أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - زقنموت (رواية) 2















المزيد.....



زقنموت (رواية) 2


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 4631 - 2014 / 11 / 12 - 23:10
المحور: الادب والفن
    


أمّ(ماهر)قرويّة سليلة(بيت دين)،وحيدة رجل إلى وقت قريب صاحب دعاء مستجاب،عاش حياته في قرية نائية تلتصق بـ(تل الجن)،تبعد عن بلدة(جلبلاء)بثلثي نهار مشياً على الأقدام.
رجل خرج ليلاً،وجد آلاف العيون الوامضة تخدش ظلام الليل،عاد يرتجف تاركاً ماء الساقية يغرق حقله، زوجته هرعت إلى صاحب الكرامات،سامعاً هز رأسه،عمل بصمت تميمة،أمرها أن تخيطه على دشداشته، وأخرى تضعها في دورق ماء وتسقيه قبل الغروب لمدة سبعة أيّام.
من تلك الحادثة خافت الناس،قبل أن يخرج صاحب الكرامات من صمته ويخدر عقولهم:
((أعلموا أن الشياطين كل مساء يحتشدون على التلّة مكبلين بالأصفاد،لا يتجرؤون الدخول إلى منازلكم ما دمت فيكم.!))
الناس لم تصدق كلامه،قبل أن يجدوا أحد المستهزئين بكلام صاحب الكرامات ممزقاً في العراء قرب التلّة، كان لا يتوانى من إشاعة كلام صاحب الكرامات متبوعاً بقهقهات عالية،وجدوه منهوشاً،فتأكدوا من أن الجن كل مساء يكبلون على المرتفع الترابي كي لا يغشوا أهل القرية بفضل(بيت الدين).
وصل الخبر إلى البلدات المترامية،فتدافعت الناس تطلب علاجات روحانية لعلل غامضة تتفشىاهم.
كل جمعة،بعد وصول القطار،تندلق من أحشاء العربات قوافل الناس،بشتى أشكالهم وألوانهم،متعبون كأنهم جاءوا من آخر الدنيا،يبذلون جهداً لتسريع خطواتهم،يزحفون ساحلين أطفالاً ذكوراً وإناثاً لا يسكتون،حفاة، أشباه عراة،كأنهم خلقوا للبكاء وتعذيب أولياء أمورهم.
قبيل الظهر بساعة ونصف الساعة يعج البيت بصخبهم،ينهمك صاحب الكرامات بهمة ونشاط،غير عابئاً بشيخوخته،يحرص على توفير سبل الراحة للضيوف،يلاطف الصغار،يمرر يديه الخشنتين على رؤوسهم الحليقة،تنتابهم نوبات ذعر وهم ينحتون عيونهم بوجه رجل مسن يسترسل ذقنه لحية ثلجية طويلة،يرشق وجوه الكبار بابتسامات متوازنة،تعتبرها الناس فأل خير،وبوادر بشارة تعلن بوضوح قرب تحقيق المراد.
أكثر المبتلين بالعلل شبه المستعصية،أرهط شباب،منهكون،عيونهم غائرة،وجوههم فقدت إلتماعات العافية ،ألسنة أمهاتهم تعلن صراحة وبيقين لا يتزعزع:
((يا جدّي..أبني مسكون بوباء الخبال.))
الخبال يعني عندهم بحكم المنطق المردة والشياطين،وبتفسير شعبي أدق يعنون الجن.
شبّاب تعذر عليهم أيجاد أضلاعهم المبتورة،أينما وجهوا سفن رغباتهم الجسدية،أينما وجدوا فتاة ناهدة،جاهزة لتكملة دين ودنيا أحدهم،وإقامة نواة أسرة في مراحيض المستقبل،كان باب الرفض يوصد قبل وصولهم،أكثر الأسباب شيوعاً،هيمنة نعرة العرقية على عقول الناس،تأتي الطائفية سبباً ثانوياً،في مواقف كثيرة لم تشكل عائقاً عصياً،عندما يطفح كيل منزل بسبب قرب سقوط أنثاهم.
ندماً تدخل كل أنثى متعالية برمودا الشيخوخة.
جيش عوانس،لا شاب في البلدة يرغب الاقتران بهن،رغم تناثر دعوات مغرية،تطلقها علناً،عبر ألسنة النسوة وألسنة آبائهن تسنيداً للدعوة،من يرغب أن يتزوج عانسه،يعفى من المهر،مؤخره ومؤجله،بعض تلك العوائل قدّمت مغريات أخرى،صرحت أنها تقدم أثاثاً كاملاً لمن يتقدم لخطبة عانسها،بعدما أستفحل الأمر،وغرقت البلدة بالعوانس والشباب المتمردون،تنازلت كل العائلات عن ذهب العروس.
لم تجد تلك المغريات المعسولة صدى لدى شباب خاضعين لسلطة البيت،كل واحد يعرف أن المرأة بعدما يتم الدخول عليها،تفقد صبرها فتخرج من فمها أفعى المشاكل.
كل أم في البلدة صاحبة القرار،كلامها(فيتو)يفند كل نقاش،عاجزون الآباء عن خوض أشواط ملاسنات عقيمة،علمتهم التجارب،ثرثرتهم نهايتها محسومة،مهما امتلكوا من براهين وأدلة تقر برجحان أفكارهم، و(قوامون)هم الشرعي عليهن،لابد أنهم يخضعوا لحكمة شائعة:
((الأم أقدر من الرجل على قراءة مستقبل أبناءها.))
