|
حينَ يصبح التهريج سيد الفنون !.
الحكيم البابلي
الحوار المتمدن-العدد: 4647 - 2014 / 11 / 29 - 20:42
المحور:
الادب والفن
* في الفترة الزمنية بين منتصف الخمسينات والسبعينات، كان المسرح العراقي قد وصل إلى مرحلة متقدمة جداً من التطور بحيث أصبح مفخرة عراقية بحق وحقيق، ولدرجة جعلت الكثير من المُبدعين العراقيين يحصدون جوائز المهرجانات المسرحية هنا وهناك. في تلك االأيام الذهبية السعيدة، كان اليسار واليساريين شموعاً تُنير الطريق للشعب الذي أنهكته عصور الظلام، وكان الرعيل المسرحي الأول يومذاك يتكون من فنانين مُبدعين خَلقوا وعياً ثقافياً أصيلاً ومتيناً في عقل وشخصية الإنسان والمتلقي العراقي، ولا أعتقد أن العراق سيُعطينا بديلاً عنهم في المستقبل إلا إذا تكررت الأجواء اللازمة لولادة مثل أولئك الأفذاذ الذين خَلَقوا بإخلاصهم ووطنيتهم ووعيهم ونبلهم مسرحاً واقعياً طارحاً وناقداً لهموم إنسان (قعر المجتمع) من الفقراء المسحوقين المعوزين والمضطهدين أبداً!، لِذا كان مسرحهم لعامة الناس وليس للنخبة من أبناء المجتمع المُخملي كما هو في بعض المجتمعات الساقطة اليوم!. يومها كان للمُبدع المسرحي (يوسف العاني) دوراً بارزاً وكبيراً جداً في ترسيخ ثقافة المسرح العراقي، حين أضحى المسرح مُكرساً لتثقيف الناس وبعيداً بمراحل عن الأغراض النفعية والتهريجية. ولو طُلِبَ مني اليوم إختصار المسرح العراقي يومذاك بعدة كلمات رمزية فلن أتوانى عن ترميز إسم (يوسف العاني)، ذلك الفنان الذي بدأ مسيرته المسرحية سنة 1944، وبعد نجاحات باهرة قام بتأسيس فرقة (المسرح الفني الحديث) مع رفيق دربه الراحل العملاق إبراهيم جلال سنة 1952. من هناك بدأت رحلة يوسف العاني من خلال مسرحيات عديدة مثل: الخرابة، المفتاح، النخلة والجيران، عبود يُغني، بغداد الأزل بين الجد والهزل، تموز يقرع الناقوس، نفوس، ليطة، آني اُمك يا شاكر، .. والقائمة تطول وتطول. * كنتُ وأصدقاء كثيرين نذهب للتمتع بمشاهدة المسرحيات العراقية على مسارح العاصمة بغداد، حيث كانت الفِرَق المسرحية في حالة تنافس إيجابي شريف للحصول على رضى الجماهير الواعية بما يتعلق بالمسرح يومذاك. وحدث ذات مساء أن إصطحبنا -شلة أصدقائي وأنا- أحد الأصدقاء الطيبين، من الذين لم يسبق لهم أن حضروا عرضاً مسرحياً حياً في السابق. كانت المسرحية بعنوان ( نفوس ) وهي مسرحية مُعَرَقة وواحدة من إبداعات فرقة الفنان يوسف العاني (المسرح الفني الحديث)، وكانت تُقدَم على خشبة مسرح (بغداد) بجانب سينما النصر يومذلك. أثناء عرض المسرحية -والصمتُ مُطبق- راح صديقنا الذي إصطحبناه معنا يُعلق على المسرحية بصوته الأجش ربما متوهماً أنه في أجواء ( أبو الأربعين )* في واحدة من صالات عرض الأفلام السينمائية !!، وما كان من بعض الجمهور إلا زجره وعلى طريقتهم البغدادية الخاصة: "هش"، "جيبلة نركيلة" ، "إحتَرِم أخي"، "عرب وين؟"، بعض الوجوه كانت صارمة ومعاتبة بشكل أفصح من الكلام والزجر!!، أما صديقنا المسكين فقد غاص في مقعده خجلاً، وبقيَ صامتاً إلى نهاية المسرحية.
