|
المبادئ العقلية الأولى للفلسفة الائتمانية عند طه عبد الرحمان
خالد مخشان
الحوار المتمدن-العدد: 4619 - 2014 / 10 / 30 - 16:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المبدأ العقلي للفلسفة هو أساسها وهو ومنطلقها، فقد وضع أرسطو مبادئ العقل للفلسفة منذ ما يقارب 24 قرن كأداة من أدوات المنطق وأسسها ويقوم على قوانين ثلاثة وضعها للتفكير الصحيح، يرى أنها بديهية أي واضحة بذاتها وليست بحاجة إلى برهان, وأن صدقها ضروري في كل زمان ومكان، ومن ثم لا تخضع للتغيير أو التبديل أو التنقيح مهما تغيرت المعرفة الإنسانية، لأنها تتفق مع بداهة العقل السليم فبقيت تلك المبادئ سارية المفعول إلى يومنا هذا، فحتى في فترة ازدهار الفلسفة في بلاد الإسلام مع ابن رشد وغيره ، لم يتم المساس أو محاولة المساس بهذه المبادئ، لكن في الفترة الحالية، ومع بداية طه عبد الرحمان في تنزيل مشروعه الفلسفي الذي سماه بالفلسفة الائتمانية(1) بغية تأسيس فلسفة إسلامية "خالصة" أساسها النص المقدس عند المسلمين، كمحاولة منه لتجاوز ما سماه بالفلسفة الغير الإئتمانية. حسب طه عبد الرحمان فان أهم الآليات التي توسلت بها الحداثة في إقامة مشروعها "الدنيوي" هي آلية تفريق المتصل، وبما أن الدين يتصل بجميع مجالات الحياة، فقد قامت الحداثة بتعطيل هذا الاتصال وفرقت "المجموع" واستقلت تلك المجالات بنفسها. فتم فصل الدين عن العلم والفن والقانون والسياسة والأخلاق... وقد سمى طه عبد الرحمان عملها هذا "بالدنيانية"(2) وقد استخدم "النقد الائتماني" كتسمية للمنهج الذي اختاره في مقاربته النقدية للحداثة. فبالنسبة لطه عبد الرحمان فان العقلانية المجردة أهم آليات التفكير الفلسفي الغير الائتماني (المقصود الفلسفة كما هي كتعارف عليها منذ نشأتها في بلاد الإغريق القديمة) فهي في تصوره مرتبة دنيا من مراتب العقلانية فهناك أيضا العقلانية المسددة ومن فوقها العقلانية المؤيدة، فالعقل المسدد يحتوي العقل المجرد صارفا مفاسده والعقل المؤيد يحتوي العقل المسدد مجتنبا عوائقه)(3) فالفلسفة الائتمانية إذا تنبني على العقل المؤيد عكس الفلسفة الدهرانية التي تنبني على العقل المجرد وحده. فهذا الاختلاف بين الفلسفتين (الدهرانية و الائتمانية) نجده في مبادئهما، ففي مقابل مبادئ العقل الأول التي تتحدد بها الفلسفة الغير الائتمانية والتي هي مبدأ الهوية و مبدأ عدم التناقض و مبدأ الثالث المرفوع، فقد وضع طه عبد الرحمان مبادئ لفلسفته الائتمانية والتي حددها على التوالي، مبدأ الشهادة، مبدأ الأمانة، مبدأ التزكية, وهي تقبل المبدأ العقلي الأول للفلسفة الغير الائتمانية ، والتي وضعت المبادئ الثلاث المتعارف عليها : الهوية، عدم التناقض، الثالث المرفوع, وهي على التولي كما حددها واضعها. 1. مبدأ الشهادة: وهي تقابل مبدأ الهوية الذي يرى أن "الشيء هو نفسه" وهو يعبر عن ابسط الأحكام وهو الحكم بأن الشيء هو نفسه مثل أن نقول "الإنسان هو الإنسان" ورمز هذا القانون "أ هو أ" ويرى أرسطو أن هذا القانون هو أساس التفكير المنطقي لأنه يشير إلى ضرورة التقيد بذاتية مدلول اللفظ فلا نخلط بين الشيء وما عداه، ولا نضيف للشيء ما ليس فيه، ومخالفة هذا القانون يوقعنا في التناقض ويؤدي إلى إفساد الاستدلال، كما يرى أرسطو أن هذا القانون يجب أن يعمل ليس في عملية الاستدلال أو