كلام تتباهى به النسوة،بعدما تراجع الأب من قيادة مركب البيت رغم عداوة الزمن وتقلباته،رغم الفوضى الحاصلة،الآباء خلقوا طعاماً لحروب المجانين،أفكارهم لم تعد حوافز تدفع الحياة نحو الصلاح،النساء وجدن اضمحلال قدرات الآباء العقلية فرصة لاستلام قيادة مركب البيت،قبل أن ينتقلن لكراسي السيادة والسلطة، خرجن من بلادتهن،حملن في ضبابية الأيّام راية الرجولة،رحن بـ جهر القول يؤكدن،إنهن قادرات على تحدي المصاعب وحمل أوزار الحياة وقيادته نحو شاطئ السلام بعدما فشل الآباء تحقيق ذلك منذ نشأة الخليقة.
حكيمات عند الشدّة،اكتسبن الخبرة سريعاً في ظل حروب تتلاحق،لم يعد البيت مكانهن،خراب قديم أجّل تحقيق الرخاء العالمي،ولى زمن ناقصات العقل والدين،تسلحن بجرأتهن المضمرة،لم يترددن من خوض دهاليز الزمن العصيّة لمواصلة تمشية أمور البيت،بعدما كان الرجل يرقد عليها ليلاً،ها هو يرتخي لينام على ظهره وتركب هي عليه،وراء كل خطوة خطوة لاحقة،يمتلكن على حد زعمهن،قدرات شبه تنبؤية،الجنّة تحت أقدامهن،لما لم تخضع الأرض وتخمد تحت نعالهن،قلوبهن أصفى من قلوب الرجال،قلب الرجل مشغول بهموم دنيا الحروب ونعيم الآخرة،لم يعد لديهم رؤية واضحة في تقشير الزمن من ترسباته،الأمهات بوسعهن استحضار لوحة حياة أبنائهن،طالما دنياهن دينهن،كل أم تختار البنت المناسبة لمزاجها،لا يحق للابن الإفصاح عن خلجاته،لم يعد الجمال مشكلة ستعقد الكثير من رغبات الشباب،كلهن يمتلكن نفس الفجوة،ونفس الحرارة في الفراش.
أرهط شباب تسكنهم الشياطين والأبالسة،يسهرون الليالي،عيونهم متحجرة في الفراغات،في الفراغات تحوم أشباح،أنها الشياطين،مع حلول الليل،عندما يخلدون إلى فراشهم،عندما تكون الشوارع خاضعة لسدنة الظلام،تهبط مواكب الشياطين،يمارسون التعذيب الروحي لهم،عمليات فورية تجرى،تنويم شيطاني،ليس بوسع الشيطان تحقيق أهدافه التدميرية للروح البشرية،ما لم يغطس الجسد في بركة النوم،حين يغلبهم النوم يصارعون شراسة الكوابيس.
لم يعد أحدهم يمتلك كما كان شهية مفتوحة،يبرد طعامه بين يديه،يتحجر،العينان تحدقان،رغبة التقيؤ حاضرة،لا شيء غير الماء،يخرج الشاب المصدوم من ذهوله،يمده بأيّام أخر للبقاء،أجسادهم بدأت تضمر ،عظام الأجساد طفقت تبرز،الأب،الأم في نفير متواصل،تتهاوى السبل،تنهار المعنويات،تدخل العائلة مضمار السباق نحو تلك القرية،قرب(تل الجن)حيث صاحب الكرامات يمتلك آخر العلاجات النافعة.
صباحاً يأتون وحتى المساء.
القريبون يأتون ويغادرون مشياً أو على ظهور الحمير،بعضهم يأتي من مكان بعيد،عليه أن ينام في(بيت الدين)،ليس بمتناول اليد وسيلة نقل ترجعه،فالقطار يمر بالقرية صباحاً،والقطار الراجع يأتي بعد ساعتين، وهذا الوقت لا يكفي الناس كي يعودوا متعافين.
في تلك الأيّام،لم يكن(ماهر)موجوداً،لم يكن أبيه قد تعرف على أمّه،لم تكن الطرق معبدة ما بين البلدة وقراها،كانت القاطرة وسيلة تواصل وحيدة،بتعثراته،بقذفات بخاره،بعربات خشبية منزوعة النوافذ.
توجد ممرات ترابية متعرجة،تخترق سلسلة غير مأمونة من الجبال والمنحدرات،تلك الممرات تغدو متعذرة في الشتاءات،تنحسر مياه الأمطار لتشكل موانع مائية عصية،الوصول إلى البلدة على ظهور الحمير أو سيراً على الأقدام،يتطلب حساب كل الاحتمالات الواردة،على المسافر أن يحسب حساب مبيته في البلدة حتى اليوم اللاحق،القرويون هندسوا حيواتهم وفق نظام مبرمج،فهم يتبضعون في كل أسبوع مرة،البعض كل شهر مرة،كل واحد برمج حياته وفق طول يديه وسعة رزقه.
أقوال تحكيها الأم في كل مناسبة،بعدما صاغ القدر نسيج حياتيهما،حياتها وحياة الأب،ضمن محيط لم يجدا فيه سوى سمكة واحدة،تلك السمكة أسمياه..(ماهر).
