|
قراءة في رواية (الورد وكوابيس الليل) للكاتب (عيسي الحلو)
صلاح الدين سر الختم علي
الحوار المتمدن-العدد: 4606 - 2014 / 10 / 17 - 13:30
المحور:
الادب والفن
تعتبررواية الكاتب السودانى الأبرز (عيسى الحلو) الجديدة الموسومة( الورد وكوابيس الليل) الصادرة عن دار مدارك في العام 2013 حدثاً أدبياً مهماً يستحق الوقوف عنده. تقع الرواية في مائة وأربعة صفحة من القطع الصغير،وتقع أحداثها في تسعة فصول.السرد يقوم به راوٍ عليم يقدم نفسه في عتبة الرواية على أنه باحث في أدائية النص المكتوب، وخلال سير الأحداث تتداخل أصوات رواة متعددين لتتناوب السرد برهة ثم تغيب مخلية المسرح للراوي الأصلي تارة، ولراوٍ آخر تارة أخرى،وجميع الرواة هم من شخوص الرواية المحيطين بالشخصية المحورية للرواية ( عبد المنعم الياقوت،) بل يبدو في بعض أجزاء الرواية أن الأخير يتناوب السرد هو الآخر مع شخوص الرواية.وليس هناك ارتباك أو إرباك للسرد رغم تعدد الرواة، فالانتقال بين راوٍ وآخر يتم بسلاسة مدهشة ويسر، والسرد يمضي متهملا تارة، ولاهثاً تارة أخرى في عمود صاعد نحو النهاية التي نكتشف فيما بعد أنها هي عتبة النص نفسها، فالنص دائري مثل موضوع الرواية نفسه، وبذلك بتماهي الشكل والمضمون في نص محكم تظهر فيه ثقافة الكاتب النقدية وعصارة تجاربه مع الكتابة الإبداعية بشكل لافت ومبهر وممتع وغني بالدلالات التي جعلت النص متوهجاً كقطعة ذهب تحت وهج أضاف إلى وهجها أبعاداً جديدة رائعة. وإن كانت شخصية الناقد وثقافته الواسعة تزاحمان السارد في الرواية أحياناً بشكل واضح يؤثر على إيقاع السرد بدرجة كبيرةمحسوسة، فحين ينطلق السارد حراً من الناقد يتدفق السرد كنهر رقراق، وحين يمسك الناقد بخناق السرد يتقعر السرد ويبدو مشتتاً بين إرادتين تصطرعان.ظهر ذلك جلياً في عتبة الرواية وفي بعض المواقع، وتلاشى في معظم أجزاء الرواية.ثم عاد مرة أخرى في الخاتمة. ومن تجليات الصراع بين شخصية الناقد الذي يمارس الكتابة الصحفية بشكل راتب و كاتب الرواية كثرة العناوين الفرعية في رواية الورد وكوابيس الليل، ففي الكتابة الصحفية تمثل العناوين الجانبية ومايعرف بالخطوط مسألة مهمة في عرض الآراء وجذب الانتباه ، ولكنها في الرواية تشتت انتباه القارئ وتضر بوحدة النص وغير مستحبة، وقد درج معظم كتاب الرواية على الاكتفاء بتقسيم الرواية إلى أجزاء مرقمة ، أوفصول فقط لتسهيل السرد في شكل وحدات قص وتسهيل الانتقال من مكان إلى مكان، ومن شخصية إلى شخصية، وواقعة إلى واقعة دون حاجة إلى العناوين الفرعية. وثمة ملاحظة هي أن عيسى الحلو في كتاباته القصصية يبدو متحرراً أكثر من أثر الكتابة الصحفية الراتبة ودور الناقد، وتبدو قصصه منسابة بلا قيود ولا أثر للكتابة الصحفية عليها إلا إيجاباً، حيث نجد الاقتصاد في السرد والقدرة على عرض الأفكار الكبيرة بكلمات قليلة. يظهر ذلك في كتاباته القصصية وبوجه خاص قصة قصيرة نشرها بمجلة الخرطوم بعنوان (نهر بلاعودة)، وهي رواية قصيرة إن جاز التعبير، ويظهر في مجموعة (ريش الببغاء) التي تعتبر من بواكيره، وهي مجموعة متقنة فنياً خلافا لرأي البعض ورأي الكاتب نفسه، حيث قال عنها في حوار معه في مجلة أوراق جديدة الإلكترونية في 13ديسمبر 2010( المجموعة هي أصداء لتجارب حياتية مستخلصة من مشاهدات وحكايات مسموعة، ولم تكن