* كان المسرح العراقي مقدساً يومذاك، وأعني مقدساً، وكان المثقفون والفنانون والنخبة من العراقيين قد بنوا قاعدة مسرحية متينة ورائعة تحمل خلفية واعية عميقة لدرجة قد يصعب عليَ شرحها أو حتى تقريبها للمتلقي من خِلال مقال متواضع كهذا. وكل ذلك حدث خِلال فترة سنوات قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من عمر ثورة 14 تموز، يدفعهم جميعاً مقولة وشعار لينين: " إعطني خُبزاً ومسرحاً، اُعطيكَ شعباً مُثقفاً". يومها كانت للثقافة أعراسٌ حلوة كللها الفرح الأبيض وشارك فيها ونهل من خيرها وجمالها كل الشعب العراقي الضمآن. كذلك نجح العمالقة الذين عملوا في الفن المسرحي العراقي من تغيير نظرة الجمهور الجاهل إلى الفن بصورة عامة والتمثيل المسرحي بصورة خاصة، حيث أتذكر إنني قرأتُ في كِتاب ((بغداد في العشرينات - لعباس البغدادي)) قوله: [ قيل أن أحد حُكام الجزاء في بغداد كان يستجوبُ أحد المتهمين عن مهنته فقال المتهم بأنه مُمثل!، فما كان من الحاكم إلا أن إلتفت لكاتب ضبط المحضر قائلاً له: سَجِل قشمر* ]!!. للعراقيين -كما لغيرهم من الشعوب- تقدير خاص للفنون، خاصةً تلك التي تتعلق بالأذن كالموسيقى والغناء (الثقافة السمعية)، أو التي تتعلق بالعين كالمسرح والرسم والنحت (الثقافة البَصَرِية) وكلتاهما من الثقافات التي لها إرتباط وثيق جداً بأحاسيس الأنسان ومشاعره. لِذا كُنا نراهم -الناس- يستمعون ويُشاهدون ويتمتعون بصمت وهدوء وتمعن كُلي وبكل إحترام، وكلما زاد إعجابهم بِما يُقدَم لهم إزداد صمتهم وخشوعهم وكأنهم في محرابٍ مقدس. وللصمت في نفوس ودواخل الناس الذين يفهموه وقارٌ وسمو وقدسية، ولا شيء يُقرب الإنسان من إنسانيته وضميره وتألقه وسموه مع نفسه أكثر من لحظة صمت في معبد الفن والإبداع، ولهذا تقف الجموع البشرية في المجتمعات المتحضرة لتُعطي دقيقة صمت وإحترام وإجلال أحياناً حداداً على شيء أو إنسان ثمين فقدوه في زحمة الحياة. ولهذا أيضاً يختلي الناس بأنفسهم دائماً حين تُصيبهم من دهرهم فواجع لا يقوون على مواجهتها إلا بالصمت المُطبق والخلود للسكينة التي تشحذ النفس بقوى جديدة فاعلة لمواجهة الحياة مرة أخرى وأخرى وأخرى. كذلك نرى عواطف الإنسان وسموه وتألقه ووصوله إلى أعمق قرار في نفسه البشرية يقترن دائماً بالفنون وبصورة واضحة ومباشرة ومُعَبِرة، وخاصةً بالفنون التي يتم تأديتها قُدامَ نظر المشاهد وسمعه، كالموسيقى والغناء والمسرح!، وهل هناك إنسانٌ لا تؤثر فيه هذه الإبداعات!؟. وعلى رأي الأغنية الشعبية البغدادية الأصيلة التي يقول مقطع منها: ريت الجسر مكطوع .. وأعبر إبكفة ------- وِل ما يِحب الكيف .. سليمة التِكُرفة * والعراقيون عادةً يُصفقون ويقفون على أقدامهم ( Standing ovation )، ويُهللون ويُكبرون عند إعجابهم بشيء ما أو بفن من الفنون، ويُرافق تصفيقهم دائماً كلمات الإعجاب والتشجيع مثل: الله الله، أحسنت، أعِد أعِد، بارك الله بيك، تِسلَم، تعيش، .... الخ من كلمات الإطراء والإستحسان.