صاحب الكرامات الذي جعله القدر أن يغدو جد(ماهر)بنى غرفتين إضافيتين للزوّار،غرف بيته لم تعد تستوعب زحف الناس،بدأ صيته ينتشر مع مد الأمراض المتناسلة،وراحت القوافل البشرية تتواصل.
عندما تكون إنساناً في بلد مجنون،في بلد تستقيم بالنار والرصاص،تهبط عليك كوابيس اليأس وتأكلك هلوسات الضجر،لم تعد العقاقير الطبية توقف هذياناتك،حتماً تتقهقر أوان الضيق إلى فطرتك،إلى عالم الغيب والشهادة،متوسلاً،عند النجاة من الغمّة وزوال المصيبة،ستمشي على سكّة الله لعباده.
القطار المار بالقرية يتجه نحو بلدة(خانقين)،أحياناً يفرغ حمولته البشرية كاملة،قبل أن ينطلق فارغاً إلاّ من طاقم السياقة وشرطي حارس يرافق القطار،تحسباً للطوارئ،ذلك الشرطي بشاربيه الكثّين،يشهر دائماً صفداً بيديه،يحبس كل فرد لم يقتطع تذكرة سفر في عربة خشبية،بغية تسليمه إلى شرطة البلدة،لم تشفع ولا تنفع الأعذار،يطلق سراحه بعد أن يغرم ثلاثة أضعاف ثمن التذكرة،أو السجن لثلاثة أيّام في محجر لا يصلح إلاّ مخزناً للمهملات لمن لا يملك نقوداً.
مساحة البيت سمحت للجد بناء غرفتين لا أكثر،رغم رغبته الدائمة،بناء مجموعة غرف تحسباً لارتفاع نسبة الزائرين،كان يخشى أن يضيق بهم البيت،ويكتشف نفسه في ورطة تسيء إلى سمعته،أو ينجبر اللجوء إلى وسيلة إعطاء تواريخ حجز للمعلولين على غرار الأطباء في عياداتهم الخاصة.
لم يمتلك حيلة تخرجه من حيرته،عرف عنه أنه كان يعتمد على الله،لا يطلب العون من أحد،يحسب الاعتماد على العباد في الكثير من المواطن،إشراك بالخالق،اللجوء إليه يحسبه وساطة،كون العبد ـ كما يصرح في كل محفل وتجمع ـ يحتاج إلى جسرٍ كي يرتبط بخالقه،الأنبياء والأولياء الصالحون كانوا جسوراً متينة ما بين العباد وخالقهم،هذا زمان ما بعد الأنبياء،رجال صالحون دس الخالق فيهم بعض الكرامات،لتيسير أمور العباد،رسالة علنية لمن يشكك بقدرة الخالق وعظمته في التحكم بمجريات الكون،علنه وغيبه.
جاره رفض بيعه مساحة من حوش بيته،قيل رفضه جاء من باب الغيرة والحسد،رغم أن جاره كان الشخص المستفيد الأكبر من تلك الزيارات البشرية إلى(بيت الدين)،كان يمتلك دكاناً توسع رزقه مع زيادة نسبة الزائرين،لم يلح الجد عليه،رغم إلحاحات الناس بضرورة مفاتحته بالموضوع،كون القرية بدأت تثير اهتمام الناس،مما يلفت ذلك أنظار الحكومة،قد يسهل الأمر بتعبيد طرقها ونصب مضخة ماء صالح للشرب.
لم تحرك ألسنة الناس صاحب الكرامات،ظلّ يسمع ويهز رأسه،الناس في وادٍ تاهوا وظلّ الجد في مرتفع يواريهم،لم يدر بخلد أحد أن الجار طلب سراً من صاحب الكرامات ابنته الوحيدة زوجة ثانية له مقابل بضع أمتار يتنازل له من حوش بيته.
الجد ترك أمره لله،وجد بناء غرفتين كبيرتين،توفران له فرص استقبال حشداً يربو على الأربعين زائراً وزائرة،عزم وتوكل،اشتركت في عملية البناء ابنته التي غدت أم(ماهر)فيما بعد،كانا يصنعان الطين ويعملان(اللبن)بعد جفافه،تحوّل الجد إلى بنّاء،الأم عملت بهمة رهط شباب،أكدت أكثر من مرة،أن الجد كان ماهراً في البناء،كدأب أهل القرى والأرياف،اللذين يبنون بيوتهم بسواعدهم اليابسة.
غرفة للنساء..غرفة للرجال.
في أيام الصيف لم تكن هناك مشكلة أو ضيق في استقبال الزائرين،كان فناء البيت واسعاً،وسطوح الغرف تسع لجيش معلولين ومعلولات.
موت الجد المفاجئ أوقف تلك الشعائر،لم يكن لـ(ماهر)خال كي يحافظ على تراث البيت،الأم كانت تمتلك خبرة متوسطة،مارست بعض تلك الشعائر شفاهياً على رؤوس نساء وأطفال لفترة تمتد ـ كما تصرح ـ من يوم تعلمت من أبيها طقوس الشفاء،كما تقول كانت في الثانية عشرة من عمرها،حتى يوم خطبتها.