تجربة وجودية عميقة، لأنها كتبت في سن مبكّرة تعوزها وفرة المادة وعمقها والفكر المتأمّل، وتنقصها المهنية والتمكن من الأدوات، لهذا كنت مندهشاً جداً لما أثارته من ردود فعل في الساحة آنذاك (1967)). لكني أرى خلافاً لتقييم الكاتب أن المجموعة كانت محكمة وجيدة من حيث المهنية والتمكن، ولكن يظهر ذلك الأثر في كتابته الروائية، وهو واضح جداً في روايتيه (عجوز فوق الأرجوحة)،التي ورد بها واحد وأربعون عنواناً فرعياً. والرواية موضوع الدراسة التي حفلت هي الأخرى بعناوين فرعية بلغت أربعة وأربعين عنواناً فرعياً بالرغم من وجود فصول، عوداً إلى روايتنا يبدو بطل الرواية عبد المنعم الياقوت راغباً في الهيمنة على السرد مثل طائر أسطوري له ظل عملاق يغطي سماء المدينة كلها، ولكنه في تقدم السرد يتراجع ويقف متفرجاً على هامش المشهد ومغيباً تماماً في بعض مواضع السرد، ولم يكن مدهشاً أن يسجل عبد المنعم ياقوت حضوره في مفتتح الرواية عبر شائعة خبر موته وظهور جثته ملقاة في وسط ميدان جاكسون في قلب العاصمة الخرطوم حيث ملتقى خطوط المواصلات القادمة من جميع انحاء العاصمة، ولم يكن غريباً أن تنتهي الرواية بمشهد الجثة نفسها في المكان نفسه ولكنها هذه المرة ترتفع عن الأرض ببطء( ترتفع الجثة إلى أعلى ..فأعلى وتفرد الجناحين مثل طائر الرخ الخرافي.) ص 103 هذا الحضور الفانتازي الأسطوري، وهذا الرحيل المماثل له كانا أمرين مقصودين ومتعمدين ولهما دلالاتهما التي لاتخفى. فلننظر لهذا الوصف للجثة(في الميدان تقف الحافلات والبصات والعربات الخاصة والركشات والجمال والجياد والدراجات الهوائية، وفى وسط الساحة ترقد جثة عبد المنعم الياقوت.. وهي كائن عملاق ضخم.ضخامة لاتصدق..هي أقرب للفكرة الأسطورية..فالرجل يشع نوراً وجمالاً وبهاءً.فهو موكب من الإشراق والنبل_عينان زرقاوان وحينما تلمعان تصبحان بنفسجيتين..وفم مبتسم..على الرأس شعر أسود ناعم ينسدل حتى الكتفين كأغصان الشجر. صدره العالي مثل جسر نهري يمتد حتى الحدود الجنوبية،أما الفخذان والرجلان والقدمان فهي تستقر هناك عند مدن السودان الجنوبية، والذراعان مشدودتان يصل الذراع الأيمن إلى مدن الغرب القصي حتى الجنينة. والذراع الأيسر يصل شرقاً إلى سواكن وبورتسودان. إنه رجل ضخم بحجم الوطن.تحول إلى جثة تصل شمال وجنوب الوطن.) ص 101 و102 الرواية. الواضح هنا أن الجثة رمز وليست جسداً مادياً له وجود موضوعي خارج المخيلة والذهن.وهناك جنوح واضح نحو أسطرة شخصية عبد المنعم ياقوت، ويحيل المشهد مخيلة القارئ إلى نصوص أخرى جاءت بمشاهد تجنح نحو الأسطرة في تناص مع هذا النص، من ذلك روايات ماركيز وأجواؤها الفانتازىة، وعلى وجه الخصوص قصة(أجمل غريق في العالم)التى كان بطلها جثة طافية ارتطمت بالشاطئ وتجمع حولها الأطفال ثم النساء وجعلوا منها أسطورة(وقد لاحظ الرجال الذين حملوه إلى أقرب بيت أن وزنه أكثر من وزن أي رجل ميت عرفوه،إذ يكاد يقرب من وزن حصان ، وعندما مددوه أرضاً قالوا إنه أطول من كل الرجال)لا أحد يكاتب الكولونيل / غابريل غارسيا ماركيز ص 113. وبلغ افتتان النساء به ميتاً أن الرجال غضبوا وصاحوا بهن(منذ متى كانت هذه الضجة من أجل جثة طافية؟! وغريق تافه مغمور؟!..وقطعة من اللحم البارد؟!)