|
العجوز الحلقة العِشرون
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4617 - 2014 / 10 / 28 - 13:08
المحور:
الادب والفن
من طرفها، أخذت ساذجة طريقًا ضيقةً وسط الأغصان اليابسة، ولسيرها السريع، جِدّ السريع، اضطرب تنفسها تأثرًا بخطواتها، وتدافعت أفكارها الغرامية. سارت بسرعة أكثر فأكثر، ركضت تقريبًا، وَلِمِسَاسِ نَفَسِهَا الدافئِ بهواءِ الليلِ الباردِ تلألأت قطرة ندى على أرنبة أنفها الدقيق. أحست بالبرد، فتلك السنة كانت ليالي الخريف باردة، ليالي صُنعت للعاشقين الذين لا يتمزقون غيظًا، وللعاشقات اللاتي يتصنعن عدم الخوف. قالت ساذجة لنفسها إن حبيبها سينتظرها في الخريف أو في الشتاء، وسيأخذها بين ذراعيه. ستعشش على صدره، ولن تشعر بلدغ البرد، لن تخاف من أي شيء... لما فجأة شبك ثوبها غصنٌ يكره العزلة، وجعل قلبها يقفز. ليسه عندليب، حبها، شهوتها. وعلى حين غِرة: إذا ما جاء الليل، جاءني حبيبي، إذا ما جاء الليل... عادت إلى نفسها، وأخذت تركض باتجاه الصوت الساحر: إذا ما جاء الليل ضمني حبيبي إذا ما جاء الليل
- رويدك... لا تخافي! - من هناك...؟ هذا أنت، يا عندليب؟ - هذا أنا! بحثت ساذجة عنه في الدجى، فأحست أصابعَهُ في شعرها، وأحست بشعرها ينثال بين أصابعه. انفعلت، وهو يهمس في أذنها: - شعرك شلال! عندما أغوص فيه بيديّ، الليل بأجمعه يغمرني، فأترك نفسي تغرق في موجه. فك أزرار ثوب الليل، وظهر، فترامت في أحضانه. وضع شفتيه على شفتيها، وعاد يهمس: - أحبك! انفعلت، انجرفت. عندليب! لأنفاسه رائحة البحر. - يا حبي، الليل بحر يغطي الأرض بأسرها! همس عندليب. وحملته الأمواج. - ضمني! ضمني بقوة أكبر! اجعلني خائرة القوى! - عندما أنتظرك، قال عندليب، يخترقني هواك كنصل السيف. - أمغرمٌ أنتَ بي كل هذا الغرام؟ - أنتِ كل شيء لي، السنابل، الأعشاش، الرند الزهريّ. أنت الشمس والقمر، أنت كل شيء لي، كل شيء. - أنتَ كذلك. - أنتِ روحي وأنتِ قلبي. - أنتَ كذلك. - يا حبي... ثَمِلا بنبيذ الليل، وتفتحا في رمل المساء، فذاب كل عسل النار على شفتيهما. أنتَ كذلك... أنتَ كذلك... - يا حبي! يا حبي... أبعدها عنه ليشدها من كتفيها، من كتفيها الهشتين، من جمالها الصافي. لعاشق البراءة والسذاجة، كل هذه الهشاشة، كل هذه البشاشة. سار بها إلى منحدر، إلى منحدر طويل، فأين يأخذها؟ كانت المرة الأولى التي تنحدر بهما الطريق. - كوني لطيفة، رجاها، تعالي معي. - آتي معك؟ - أستحلفك أن تأتي معي! نظرت ساذجة إليه، وأخذت نفسًا عميقًا. - أعرف خطورة ما نحن قادمون عليه، ولكن يجب قبل كل شيء انتشالك مما أنت فيه من خطر تتعرضين إليه. شخصيًا أنا لا أخاف شيئًا، أستطيع مواجهة كل شيء من أجل المجيء لرؤيتك، للإمساك بيدك، لتقبيلك، وسأعمل كل شيء لامتلاكك. في المقاطعة، أنتم تعيشون في مخزن للبارود والمتفجرات. - الآن تدرك أننا نعيش في مخزن للبارود والمتفجرات؟ - أنتم تعيشون في مخزن للبارود والمتفجرات بالفعل، لهذا، أنا خائف عليك، نعم، خائف كثيرًا. أنت تصدقينني على الأقل؟ قبلته من خده، ذابت بين ذراعيه. - تحبني إلى هذه الدرجة؟ قبلها من عنقها. - يا حبي، يا حبي... ردد، وهما يواصلان نزول المنحدر. ستأتين، قولي لي نعم، ستأتين. لقد أعددت كل شيء... يا حبي! - ماذا أعددت؟ - لقد أعددت كل شيء. تنتظرنا فرس وزوادة، في الناحية الأخرى من السور. وكما تعرفين، البرابرة يعرفونني جيدًا، وسيتركونك تذهبين. أمي تنتظرك على أحر من الجمر، حدثتها عنك، وهي تعرف كل شيء. حدثت أبي كذلك، وكل الأهل. - حدثت عني كل الأهل؟ - نعم، كل الأهل. قلت لهم ستأتين، ستبقين قربي. - وماذا سنفعل هناك؟ - سنفعل كل ما نريد، حتى القيام بجولة حول العالم، أريد أن تبقي قربي إلى الأبد. سحبت ساذجة برفق يدها من يده، وابتعدت، وهي تغرق في تفكير لا سذاجة فيه، فللسذج من البشر أرواحٌ مُرْهَقَةٌ بالريبة وأحيانًا بالازدراء. - ولكن هناك أهلي... وَهُنَيْهَة بعد ذلك، وبتوانٍ، وكأنها تغترف كلماتها من أعماق البحر وجذور أشجار السنديان: - كنت أفكر أنك ستأتي عندنا، يا عندليب، كنت أفكر أنك ستبقى بيننا، وأنك ستجد حلاً لمواجهة الموت والدمار اللذين هما قسمتنا ونصيبنا. هل تسمعني، يا عندليب؟ كنت أفكر أن إخصاب أرضنا سيتبع اتحادنا، زواجنا، أو، إذا شئت، إخصاب جسدينا، إخصاب خالد كالحب الذي أحمله لك في قلبي. هل تسمعني؟ كنت أفكر في كل هذا، والآن تطلب مني الذهاب معك تاركة كل شيء من ورائي، تاركة كل شيء يثقل هامات الآخرين، كل شيء، الأرياح أول الأشياء، لتتلاعب بنا. جدتي المسكينة هي الآن عجوز بما فيه الكفاية، ، وأمي أعانها الله، لم تزل في خدمة الحاكم، وأختي المغضوب عليها تبحث عن طريقة تتحرر فيها مما يكربها من عذاب علته العلة، دمامة وجهها وغرابة خلقها. هل تسمعني؟ وهو يصغي طوال الوقت... وهو لا يصغي... - لا تقل لي إننا ستعود فيما بعد، إخوة لي وأخوات ذهبوا، ولم يعودوا... إلى اليوم. لن يعودوا أبدًا! وهو يداوم على الإصغاء... وهو لا يداوم... - أحبك! قالت ساذجة. أموت من أجلك، يا عندليب، يا حبي! افهمني تمام الفهم: ماذا سيكون وضعي إذا ما عرف الناس أني هربت معك؟ أراد عندليب الكلام وقول ما يريد سماعه: - لكن... لكنها تابعت: - في أية حال ستكون المسكينة أمي عندما يشير الناس إليها بأصابعهم في الطريق وهم يتهامسون: يا له من زمن! هذه هي من هربت ابنتها مع الغريب الذي اختارته! - لا تنسي هذا، يا ساذجة: حبنا لحن خالد! أقوى من كل شيء، كل شيء، كل شيء على الإطلاق! فَتَرَت همة ساذجة بالتدريج، اختلج كل جسدها، وموجات متعة الصوت العذب لحبيبها تجوب في جسدها، فرددت حالمة: - حبنا أقوى من كل شيء! ثم، وهي تسترجع وعيها، سمعت نفسها تقول، كما لو كانت تخرج من حلم زائف: - حبنا أقوى من كل شيء، لكن حبنا ليس كل شيء، يا عندليب! لا شيء غير لحن! أغنية! خالدة؟ أشك في ذلك! طعنة خنجر في قلبه هو المجنون بها! علا وجهها في الليل قمرًا، والهواء، راح يتلاعب بشعرها، فيتطاير شعرها في الهواء حمامًا. أختها الشنيعة صهباء، كانت تبحث عن علاجٍ شافٍ وذراعٍ قوية. أرادت أن تقول له: "هل تعرف دواءً ناجعًا يشفي أختي غير الغناء؟" إلا أنها أطبقت فمها. رأت أمها المعذبة، سطر حياتها كله، منذ اغتصابها لأول مرة. رأت التقاطيع المتآكلة لجدتها، والتي تنتظر منقذًا بنفاد صبر. تذكرت كل الأشياء الحالكة التي عاشتها، كل الإساءات، كل العذابات، كل الصلوات الطويلة التي لا تنقطع في كتاب العباد الملعونين. تقاطرت كل الصور في رأسها، وأسالت دمعتين ثقيلتين من جفنيها صورة أخيها عتريس في اللحظة التي رموه فيها بالرصاص في ساحة الجمال القديمة. كان وجودها لا تُفصم عراه عن وجود الآخرين، أهلها وكل الآخرين الذين يعيشون مُسَوَّرِين. عند قدم المنحدر، ألقت ساذجة نظرة خاطفة على السور القائم على مقربة منها، وقالت لنفسها: يكفي أن أقول له خذني، فيحملني على كتفيه، ويطير... لا! سأقول له: لا!... سأنتصب أمامه، ربةً لمصيري... لن أتوسل، لن أبتهل... سأعيد القول: لا!... سأقول له: كنت أعتقد أنك تأتي كل يوم لتبقى معي لا لتأخذني، وترحل بي بعيدًا، وأنا المزروعة هنا، وأنا التي جذورها، رغم طراوتها، نسجت حَبْكَتَهَا عميقًا في الأرض... بنية اللون جذورها، عطرة الفوح أنفاسها، حادة الطبع جَواذِبُها. اذهب! ابتعد! لا تعد! اتركني لأوجاعي... سأقول له:لا!... سأقول له: لن أغادر أبدًا هذا المكان، طالما ظن الناس في تركه فراري!... سأقول له أيضًا: اعتقدت أنك ستقوم بكل ما يلزم لتقتل قاتلنا، أنت يا فارسي... الذي أحببت. - ساذجة، ساذجة العاقلة! سوّت كل شيء مع سذاجتها سوّت كل شيء مع فؤادها أو تقريبًا دون ما غِلّ دون ما نَزْوَة هل ستستطيع العيش دون ما حب؟ دون ما حبها الكبير؟ وحدها مع صراحتها لن تعرف صهباء غير الكواسر من الطيور أكثر من ألف مرة تموت كل يوم صهباء وساذجة صهباء أم ساذجة حكايتان حياة!
يتبع الحلقة الحادية والعِشرون
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العجوز الحلقة التاسعة عشرة
-
العجوز الحلقة الثامنة عشرة
-
العجوز الحلقة السابعة عشرة
-
العجوز الحلقة السادسة عشرة
-
العجوز الحلقة الخامسة عشرة
-
العجوز الحلقة الرابعة عشرة
-
العجوز الحلقة الثالثة عشرة
-
العجوز الحلقة الثانية عشرة
-
العجوز الحلقة الحادية عشرة
-
العجوز الحلقة العاشرة
-
العجوز الحلقة التاسعة
-
العجوز الحلقة الثامنة
-
العجوز الحلقة السابعة
-
العجوز الحلقة السادسة
-
العجوز الحلقة الخامسة
-
العجوز الحلقة الرابعة
-
العجوز الحلقة الثالثة
-
العجوز الحلقة الثانية
-
العجوز الحلقة الأولى
-
العجوز مقدمة الطبعة الجزائرية
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|