الأب أشترط على أبيها القبول بها زوجة مقابل ترك تلك الطقوس،ليس لأنه ضعيف الأيمان،كان ملتزماً، مواظباً على صلواته جماعة،رغب أن لا يغدو بيته مجلساً للغو والوشاية والنميمة لمعشر النساء،نساء الوقت،مهما أبتلين بالمصائب،في تجمعاتهن ينسين مصابهن،تحضر النميمة والغيرة،لا يتورعن من هتك أعراض بعض النساء الغائبات،من هذا الباب،وخوفاً على دينه واستقامته،رفض الأب أو بالأحرى أشترط على الجد أن تترك الأم مهنة لا تليق إلاّ بالرجال،كونهن ناقصات عقل ودين مضيفاً إليهما الإرادة.
وافقت الأم على مطلبه رقم قسوة شرطه،عبّرت عن ذلك في مناسبات عدّة:
((زواجي منه كان خروجاً لابد منه من الفردوس.))
أم(ماهر)تعيد هذا الكلام،كلما تبتئس،كلما تضيق سبل الحياة أمام نظراتها،وتشعر بعدم جدوى العيش في مدينة لا تتنازل عن كسلها،الحنين لأيام شبابها ظلّ مرافقاً لروحها،وسالباً لفكرها،وجدت السعادة حلماً غير خالد،تركته في بيت أبيها،هناك في قرية صغيرة أسفل تل تومض كل ليلة بآلاف العيون الشررية،قبل أن تأتي بعثة آثار وتغربل تراب التلّة لتعلن أن التلّة عبارة عن أحجار كلسية وفصوص أملاح متراكمة،تعكس أشعة النجوم الساقطة عليها،ووجود جحور هربت منها مئات الجرذان ذات العيون الفوق بنفسجية،الأمر الذي فند علمياً منطق الفكر لصاحب الكرامات.
لكن مشهد جسد الشاب المستهزئ ظلّ يضخ في عقول الناس،صدق كلام صاحب الكرامات،كون أقوال الأجانب ما هي إلاّ فرضيات وافتراءات تعاكس منهج الدين وتحاول طمس حقائق الكون الغيبية.
أم(ماهر)لم تتحسر بفقدانها بساطة العيش وراحة النفس،علمت أن الزواج قدر،الكل يخضع لسلطانه،تلك هي لعبة الوجود منذ الأزل،والزواج سفينة شقاء ورخاء في بحر الحياة.
في أيامها القروية،كانت تلتقي بنساء متعددات الأذواق والثقافة،تعلمت منهن حكايات مسليّة،تعلمت أن الحياة فيها مكر وفيها صدق،عرفت أن النساء مبتليات بداء الغيرة وجرثومة الحسد،لم تجد من بينهن قانعة بما تملك،لم تعقب،لم تعطِ واحدة رأياً حول نظرياتها،كانت بشوشة،تستقبل جمر كلامهن بـ كف ماء.
كنّ يجلبن لها أشياء جميلة تشعرها بقيمتها الأنثوية،قبل أن يفاجئها القدر ويلقي في ملعبها شعلة القلق،نار الزواج.
تركت قريتها،بعدما وجد صاحب الكرامات فتاة(أعجمية)جاءت تطلب مراداً لعنوستها،فاتحها برغبته،صارت زوجته وساعده الأيمن في أموره،تعويضاً عن ابنته،لكن الزوجة القادمة من الشرق وجدت نفسها(أرمل)بموت الزوج،فقررت الرحيل.
تقول أم(ماهر)عن خروجها من بيت أبيها:
((أفعى أنسلخ من جلدها إلى الأبد.))
كلّما يقع(ماهر)ما بين فترة وأخرى فريسة علّة عارضة،زكام أو حرارة تستتب في جسده،تقول كلامها القديم، تقولها بعدم رضا،بحشرجة،وأحياناً بصوت مختنق،تذرف جراءها غالي دموعها،تترقرق الحبيبات الدمعية مزججة في موقيها،وحين تشعر أنها سببت للابن وجبة حيرة دسمة،بكم ثوبها تزيح دموعها،تحاول أن تمنحه ابتسامة لطف،يعانقها ويشاركها تعاسة حظها،دائماً تبدو نادمة على خروجها من(بيت الدين)،من يوم قبلت بالأب زوجاً محترماً،أفندي قادم من مدن الخيال ليرفع مكانتها،سيأخذها على حصان السرور،ستعيش في قلعة،تنام على سرير من حرير،حولها جواري وغلمان،وأمرها دوماً مطاع.
تكرر الأم:
((بيتنا كان مليئاً بالرحمة وهدوء البال،النعيم يزحف محمولاً بالأيدي،وعلى ظهور الحمير،كل زائر لا يدخل البيت ما لم يحمل صدقة،صفائح سمن،دجاج،أكياس رز وسكر وشاي وصوابين،وأشياء بناتية يحملنها نسوة في مظاريف،يخرجنها أمامي يوم كنت أرقيهن،البعض كان ميسوراً،يمتلك يداً طويلة،كان يكتفي بدس تحت فراش جدّك حفنة نقود،دراهم أو أرباع دنانير ورقية.))
شعرت الأم بقطار عمرها على وشك أن يفوت آخر محطة في طريقها،لم تعد هناك سنوات مضافة كي يوقف المرء حياته لبرهة زمنية مقتطعة،كما يحصل في بعض الألعاب الرياضية،عندما يطلب أحد المدربين بوقت مستقطع لا يحسم من عمر المباراة،الوقت المستقطع حق مشروع ليراجع كل جهة متبارية حساباته وتصحيح خلل اللاعبين.
