – 5- التركيب الإجرامي للتكفيري ج 4
-
الضربات الأمريكية لداعش.
-
وباء السلفية التكفيرية – 4- التركيب الإجرامي للتكفيري ج 3
-
وباء السلفية التكفيرية – 3- التركيب الإجرامي للتكفيري ج 2
-
وباء السلفية التكفيرية – 2- التركيب الإجرامي للتكفيري ج 1
-
بوح ٌ في جدليات – 5 – جارنا و الأفعى.
-
في الموت – قراءة ثالثة، من العبثية حتى الحتمية.
المزيد.....
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الثاني
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الاسرائي
...
-
إطلاق نار على قوات إسرائيلية في سوريا وجبهة المقاومة الإسلام
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد بجودة HD على جميع الأقمار الصناع
...
-
بدء احتفالات الذكرى الـ46 لانتصار الثورة الاسلامية في ايران
...
-
40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
40 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
تفاصيل قانون تمليك اليهود في الضفة
-
حرس الثورة الاسلامية: اسماء قادة القسام الشهداء تبث الرعب بق
...
-
أبرز المساجد والكنائس التي دمرها العدوان الإسرائيلي على غزة
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|