حسين السكاف
الحوار المتمدن-العدد: 1300 - 2005 / 8 / 28 - 05:17
المحور:
الادب والفن
عاصم الجلبي، إمتداد مهم لمدرسة بغداد في العود
في ألبومه الموسيقي الجديد " مناجاة – عود منفرد " يُظهِر لنا الفنان عاصم الجلبي ذلك الإنتماء التقني والروحي لمدرسة بغداد في العود، فالمعروف عن الفنان عاصم الجلبي أنه باحث متخصص في تقنيات تلك المدرسة المهمة في تاريخ الموسيقى العراقية والعربية، ومعروف عنه أيضاً محاولاته الجادة في إبراز الملامح الأساسية لمدرسة بغداد للعود من خلال عروض موسيقية منفردة لتلك الآلة بالعزف المنفرد في بلدان العالم المختلفة.
ألبوم " مناجاة " الذي يحتوي على ستة مقطوعات موسيقية، مختلفة الصورة واللون والموضوع، مشتركة في موضوعة الإرتجال والتقنية العالية بالإرتكاز على موروث المقامات الموسيقية العراقية المعروفة، وهذه التقنية هي تماماً التقنية التي تتميز بها مدرسة بغداد للعود، حيث تشترك المقطوعات الموسيقية في تقنية الخلط بين التقاسيم كصيغة ملحنة – قطع جديدة من تلحين العازف – وبين مقاطع مكتوبة سلفاً للموسيقى وهي عبارة عن خطوط أو قوالب موسيقية عامة معروفة من المقامات العراقية. إلاّ أننا نجد في كل مقطوعة، فكرة موسيقية أو صورة لمشهد يميزها، حيث لا يكون المستمع واهماً إذا تخيل أن هناك حديث أو عتاب بين عاشقين تتوزع أصواتهما بين القرار والجواب في مقطوعة " رومانس Romance ". أما مقطوعة " منمنمة من مقام النهاوند " التي استوحاها الفنان عاصم الجلبي من العوالم الموسيقية الخاصة التي كان يتميز بها العازف اليمني " جميل غانم "، تلميذ أحد رواد مدرسة بغداد في العود، الفنان الموسيقي العراقي سلمان شكر، نجد في تلك المقطوعة، أن العازف عاصم الجلبي قد حرص على إظهار جزء كبير من قدراته الموسيقية، مما يجعلنا وضع تلك المقطوعة في موضع الإلتماعة الموسيقية المهمة في هذا الألبوم. وكأنها مهداة إلى أستاذ العود الذي تأثر به عاصم الجلبي وأقصد هنا الفنان سلمان شكر، ليقول له، " أنظر إلى أية مرحلة عزفية وصل إليها تلميذك النجيب ".
الفنانون الذين ينتمون إلى مدرسة بغداد في العود، تميزهم القدرة المحكمة على البحث والتجريب والإرتجال، وكذلك الإهتمام المفرط في الحفاظ على الموروث الموسيقي والثقافي. ففي الوقت الذي وضع فيه الشريف محيي الدين حيدر عام 1937 الأسس النظرية والتطبيقية لدراسة آلة العود، كانت تلك الآلة لا تخرج عن كونها آلة موسيقية مرافقة للمغني أو المطرب. ولكن الذي حدث بعد أن تتلمذ عليه طلبة(1) أصبحوا فيما بعد من الرموز الموسيقية العراقية والعربية المهمة، هو ظهور آلة العود بصورة النجم الموسيقي الذي ينافس كل مجالات الموسيقى وآلاتها من خلال العزف المنفرد. وهنا أستشهد بما قاله الموسيقي العراقي منير بشير – أحد أهم رموز مدرسة بغداد في العود – في إحدى لقاءاتة الصحفية حين قال " أعتمد على الإرتجال لأكون حراً "، ولكنه قال أيضاً " كل موسيقى في العالم لها خصائص لا يمكن العبث بها، كل موسيقى تمثل تراث وهوية الأمة التي أبدعتها " ويضيف " الموسيقى تخرج لتعيش الزمن الذي يعيشه المبدع، لكنها يجب أن تظهر بشكل ينسجم مع الثقافة