لاأحد يكاتب الكولونيل/ غابريل غارسيا ماركيز/ص 115. ومن صور الأسطورة في الأدب مشهد ضو البيت في رائعة الطيب صالح (ضو البيت ) حين خرج خروجاً أسطورياً من النهرعلى طوف ويصفه حسب الرسول الذي كان أول من شاهده بصورة تجنح نحو الأسطرة(أنزل حسب الرسول النير عن رقبة الثور، قبيل طلوع الفجر،كان الوقت شتاءً،بغتة سمع حركة في الماء كأن تمساحاً طفا، ونظر فإذا الضوء المنعكس من النار الموقدة، يتأرجح فوق حفافي الموج، ونظر ثانية فإذا دهمة تتجه نحوه) يحكي حسب الرسول المشهد بصورة مشوقة(رأيت الدهمة تتشوبح بين النهر والسماء كأنها ممدة بين النار على الشاطئ، وقبس الفجر الباهت تحت خط الأفق.وأحسست بنفسي أضيع.رأيت الدهمة صارت شيطاناً واحداً بدل جمع شياطين.تشجعت وتماسكت وبلعت ريقي وقلت للمارد الواقف في الماء بين الأرض والسماء"السلام على من اتبع الهدى".لم يرد على سلامي ومضى يخوض الماء قاصدا مكانى، فاكثرت من التهليل والتكبير،سألته وأنا على تلك الحالة، وما بى حاجة إلى سؤال:"انت شيطان أم انسان؟ فأجابنى وهو واقف أمامى، قال بلغة عربية ولكنة أعجمية: "شيطان" الطيب صالح/ ضو البيت /الأعمال الكاملة ص226 ثم يصف حسب الرسول الرجل(الوجه مثل الصخر، الأنف مثل الصقر، الأسنان زى أسنان الحصان، والعيون خضر تلمع مثل الفيروز.جلت صنعة الله)المرجع نفسه ص 227 وحتى تكتمل الأسطورة يختفي ضو البيت في النيل بذات الطريقة التي جاء بها. في يوم هاج النهر فيه وماج، اختفى ضو البيت بطريقة فانتازية بعد أن عاش بين الناس ردحاً من الزمن. يصف الطيب صالح ذلك بقوله(هاج الناس وماجوا، بعضنا نزل الماء وبعضنا جرى على امتداد الشاطئ وضوت المشاعل على الضفتين، ونادى الناس من مكان إلى مكان، ومن شاطئ إلى شاطئ إلى أن صارت الدنيا كلها تنادي في جوف الظلام" ضو البيت" ولكن ضو البيت اختفى لاخبر ولا أثر، ذهب من حيث أتى من الماء إلى الماء، ومن الظلام إلى الظلام) المرجع نفسه ص 234 هكذا نجد أن الأسطورة هي ملح الرواية عند الطيب صالح وعند عيسي الحلو وعند كتاب آخرين بقامة ماركيز، وهي تقنية يتم توظيفها في السرد توظيفاً محكماً، والتناص هنا لايعني النقل ، بقدر ما يعني وجود منهج مشترك وشيئ متشابه في نصوص مبدعة بواسطة ذوات مبدعة مختلفة، ويعرف النقاد الميثولوجيا بأنها" الأساطير والكرامات والخرافات وكل فكر مناقض للتفكير العقلاني" د .محمود إسماعيل / الاسطغرافيا والميثو لوجيا.ص 12.ويعرف الدكتور صلاح فضل الأسطورة بأنها(أحد طرفي التصميم الأدبي والطرف الآخر هو الطبيعة كما نعهدها، والرواية تقع في المنطقة الوسطى بين هذين الطرفين. إن الأسطورة هي محاكاة الأفعال التي تقع في نطاق الرغبة، وإذا كانت الأسطورة تجسد المستوى الأعلى للرغبة الإنسانية، فإن هذا لايعني أنها تقدم عالمها كما تعيشه الكائنات البشرية بالضرورة، بل إن التخيل الأسطوري يقع في عالم رؤيوي، يتكون من الاستعارة الشاملة التي يتوحد فيها كل شئ بكل شئ آخر.) وقد استخدم الناقد صلاح فضل مصطلح الأسطورة لوصف جنوح الكاتب نحو إيراد القصص الأسطورىة فى معرض دراسته لتجربة جمال الغيطاني. وتنطوي الميثولوجيا على بعد ديني، خصوصاً مايتعلق بالكرامات التي هي وثيقة الارتباط بالأسطورة، من حيث نشأتهما معاً في مناخ مجتمعي واحد، تبادلا من خلاله التأثير والتأثر.