|
مسك وعنبر وفيض مقدس ! قصة
محمود شاهين
روائي
(Mahmoud Shahin)
الحوار المتمدن-العدد: 4630 - 2014 / 11 / 11 - 01:24
المحور:
الادب والفن
مسك وعنبر وفيض مقدس ________________________________________ من المسائل غير المعقدة ( وربما المعقدة ، فأنا وللحق أشعر أنني بدأت أفقد المقدرة على التمييز بين المعقد وغير المعقد ) فالشيخ صابر لم يشم في حياته لا رائحة المسك ولا رائحة العنبر ، لندرة هذين النوعين من الطيب ، وصعوبة الحصول على مادتيهما الأساسيتين ، فالأول ( أي المسك ) وحسب ما يعرفه لنا المعجم الوسيط : ( ضرب من الطيب يتخذ من ضرب من لغزلان والثاني مادة صلبة لا طعم لها ولا ريح إلا إذا سحقت أو أحرقت ) ويقال أنه روث دابة بحرية ، قد تكون الحوت ! فمن أين تسنى للشيخ صابر أن يعرف أو يميز رائحتيهما ؟ على أية حال سنتجاوز مصاعب الحصول على هذين النوعين من الطيب ، ونفترض قسرا أن الشيخ صابر ممن تضمخوا ذات يوم بالمسك أو العنبر ، أو الإثنين معا ، إذ أن المشكلة الكبيرة والمعقدة للغاية ، ليست في أن يعرف الشيخ أو لا يعرف ، أو أن يميز أو لا يميز ، المشكلة في أن يشبه الشيخ رائحة ضراط الأعجف برائحة المسك والعنبر !! لاحظوا رائحة المسك والعنبر معا ، ولو أنه اكتفى برائحة واحدة لما عقد المسألة إلى هذا الحد .، وربما لما كانت معقدة إطلاقا ، غير أنه وبإطلاق هذا التشبيه على الضراط الأعجفي فتح بابا لم يكن من السهل على الحضور إغلاقه ، أو حتى العبور منه .. لنطرق الواقعة من أولها : كان الشيخ والساعد الأول وبعض (السواعد ) المقربين جدا يجلسون في حضرة الأعجف بكل مهابته . ومهابته هذه تعني أن الجلسة لم تكن جلسة عادية ، فهي أقرب إلى المكوث بين يدي أكبر وأعظم الآلهة طرا ، لكن ليس كما صوره علم الكلام المعتزلي ، أو محي الدين بن عربي ، أو حتى الأشعري والغزالي ، بل كما تتصوره مخيلة الأعجف . ، ومخيلة الشيخ صابر ، وكان في المستطاع أن تفض الجلسة دون أن تخرج عن حدود الطقس أو البروتوكول ، فوق العادي ، لو لم يضرط الأعجف ، فتحول ضرطته تلك الجلسة إلى الطور الخارق ، أو فوق فوق العادي ، إذ من التجني السافر والإجحاف المطلق بحق المتصوفة ، القول بأنها تحولت إلى نوع من التصوف الروحي في حضرة تجل إلهي !! كان كل شيء اقرب إلى الطقس العادي ، عندما مد الأعجف يده ليأخذ سيجارة من علبة السيجار التي أمامه على طاولة المكتب ، فامتدت عشر أيد بعشر ولاعات لتشعل له سيجاره ، عشر أيد وعشر ولاعات مع أن الموجودين كانوا تسعة فقط . وهذا يعني أن أحد الموجودين ( وهو الشيخ صابر قطعا ) مد يديه الإثنتين وبولاعتين !! وهو في الحقيقة كان يحرص على أن يحمل ولاعتين كلما ارتبط بموعد مع أحد قيادات القبائل الكثيرة والمتعددة ! يضع إحداها في جيبه اليمنى ويضع الأخرى في الجيب اليسرى ، وما أن يشاهد القائد يهم بإخراج سيجارة ، حتى يدخل يديه في جيبيه ويخرج الولاعتين ، ويمد يديه وهو يشعلهما معا ، فإذا ما عاكسته واحدة تقدم بالأخرى ، وإذا ما أشعلت الإثنتان ، فإنه يطفىء التي باليد اليسرى ويعيدها إلى جيبه . لم يكن الأعجف قد أخذ سيجاره بعد عندما امتدت إليه الأيدي العشر بولاعاتها المشتعلة ( فقد حرص الشيخ على غير عادته أن يبقي على الولاعتين مشتعلتين ، لعله يحظى بشرف إشعال سيجار الأعجف ) وحقا حظي ، فقد أخذ السواعد الآخرون يعودون إلى مقاعدهم حين أدركوا أن ولاعتي الشيخ كانتا الأسرع إلى المبادرة والإقتراب من وجه الأعجف ، ثم إنهم أكدوا ولاءهم المطلق ، ورغبتهم العارمة في نيل شرف إشعال السيجار الأعجفي ، بنهوضهم وتقدمهم وإشعال ولا عاتهم !! ابتسم الأعجف حين تنبه إلى الشيخ يمد يديه بولاعتين . هتف ( قبل أن يضع السيجار في فمه ) : ( أنت داهية يا شيخ ، بوجودك لا يمكن لأحد أن يسبق لللإشعال لي ) هتف الشيخ وقد نفد صبره من إبقاء الولاعتين مشتعلتين : ( إنه لأكبر شرف لي أن اكون دائما السباق إلى إشعال سيجاركم الطاهر ، وإنه لشرف أعظم لو أنكم تتيحون لي أن أبقى دائما في حضرة عظمتكم لأشعل لكم ) وضع الأعجف السيجار في فمه ، فيما كان الشيخ يطفىء الولاعة التي بيده اليسرى ويتقدم بالتي بيده اليمنى . وهنا بالضبط حدث الضرط التاريخي المهول ، فقد ارتأى الأعجف أن يرفع مؤخرته مليمترات عن الكرسي ليقرب رأسه من ولاعة الشيخ ، وليتيح للضراط الذي كان يضغط على بطنه - بعد تناول كميات متنوعة ومرعبة من الطعام – أن يتسرب من دبره .وهو وللحق كان يظن ان الضراط سيخرج عالهدى ( أي دون صوت ) ودون ان يثير رائحة كريهة للغاية . لكن ما جرى كان تاريخيا حقا ، ففي اللحظة التي رفع فيها الأعجف مؤخرته وهو يتكىء بمرفقه الأيسر فوق طاولة المكتب ، ويأخذ نفسا لإشعال السيجار ، انفلت صمام دبره مرة واحدة ليندفع منه ضرط مهول دوى في أرجاء حجرة المكتب ! نقز الأعجف وأطبق بمؤخرته على الكرسي في محاولة للحد من اندفاع أي انفجار آخر . ونظرا لأنه لم يكن يعرف أن ضراطه ( فيض مقدس ) حتى حينه ، فقد أحس بالخجل وسارع إلى الإعتذار ، فيما كان الصمت المطبق يلف وجوه السواعد ، والشيخ صابر الذي بقي واقفا دون حراك منتظرا مرور الفيض المقدس الذي قطع إشعال السيجار قبل أن يكتمل : ( آسف يا جماعة .. أشعر بمغص في معدتي ) !! وهنا انبرى الشيخ صابر إلى القول ، بعد أن دار بوجهه بسرعة على الحضور : ( تتأسفون عظمتكم وأنتم تغمروننا بفيض بركتكم المقدس وقد حل علينا ) ؟! وكانت الرائحة الكريهة للغاية قد أخذت تنتشر في فناء الحجرة ، رائحة ثوم وفجل وما شابه وقد تخمرت في معدة الأعجف ، ومرت عبر امعائه ، فغدت لا تطاق . استدرك الشيخ قائلا : ( إنني اشتم فيه رائحة المسك والعنبر أيها الأخ الأكبر والقائد الأعظم ) وهنا ثنى الساعد الأول على ما قاله الشيخ : ( فعلا أيها العليم البصير إن لفيض بركتكم المقدس رائحة المسك والعنبر 11) وانفتح الباب الذي لم يعرف السواعد الآخرون كيف سيدخلون منه أو يغلقونه ، لا لجهلهم بالأطايب والعطور فحسب ، بل لاعتقادهم أن أي نعت لن يرقى إلى ما تفوه به الشيخ ، ومع ذلك لم يجدوا إلا أن يضيفوا ما هب ودب على