لو كان العمر فيه وقت متوقف لـ(ربتما)استعاد المرء المهموم توازنه،وكسب فرص أكثر مثالية.
كل شيء يمضي،الجسد يترهل،العمر ورود تذبل،الشعر يخطه الشيب،الوجه ينكمش،العاطفة نيران بلا وقود لابد أنها ستخمد،فرص الإنجاب تنحسر،لم تعد الفرص الكبيرة تتوافر،الحياة تنحدر،الناس تتشتت،الشباب لا يرغبون تمضية رحلة حياتية مع العوانس،من حقهم أن يتجنبوا نساء لم تعد لديهن فرص كثيرة لإنجاب نصف دزينة من الأبناء،رغبة آباء لا يشعرون بقيمتهم،ما لم يكن لديهم جيش أحفاد،رغبة أمهات كنزهن الخالد أحفاد ذكور.
كادت الأم أن تهوي في مستنقع العنوسة،لولا القدر،رحم بحالها،جاء يريد شيئاً مختلفاً،خارج حسابات الأمزجة والأحلام،خبأ ما لم يكن في الحسبان:
((جوهرة قدمت من السماء.)).قالت عنه يوم الخطوبة.
غالباً ما تنقلب الأمور،غالباً ما تشتهي السفن رياح دافعة،تأتي الرياح صادة،عكس الرغبة،تلك هي أحابيل الحياة ومزاحاتها الثقيلة،انقلبت الأمور،لم يعد الاقتران برجلٍ مناسب يسكن المرأة في نعيم دائم،كلام قديم تعرفه الناس،لكن سر اللهاث من أجل تكوين الأسرة قدر غاصب،الغوص في هذا الجحيم هو الدرب المنقذ للبشرية من الزوال،من ثقل الليل،من ضغط الظروف،من استمرارية حضارة التعاسة.
اكتشفت الأم بغريزتها الفطرية،بحكمتها القرويّة،حياة المدينة تختلف عن حياة القرية،كل شيء يلفه الغموض والتعقيد،في المدن المرء يلهث دائماً،يتنازل عن سعادته،مقابل ديمومة تواجده،العيش في المدن الكبيرة،مثل السكن في عالم البحار والمحيطات،أسماك البحار والمحيطات تترقب،لا تنام،في جوارها كواسج وإخطبوطات وأسماك القرش،لا داعي للمرح،البقاء هو الفردوس الأسمى،كل شيء يخضع لقانون الافتراس،مفترس وفريسة،ميزان متوازن الكفتين،أسماك الأنهر الصغيرة تعيش بسعادة،بعيدة عن فكرة الأنياب الساحقة،تمتلك الوقت الكافي للبحبوحة،هكذا حال الناس،في القرى والمدن،أنهم أسماك و حيتان ليس غير.
بدأت حياتها تضغط،فرص السعادة لم تعد تلوح في الأفق،على المرء أن يغير من مفاهيمه وفق ظرفه،كل شيء يتبدل،أحلام الطفولة لم تعد تنفع مرحلة النضج،عندما يكبر العقل،الحياة تغدو جحيم.
الأب كان يشكو من مرض قديم،عذّبه،شد الرحال إلى(بيت الدين)،في رأسه أمل يومض:
((تأتي الحلول النبيلة من خارج منطقة الوعي أحياناً.)).كلام سمعه من صديق.
قرر أن يجرب تلك الفلسفة المتواضعة،في اللحظة الملائمة،أكتشف طريقاً صائبة،يمكنه التخلص من عذاب لا يرعوي،يسكنه ويباغته أوقات راحته،كان صداعاً متواصلاً،يحرجه في فترات متفاوتة،لم تنفعه العقاقير، نصحه صديق عن طريق الصدفة،أن يراجع(بيت الدين)،آخر العلاجات المقنعة،بعدما أقتنع بتعذر شفائه بعقاقير ظلّت تستنزف نصف راتبه على مدار السنة،أعشاب طبيّة التهمت نصف ما يبقى في جيبه من نصف راتبه،عزم وتوكل،ركب دراجته،رغب أن يغامر،كانت المسافة تربو على ساعة ونصف الساعة بالقطار الصاعد نحو بلدة(خانقين)،عليه أن يكون حازماً،الطريق ملتوية،عليه أن يضع في الحسبان،هناك مسافات ليست قليلة لا يمكن للدراجة أن تمر من خلالها،يجب أن يرفع هو دراجته ويمشي صاعداً ونازلاً، حمد وشكر لأنه لم يمتلك حماراً،فمن بوسعه حمل حمار والسير به صعودا وهبوطاً،كانت الدراجة أرحم، أخف وألطف حملاً من الحمار،كل شيء وضعه في باله،أختار اليوم الملائم،يوم تخلص من عذاب صداعه،ليس بوسع الصداع أن يباغته قبل مرور أيّام،باغته وسكن رأسه،طرحه كدجاجة مذبوحة لنصف نهار،تعافى وقتياً،قرر تطبيق ما عزم عليه،تلبية لإلحاح صاحبه،تزود بما كان يملك من زاد متواضع:
((وضعت في الكيس صمّون عسكري،حفنة تمر زهدي،زجاجة ماء،وأخرى لبن.))
