أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبدالعال - المقدس والسلطة والذات















المزيد.....


المقدس والسلطة والذات


محمد عبدالعال

الحوار المتمدن-العدد: 1296 - 2005 / 8 / 24 - 10:16
المحور: الادب والفن
    



قراءة في ( أغنية الكعكة الحجرية ) لـ أمل دنقل
ترتبط قدسية الشكل في ( أغنية الكعكة الحجرية) لرائد شعراء الرفض وهو الشاعر أمل دنقل - والذي استقاه من وضع القصيدة في قالب يشبه إلى حد كبير أسفار الكتاب المقدس عبر عناوين قصائد الديوان وعنوان الديوان نفسه ( العهد الآتي )- بقدسية أخرى مسكوت عنها حرفيا وإن كان النص يهتف بها وهي قدسية القضية ، وهذا ما اعتاد أمل أن يستخدمه في نصوصه الشعرية لإضفاء بعض القداسة على الشكل مُسَرِّباً إياها إلى الموضوع الذي يعرضه ومثال ذلك قوله في قصيدة ( لا وقت للبكاء) :
( .. والتين والزيتون
وطور سينين ، وهذا البلد المحزون (1)
وقوله أيضا في قصيدة صلاة :
تفردت وحدك باليسر . إن اليمين لفي الخسر .
أما اليسار ففي العسر .. إلا الذين يماشون .(2)
ونحن لا نعدم مثل هذا عند أمل دنقل ، خاصة في ديوان العهد الآتي ، ولكنه – بالرغم من هذا – نجده قد اعتمد في قصيدة أغنية الكعكة الحجرية على العنوان وأسماء المقاطع فقط دون تناص واضح مع الكتاب المقدس ، أضف إلى ذلك الدلالات المختلفة لكلمة الإصحاح نذكر منها :
(1) الجانب القداسي الذي تثيره الكلمة .
(2) اشتقاقها من الفعل صحح ، وما يرتبط به من خلل في الظروف السياسية و الاجتماعية وضرورة التصحيح.
(3) تناغم مخارج حروف مادة الكلمة – صحح- مع فعل الصحو وما يترتب عنه من عمل بعد السكون السلبي .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عتبات النص
كما هو واضح من عنواني الديوان والقصيدة فقد أراد أمل أن يكسب نصه الشعري الموجود بين دفتي هذا الديوان قدسية ما ، يستقى هذه القدسية من عنوان الديوان ( العهد الآتي ) وارتباط كلمة العهد بالكتاب المقدس بعهديه القديم / التوراة ، والجديد / الإنجيل ، وما يحملانه من محتوى قدسي .
ثم تأتي الكلمة الثانية من عنوان الديوان وهي كلمة ( الآتي ) وما تحمله هذه الكلمة من دلالات خاصة برؤية الشاعر المستقبلية وقدرته التنبئية مستخدماً حسه المرهف ونظرته كشاعر إلى الظروف التاريخـ - اجتماعية التي تحيط به كفرد من أفراد الوطن، والتي يمكن لفرد مثقف له نصيب من الوعي بذاته وبمفردات الحياة التي يعيشها، والتي يمكن أن يرى عبرها مستقبل أمة هو أحد أفرادها، وهذا ما تشير كلمة الآتي – ويبرهن عليه ما قاله أمل في حوار أجري معه، قال:" الشاعر يستطيع أن يتنبأ، ولكنه ليس تنبؤاً، وإنما هو درجة من الوعي بالواقع الذي يحدث حواليه بمعنى أن الشاعر يملك من الوعي بالواقع والالتصاق به ما يمكنه من أن يحس باتجاه الأشياء الأحداث، وليس عن طريق العرافة والكهانة كما يريد بعض الشعراء أن يضفوه على أنفسهم "(3) .
هكذا كان يؤمن أمل بأن قدرة الشاعر – أو أي مثقف - على التوقع بما قد يحدث ترتبط بثقافته ، ومدى التصاقه بالواقع المحيط ، وليكسب رؤيته هذه شيئاً من الصدق والصحة أضفى على نصه بعض مظاهر القدسية بوضع عنوان ( العهد الآتي ) على صدر الديوان باعتباره ثالث العهدين [ القديم / التوراة ، والجديد / الإنجيل ] .
وتصادفك في أولى صفحات الديوان ثاني عتبة من عتبات النص وهي الاقتباسان اللذان قام بوضعهما في مقدمة الديوان .

وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منًّا عارفاً الخير والشر
(العهد القديم تك 3 :22 )
مملكتي ليست من هذا العالم ، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أُسَلَّم إلى اليهود .
( العهد الجديد يو 18:36)

هنا حين يتجرد المقدس من غايته الدينية داخلا آفاق الشعرية الرحبة فاتحاً أبواب التأويل اللامتناهية أمام المتلقي ، وكأن اختيار أمل لهذين الاقتباسين قد أراد به أن يجعل منهما توطئة لمتلقي نصه لكيلا تغيب عنه قداسة هذا النص الشعري الموجود بين دفتي الديوان ، ونلاحظ أنه وضع لثلاثة من قصائده عناوين مقتبسة من العهد القديم وهي : [ سفر التكوين ، وسفر الخروج ، ومزامير ] ، ووضع للقصيدة الأخيرة في الديوان عنوان [ خاتمة ] وهو مقتبس من آخر عنوان فرعي من العهد الجديد في سفر ( رؤيا )- الإصحاح الثاني والعشرون - ، مع عدم إغفال تلك الخصوصية في القصيدة الافتتاحية ( صلاة ) والتي يمتاز أسلوبها بالاقتباس من القرآن الكريم مما يعمق الإحساس لدى المتلقي بقدسية النص الشعري ، كذلك تقسيمه لمقاطع بعض القصائد وهي [ سفر التكوين – سفر الخروج ( أغنية الكعكة الحجرية ) – سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس ( بكائيات ) – سفر ألف دال ] إلى إصحاحات على غرار أسفار العهد القديم ، كذلك تقسيم مقاطع قصيدة [ مزامير ] إلى مجموعة من المزامير ، على غرار نفس السفر في العهد القديم .

وفي ثالث عتبة من عتبات النص نجد أن العنوان الأول للقصيدة ( سفر الخروج ) يحمل تمفصلا بينه وبين اسم ثاني سفر من أسفار العهد القديم ، وهو تمفصل بين المدلول (1) [ الدال عليه عنوان السفر ] ، وبين مدلول (2) [ الدال عليه عنوان القصيدة ] – باعتبار العنوان دال على ما يعنون عليه - غير أن مدلول (1) ومدلول (2) يرتبطان بفكرة مشتركة وهي فكرة خروج اليهود من مصر ، ففي مدلول (1) يرتبط الخروج بالعبرانيين ونزوحهم من مصر بعد أن أمر الله عز وجل موسى بذلك ، وفي مدلول (2) يرتبط الخروج بحتمية التحرير سواء من السلطة أو من المستعمر ، وهو ما يثير مدلولا مشتركا، وبهذا المدلول المشترك يمكن لنا بدقة تحديد الفكرة المركزية للنص وتفسير هذا الشكل الذي وضع النص فيه ، وهنا عند ثالث عند ثالث عتبات النص الشعري نجد أن الظلمة الخرساء قد بدأ ينبعث منها بصيص من الضوء .

