صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1300 - 2005 / 8 / 28 - 11:36
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
ظهرت مسودة الدستور كمقالةٍ "كتبت ولم تقرأ", كعروس خارجة من معركة, ودون ان تنظر الى نفسها بالمرآة لترى انسجام مكياج وجهها وكحلة عينها وبدلة العرس.
مسودة الدستور وليدة "التوافق", ذلك المخلوق الهزيل, ذو الاسم المقلوب, والذي لم يتوان اي من المسؤولين العراقيين عن كيل المديح له ( يمكنك قراءة قائمة مادحيه هنا http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=40460) :
مع التحفظ للبعض من المخلصين الشجعان, ونقاط ايجابية هامة مثل حق العمل والرعاية الاجتماعية والصحية, والتعليم المجاني في مختلف مراحله, كانت مسودة الدستور وليدة الصراع والشقاق وتجاذب المصالح الشخصية والطائفية والقومية, وليدة القلق العراقي الازلي من المستقبل!
هكذا وصلنا الى دستور متضخم بالتعابير الفارغة والغوامض والمتناقضات وغير الممكنات والتعابير غير المدروسة النتائج!
نبدأ بنص ديباجة مسودة الدستور, حيث جاء: " عرفاناً منّا بحقِ الله علينا، وتلبيةً لنداء وطننا ومواطنينا، واستجابةً لدعوةِ قياداتنا الدينية والوطنية واصرارِ مراجعنا العظام وزعمائنا ومصلحينا، ووسطَ مؤازرةٍ عالمية من محبينا، زحفنا لأول مرةٍ في تاريخنا لصناديق الاقتراع بالملايين، رجالاً ونساءً وشيباً وشباناً في 30 كانون الثاني سنة 2005م"
نبه جاسم الحلوائي قائلا: " الا يعني ذلك ضمنأ، بأن ملايين المسلمين، الذين لم يكونوا رهائن ولم يمنعهم أحد من المشاركة في الإنتخابات، والتي لم تزحف نحو صناديق الإقتراع يعوزها العرفان بحق الله عليها ؟!
هناك نصوص "ادبية" ليس لها شكل قانوني, مثل "الإسلام دين الدولة الرسمي " و " يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي", و "وهو جزء من العالم الإسلامي", وهي تعكس القلق الشديد والشكوك التي تحكم الاغلبية الاسلامية.
فلا نفهم مثلاً كيف سيحافظ الدستور على "الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي". هل بمنع المسلمين دستورياً من التخلي عن الدين او اعتناق دين اخر؟ هل بضمان ان تبقى ولادات المسلمين اكثر من غيرهم؟ الا يذكر ذلك بالتوجه الديني – العنصري لاسرائيل وقلقها "الديموغرافي"؟
كذلك جاء التوكيد على الشعائر الحسينية (والتي تخضع بعض اشكال ممارساتها للنقاش, ليس من قبل بعض المسلمين السنة فقط وانما الشيعة ايضا مثل الامام الخميني) باعتبارها شعائر دينية, ويثبت ذلك في النص الدستوري, توكيداً غريباً يجعل من الطبيعي ان يطالب الباقين بادراج شعائرهم بعد عبارة "بما فيها....".
فمن المفهوم ان تقلق الاقليات على حقوقها ومشاعرها وتحاول تثبيتها في الدستور, اما ان تقلق الاغلبية على ذلك بهذا الشكل, فهو امر غريب, خاصة على الديمقراطية. ونذكّر هنا بالنص الغريب الذي جاء في المسودة السابقة والذي يؤكد على "الشعب العراقي باغلبيته الشيعية وسنته" كأن تلك الاغلبية يجب ان تثبت في الدستور, ولو ان السنة او المسيحيين زادوا عن الشيعة مستقبلاً, سواء بالاقتناع او بالولادات, فان ذلك يعتبر "غير دستوري".
كان من الطبيعي ان تراجع كل جهة ما تطالب به, وان تتفحص ما يحدث ان طالب الاخرين بمثله, فإن نتج عن ذلك نص سيء او غريب او مضحك, الغي ذلك الطلب.