أنطلق بعد صلاة الفجر،الجو يكون رائقاً،الهواء يهب منعشاً مرطباً بندى النهر وطراوة النباتات،عليه أن يصل قبل أن تغدو الشمس كرة نار تبدد طاقته،بعد عناء ومشقة،بعدما نفد زاده،وصل(بيت الدين)عند منتصف الظهيرة :
((تعبت،لم أكن أتصور أن صعود الجبال مرهقة،والوديان متعذرة المشي،كدت أن أركن الدراجة إلى مغارة، لأواصل سيري على الأقدام،لولا عشقي للمغامرة وتحدي الصعاب.))
لم يكن يوم شد الرحال يوم(جمعة)،كما يتذكر،كان البيت فارغاً،شعر براحة تامة،كان يمقت التجمعات البشرية،يشعر دائماً في العزلة منفعة شخصية،يحتاج المرء للعزلة،كي يريح لسانه،يستطيع أن يمنح جسده فرصة استرخاء،يمكنه أن يرسم برامج أحلامه،وفق ما يشتهي،بعيداً عن أعين حاسدة،وألسنة جاهزة للسلق،تلك كانت من أدبيات فلسفته مذ شب وحيداً بلا أخ أو أخت،بلا أم وأب.
كان وحيد رجل هاجر إلى بلاد فارس،كان مهرباً،لم يعد من آخر رحلة له،بقت أمّه تنتظر،مرت الأيّام،ترعرع ووجد عملاً،مستخدم في معسكر الجيش،قبل أن تموت أمّه،جاءته فرص كثيرة للزواج،ظلّ متمرداً،يشعر بعقدة نفسية من النساء،ربما بسبب صداعه المتواصل،أو لحاجة في نفسه،لم يوضح لأحد ذات يوم سبب نفوره.
عند وصوله(بيت الدين)،وقف ينتظر،نادته امرأة:
((عيب أن تطرق الباب،بيت السيد مفتوحاً للضيوف.))
فهم كلامها،أركن دراجته إلى حائط طيني وسط استغراب رهط صبيان تجمعوا من حوله..أضافت المرأة:
((أدخل دراجتك معك،قبل أن ينتزعوا إطاريها.))
دخل وجلس في غرفة المضيف،الجد كان منشغلاً بصلاته،استغرقت طقوسه أكثر من ربع ساعة،عندما نهض قابل شاباً ممتقع الوجه،يتكلم بصعوبة،جلس الجد لصقه،عرف كيف يمتص زخم الخجل منه،عرف سبب تقوقعه،مسك رأسه بيديه،حدّق طويلاً في عينيه:
((في رأسك يسكن شيطان رجيم عليه اللعنة))
أشربه الجد ماء ممزوجاً ببصاقه،نادى على الغداء،تغديا معاً،عاود القراءة على رأسه،قرأ بعض السور(وتفل) مرة ثانية في طاسة ماء(تفلة)شفاء،كرع الأب الماء الممزوج بالبصاق،على مضض.
((كادت أحشائي أن تندلق.)).جملة ظلّت على لسانه.
دخول شاب غريب في أي بيت قروي يحرك الجو العاطفي لنساء البيت،بنت وقفت،تحفر عميقاً بعين المستقبل،بشهوة تكاد أن تتصلد،وجه شاب خجول،يمتلك عذاباً وذهولاً لافتاً،شاءت الصدفة أن يأتي العلاج شافياً،جهل الأب سبب شفاءه،أكان من جراء الرقية أم من البصاق المتحلل في طاسة الماء،أم من نظرات البنت التي صارت فيما بعد شريكة فراشه.
بعد أسبوع زار الأب أبيها كي يشكره على صنيعه،رافقه صديقه،لم يركبا دراجتيهما،ركبا القطار،كونه تخلص بشكل شبه دائم من صداع نصفي أثقل عليه زمنه،بعد قصير حوار،عرف أبو الأم ـ الذي صار بعد تلك الجلسة جداً لـ(ماهر)الذي لم يولد بعد ـ أن الأب وحيداً وعازباً،لم يتطلب الأمر إلى مزاورات وجلسات أقناع بين العائلتين،فاتح الأب بالموضوع،شهد على أخلاقه صديقه،لم يمتلك الأب سوى شرطه الوحيد،وافق الطرفان على ذلك بعدما طارت الأم من هول الفرح،رغم قولتها الشهيرة،بخصوص خروجها بمحض رغبتها من بيت النعيم ودخولها على مضض بيت الجحيم.
((تزوجنا وعشنا في البلدة.))
الأب..مستخدم في معسكر البلدة،يذهب بدراجته الهوائية إلى عمله،كل يوم يحمل معه كيس خيش،مربوطاً على المقعد الخلفي لدراجته،في الكيس(صمون)عسكري،تبيع الأم بعضه،وبعضه تبقيه للمعيشة.
أنحسر عمل الأم على البيت،كانت ترقي(الابن)بعد ولادته وترقي الأب أحياناً عندما يكون متعباً،كانت تقول:
((التعب سببه سكن الشياطين في الجسد.))
يضع رأسه في حجرها،يدا الأم تمسدان شعر رأسه،تغمض عينيها،تقرأ بصوت واضح ومرتفع قليلاً،آيات الرقيّة،يغطس الأب في قيلولة،رأسه على فخذها،رغم أنها تعاني من خدرٍ ينمو في ساقيها،لكنها لم ترغب ذات يوم أن تنهضه من قيلولته الشفائية.