أما العنوان الثاني / رابع عتبات النص وهو ( أغنية الكعكة الحجرية ) والذي يقع بين قوسين أسفل العنوان الأول ، فهو يشير إلى تلك المظاهرات التي اجتاحت أوصال مصر في عام 1972 م والتي عرفت باسم مظاهرات الطلبة تناشد السلطة السياسية كي تبدي أي فعل إيجابي ، "وكان احتلال الطلاب لميدان التحرير واتخاذهم من قاعدة التمثال الضخمة التي كانت في وسطه قاعدة لهم ذروة التطورات التي بلغتها الحركة الطلابية ، وربما كان احتلال الطلاب لقاعدة التمثال ( الكعكة الحجرية ) أهم حدث شهده هذا المكان ، ويمكننا في هذا السياق أن نفهم دلالة اختيار أمل دنقل اسم الكعكة الحجرية عنواناً لقصيدته "(4) ، هكذا يزعم البعض أن اختيار أمل للعنوان / أغنية الكعكة الحجرية مرتبط بتلك القاعدة الحجرية المدورة التي تجمعت عندها الحركة الطلابية ، لكنني أرى أن مثل هذا التصور ينطوي على كثير من الظلم لقدرات أمل الشعرية ويسقط العديد من مستويات الشعرية في نصه .

ولذا فإنني أزعم أن مقصدية أمل الحقيقية من اختياره لهذا العنوان ( أغنية الكعكة الحجرية ) تؤشر على ذلك الجمع الغفير الذي ألتف حول بعضه البعض يهتف أمام جنود السلطة - الذين يصوبون أسلحتهم لصدور الشعب بدلا من اليهود – بجملة تحمل دلالة قوية وهي " اصحي يا مصر " ، هكذا التفوا كالكعكة الحجرية التي لا يمكن – نظراً لطبيعتها – أن تتكسر بسهولة ، وهذا ما يفسره نص آخر لأمل دنقل في قصيدة ( مقابلة خاصة مع ابن نوح ) ، يقول :

ولنا المجد – نحن الذين وقفنا
(وقد طمس الله أسماءنا )
نتحدى الدمار ..
ونأوي إلى جبل لا يموت
( يسمونه الشعبَ! )
نأبى الفرار ..
ونأبى النزوح ! (5)

أضف إلى ذلك دلالة كلمة ( الكعكة ) وما تشير إليه من تجليات للجمال في أسمى صوره .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* النسق الطباعي

قسم أمل دنقل قصيدة الكعكة الحجرية إلى ستة إصحاحات ويتكون كل من الإصحاح الأول ، والثالث ، والخامس من مقطع واحد ، أما الإصحاح الثاني فيتكون من مشهدين دراميين . المشهد الأول : مشهد الأم ، والمشهد الثاني : مشهد التحقيق ، ويتكون الإصحاح الرابع من ثلاثة لوحات – إن صح التعبير – وهو في زعمي يصح في هذه القصيدة :
اللوحة الأولى : تصور المتظاهرين في قلب الحدث .
اللوحة الثانية : تصور من هم خارج الحدث ويكتفون بالتعليق ، وهم الغواني وأشباههم من أدوات للسلطة .
اللوحة الثالثة : تصور أيضا من هم خارج الحدث ما بين مهتم ومنصرف .
أما الإصحاح السادس فهو مكون من مقطعين ، ويرتبط كل من الإصحاح الأول والثالث والخامس حيث بدأهم أمل بجملة تحمل صيغة الطلب إن لم تكن تبدأ بفعل الأمر ، كذلك يرتبط الإصحاح الثاني ، والرابع ، والسادس ، فكل منهم يبدأ بـ (دقت الساعة ) ، وكأن هذا تتابع بين الأمر وبين دقات الساعة /طبول الحرب ، فكأن الطلب بـ [ "أشهروا الأسلحة " ، و" لا تبدئي بالسلام " ، و" اذكريني " ] مترتب عليه دقات طبول الحرب .

والقصيدة في مجملها ليس لها نسق طباعي يميزها فيما عدا بعض المواضع والتي سنشير إليه :
(1) في الإصحاح السادس يتجلى استخدام النقاط كواحدة من أهم بنيات النسق الطباعي يقول :
يغنون " نحن فداؤك يا مصر"
" نحن فداؤ ........."
فهي تشير إلى تلك الكلمات التي سقطت مع الجثة المخرسة وارتباط سقوط الدوال / الضمير اللغوي ، بسقوط الضمير الإنساني .