البرهان فقط ، لكن في حياتنا اليومية أيضا فلكي نفهم بعضنا بعضا يجب أن نتحدث بلغة واحدة لا يحتمل اي لفض من ألفاضها أكثر من معنى. أما مبدأ الشهادة كمبدأ أول للفلسفة الإئتمانية فهو أيضا يقضي أن "الشيء هو هو متى شهد عليه غيره" فهو يضيف على مبدأ الهوية، شهادة الغير وهي حسب طه عبد الرحمان تكون بمختلف معانيها فتجعل (الإنسان يستعيد فطرته محصلا حقيقة هويته ومعنى وجوده)(4) بدأ بشاهدة الإنسان بوحدانية الله في العالم الغيبي والمرئي وشهادة الخالق على هذه الشاهدة والانتهاء بشهادة الذات والشهادة على الآخرين وشهادة الكائنات الأخرى، فهو يرى أن كل الموجودات تتمتع بحق الشهادة، فهذا المبدأ كما يرى واضعه يتميز بالازدواج وينبني على الغيرية عكس مبدأ المبدأ الأخر الذي لم ينبني عليها. 2. مبدأ الأمانة: لقد وضع صاحب الفلسفة الائتمانية هذا المبدأ في مقابل مبدأ "عدم التناقض" الذي تأخذ به الفلسفة الغير الائتمانية. ومبدأ عدم التناقض يقضي بأن نقيض الشيء هو نفيه، فنقيض الحكم أن هذا الشيء هو قلم، هو الشيء نفسه "ليس قلم" والكلام المتناقض هو الذي ينفي بعضه بعضا، ورمز هذا القانون "الشيء لا يمكن أن يكون (أ ولا أ) في أن واحد. فإن مبدأ الأمانة في الفلسفة الإئتمانية الطهائية يفيد أيضا نفس القضية إذ يقضي بأن الشيء ونقيضه لا يجتمعان متى كان العقل مسئولا، فقد أضاف هنا طه عبد الرحمان "المسؤولية" لهذا المبدأ فالعقل المسئول لا يمكن أن يكون ضارا للوجود عكس العقل الغير المسئول الذي يعتبر إنتاج ما يضر أو ما لا يضر في منزلة واحدة دون أن يردعه رادع من إنتاج ما يضره ووجوده. 3. مبدأ التزكية: هذا المبدأ يقابل مبدأ "الثالث المرفوع" الذي تأخذ به الفلسفة العادية، وهو يقضي بأن الشيء إما هو وإما نقيضه، فإذا كان "الشيء هو نفسه" طبقا لمبدأ الهوية، وإذا كان لا يجوز منطقيا لقانون عدم التناقض أن نصف شيئا واحدا بأنه هو نفسه وليس نفسه لاستحالة ذلك منطقيا حيث لا وسط بين النقيضين ويترتب عن ذلك قانون ثالث هو قانون "الثالث المرفوع" ورمز هذا القانون (إما أن يكون الشيء "أ" أو "لا أ"). ومبدأ التزكية حسب عبد الرحمان طه، يفيد نفس القضية (الشيء إما هو وإما نقيضه) لكنه يضيف عليه "متى كان العمل مطلوبا" بدأ من الجوارح (أعمال خارجية) وانتهائنا بأعمال القلب (أعمال داخلية)، فلا خيار للإنسان في الفلسفة الائتمانية إما أن يأتي بالعمل الذي يزكي به نفسه وإما أن يأتي بالعمل الذي يدسيها، فإما "تزكية أو تدسية" وهو هنا يستشهد بالأية 9 و 10 من سورة الشمس.(5) فالتزكية حسب طه عبد الرحمان خيار لا ثاني له (يجعل الإنسان يجاهد نفسه للتحقق بالقيم الأخلاقية والمعاني الروحية المنزلة)(6) فالأصل في التزكية هي الترقية، ي التنمية الروحية والخلقية (لأن واجب الإنسان في العالم الائتماني أن يطلب التقدم المعنوي كما يطلب التقدم المادي، بل واجبه أن يجعل التقدم المادي تابعا للتقدم المعنوي وإلا تقدم في إنسانيته)(7) فهي الأقرب للتصدي للعلل الاجتماعية والآفات العالمية خلقية كانت أم روحية. انطلاقا من هذه المبادئ الثلاث (الشهادة، والأمانة التزكية) يريد طه عبد الرحمان لفلسفته منها أن يؤسس لفلسفة جديدة تحاول أن تقطع مع الفلسفة المتعارف عليها منذ أزيد من 24 قرن تقريبا إلى يومنا هذا، فهو يرى أن عقلانية الفلسفة الائتمانية تُستمد من النصوص