عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4650 - 2014 / 12 / 2 - 23:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن البناء المعرفي اليوم ومن وجهة نظر عقلانية لا يمكن أن يكون مقطوعا كمنتج حداثي عن ماضيه ولا عن أسس التواصل التي استولدت بموجباتها القوانين المعرفية الحديثة ,لأن ذلك بحد ذاته يشكل خروجا عن العقلانية وتجاوز على الحقيقة المعاشة فلا أينشتاين ولا جان لوك ولا نيوتن ولدوا جميعا من فراغ حداثي كما لم يولد آدم من لا شيء فكري ومعرفي وتهيئة مسبقة لوجوده الأرضي بعد نزوله من الفردوس الأعلى.
إن أزمة العقل السلفي اليوم أزمة تكوينية قبل أن تكون أزمة تكيفية, فالعقل السلفي واقع تحت ما يسميه البعض القهر الفكري القسري المرتبط بالتراث المقدس الذي يكبل القوى العقلي من أن تتحول من فطريتها وبساطتها إلى التراكمية التركيبية التي تنج معرفة متنوعة ومتعددة الأوجه والنظرات كما قدمنا في البحث السابق(( ويظهر لنا أن هناك دوراً تعطيلي تقوم به معظم المفاهيم والمعتقدات الدينية السائدة والمسيطرة على تلك المجتمعات الغارقة في تخلف فكري واجتماعي يعاد اجتراره وإنتاجه على الدوام حيث أنه من المعروف في هذا المجال أن الفكر والمعرفة المختزنة في داخل كل فرد هي القاعدة والمحرك الأساسي لتصرفاته ومشاركته في صنع أحداث ووقائع حياته اليومية.. أي أن رؤية هذا الفرد وفلسفته في تسيير الوجود الخاص والعام هي المنطلق الجوهري لأي طموح أو رغبة لديه في بناء عالمه وتحقيق كماله الممكن له ويمكننا أن نطلق على تلك الرؤية أو المعرفة بكل بساطة فلسفة الإنسان وهي متكونة من خلاصة تجاربه وتراكم خبراته، وتجسد رؤيته المنطلقة من ذاتيته المعرفية المختلطة بما يحيط به من أحداث وتحولات شاركت في تكوين وانبثاق تلك الفلسفة التي اكتسبها من وجوده في هذه الحياة)) .
إن هذه الفلسفة التي يمكن لنا جزافا أن نطلق عليها فلسفة تعيش الماضي كهاجس عام وتفصيلي وتسير في ضل ما يفرضه من مؤديات تقود دوما إلى الرجوع إلى الوراء واسترجاع كل ما هو مخالف للواقع الزمني وتتغافل عن كونه أي الزمن لازال يسير بخطى متسارعة تترك هذه الفلسفة وأصحابها في دوامة لا تنتهي في زمن انتهى ولم يعد مقبولا له أن يفترض على الأخر أن يسلم له كونه مقدس أو ذا اعتبار لا يمكن تجاوزه.
لقد درس علماء المعرفة وأنماط التفكير ظاهرة تمسك البعض في معتقداته وميوله الفكرية وجعلها دون سواها القائد الذي يقودهم نحو فهم كل ما يجري حولهم وتفسيره من خلال مصطلح (البارادايم) الذي يعني(اصطلاحاً هو مجموع ما لدى الإنسان(عقل ماضي) مما كونه من خبرات ومعلومات ومكتسبات ومعتقدات وأنظمة(ثقافة مر بها في حياته)، مهمتها رسم الحدود التي يسير داخلها الإنسان وتحديد تصرفه في المواقف المختلفة ,ويمكن تعريف البارادايم بأنه نظارة العقل أو هو نظام التفكير عند الإنسان والعدسات التي يرى من خلالها الحياة وهو الحاكم للتغيير في كل مراحله وقد يجعل الإنسان يرى الأمور بغير حقيقتها وهذا من أهم أسباب اختلاف البشر )).