(2) تشير الأقواس في الإصحاح الثاني إلى مشهد التحقيق والذي سنشير إليه بالمشهد (2) ، والذي يوازي مشهد الأم والذي سنشير إليه بالمشهد (1) ، وهنا يمكن لنا تفسير استخدام الأقواس فقد استخدمها كغلاف لمشهد (2) الموازي لمشهد الأم (1) يختلف معه مكانا ويلتقي به زمانا.

وهنا يمكن تفكيك الصورة المتداخلة في مشهدين منفصلين مكانا ، ولكن في زمن واحد يمثل خلفية للمشهدين :

المشهد الأول :

رفعت أمه الطيبة .. عينها
نهضت ، نسقت مكتبه
جلست أمه ، رتقت جوربه

المشهد الثاني :

دفعته كعوب البنادق في المركبة
صفعته يد – أدخلته يد الله في التجربة –
وخزته عيون المحقق
حتى تفجر من جلده الدم والأجوبة

خلفية المشهدين :

دقت الساعة المتعبة

(3) في الإصحاح السادس تشير مساحات البياض الموجودة في النص إلى حركتي الانقباض والانفراج التي تشبه حركة القلب ، فالفراغ الذي يلي كلمة ينقبضون يسمح بتخيل هذا الحدث في هذا الفراغ الطباعي والأمر كذلك مع حركة الانفراج :

والمغنون - في الكعكة الحجرية – ينقبضون
حـــركـة الانقــــباض وينفرجون
حـــركـة الانفــــراج كنبضة قلب .
(4) في الإصحاح الخامس تسمح مساحة البياض قبل جملة ( غير لون الضياع ) بوضع عدد لا متنهائي وغير محدد من الألوان التي توحي بكثرة ألوان الهزيمة وتعددها :
لونتني .. لأني منذ الهزيمة لا لون لي
ألـــوان الهـــزيمة ( غير لون الضياع )

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* استخدام الضمير

يتميز استخدام الضمير عند أمل دنقل – باعتباره دالا على شخصية – بإمكانية الازدواجية في التأويل ، وهذه الازدواجية ناتج عنها – بالضرورة - إمكانية إسناد الضمير للعديد من الشخصيات التي يتمحور الحديث حولها .

يبدأ الإصحاح الأول بنداء الواقفين على حافة المذبحة ، أما صاحب النداء فهو غير محدد ، هل هو الشاعر أم هو صوت الوطن ، أما المنادى - كما أشرنا – يحمل ازدواجية تأويل بين المتظاهرين من جهة وبين جنود الأمن من جهة ، وهذه الازدواجية بالتالي تثير إشكالية تأويل فعل الأمر ( أشهروا الأسلحة ) ، وهل هو فعل أمر حقيقي يهدف إلى مدلوله الحرفي أم هو حامل لصيغة التهكم باعتبار أن المنادى هم جنود الأمن ، ثم يتجلى الموت في أبشع صوره ، فيسقط جاثماً على الصدور ، وهذا السقوط في ( سقط الموت ) يرتبط بصورة ملك الموت حين يتهيأ لحصد الأنفس ؛ تأتي هذه الصورة الذهنية المختلفة من فرد لآخر ، حين تعجز اللغة بمفرداتها عن وصف موقف الموت فيعبر أمل عنه بـ ( سقط الموت ) ، وما يرتبط بذلك من وسيلة الموت وما يستتبع ذلك من تمزيق القلب ، وإراقة الدم ، ولعل استخدام المسبحة - وإطلاق عدد حباتها المتراوح بين الثلاثة وثلاثين والتسعة وتسعين والمائة حبة ، أي بعددها الغير محدد سلفاً ،– وترابط حباتها هو إشارة إلى ترابط آخر بين القلوب المجتمعة / قلوب الواقفين على حافة المذبحة ، والتي لا يمكن تحديد أعدادها أيضا ، أما انفراط حبات المسبحة فهو يوازي انفراط قطرات الدم من القلب الممزق .