المؤسسة للتراث الإسلامي، فهو يصفها بأنها فلسفة إسلامية حقه خالصة لا يشوبها شائبة وغير مختلطة بأي فلسفة كيفما كان نوعها، إذ يعتبر أن ما نسميه نحن بالفلسفة الإسلامية التي سادت في القرون الوسطى لم تكن فلسفة إسلامية خالصة، فابن سنا والفارابي وابن رشد ... لم يخوضوا إلا بحر الفلسفة اليونانية، فكانت جل اهتماماتهم التوفيق بين الفلسفة والدين أو بين الحكمة والشريعة، لذلك يعتبر أن إطلاق تلك التسمية عليها هي من باب التجاوز لأن أرباب تلك الإنتاجات كانوا مسلمين حتى لو أشربت قلوبهم "بفلسفة غير إسلامية". بما أن طه عبد الرحمان يريد أن يؤسس لما يسميه بفلسفة إسلامية حقه يريد من خلال أن يتجاوز الفلسفة المعتادة والمتعارف عليها والتي يسميها بالفلسفة الغير الإئتمانية قام بنحت مفهوم الفلسفة الإسلامية واستمد مفاهيمها من النصوص المؤسسة للدين الإسلامي. لكن السؤال الذي يمكن طرحه هنا أليست الفلسفة هي إنتاج إنساني عالمي لا تخضع لا للزمان ولا للمكان تناقش الإشكالات الإنسانية جمعاء، فرغم نشأتها في الإغريق القديمة إلا أن مواضيعها هي مواضيع إنسانية تمس جميع الأجناس والثقافات ... أليس هذا التمييز يزيد من خلاله في تكريس الفرقة الإنسانية والدينية؟. فقد نجد فلسفة إسلامية وأخرى مسيحية وأخرى بوذية ... فتزداد التفرقة ويزداد عدم تقبل الأخر. ألم يكن من الممكن أن يتم إدراج الفلسفة الائتمانية ضمن الإنتاج الفلسفة الإنساني عامة، مع الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية والدينية للمسلمين، مع احترام كل طرف للأخر والتقبل بالتعدد ؟... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1. الفلسفة الائتمانية: هي فلسفة صاغها طه عبد الرحمان واطلقها كتسمية على ما يسميه بالفلسفة الإسلامية الخالصة، منبع هذه التسمية وهو ان الإنسان في أصله مؤتمن، انطلاقا من قوله تعالى (ٍٍإنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) أي أن الإنسان ما يميزه عن باقي الكائنات الأخرى هو تحمله للأمانة، وهذه الحادثة حسب طه عبد الرحمان فقد تم حفظها في الذاكرة الغيبية للإنسان منذ قديم الأزل. (للمزيد من الاطلاع على الفلسفة الائتمانية انظر كتاب "روح الدين" لطه عبد الرحمان. 2. مصطلح صاغه طه عبد الرحمان وهو في استخدامه قريب من المصطلح الانجليزي "secularisation" يستخدم في معنى "صرف الدين عن تنظيم مجالات الحياة" 3. طه عبد الرحمان: "بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين"، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية بيروت 2014 ص 13 4. نفسه ص 14 5. قد أفلح من زكاها ( 9 ) وقد خاب من دساها ( 10 ) 6. طه عبد الرحمان: المرجع السابق ص 16 7. طه عبد الرحمان المرجع السابق ص 17
#خالد_مخشان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صناعة الثقافة وتنميط الوعي الفردي
-
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: نشأتها، أسسها الجوهرية، وم
...
-
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: نشأتها، وأسسها الجوهرية وم
...
-
الفضاء العمومي عند هابرماس
-
أيديولوجية التقنية والعلم في المجتمعات الغربية
-
العقل المستقيل وإشكالية التغيير
-
الرئيس -المقعد- والعقلية الاقصائية العربية
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|