في حالات شبه يومية،يراقب(ماهر)الأم ترقي نفسها صباحاً ومساء،تجلس،واضعة قرص الشمس في يسارها عند الصباح،وعند الغروب يكون القرص الغاطس في فك الأرض عن يمينها،تغمض عينيها،تتمتم كلمات غامضة،حين تفيق تجده جالساً،تكتفي بابتسامة ترشقها بوجهه،قبل أن تعانقه وتمطر وجنتيه بسيل قبلات قروية شبه وحشية.
موت الجد جاء بعد ولادة(ماهر)بـ سنة،زارهم في البيت كما تقول الأم،رقّاه ووضع بعض الدنانير في علبة معدنية جلبها له الأب يوم ولادته،تلك العلبة جلبها لجمع النقود،كان يضع قطعة نقدية في فم العلبة،مصروفه اليومي حتى موعد شبوبه عن الطوق،ظلّت العلبة تستقبل مصاريفه اليومية وكل ما يحصل عليه من بعض الزائرين في مناسبات الأعياد،حتى السادسة من عمره،يوم احتفلوا برفع الغطاء وإحصاء النقود بفرح،قبل ليلة عيد الأضحى بيومين،كان ستّين ديناراً وستة دراهم وستين فلساً،اشتروا ملابس العيد وحاجياته.
نساء كثيرات زحفن إلى البيت،حاولن أن يقنعن الأم كي تمسك(الطريقة)،لها خبرتها،ما زلن يحتفظن لها بكثير من المودة،كونها رقّت لهن أطفال معلولين،نهضوا متعافين من رقية واحدة،أردن منها أن تواصل ممارسة الشعائر الدينية والطقوس الشرعية المباركة،بعد الخسران المبين كما أشيع في البلدة بخصوص موت الجد،رفضت الأم طلبهن،مجددة العهد الذي أقسمت عليه يوم خطوبتها،لا يمكن أن تحنث بوعدها،نساء القرى كلامهن قرار غير قابل للنقض،عكس نساء المدن،يطلقن الكلام جزافاً،أيمانهن بمعتقداتهن لا يتجاوز حدود اللسان،نساء القرى حكيمات،يشربن من ماء الطبيعة،صبورات،قانعات،يقدسن الرجال،هذه الأشياء تنعدم في المدن،فكل ما هو أصيل لا يترك إلاّ أصيلاً.
نساء الوقت تغيرن عن سابقاتهن،كونهن جئن إلى أحضان رجال من اختيارات أمزجة الأمهات.
الأم كل كلامها مدوّن في أرشيف ذهنها،جواهر لا يمكن الإخلال ببنودها،التفريط بها خروج من فلك الأخلاق،وولوج مستنقع الحداثة.
لم تعد تمتلك طاقة كي تجلس أمام نماذج بشرية ابتليت بعلل غريبة،كان هذا رأي الابن،فالحياة تغيرت،في المدن تسكن الشياطين،لم تعد فرص التخلص من العلل ممكنة.
ضغط الماضي،قرارها المبرم،أشياء ترفض التراجع عن عهد موثق شهد عليه الجد،وصديق الأب،تلك كانت الأسباب الوجيهة لرفضها القاطع لرغبات النساء.
النساء المبتليات،شرحن كثيراً أسباب البلاءات المتواصلة،أمراض غريبة متفشية،عندما تفرغ البلدة من رجالها الصالحين،من بيت كان لا يدخله الشيطان،تغدو جسداً يفتقر إلى الفيتامينات المضادة لنمو البكتريا،الأمر الذي يشجع الجراثيم أن تحتشد وتشن غاراتها الوبائية،مضت البلدة عرضة لكل حبائل الشيطان،لا سيطرات تمنع مرور عربات الجحيم،كل الزلل واردة في البلدة،نتيجة رحيل الرجل المبارك صاحب الكرامات،على حد زعم كل النساء.
عندما حصل الفراغ المهول،جيّش الشيطان جنوده لينتقم من الناس بعد سنوات عقيمة من الحروب،حامل لواءها كان الجد،كان جند الشيطان هم الخائبون،رجل صالح يمكنه طرد شياطين الأرض،ويمنع بأذن الله تعالى الوباء والقحط،موته خسارة لا تعوّض،ما لم تنهض الأم الشجرة الوحيدة،سليلة(بيت الدين)،صاحبة المواقف المشهودة في فترة عزوبيتها،ما لم تنتفض،ما لم تراجع قرارها،بلدتها في محنة،بلدتها تراخت أمام وسوسات الشيطان،عليها أن تلبس لباس الحرب،أن تشهر سيف الحق،أن تحمل الراية المنتكسة من جديد، لوقف عبث الأمراض بفقراء الزمان.
كادت الأم أن تركن إليهن.
نساء يبكين في حضرتها،كن يجلبن أطفالهن،في ملحمة بكاء،في ملحمة قذارة تلملم جيوش الذباب،أطفال حفاة عراة،يسيل مخاطهم،يتبولون،يتبرزون في الغرف وفناء الدار،وجدت غيرتها تنهض،يتفاعل فيها حب الخير،نامت ليالي طويلة على أمل أن يزورها الأب،أن يمنحها(فيزا) العمل،مضت الليالي عجافاً،شبعت كوابيساً،لم تكن هناك شرارة تخويل تخرجها من سباتها.