فالاختلاف الإنساني يرجع إلى أختلاف طرق تكون البارادايم الخاص بكل فرد وهو قطعا ليس واحد وإن كان ذاتيا, وذاتية البارادايم ليس من الكينونة ولكن من التجربة والتكوين الفكري الذي يصنع الشخصية العقلية, فهو حسي مكتسب أي ذاتي طارئ وما يسميه البعض هو من السنخية بين العلة والمعلوم ,أي مجانسة المعلول للعلة, فهو بمرتبة نازلة عن العلة وليست مساوية لوجودها, وهنا تختلف الذاتية تبعا للعلة وإن كانت واحدة في الأصل.
مثلا تغير قواعد التنشئة والتقدمة وهي غير متشابهة قطعا بنتائجها تبعا لتغير العوامل النفسية الحسية ونقصد بها تفاعلات القوى النفسية الحسية الثانية, هي العوامل الحاسمة في تباين النتائج ومنها تكوين المعرفة وإنتاجها, فهي ملتصقة بالتجربة الحسية نعم ولكن ليس بمفهوم تفردها بذلك بمعزل عن العقل ولكن بمعنى تعطيل أو تنشيط العقل في تفعيل التجربة وإدارته ,وهنا مثلا نجد أن حتى في طبقة العلماء هناك من يسعى لصنع الشر وهو يعلم بنتائجه وتأثيراته على الوجود ولكن العقل العلمي لا يمنعه من الاحتكام للعقل السليم الذي يسميه البعض بالضمير الحي في تلافي انتاج معرفة ضارة أو لا أخلاقية.
تبرز هنا مسألة جديرة بالاهتمام ألا وهي أن العلم في بعض نتاجه قد لا يكون عقلانيا ولا حتى المعرفة ما لم يحتكم للعقل الإيماني, العقل الذي يستنير بقواعد الإيمان ويتلقاها وإن على محك البرهان فلا يضره ذلك, ولكن النتائج التي تترتب على التمسك به تفتح مسالك التنوير الحقي الذي يوافق العقل الفطري السليم ولا يعتدي على قوانينه الكونية ومنها خضوعه لقواعد الكينونة الأولى التي جبلت على الخيار الحر بين الشر والخير.
لقد أنطلق العصر التنويري الذي قادته الرسالات الدينية أولا في مجتمعنا أو غيرها من المجتمعات من تحفيز العقل والخروج به من البساطة والتركيز على الثوابت المتسالم عليها تكاسليا إلى عالم النظر والتدبر وتفعيل القوى العقلية القادرة على قيادة السعي نحو الكمالات الإيمانية من خلال حض وصنع الكمالات العقلية وأولها التعلم والعمل والتفكر في ما وراء النفس(ذات ووجود)إلى عالم الما حول الكبير والممتد خارج قيم البصر والحس وهذا ما دأب القرآن الكريم عليه من خلال استعمال مصطلح النظر الذي يعني بصورة أكيدة إلى النظر العقلي المتفاعل وليس إلى استعمال حالة الحس النفسي من خلال البصر العيني المحدود.
البناء المعرفي من المنتج العقلي بغض النظر عن مصدره لا بد له أن يكون في توافق دائم مع الكمال ويسعى له, وهذا يستوجب الفحص الدائم وممارسة النقد لكل المنتج المعرفي ومن خلال عرض هذا البناء دوما على ما يثبت من النظام القيمي الشمولي الذي يحكم الوجود الحياتي للإنسان وموقعه في هذا النظام , بالعمل بمنتج المعرفة الذي يحتكم ومن خلاله بقيمته وتوافق القيمة مع النظام القيمي الشمولي.