وهنا حين يتجلى الموت فيصير موتاً داخل الموت ، وتصير المنازل أضرحة بما توحي به باعتبارها مكانا للحياة ، وتصير الزنازن أضرحة باعتبارها مكان استلاب للحرية وبالتي فهي مكان استلاب للحياة ، فيصير المدى الذي يجمع كل مكان للحرية / الحياة ، والاستلاب / الموت ، وهنا تتساوى الحياة مع الموت فكلاهما سيَّان ، ويتكرر الأمر مفسراً التساوي الآخر ، بعده تبرز الأنا المتحدة مع الآخر / المتظاهرين أو الجنود ، فكلاهما شعاره الموت .

واتبعوني
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي : عظمتان .. وجمجمة .
وشعاري الصباح .(6)

وفي الإصحاح الثاني تبدأ دقات الساعة المتعبة بين طول الانتظار وعدم جدواه ، وهنا تبرز عدة ازدواجيات :
(1) ازدواجية تأويل الضمير بين الحر - والمرتبط بغياب الحرية – بين الذات والآخر.
(2) ازدواجية تأويل الحنان الأنثوي بين الأم والوطن .
(3) ازدواجية حنان الأنثى في مقابل قسوة الآخر / المحقق ، وتباين فعل الأداة / الإبرة بين أداة الرتق وبين فعل النظرة الموازي لفعل الإبرة.
(4) الازدواجية بين حال الفوضى والتخبط – والتي تدل عليها جمل [ دفعته كعوب البنادق ، حتى تفجر من جلده الدم والأجوبة ] - ،وبين الهدوء النابع من عمق الإيمان – والتي تدل عليها جمل [ نسقت مكتبه ، رتقت جوربه ] - ، ثم يأتي التأكيد على كل من ملل الانتظار وعدم جدواه في المشهدين ، يقول :
دقت الساعة المتعبة
دقت الساعة المتعبة

وفي الإصحاح الثالث تتوجه الذات المزدوجة إلى مخاطبة الأنثى / الأم – الوطن ، يقول :
فهم الآن يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعام
بعد أن أشعلوا النار في العش
والقش
والسنبلة
وغدا يذبحونك .. بحثاً عن الكنز في الحوصلة ..
وغداً تغتدي مدن الألف عام
مدناً .. للخيام
مدناً ترتقي درج المقصلة (7)

إنه يوجه حديثه إليها مستغلا أرق غريزة عند الأنثى ، وهي الحنان الفطري وحب الأبناء ، وهي غريزة أساسية عند أي أم سواء كانت أما أو وطناً ، وهنا أيضا لا تغيب الإمكانات المطلقة في إسناد الضمير ، بعدها يمسك بطرف الوجود المقدس مستغلا الترابط الذهني بين الألف عام والألف مئذنة ، وغياب مفردة المئذنة اللغوي لا ينفي وجودها فعليا وصيرورة مدن الألف عام إلى مدن للخيام ما هو إلا نتيجة لفعل الأنثى / الوطن- الأم ، حين يـ(تـ)رتقي درج المقصلة بعد أن يصير الموت هو الاختيار الأوحد .

وفي الإصحاح الرابع تتوالى دقات الساعة القاسية معبرة عما سبق أن أشرنا إليه وهو قسوة الانتظار وعبثيته ، ويبرز الضمير الغير مسند في [ وقفوا في ميادينها الجهمة الخاوية ] ، بين إمكانية التأويل عند انفراد الذات عن الآخر أو اتحادها معه ، في حين أن الضمير في ( ميادينها ) يحصر الإسناد في الوطن فقط ، وتتوالى دقات الساعة وتتوالى أدوات السلطة / الغانية ، ثم أداة السلطة الإعلامي / المذياع ، كأدوات تستخدم للتأثير على الشعب ، ويأتي تنكير ( غانية ، أخرى ، مذياع مقهى ) تحقيرا لكل أداة تستخدمها السلطة .