* قبل أيام كنتُ أستمعُ لتسجيل صوتي لأغنية ( رسالة من تحت الماء ) للراحل المُبدع الفنان الكبير عبد الحليم حافظ، وكان الجمهور يصفر ويصرخ ويزعق ويُصفق بصورة متواصلة وفوضوية فَجة ولحوحة وكأنه في ملعب لكرة القدم وليس في صالة محترمة تُقدم فناً من أرقى الفنون التي يحترمها العرب ولِفنان فذ قد لا يحظى العرب بمثله في مستقبل الأيام !!. كانوا يُقاطعون المُطرب والموسيقى بصراخ هستيري جنوني وحتى أثناء العزف المُنفرد لبعض الآلات الموسيقية التي يُفترض أن تكون سماعية بحتة ويُعطى لها من قِبل الجمهور كل الصمت لإستيعابها والتمتع بها، كذلك كان الصخب والصراخ الهستيري على أشده حتى أثناء الوصلات الهادئة التي يقترب فيها صوت المغني بالكلمات الشعرية ليصبح همساً وبَوحاً عاطفياً رقيقاً لا ينسجم أبداً مع صخب وصفير الجمهور الذي - وكما يتبين- لم يحضر إلى الصالة من أجل الإستماع بل من أجل الصخب والفوضى وربما بتأثير المخدرات!!!. كان صوت رجل من الجمهور يأتي عبر الميكرفون ناشزاً عالياً مُزعجاً لدرجة يقترب فيها جداً من حمار يجوعر ويحرم بقية الناس من سماعٍ له ميزة بشرية، ولقرب صوته من الميكرفون فقد تصورتُ أنه يجلس في الصفوف الأمامية !، ومن يدري ... لعله كان وزير الذوق العام !!، ففي حالات (الطربكة) والفوضى غير الخلاقة كهذه فكل شيء مُحتمل، و "مفيش حد أحسن من حد"!. والشيء الذي يدعو للتساؤل هو: كيف أن لا أحد من الجمهور يحاول وقف هذه الفوضى وردعها ولو بأضعف الإيمان !؟. كل هذا الصراخ والفوضى والإعتداء على حقوق بقية الجمهور يجعلك -كمستمع- تفقد الإنسيابية العذبة الشاعرية الحلوة، والعوالم الجميلة التي تخلقها في داخلك الأغنية والمطرب والكلمات واللحن والإداء الموسيقي ولحظة الحس المعطاءة التي تُداعب مكامن الإنسانية في داخلك، والتي تولِدُها الأغنية بين شعر ولحن وغناء. كل هذا والمغني والموسيقيين منهمكين جميعاً في عملهم وكأن شيئاً لم يكن، أو كأنهم تعودوا على هذه (الطربكات) وإستطعموها وأصبحت جزءً من الأيين الذي تطبعوا عليه !!. ومثال على ما أقول هو ما يقوله الكاتب العراقي الراحل (عبود الشالجي ) في واحدة من كتبه: [ دُعينا في إحدى السنوات في الزمن الملكي إلى حفلة في قصر الرحاب في بغداد، وكانوا قد دعوا مطربة الشرق (أُم كلثوم) للغناء في تلك الأمسية. حضرت أُم كلثوم وغنت، وكُنا جميعاً نستمع لها بإعجاب كبير وكأن على رؤوسنا الطير، إحتراماً للملك وللفن والمُطربة الشهيرة. ولكن ... أُم كلثوم غضبت جداً، وإعتبرت صمتنا دليلاً على عدم الإستحسان لها ولفنها وأغنيتها!!، مما إضطر القائمون على الحفل أن يحشروا مجموعة من السواق وخدم القصر إلى حيث الميكرفون قريباً من موضع أم كلثوم وهي تُغني أغنيتها الثانية!!