السنتهم على وصف الضرط التاريخي : أضاف الساعد الثاني مكملا : ( بل والياسمين والنسرين ، المسك والعنبر والياسمين والنسرين ) وأضاف الثالث : ( والفل والنرجس والزنبق والقرنفل ) وراح الآخرون يعتصرون أدمغتهم ليخرجوا بأي تشبيه ، وحين وصل الدور إلى السابع كان ابن الكلب قد فطن إلى أطايب عجيبة ، فهتف : ( بل والند والنردن والنارنج ) وبهذا قطع الطريق تماما على الساعد الثامن ، فلم يجد إلا أن يقول ( بل روائع الأطايب والعطور كلها ، كلها مجتمعة أيها الثائر الأكبر) ولحظتئذ فقط ، أدرك الأعجف أن ضرطه كان مقدسا وتاريخيا وجامعا لكل أنواع الأطايب والعطور ، فأطلق العنان لمؤخرته . والحمد للذي يمكن أن يستحق الحمد ،أن الشيخ صابر لم يسمع بابن عربي والشيرازي والمتصوفة أجمعين ، ولم يعرف عن فلسفتهم شيئا ، وإلا لرأى في الضرط أحد أشكال التجليات الآلهية الأعجفيه باعتباره ( الضرط ) خاضعا لوحدة الوجود الإلهي الأعجفي ، ومع ذلك فإن رؤيته للضرط وتفسيره له ، لم يبتعدا كثيرا عن هذه النظرة . المشكلة أن المسالة لم تتوقف عند حدود تشبيه رائحة ضراط الأعجف برائحة المسك والعنبر ، فقد تجاوزت ذلك إلى اعتبار برازه لؤلؤا منثورا ، ليغدو الضراط والبراز الأعجفيان – فيما بعد – حقيقة مقدسة ثابته لا يرقى إليها الشك الجماهيري !! الذي لا يصدق ( وربما يصدق باعتبار الصدق اختلط بالكذب إلى حد يستحيل معه الفصل بينهما ) هو ان الأعجف نفسه – وهذا ليس غريبا عليه – بات بعد الواقعة وما دار حولها من تقولات ومبالغات وخرافات غير معقولة ، يشتم في ضراطه رائحة الطيب ويرى في برازه اللؤلؤ المنثور !!
1987
#محمود_شاهين (هاشتاغ)
Mahmoud_Shahin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 23) - ( 884) في الخال
...
-
جسدي بين صبرا وبسمة . قصة
-
الكلب الجميل ! قصة قصيرة حقيقية .
-
صلاة الفذاذة العظمى ! قصة
-
السلام على محمود. أشعار في ديوان محمود درويش (لماذا تركت الح
...
-
الجنرال الزعيم . قصة قصيرة
-
السلام على محمود. أشعار في ديوان محمود درويش (لماذا تركت الح
...
-
أبناء الله . قصة
-
السلام على محمود. أشعار في ديوان محمود درويش (لماذا تركت الح
...
-
شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 22) - ( 883) الشباب ب
...
-
السلام على محمود. (1) فاتحة ! أشعار في ديوان محمود درويش (لم
...
-
ألخطار. قصة طويلة
-
شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 22) - ( 882) حوار الح
...
-
العبد سعيد. قصة.
-
نار البراءة . قصة في خمسة فصول !
-
شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 21) - ( 881) حوار الح
...
-
شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 20) في الدين والأخلاق
...
-
يوم مولدي .. يوم لدمشق
-
غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (الجزء
...
-
غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (الجزء
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|