تناقض مشابه لروح الدستور نجده في نص اليمين الدستورية لعضو مجلس النواب والتي تبدأ بـ " أقسم بالله العلي العظيم " وتنتهي بـ "والله على ما أقول شهيد ". ماذا عن العلمانيين والذين لايؤمنون بالله, وعن اية اقلية دينية تعبد غير الله؟ هل يعني هذا انهم محرومون دستورياً من عضوية المجلس ام ان على هؤلاء ان يبدأوا عملهم في المجلس بكذبة؟
ليس من حق الاغلبية ان تمنع عراقياً من ممارسة عمله بصدق, كما تنص المادة (14):"العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي"
اليس القسم "اقسم بمقدساتي" مثلاً اكثر حيادية وعدلاً وانسجاماً مع الدستور؟
بلقيس حسن اشارت في مقالتها " دستورنا الجديد .. عتيق" الى تناقض اخر:
" لنقل أن نضالات المرأة العراقية وهي الأكثرية اليوم توصلت إلى الحصول على قانون يساويها مع الرجل في جميع الحقوق وهذا ما تنص عليه المادة (1) من الحقوق المدنية , والمادة (17 )التي تقر بشكل واضح مساواتها بالرجل, إذن فهل تسمح أحكام الشريعة الإسلامية - التي تطلب المادة الثانية من الدستور الالتزام به وبأحكامه وتنفي كل ما يخالفه– هل تسمح بكتابة قانون أحوال شخصية يساوي المرأة بالرجل بالإرث والشهادة ويمنع تعدد الزوجات ويساويها مع الرجل بقانون العقوبات؟"
وهناك نقاط دستورية مستحيلة عمليا او حتى نظرياً. فمن المستحيلات العملية في الدستور تصميم العلم العراقي والشعار والنشيد الوطني الذي تطالب المادة(12) بأن ترمز هذه الى "مكونات الشعب العراقي" فتقول:
أولاً- ينظم بقانون علم العراق وشعاره ونشيده الوطني بما يرمز إلى مكونات الشعب العراقي.
وهكذا تدفع بالمشكلة الى الفنان الذي يجب ان يقوم بالمهمة الاعجازية بان يجد رموزاً بسيطة لكنها تمثل كل "مكونات الشعب العراقي" والا كان تصميمه "مخالفاً للدستور".
لقد عرفت استحالة مثل تلك الرموز حين حاولت تصميم العلم العراقي قبل سنة, فوجدت ان السبيل الوحيد لانجاز علم لايثير حفيضة اية فئة هي عدم الاشارة الى اية فئة اطلاقاً, لك تصميم العلم الذي اقترحته (والموجود على : http://www.doroob.com/?p=587 ) يعتبر "غير دستوري" حسب هذا النص, كما يعتبر اي نشيد وطني يشير الى الوطن عامة دون الـ"مكونات" غير دستوري. وانا اتحدى اي فنان انجاز اي من تلك الرموز بعدالة ودون ان يصل الى شكل خليط مضحك معقد لايمثل احداً, وهذا ما حدث لمسودة الدستور. ذلك ان ذكر اي كلمة تمثل مجموعة ما, تحمل معها اهمال عشرات المجموعات الاخرى. وكل عبارة تقرب الدستور والرموز من مجموعة ما, تبعده عن بقية المجموعات جميعاً. هذا الاهمال وذلك الابعاد يجري فيما تعديله بالصاق تعبير هنا ونقطة هناك لنصل الى ما وصلت اليه مسودة الدستور.
لذلك لانستغرب ابداء بطريرك الكلدان والاشوريين الكاثوليك في العالم عمانوئيل دلي امنيته المهذبة ان يتم ذكر وجود المجموعات من كلدان واشوريين وسريان الى جانب الاكراد والعرب والتركمان موضحا انه لا يفضل توحيد المجموعات المسيحية الثلاث في مجموعة واحدة.
الاستحالة الاخرى في الدستور هي المادة 151, والتي تحاول حل التخلف في مشاركة النساء من خلال ضربة واحدة وبلا تفكير.فجاء في مسودة الدستور, المادة (151):تخصص نسبة من المقاعد لا تقل عن 25% لمشاركة المرأة في مجلس النواب.
كنت قد ناقشت في مقالة سابقة قرأها بلا شك بعض المساهمين في كتابة الدستور واخص منهم الدكتور منذر الفضل لاني كنت قد تراسلت معه في الموضوع, ناقشت استحالة ولادستورية مثل تلك المادة. كان الدكتور الفضل قد اقترح بأن لاتقل نسبة مشاركة المرأة عن 50%, الا اني اشرت بوضوح ان المناقشة تنطبق على اية نسبة اخرى. http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=39389
كما نشرت المناقشة على موقع الثقافة الجديدة المخصص لمقالات حول الدستور. لذا فليس هناك عذر في معرفة تلك الحقيقة, ولا اعتقد الا ان البعض تركها تكتب لغرض كسب نقطة بالمقابل.
اما النصوص غير المدروسة جيداً فتكاد تشمل كل نص مسودة الدستور لذا لن نشير اليها كلها ونبدأها بالنصوص الخاصة بتوزيع الثروات حيث يريد الدستور حصة لـ"الاقاليم" المتضررة, وليس "المناطق". اي ان المناطق المتظررة غير التابعة الى اقليم متظرر لن تحصل على شيء, وهو امر غير مبرر, ولادستوري, إذ يناقض مبدأ المساواة لكل العراقيين. فهل لا تستحق "بلد" تعويضاً عن تدميرها, لمجرد انها تقع في محافظة "صلاح الدين", باعتبارها المحافظة الاكثر استفادة من كل المحافظات من حكم صدام؟ ثم هل تعتبر منطقة فيها عدد من الدور الفارهة لجماعة صدام في مدينة ما, "مستفيدة" من النفط؟
اما النص الخاص بتطوير النفط (110, ثانياً) :تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة احدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار .
فلم يدرس جيداً لأن تحديد كلمتي "مباديء السوق", تمنع دستورياً اي تخطيط لاستخدام للنفط مستقبلاً بشكل لايتناسب مع "مباديء السوق"!! وهو نص اشك انه لم يقدم الا لفرض سيطرة قوانين حرية السوق على العراق, وعلى حساب حرية المواطن وحكومته المنتخبة في التصرف بثرواته. وعلى اية حال, فان "مباديء السوق" مسألة ماتزال مفتوحة للدراسة العراقية ولم تحسم كما يريد الامريكان لها.
لم يدرس ايضاً ما جاء في المادة 59, "لعضو مجلس النواب أن يوجه إلى رئيس مجلس الوزراء والوزراء أسئلة في أي موضوع يدخل في اختصاصهم ولكل منهم الإجابة عن أسئلة الأعضاء، وللسائل وحده حق التعقيب على الإجابة."
يبدو ان المادة تحاول حل مشكلة الاسترسال في الكلام في الجمعية الوطنية, لكن الغريب ان يثبت في الدستور ما يفترض ان يقوم رئيس الجلسة بتنظيم به من تنظيم حق الكلام ومنع الاسترسال. ولكن من الغريب ان يمنع عضو من الكلام هكذا, خاصة وانه سيسمح له باستدعاء الوزير او رئيس الوزراء مرة ثانية للاجابة عن الاسئلة التي خطرت بباله.
لم يفكر طويلاً كذلك بالمادة” 68 “:أولاً ـ ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية بأغلبية ثلثي عدد أعضائه.
ثانياً ـ إذا لم يحصل أي من المرشحين على الأغلبية المطلوبة فيتم التنافس بين المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات ويعلن رئيساً من يحصل على أكثرية الأصوات في الاقتراع الثاني.
ان ثانياً يفترض ضمنياً ان تكفي 51% (او 50%) من الاصوات لفوز الرئيس في الاقتراع الاول, وليس ثلثي الاصوات.
اما اعطاء رئيس الجمهورية صلاحية اصدار العفو الخاص "المادة71 أ ": وهي معروفة في الكثير من النظم الديمقراطية, لكني اقول رغم ذلك انها تتناقض مع الروح الديمقراطية ومع مبدأ فصل السلطات, ولا معنى لها ولا استطيع تخيل فائدة لها على الاطلاق. وفي نفس الوقت فان تأريخ استعمالها يكاد يقتصر على حماية اصحاب الرئيس من المساءلة القانونية ان طلب منهم القيام بعمل لاقانوني, وتطمينهم بحمايتهم في حال اكتشاف امرهم. كذلك اقترح الغاء النقطة ح من نفس المادة لنفس السبب.
ولم يفكر ايضاً بالمادة (9):أولاً-هـ- تحترم الحكومة العراقية وتنفذ التزامات العراق الدولية الخاصة بمنع انتشار وتطوير وإنتاج واستخدام الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية ويمنع ما يتصل بتطويرها وتصنيعها وإنتاجها واستخدامها من معدات ومواد وتكنولوجيا وأنظمة للاتصال.
النصف الاول معقول, رغم انه زائد (لأن الحكومة يفترض ان تلتزم بكافة "التزامات العراق الدولية"), اما النصف الثاني فيحرم العراق من الكثير من التكنولوجيا ذات الاستخدام المتعدد بحجة انها "تتصل بتطوير" الاسلحة, ولا اعرف اي بلد يضع لنفسه مثل تلك العراقيل في الدستور مجاناً؟
كذلك لم تؤخذ النتائج المقابلة للمادة (21):أولاً- يحظر تسليم العراقي إلى الجهات والسلطات الأجنبية.
فلا يجب استخدام الدستور او القانون لحماية المجرمين من العراقيين الذين ارتكبوا جرماً في الخارج. (كما هو معمول به بشكل او اخر في اسرائيل والولايات المتحدة) كذلك فأن مثل هذا القانون سيحمي بشكل غير مباشر, المجرمين (من عراقيين واجانب) الذين ارتكبوا جرماً في العراق ثم هربوا, لان الدول الاخرى ستعاملنا بالمثل وتمتنع عن تسليم المتهمين الى العراق, خاصة وان هناك الكثيرين من هؤلاء حاليا!
ما الذي تفعله حينما يتقدم رسيلك في المفاوضات بطلب ادراج نقطة (في الدستور مثلاً), وانت تعلم مسبقاً انها مناقضة لاسس الدستور او غير ممكنة التنفيذ؟
تخبره انها غير ممكنة وغير عملية, لذا لا ينفعه ادراجها, باعتباركما تحاولان الوصول الى دستور سليم وعملي؟
خطأ...
بل توافق عليها وانت تعلم انها لن تنفذ, وتحاول ان تكسب نقطة لك مقابلها, وبذلك تحصل على نقطتك مجاناً!
يبدو ان هذا هو المنطق الذي ساد المناقشات التي تمخضت عن مسودة الدستور, فظهرت كعروس صبغ كل خصلة من شعرها مجموعة حلاقين لايرى الواحد منهم الاخر.
#صائب_خليل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