هزّات رأسها أمام النساء،كانت كافية لإسكاتهن،كافية على إخماد حدة هلعهن،كنّ ينسحبن راضيات،وجوههن تطفح بالبشر بعد كساء التذمر،كن يعتبرن هزّات رأس الأم بارقة أمل،مهلة تأمل،بادرة عودة سريعة،وعد قريب التحقق لعودة الطقوس الدينية للبلدة.
الأب كان يرصد هواجس الأم،لا يتورع من ترديد بنود ذلك الاتفاق المبرم يوم طلب يدها على مصاغيها،شجاعتها كانت متواجدة،تمكنت أخيراً من كبح جماح رغبة قديمة أنهضتها دموع نساء مفجوعات، تمكنت أن تعلن،بصراحة ترد،لم تعد تمتلك ذاكرتها القديمة،جواب يقنع،يقينها المتفجر أيّام عزوبيتها تكلس بسبب ظروف الحياة،نامت فيها فراستها،مذ توقفت عن مزاولة مهنة تطبيب المعلولين بالكلام والتمائم،تلك الطقوس ما عادت تنفع هذه الأيّام،قضت الحداثة على كل ما هو إرث نافع،جف ينبوع صبر الناس،انتكست راية إيمانهم:
((الشياطين غيّرت مناهج حربها،أدركت السبل الكفيلة لفناء الناس.)
تمضي الأيام.
مساعي النسوة الحثيثة باءت بالفشل،مللن تكرار الزيارة،أيقنَّ أنها لم تعد تلك الفتاة صاحبة البسمة الدائمة وخفّة الروح،بل امرأة حجرية،نظراتها غريبة تلوح في أعماقها عراك وغضب،أيقنَّ أنها بدّلت تواضعها بصلابة عناد،نست قرويتها،نست تواضعها،انسلخت من سلالتها الدينية،ولبست لبوس العناد والتكبر.
مضت حياة البلدة كما شاءت أن تمضي.
ناس يموتون بطرق شتى،ناس يولدون بطريقة واحدة.
الأب مات مدهوساً.
كان(ماهر)في الثاني عشر من عمره،كان عمر الأب يوم دهس ثمانية وأربعين عاماً،ربما هناك سر أو توافق غير مقصود،ما بين الحالات التي واصلت جدولة حياتهم وفق حساب ثابت أو مضاعفات ذلك الحساب،الأم في ذلك العمر تعلمت فن الرقية وعمل التمائم كانت في الثانية عشرة،(ماهر)في ذلك العمر أصبح يتيماً في الثاني عشر،الأم كانت في السادسة والثلاثين يوم تزوجها الأب،عمرها هو مضاعفات الرقم أثنا عشر،الجد مات في الثاني والسبعين أيضاً،عملية حسابية بسيطة تكشف أن الجد أيضاً عاش ست(أثنا عشرات)،يمكن أن يضاف حساب النقود يوم كسروا قاصة الطفولة كان ستين ديناراً وست دراهم وستين فلساً،وهو خمس(أثنا عشرات)دنانير ونصف(أثنا عشر)دراهم وخمس(أثنا عشرات)فلسان.
كل شيء وارد في أزمنة البلدة العجيبة،توافق الحسابات دليل قوّة خفّية لبعض الناس،تسيِّر سفينة حياتهم على أسس رياضية متماسكة ومقصودة.
سبب موت الأب كان عارضاً،قيل..الصداع عاوده قبل موت الجد بسنة واحدة،أي بـ(أثنتا عشرة)شهراً،ظلّ يصرعه في هلوسات جنونية لا ينفك منها إلاّ بصعوبة بالغة وبمساعدة زملاء،يبقون ممسكينه بقوّة حتى يسترد وعيه،داهمته الهلوسة وهو يقف على الشارع الرئيس للبلدة،كان ممسكاً دراجته،ينتظر صديقه،كي يرجعان معاً،لصقاً بمحاذاة البعض يسوقان دراجتيهما وهما يغردان بما يحفظان من أناشيد الفقر،فرحين بحياتيهما،قانعين بعمليهما،أنتظر(الأب)زميله بعدما أطلق صفيراً من ورائه،في تلك اللحظة خرجت مركبة(زيل)من حوض الشارع وعجنته،قيل أن سائق(الزيل)كان سكراناً،وجدوه يحتسي المشروب وهو يقود مركبته،في المركبة وجدوا ست قناني(بيرة)،كان عمر السائق يوم دهس أباه،أربعة وعشرين عاماً ومائة وعشرين يوماً،كما مثبت في دفتر خدمته العسكرية.
تنازلت الأم عنه في المحكمة بعدما دفع(ديّة)متواضعة،قدرها مائة وعشرين ديناراً.



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زقنموت (رواية) 1
- ليالي المنسية(رواية)جزء38الأخير
- ليالي المنسية (رواية) جزء 37
- ليالي المنسية (رواية) جزء 36
- ليالي المنسية (رواية) جزء 35
- ليالي المنسية (رواية) جزء 34
- ليالي المنسية ( رواية) الجزء 33
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 32
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 31
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 30
- ليالي المنسية(رواية)الجزء 29
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 28
- ليالي المنسية ( رواية ) الجزء 27
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 26
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 25
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 24
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 23
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 22
- ليالي المنسية (رواية)الجزء 21
- ليالي المنسية(رواية)الجزء العشرون


المزيد.....




- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...
- بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو ...
- سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - زقنموت (رواية) 2