تستطيع اللغة الشعرية وحدها أن تفتح آفاقا لا متناهية من إمكانات التأويل ، فهي تجرد المتلقي من سلطة اللغة التداولية ذات المعنى الأوحد فاتحة أمامه آفاقا من الحرية في التأويل ، وبفضل هذه الحرية شبه المطلقة يجد المتلقي أعداداً لا متناهية من المعاني الكامنة في هذه اللغة عبر قراءة متعددة الاتجاهات ، وهنا يمكننا فعلا أن نطلق عليها ( اللغة الليبرالية ) ، وهذا ما نجده في هذه القصيدة حين تتعدد الرؤى والتي تتيح تعدد إمكانية إسناد الضمير لعدد لا متناه من الشخوص ، غير أن هذه الحرية التي تتميز بها اللغة الليبرالية ، هي حرية غير مطلقة عند أمل ، فهو بعد أن يترك لك الحرية في إمكانية إسقاط الذات أو الآخر على الضمير ، فيعود ويستلب تلك الحرية عبر إسناد الضمير إلى ( دعاة الشغب).

وهنا نود أن نشير إلى هذه الكلمة ( الشغب ) ، وتقاربها الصوتي من كلمة ( الشعب )، فهنا تبرز إمكانات التأويل في اللغة الليبرالية وازدواجية الرؤية فهم عند السلطة – دعاة شغب – ، وهم نفسهم عنده -دعاة شعب- رافعين صوتهم إليه كي ينهض من انتظاره السلبي رافضا لأي سلطة دكتاتورية ، فكما يقول لورد اكتون: " كل سلطة مفسدة ، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة ".

في الإصحاح الخامس يتوجه بالطلب إلى صاحبة الضمير المجهولة ، وهنا تبرز إمكانية إسناد الضمير في ( اذكريني ) إلى الأم أو الوطن أو الحبيبة أو إلى كل هؤلاء متجمعين في الأنثى الحنون التي يوجه حديثه إليه ، سواء أسقط من ذاته دامجاً إياها مع الآخر أو مفرداً لصوته الساحة باعتباره فرداً له الحق في بعض الحنان الأنثوي سواء من الأم أوالوطن أو الحبيبة .

في الإصحاح السادس / الأخير ، يتحدد وقت الساعة تماما ( دقت الساعة الخامسة ) ويتحدد صاحب كل ضمير ، يتميز الجند في مواجهة المغنين / المشتعلين ، وتظهر الأنثى بكل تجلياتها باعتبارها حبيبة وفي قوله: [ معها يسقط اسمك – يا مصر – في الأرض ] ،فالأرض ما هي إلا مصدر للوجود البشري فهي أصل الحياة ومادتها ، وأيضا يبرز النهر باعتباره مفردة من مفردات الحياة وعنصراً فعالا فيها ، يقول تعالى :"وجعلنا من الماء كل شيء حي "، أما تفرق ماء النهر فهو مرتبط بالجسد المتهشم ، حين يحل الموت في كل من النهر / مصدر الحياة ، وفي الجسد / صورة الحياة فيعود الجسد إلى مصدر وجوده / الأرض .

ويأتي المقطع الثاني من الإصحاح السادس وهو تأكيد لتجلي مفردات الموت باعتباره الناتج الوحيد من الوقوف أمام السلطة سواء كان الموت في صالحها أم غير ذلك ، وحتى النهاية تبرز ازدواجية الضمير في تكرار الأمر [ ارفعوا الأسلحة ] ، هذا الضمير الذي يسمح بإمكانية إسناده لرجال السلطة أو لرجال الكعكة الحجرية ، ويأتي تكرار الأمر دالا على ذلك فكأن الأمر الأول تهكمي متجه لأداة السلطة ، والثاني متجه لأفراد الكعكة الحجرية كرد فعل شرعي في الدفاع أمام السلطة ، وسنرصد الآن مفردات كل من السلطة والشعب في هذا النص :
1- أدوات السلطة :
[ البنادق – المحقق – الحرق – الذبح – الغانية – المذياع – الصحف الخائنة – مضبطة البرلمان – التهم المعلنة – الجند – الجند الحرس المقترب – الرصاص ]
2- مفردات الشعب :
[ الدم – الوقوف ( وقفوا .. ) – الاستدارة ( واستداروا ..) – الاشتعال ( واشتعلوا ..) – الغناء – يشعلون الحناجر – يشبكون أياديهم الغضة البائسة – سياجا يصد الرصاص – الجسد المتهشم ]