أن خبرتنا وهي ما يمكن أن نطلقه على كل المنتج المعرفي والتي نصيغها في قوالب تفكرنا (بارادايم) لا تعني الاهتمام بكل ما ورد فيها وليس هذا من التفكير العقلي في شيء, ما نفكر به يجب أن نتدبره تدبيرا سليما, بحيث يكون له أثر في مدى تفاعل الفرد مع الماحول, وفي حل المشكلات التي تعترضه وهذا ما أكده مثلا جون ديوي بقوله (التفكير في الأشياء كما ترد إلينا هو محاولتنا التعرف ما تدلنا عليه من نتائج المحتملة أو المرجحة, أما أن نملأ رؤوسنا كما نملأ الدفاتر بشتى المعلومات الجزئية باعتبار أنها أشياء كاملة مفروغ منها, فليس ذلك من التفكير في شيء ,إن هو إلا تحويل أنفسنا أجهزة تسجيل, ولكننا إذا تدبرنا تأثير الحوادث فيما قد يقع وإن لم يقع بعد, فذلك هو التفكير).
ويعتبر الإمام علي عليه السلام من أول المفكرين الذين أدركوا أهمية التفكير عند الإنسان, فأشاد بالعقل ودعا إلى تنميته بالفكر{الذين يذكرون الله قياما},لأن الفكر جلاء للعقول كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة والاستبصار, ويعصم عن الضلال والشك, وكثيرة هي العبارات التي صدرت عنه بخصوص هذا الأمر.
يقول عليه السلام في كلمات مختصرة تعبر عن فلسفة تنويرية حقيقية مثل قوله (الفكر يهدي), (الفكر عبادة), (الرأي بالفكر) ,(والفكر رشد) و(الفكر ينور القلب),وهكذا فأنه عليه السلام يجد في التفكير القدرة على كشف الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير كما وأنه يرى فيه الهداية والرشد والرأي السديد, ليس ذلك فحسب بل أن العلم الحاصل عن تفكير هو من أشرف العلوم وأكثرها ثباتا ودقة, وذلك بالقياس إلى ما ندعي امتلاكه بالحفظ والتلقين بلا وعي ولا دراية{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}الأنعام 91.
إذن ما العبرة في علم إن لم يكن جزاء من كياننا ومسار سلوكنا ومحقق أهدافنا وغاياتنا في الحياة؟, فالملاحظة السطحية وغير الكاملة تعيق نمو العقل بل وتفسده وعدم التركيز الفكري يعرقل نضوج العقل وتطوره, لذلك كان التفكير أحد العوامل الرئيسية في ديناميكية العقل وزيادة انتاجه المعرفي والعلمي, فيجب والحالة هذه أن يكون نمو هذه الملكة عند الإنسان هو الهدف الأسمى لعملية التربية والتعليم
لقد قرن عليه السلام بين الفكر والرشد والهداية {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}الأنبياء 73,كذلك فقد قرن بين رفيع العلم وما بني منه على أساس متين من التفكير عندما قال (لا علم كالتفكير)
إن اهتمام الإمام علي عليه السلام وهو لا شك مذهب الرسالة الإسلامية بهذا الجوهر الثمين عند الإنسان, بالإضافة إلى ما تضمنه من نشاطات فكرية تجلت في الحديث عن الله والعالم العلوي والكون بما فيه من مخلوقات يغلب عليها التعقيد والغموض, إنما يدعو إلى ضرورة أن يتمتع الإنسان بعمق في التفكير وسعة في الاطلاع حتى تكون النتائج يقينية بحيث لا يتطرق الخطأ والزلل, قال الله تعالى{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}الزمر 35.
نستخلص من ذلك أن عقلية البناء المعرفي بعد أن بينا الآلية الخاصة به هو علاقة هذا البناء بالنتيجة وهو العمل الذي يتبع البناء المعرفي ويستند إليه, ومنه نعرف قيمة هذا البناء وتوافقه مع الحق ومع الخير, فالتطابق بين الفعل والحق والخير مؤشر على سلامة العقل والمنتج العقلي والعكس صحيح بلا مواربة.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