التي يحملها مؤلفها. فإذا كانت ثقافته متواضعة، نتاجه يكون أيضاً متواضع. وإذا كانت ثقافته عالية وجذورها ممتدة في الأعماق ومتفتحة على العالم، لا بد أن تكون موسيقاه كذلك ". تلك هي المميزات الحقيقية التي يتمسك بها رواد وطلبة مدرسة بغداد في العود، وبالعودة إلى ألبوم " مناجاة " الذي أصدره الفنان عاصم الجلبي، نجد أن تلك العلامات المميزة واضحة بشكل كبير، ففي مقطوعة " تقاسيم رست – البغداديات " وهي المقطوعة الرابعة من الألبوم، نجد أن الإرتجال العزفي لمقام الرست أخذ صورة رسالة موسيقية حميمة إلى الرواد الأوائل من تلك المدرسة، رسالة موسيقية مليئة بالحب والإعجاب، ثم تتحول الرسالة على إيقاع الجورجينا إلى دعوة تعيد رواد مدرسة بغداد في العود إلى مناطقهم البغدادية بأزقتها وأجوائها الخاصة، فإيقاع الجورجينا هو الإيقاع الذي يميز أغلب الأغاني البغدادية، الأغاني التي رسخت في الذاكرة العراقية منذ زمن طويل.
يختتم ألبوم " مناجاة " رسالته الموسيقية في مقطوعته السادسة التي حملت عنوان " في فينا In Vienna " وفيها يشير الفنان إلى وطن الإغتراب الذي يعيشه، بصورة تشير إلى السحر أو الجانب الجمالي في ذلك الوطن. فلقد صور الفنان عاصم الجلبي أجواء ذلك السوق الشعبي الذي يتوسط العاصمة، والذي يمتاز بإمتدادة الملفت للنظر، إنه سوق Nacshmarket، الذي استوحى منه الفنان مقطوعته الموسيقية كدلالة على إغتراب روح عراقية أخذ العود صورتها، في منطقة ساحرة شديدة الألفة.
تميزت الطريقة التعليمية – نظرية وتطبيقية – التي أسسها الشريف محيي الدين حيدر بأنها طريقة حديثة لم يعرفها معلمي الموسيقى من قبل. فعلى الرغم من شرقية آلة العود، إلاّ أن أسلوب حيدر كان يتطابق تماماً مع المنهجية الغربية الكلاسيكية التي تدرس بمستويات مرحلية متتابعة النظام متصاعدة الصعوبة نظرياً وتطبيقياً. وعلاوة على ذلك، كان على الطالب الدارس لآلة العود أن يدرس طريقة Hanon و كذلك طريقة Czerny، وهما طريقتان لدراسة آلة البيانو، ومناهج وطرق غربية أخرى، وكان عليه أن يتقنها حق الإتقان قبل أن يسمح له بالإرتجال على العود، ولكن الحقيقة أخبرتنا بأن الطلبة كانوا يرتجلون فيما بينهم أو في خلوتهم، إلاّ أن المعلم كان يمنع عليهم ذلك قبل أن يتمكنوا من تقنيات العزف الصحيحة، وقبل أن يحذقوا فنهم وتقنياته.
لقد أثبت الفنان عاصم الجلبي في ألبومه الأخير " مناجاة " على أنه إمتداد مهم لتقنيات وروح مدرسة بغداد في العود، تلك المدرسة التي جعلت من آلة موسيقية واحدة عالم موسيقي متكامل.
الهامش (1) تتلمذ على الشريف محيي الدين حيدر أهم الرموز الموسيقية العراقية، فلقد تخرج من الدورة الأولى لآلة العود عام 1943، جميل بشير وسركيس آروش، ومن الدورة الثانية سلمان شكر، ومن الثالثة منير بشير، ثم غانم حداد وعادل أمين خاكي، وبعد ذلك سالم عبدالله ذياب ومحمد ياسين عبد القادر، ومن الدورة السادسة عام 1949، كل من يعقوب يوسف والشاعرة نازك الملائكة وخليل إبراهيم وفوزي ياسين.( عن كتاب – الشريف محيي الدين حيدر وتلامذته، تأليف حبيب ظاهر العباس )
#حسين_السكاف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