، وكلما إرتفع صوتها بالغناء إرتفعت أصوات ذلك الحشد بالإستحسان ] !!!. كذلك يذكر نفس الكاتب -عبود الشالجي- في مقطع آخر من كِتابهِ: [ في مؤتمر المحامين العرب المُنعقد في القاهرة سنة 1961، دُعينا إلى حفلة غناء تُحييها أُم كلثوم. وحين دخَلَت أم كلثوم المسرح إشتد التصفيق والصراخ والصفير، ومشت أُم كلثوم لتقف في محلها من المسرح .. تصفيق، وجلست أُم كلثوم على الكرسي المُخصص لها .. تصفيق، وأخرجت منديلها من كمها .. تصفيق، ومسحت فاها بالمنديل.. تصفيق، وبدأت تدندن .. تصفيق، وعندما بدأت بالغناء حدث في القاعة هرج ومرج وأصاب معظم الجمهور حالة هياج وصياح وصراخ هستيري ما دفعني إلى مبارحة المكان ] !!. المُلاحظات النقدية الموجهة لأي جمهور أو فنان أو فنانة، حتى ولو كانوا بمستوى ومقام (أُم كلثوم) لا زالت تُعتبر شتيمة من العيار الثقيل تقوم لها الدنيا ولا تقعد!!، وكأن هؤلاء الفنانين الكِبار منزهون وفوق النقد!!، أو كأنهم ظل الله على الأرض !!. بينما لا يجد البعض مِنا أية غضاضة في توجيه النقد حتى لله، لإننا نرفض جداً أن نكون مجاملين كذابين ومنافقين كالشاعر المتنبي الذي قال يوماً في مدح الخليفة سيف الدولة: "إذا إعتلَ سيفُ الدولة.. إعتلت الأرض"!!. ما سجله عبود الشالجي عن المغالاة والمبالغة والتهويل في إستحسان الجمهور لبعض الأمور ذَكَرَني بواحدة من حفلات ( المقام والجالغي البغدادي ) لمطرب المقام العراقي، الراحل ( محمد القبانجي )، في سنوات ما بعد ثورة 14 تموز، وكان قد حضر الحفلة الحية المنقولة تلفزيونياً الشاعر المصري الكبير ( أحمد رامي )، وكان جالساً مع علية القوم والمسؤولين في الصف الأمامي قبالة المطرب تماماً. وحين بدأ القبانجي بالغناء راح أحمد رامي يُبالغ جداً -وبإسفاف- في إظهار إعجابه بغناء القبانجي، حيث راح يلطم على قرعته، ويشد بأصابع يديه الإثنتين على ما تبقى من شعر رأسه، ثم ينهض من فوق كرسيه رافعاً أطرافه العليا متمايلاً بنصفه الأعلى يميناً ويساراً، ويصرخ بأعلى صوته مُفتعلاً الشهيق العميق وهو يدق ويلطم براحة يديه على فخذيه وكأنه في مجلس الفاتحة على روح أعز الخلق لديه !!. وعلى جانبيه وخلفه كان يجلس عشرات المسؤولين والفنانين العراقيين الذين كان بعضهم مستاءً جداً لأن الإسفاف في بعض الأمور قد يُعطي مردوداً عكسياً أحياناً !!، يعني كان أحمد رامي يبدو وكانه يسخر من غناء القبانجي أكثر مما كان يبدو مُعجباً به !!، كذلك كان بعض من حوله يبتسم سخرية، لأننا معشر العراقيين لا نتصرف بهذه الطريقة تعبيراً عن إعجابنا وتقديرنا، ولكن .. "لله في خلقه شؤون" كما يقول البعض !!