|
العراقي والطعام
محمد لفته محل
الحوار المتمدن-العدد: 4631 - 2014 / 11 / 12 - 19:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
للطعام في المجتمع العراقي مكانة مقدسة دينيا واجتماعيا فهو هبة من الله للإنسان فيسمى (نعمة الله) أي التي انعم الله بها على البشر وعدم احترامها يعني عدم احترام الله ويجلب على نفسه الغضب الإلهي فيسلبها الله منه كما يعتقد، فالناس تقول للذين لا يحترم الطعام (ما تخاف تشاور بيك النعمة) وعلى الإنسان الشكر لله وان لا يقول أنها قليلة مهما كان حاله فقير، لأنه اعتراض على قسمة الله! وحينما يأكل يجب أن يبدأ بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى لا يأكل الشيطان معه وحتى يبارك الله بالطعام كميا! فتشبع بطنه، وحين ينتهي من الأكل يختم بعبارة (الحمد لله والشكر) أو (الله يزيدها علينا) فالله هو مصدر والطعام والمسؤول عن تقسيمه، والعراقي يحرص على جمع فتات الطعام وبقاياه بعد وجبة الطعام حتى لا يدوس عليها بالأقدام، ويحرم إلقائها في الزبائل أحيانا بل يخصص كيس لها، وإذا ما وجد في قارعة الطريق كسرة خبزه أو صمونة فانه يضعها جانب بعيدا عن الأقدام، وبعض الأحيان يُقبّلها ويضعها على جبينه شاكرا الله على نعمته، وبسبب هذه المكانة المقدسة للطعام (النعمة) أصبح يُحلف بها وكما يقال بالعراقي (والنعمة لم افعل كذا) والذي يحلف بها كذبا قد يواجه عقابا ربانيا، والدين يدعوا عدم التخمة بالطعام لان (المعدة بيت الداء) هذا هو التصور الديني للطعام أما التصور الاجتماعي فإن القيم الاجتماعية تمجد الزهد بالأكل، وتعتبر شتيمة إذا قلت لشخص (أبو بطن) أي الذي يأكل كثيرا، وهناك سخرية تقال أيضا للسمين (فلان عمّية) وإذا عزمت ضيفا على مائدة فإن على العازم أن يقدم له أفضل الطعام حد التبذير لإظهار الكرم! وعلى الضيف أن يعتذر من الأكل، وإذا أكل يجب أن يأكل قليلا وأن لا يأكل اللحم وعلى العازم أن يفرّط له اللحم ويضعه أمامه قائلا له (الله عليك أكل ولا تخجل، البيت بيتك) وإذا نهض من المائدة يقول له العازم (هاي شكلت؟ شبسرعة گمت؟)، أما واقعا فالرجل يهتم ببطنه كثيرا، والنساء المتزوجات يعرفن أن الطريق إلى قلب الرجل معدته، ونسبة التخمة بين الرجال واسعة عندنا في المجتمع العراقي، لكن الوضع يتغير كثيرا في الأكل الجماعي حيث يخضع لقيم البداوة ويكون هذا واضحا في العزائم الجماعية كالأعراس والمآتم حيث يكون الأكل السريع والتهام اللحم من شيم الغلبة والرجولة والشطارة مع الإقلال من شرب الماء واللبن إلا بعد الطعام حتى لاتمتلئ المعدة بسرعة قبل التخمة! وهناك مثل يقول (الزلم تآكل على گد أفعالها) واعتقد أن هذه القيمة نشأت من ضنك حياة البدو الناتج عن البيئة الجغرافية الصحراوية فكانوا يجدون في العزائم فرصة نادرة لملئ البطون وسط مجموعة أفراد القبيلة الجائعة أيضا، فلا مفر من الأكل السريع بنهم قبل أن تنتهي الوليمة بدون أن يشبع الشخص. فلماذا هذه الازدواجية من الطعام مابين الشراهة والزهد؟ اعتقد أن الزهد هي قيمة وضعتها الطبقة المستغِلة لتخدير الفقراء ومواساتهم، أو يكون الزهد قيمة من الفقراء أنفسهم ابتكروها كنوع من التقشف والقناعة بالممكن من القوت؟ بينما الشراهة هي نتاج طبيعي للعوز والجوع الذي يعيشه الفقراء والمعدمين، فيعيش الفرد ازدواجية بين قيمه الاجتماعية وحاجته البايلوجية الطبيعية، وحتى الأغنياء لديهم شراهة بالطعام لكن ليس بسبب الجوع بل بسبب الطمع. إن قداسة الطعام جائت من كونه هبة الله بالأساس، لغرض القبول والرضا بالقليل حد القناعة والشكر، واعتبار هذا القليل منّة من الله ممكن أن تزول أصلا لو لم يرضى الإنسان أو خالف أوامر الله، وعدم الاعتراض على هذا التقسيم الغير عادل، يفترض في الله أن يكون عادل كما يتصور الناس إذا كان مسؤولا عن التقسيم ألمعاشي لهم، لكن التقسيم واقعا ليس عادلا حيث هناك فقر كبير في الأرض مقابل أقلية غنية مترفة، فلماذا لا يكون الله عادلا؟ هنا تظهر تبريرات السلطة المستفيدة من هذا الظلم، بان هذا الظلم هو حكمة وامتحان الله للفقراء الذين سيفوزون بالآخرة إذا نجحوا في الامتحان (القناعة والشكر) والمؤمن مبتلى كما يقال دينيا. إن هذه النظرة المقدسة للطعام لا يمكن أن تنتشر إلا في بيئة يعم الفقر فيها أغلبية الناس فيما ترفل أقلية بالغنى وتكون بيدها مقاليد السلطة أو قريبة من مراكز القرار وفي تحالف وثيق مع رجال الدين والمثقفين، مهمتهم تبرير هذا التفاوت الطبقي بشتى الوسائل الدينية والعقلية، فيوهمون الناس أن هذا الطعام هو نعمة من الله مقسومة منه وحرام الاعتراض على هذه القسمة، وان الفقراء أحباب الله ويدخلون الجنة، بينما المثقفين يوهمون الناس إن التفات الطبقي بين الأغنياء والفقراء هو طبيعة المجتمع الإنساني من الماضي حتى الحاضر، والفقراء ليس لهم عزاء سوى القبول بهذا السلوان وهو الشكر على كل شيء حتى لا تسلب منهم هذه (النعمة) على شحتها، ولأنهم عاجزون أصلا عن فعل أي شيء تجاه السلطة التي بيدها السلاح والمال، وهذا ما يضطر بعض المصلحين إلى عدم إدانة السلطة واستعطاف الأغنياء لمساعدة الفقراء. إن جوهر اللعبة يكمن في نقل النظام الاقتصادي من الأرض إلى السماء، أو نقل النظام الاقتصادي من يد الإنسان إلى يد الله وجعله المسؤول عن تقسيمه، وهذه عملية النقل تتم بسبب طبقية النظام السياسي بالغنى والترف والتبذير للأقلية على حساب إفقار واستغلال وتجويع الأغلبية، وينقل هذا النظام بيد جهة مقدسة لدى الناس لا يجرؤن على الاعتراض عليها أو نقدها أو تغيير قسمتها، جهة مفارقة غير بشرية، فيقنعون الناس بالشكر والقناعة والرضوخ، ويفسرون الفقر بأنه اختبار من الله للفقراء، وان الغنى هو إغراء للإنسان بالدنيا ليدخلوا النار، وان البعض يغتنون بسبب الشكر والإيمان بالله أو لأنهم بخلاء أو مالهم حرام! وهكذا يربح الفقراء الآخرة ويربح الأغنياء الدنيا! لكن بعض النظريات الاقتصادية الحتمية تنقل الاقتصاد من إرادة الإنسان إلى قوانين خارجية عنه تتحكم به كقوانين التاريخ ونمط الإنتاج، فهل نقل الناس التقسيم ألمعاشي من الإنسان إلى السماء نوع من الحدس المغلوط؟ الذي سبق النظريات الاقتصادية كالماركسية مثلا؟. لكن ما حقيقة الأمر في هذه اللعبة؟ الحقيقة بتصوري بما أن نمط الإنتاج هو من يحدد شكل النظام الاقتصادي الذي يقسم مدخولات الناس المعيشية ويقسم الناس إلى أغنياء وفقراء خارج إرادة الأفراد، بالتالي (فنعمة الله) هي إسقاط لنمط الإنتاج من داخل المجتمع إلى السماء كونه خارج عن إرادة الأفراد، فهنا لا يبقى للناس أمام هذه القوى المتحكمة بمعيشتهم سوى انسنتها لطاعتها والشكر والتوسل لها بالمزيد من الطعام أو دوامها، وهي محاولة للتحكم بدخلهم وقوتهم.
#محمد_لفته_محل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدخل لدراسة علمية إنسانية للدين
-
صورة الله الشعبية
-
مدخل نفسي وانثروبولوجي لفرضية الله
-
مدخل نفسي للفاسد في المجتمع العراقي*
-
العراقي والكذب
-
المالكي وخصومه
-
انطباعات عن سقوط الموصل؟
-
ظاهرة داعش بالعراق
-
العراقي والتنبؤ
-
نقد أسطورة الجنة والنار في الإسلام
-
العراقي والخوف
-
التحريف النفسي للعنف البشري
-
نقد الديمقراطية العراقية
-
مقتدى الصدر ماله وما عليه
-
نظرية المؤامرة في المجتمع العربي
-
ثقافة الموبايل في المجتمع العراقي
-
نقد الفكر الطائفي السني الشيعي*
-
مدخل نفسي وانثربولوجي لأسطورة الشيطان
-
الطائفية الاجتماعية بالعراق*
-
التحريف النفسي للاستبداد السياسي العربي*
المزيد.....
-
كيف يستعد الجنود من المتحولين جنسيًا لمواجهة ترامب بإعادة تش
...
-
الصين تحتفل ببداية عام الأفعى وسط طقوس تقليدية وأجواء احتفال
...
-
توجيه إسرائيلي لمعلمي التاريخ بشأن حرب أكتوبر مع مصر
-
الجزائر تسلم الرباط 29 شابا مغربيا كانوا محتجزين لديها
-
تنصيب أحمد الشرع رئيسا انتقاليا لسـوريا
-
منتقدا الاحتياطي الفيدرالي ورئيسه.. ترامب يطلق العنان لمبادر
...
-
أمريكا.. السجن 11 عاما للسيناتور السابق مينينديز جراء إدانته
...
-
الرئيس السوري أحمد الشرع يطلب من روسيا تسليم الأسد
-
إصابة 24 شخصا بغارتين إسرائيليتين على النبطية.. -لم يستطيعوا
...
-
إعلام: المراحل المقبلة من وقف إطلاق النار في غزة تواجه عقبات
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|