مما سبق يتضح لنا مفردات / أدوات السلطة وفي مقابلها مفردات الشعب والشاعر أحدها ، وموقفه الرافض لمفردات السلطة واندراجه كمفردة من مفردات / أدوات الشعب ونلاحظ أن أدوات السلطة مصدرها خارج عن السلطة ، في حين أنها عند الشعب من ذاته وإليها ، ويظل الشعب يحلم بالأمل المشرع في ليل الأحزان .

ونود أن نشير إلى شيء في غاية الأهمية وهو أن إشارتنا إلى الظروف السياسية التي تبناها النص لا يلغي إمكانية تلقيه بنفس معانيه أو غيرها في حقب تاريخية مختلفة ، خاصة أن النص يفقد الكثير من معانيه عند تناوله باعتبار أن الظروف السياسية والاجتماعية هي المعيار الأوحد لتأويله ، لأن مثل هذا التناول للنص يهبط " به إلى مستوى الوثيقة ، وبالتالي يتم تجريده من البعد الذي يميزه عن الوثيقة ، ألا وهو الفرصة التي يتيحها لنا كي نعايش بأنفسنا روح عصره والظروف الاجتماعية التي سادت فيه والاضطراب العصبي لمؤلفه وما إلى ذلك . ومن السمات الحيوية للنصوص الأدبية ألا تفقد قدرتها على التواصل ، والحقيقة أن كثيراً منها لا تزال له القدرة على العطاء على الرغم من تقادم الرسائل التي تتضمنها "(8) ، ومن هذه النصوص أغنية الكعكة الحجرية ، و من كل ما سبق يتضح لنا كيف عبر أمل دنقل عن هذه الفترة الحرجة من تاريخ مصر ، وكيف امتزج عند المقدس - في جانبي الشكل والمحتوى - مع الذات والسلطة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش حسب الترتيب :
* ناقد مصري – معيد بكلية الآداب – جامعة المنوفية .
(1) أمل دنقل – الأعمال الكاملة – ص 276 / الهيئة العامة لقصور الثقافة – 1998م.
(2) المصدر السابق – ص 282 .
(3) حوار منشور بمجلة إبداع – القاهرة – أكتوبر 1984م ، وانظر أيضا سفر أمل دنقل – تحرير : عبلة الرويني / الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1998 – ص 681 .
(4) د / أحمد القصير – الكعكة الحجرية . التاريخ على حافة قصيدة - أخبار الأدب / العدد 504 – 9 مارس 2003م بتصرف .
(5) الأعمال الكاملة ص 410 .
(6) الأعمال الكاملة ص 291 .
(7) الأعمال الكاملة ص 393
(8) فولفانج إيسر / فعل القراءة – نظرية في الاستجابة الجمالية – ترجمة : د/ عبدالوهاب علوب . ص 18/ المجلس الأعلى للثقافة . المشروع القومي للترجمة 2000م .










#محمد_عبدالعال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حركة السيكو بيكو
- إيقاع الصورة - بانوراما المشهد الشعري


المزيد.....




- الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
- فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف ...
- تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
- دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة ...
- Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق ...
- الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف ...
- نقط تحت الصفر
- غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
- يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
- انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبدالعال - المقدس والسلطة والذات