، "ولكلٍ إمرئ من دهره ما تعودا" !. كنتُ مع والدي ووالدتي وأخوتي نشاهد الحفل تلفزيونياً في بيتنا، فلم يكن من والدي إلا أن غادر غرفة المعيشة إلى الحديقة وهو يتذمر قائلاٍ: ديتلوك هواية !. هذا الفنان الكبير (أحمد رامي) كان في تلك الأمسية "مضبوط أوي"، ولكن على الطريقة المصرية فقط، أما على الطريقة العراقية الرزينة، فقد كان "مضيع صول جعبة" !!. وإذا كان الفنان الكبير أحمد رامي -وهو من هو- قد تصرف بتلك الطريقة الفجة التي تدخل في خانة المبالغة والتملق، فلا عَتَبَ على عامة الشعب من الذين يتصورون أن كل حفلة من حفلات الفن الراقي هي مجرد حفلة عرس في محلاتهم الشعبية تُحييها لهم فرقة "حسب الله" الشعبية الشهيرة !!. وبرأيي هي ظاهرة تفشي الفقر الفني والثقافي في غالبية مجتمعاتنا الشرقية والذي بدأ يشمل حتى خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية وما دون!. وللتذكير فقط أقول بأنني أكتب ملاحظاتي هذه كنقد ليس إلا، وسخريتي ومقارناتي في هذا المقال هي سخرية متألم وليست سخرية متهكم. ومثالاً على مقارناتي، ولإيصال فكرتي للمتلقي أطرح الفارق مثلاً بين كوميديا نجيب الريحاني مقارنةً بكوميديا إسماعيل ياسين!، فالأول كان يجعل الجمهور ينبسط ويبتسم ويضحك حين كان يُنبههم إلى المأساة بالسخرية والفكاهة والمُلاحظة الناقدة الذكية الجريئة اللماحة، والثاني كان يجعلنا نضحك بالتصريح والتلميح لفمه الكبير وأسنانه وبلاهته المُصطنعة التي يُساعده شكله الطبيعي الأبله على تقمصها، زائداً حركات جسده ومؤخرته والملابس غير الطبيعية التي كان يرتديها وهو يؤدي أغلب أدواره، حيث كان يبدو أقرب للمهرج منه للممثل الكوميدي. ورغم كوننا ديمقراطيين مُبتدئين وعلى قد الحال، إلا أننا نؤمن بأن للناس أذواق وردود فعل وإهتمامات وتيارات وصرعات وحتى (جراويات) مُختلفة ومتباينة جداً من مجتمعٍ لآخر، ونعرف بأن كل إنسان ينظر للأمور بمنظاره الخاص وقد يستهجن نظرة غيره المُختلفة، ولكن .... حتى لو تنازلنا عن النقاط التي تخصنا في نقاش هذه القضية، فهي ستبقى قضية ذوق وأخلاق وإيتيكيت ليس إلا، وهذه لوحدها تكفي لتحديد نوعية ومستوى المُتلقي!!، ومثال آخرعلى قولي هو ما يصل مهاجِرنا في السنوات الأخيرة من أفلام وفيديوات لبعض أغاني الحفلات والمسرحيات والإحتفالات العراقية .. الخ، حيث بدأنا نسمع ونشاهد من الغث والرخيص والمُخجِل ما لم تتعوده ذائقتنا في السابق، فالتهريج يحتل مساحة كبيرة جداً من الحفلات العامة، وحتى بين الكراسي نرى جيلاً جديداً من (الزنانات)* يرقصون ويطقون الأصبعين ويهزون الأرداف ويتموعون بخلاعة على وحدة ونص، لا بل وحدة وربع. أما الصراخ والصفير والعربدة ومحاولة جلب إنتباه الآخرين فحدث ولا حرج، فهل هذا هو الجيل الجديد الذي خرجتهُ لنا الأحزاب والمليشيات والعمامات الدينية!؟ وهل هذا هو كل ما إستطاع أن يُقدمه لنا مُجتمع أبوعُدي وأبو أحمد وأبو فلان وعلان وزربان !؟. مُنذُ متى بدأ العراقي الوقور الصامت يستهتر ويتهستر!؟. منذُ متى بدأنا نتصرف كالحشاشة والمسطولين!؟ أهذا حقاً ما فعل بنو جهلٍ بِنا !؟. الحق أنهم نجحوا تماماً في تسطيحِ أبعادِنا، وتهميش مفاهيمنا، وتقزيم شخصياتنا على كل الأصعدة، وتبهيتِ أفكارنا ومفاهيمنا وحتى أذواقنا الفنية التي كانت عنوان العراقي ووجهه المُميز وهويته الحضارية !!، والعجيب أننا ننهل من هُلامهم بكل رحابة صدر!، ونتمرغ في خوائهم، ونأكل من جَدَبِهِم، وننام مرتاحين مُطمئنين في فقاعاتهم، لدرجة أن تحولت أغلب ممارساتنا وخاصةً فنوننا إلى آلة غبية لا يهمها إلا صناعة الضجيج، وكما يقول المثل البغدادي: "على حِس الطبل خُفَن يرجلية" !. كل ذلك يقول لنا وبالقلم العريض، أن مَن حاول تدمير العراق رَكَزَ وبإصرار على نسف وتدمير البنية التحتية للإنسان العراقي مهما كان مستواها في السابق، وكان هذا من أكبر الأسباب التي أفقدت الثقافة العراقية بريقها السابق بعد إنطفاء شمعة إنسانِها، أنظروا مثلاً ماذا فعلوا بملامح العاصمة الطيبة بغداد من خِلال إنسانها الطيب!!، تلك المدينة العريقة التي ترك إبنُ زُريق قمرهُ مُعلقاً على أبوابها !!.
هذه الظواهر لم تكن موجودة في السابق، أو لنقل كانت موجودة في بؤر وجيوب وأمكنة خاصة بها حين كان يعجز أصحابها عن الإرتقاء لما هو أحسن وأكثر سمواً وتحضراً!!. وترانا نختنق أكثر وأكثر حين نُشاهد على التيب المسرحيات الرخيصة المُتدنية المُبتذلة فكراً ومضموناً وإداءً!!، وحين نسمع صراخ الأطفال وهم يسرحون ويمرحون داخل قاعة العرض المسرحي وكأنهم داخل (طولة) وهم يلعبون (الختيلة) بين كراسي المسرح والمُتفرجين!!، وتصفعنا حقيقة أن بعض النسوة يقمن بإبدال حضائن وحفاظات الرُضع من أطفالهن داخل قاعة المسرح !!!!!، ونحس بالدمعة الغيورة الناقدة الحساسة تسفح نفسها على أديم خدودنا المُصفَرةِ خجلاً، ويبكي كل من يُشاهد تايتانك المسرح العراقي العملاق تغرق بين أقدام الجهلة وعديمي الحس والذوق والفن، والبكاء سادتي عدوى ... كالفرح والجبن والشجاعة وقول الحق، لِذا تُصيبُنا عدوى البكاء، ويبكي معنا كل العراقيين الذين أقفلوا رؤوسهم على مشاهدات وذكريات الزمن الجميل. نبكي جميعاً بحرقةٍ وألم ولوعة، نبكي مجداً فنياً ضائِعاً، نبكي عراقاً سقط مُضرجاً بدمه بين حوافر البقر من البشر، ونُردد من خِلال بُكائنا تلك المقولة التي كان يُرددها كل عراقي حين يشعر بالخزي والخجل والعار لسبب ما: "يا كاع إنشكي وبلعيني"*. ولهذا نرى العراقي يبكي في كل مناسبة صغيرة أو كبيرة، نبكي ونحنُ نعمل، نبكي ونحنُ ننام، نبكي في أفراحنا وأتراحنا حيث لم نعد نُفرقُ بين الإثنين، نبكي عبر كل أغانينا وموالاتنا وعتاباتنا وأهازيجنا، نبكي عبر إعلامِنا ورسائلنا وكِتاباتنا وأدبياتِنا، ونبكي حتى في أحلامنا الليلية. نبكي بصمتٍ وألمٍ وندم وحرقة، كما بكى آخر أُمراء غرناطة يوم فقد الأندلس إلى الآبد، يومها قالت له أُمه: "تبكي كالنِساءِ مُلكاً لَم تستطِع أن تُحافظَ عليهِ كالرِجال". ******************************************************************
حواشي الموضوع: * أبو الأربعين: هو المكان الأرخص المُخصص لذوي الدخل المحدود في صالات العرض السينمائية، والذي يقع مباشرةً قدامَ الشاشة، وكان سعر التذكرة في هذا الموقع 40 فلساً، و(أغلب) رواده كانوا من الفوضويين والمُشاغبين وصُناع الصخب والضوضاء.
قشمر: مفردة عراقية شعبية تعني الشخص الذي يصبح مُزحة ومضحكة للآخرين، وهي كلمة جارحة وفيها إستصغار ودونية لمن تُطلق عليه.
الزنانات: جمع لمفردة زنانة، وهي كلمة شعبية دخيلة تعني الرجل المتأنث في تصرفاته وأسلوبه، والذي يُكثر من الجلوس والإختلاط بمجتمع النساء.
يا كاع إنشكي وإبلعيني: معناها: يا أرض إنشقي وإبتلعيني. وكلمة (الكاع) هنا جلفية فصيحها (القاع) وتعني الأرض. ويُردد العراقي هذه الجملة عادةً حين يشعر بالخجل والخزي والعار لسبب ما، فيطلب من الأرض أن تنشق وتبتلعه لتغطية عاره وخجله.
المجد للإنسان. الحكيم البابلي - طلعت ميشو. November- 29 - 2014 [email protected]
#الحكيم_البابلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البحث عن اللآلئ .. تأريخي مع الكِتاب.
-
الجذور التأريخية لشخصية الشيطان الغيبية .
-
وضاح اليمن .. الشاعر الذي غُيِبَ لأنه أحب زوجة الخليفة !.
-
هَلَوينهم وهَلَويناتِنا !.
-
سفينة نوح ... زبدة سخافة الأديان الأرضية !.
-
مُذكرات حزينة على هامش دفتر الوطن.
-
الكائنات الدينية الخيالية الطائرة !!.
-
نقد .. من أجل موقع للحوار أكثر ديمقراطيةً وعدلاً !.
-
نقد وتثمين لقصة -الرقص على الأحزان- للسيدة الأديبة فاتن واصل
...
-
أسباب هجرة مسيحيي العراق ، ومن كان روادها الأوائل ؟.
-
الشعراء الصعاليك في الجاهلية ، ( تأبط شراً نموذجاً ) .
-
اللعنة التي تُلاحق العراقيين !.
-
الجذور التأريخية لتحريم العمل في السبت اليهودي
-
هل حررتنا أميركا حقاً ؟
-
-أكيتو- .. عيد الربيع البابلي ، جذوره ، أيامه ، عائديتهِ
-
حكاية ... لم تلفظها الأمواج بعد
-
المسطرة الجنسية بين الحلال والحرام
-
نقد النقد ، حول مقال السيد سيمون جرجي الناقد لمقال الحكيم ال
...
-
الكلمات النابية الدخيلة في اللهجة العراقية الدارجة
-
رحلة إلى تركيا والأراضي المقدسة - القدس
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|