هذا فضلاً عن تمحور كل منهماحول (بطل)ذي قدرات خارقة تتجاوز منطق الواقع وقوانين الزمان والمكان، ليحقق الحلم الجمعي وفق إرادته المطلقة. كما تشتركان في الطابع الخيالي واللغة الرامزة المقنعة والموحية . ويأخذ الميل إلى الأسطرة طابعاً شعبياً عاماً، فنجد ظلاله في كثير من القصص الشعبي السائد وخاصة مايعرف ب ( الحجي أو الحجوات) حيث تكثر فيها القصص الخرافية عن أبطال خارقين وحيوانات وكائنات لاوجود لها سوى في المخيلة الشعبية، وتعكس تلك الأساطير في مجملها جانباً من الصراع بين الخير والشر الدائر في المجتمع، وتعكس أشواق وأمنيات العامة، فنجد ميلاً إلى تأليه الرموز الاجتماعية عند الموت وبعده، وإسقاط كل ماهو خير وإيجابي عليها ونسبته إليها، حتى لايعود الشخص هو الشخص نفسه، بل يمسي رمزاً ومخزناً لكل الأماني والرغبات الدفينة، فيكتسب هالة نورانية تسمو به إلى مراتب أعلى، ويبدو ملاكاً طاهراً من فرط مانسب إليه من محاسن حقيقية ومشتهاة،. إن الاسطورة في جانب منها هي تعبيرعن الأشواق المؤودة للشعب، وهي واقع بديل لواقع مظلم، وقوة خارقة بديلة للعجز السائد في الواقع.إنها الأحلام حين تحلق بأجنحة الخيال فتثأر لنفسها من ضيق الواقع، وتكنس كل مايعيق تحققها،وتمنح النائمين دافعاً لليقظة والعمل وأفقاً ملهماً. الوطن المتخفي في رواية عيسى الحلو بين الكوابيس: في رواية (الورد وكوابيس الليل) يكتب عيسى الحلو للوطن المتشظي المثخن بالجراح بشاعرية حالمة ودموع تجري بلاتوقف من أول الرواية حتى خاتمتها، هي دموع جيل شهد نهضة آمال السودانيين وارتفاع سقوف أحلامهم إلى عنان السماء، ثم شهد الكسوف والانحسار ومقتل الأحلام وتمزق الخريطة ومأسأة الانفصال وتقزم الأحلام وموت الورود المتفتحة في البستان.الرواية في الحقيقة مرثية طويلة للوطن، وأنة مجروح لاتخفي دموعها ولاتخجل منها،وعيسى الحلو يصور حالة المثقف السوداني في هذا الزمان في مفتتح الرواية تصويراً بليغاً(هكذا يضيع عبد المنعم ياقوت ويفلت من تحت سن القلم الذي يريد الإمساك به وبحقائقه. ونمارس كلنا الكلام فى وقت واحد..وداخل هذه الفقاعة المليئة بالهواء والفراغ والثرثرة تصبح الوقائع محض أوهام. وأتشبث بالورق والضوء والمنضدة..أحاول أن أتحرر من هذا العبء بالكتابة ولكنني أجد نفسي ملتصقاً بجدار الفقاعة..سجين كما لو كنت كلباً مقيداً من قدميه الأماميتين.) الرواية ص 6. نلاحظ هنا أن عبد المنعم الياقوت في الحقيقة هو الوطن نفسه، فهو يضيع ويفلت من سن القلم، أما مثقفو السودان فقد وقفوا عاجزين عن حماية الوطن وعاجزين عن بنائه وعاجزين عن الفعل، واكتفوا بالثرثرة التافهة التي لاتصنع سوى الوهم والهزيمة، فباتوا سجناء لعجزهم مثل كلب مقيد الأطراف كما وصف الكاتب نفسه.إنه جلد الذات وتعذيبها في أقسى وأبشع صوره. عبد المنعم الياقوت هو الوطن نفسه وليس شخصاً، ظل الراوئي يؤكد ذلك على امتداد الرواية،فالياقوت تعرض لاكثر من محاولة قتل ، لكنه ينجو في كل مرة، وحتى عندما عرضت جثته في ميدان عام لتأكيد موته ، لم يمت، بل ارتفعت الجثة نحو السماء وهطلت أمطار خير على المكان، فهو لايموت، هو باق ما بقيت الحياة، حتى وصفه لم يكن وصفاً لشخص، فعيناه الزرقاوان هما أنهار وفيرة المياه، وضخامته هي مساحته الجغرافية الواسعة، وتنوع ملامحه هو إشارة لتعدد الأعراق فيه، وكونه تبنى وأوى أطفالاً من جهات مختلفة هي إشارة أخرى إلى كونه رمزاً للوطن وليس إنساناً من لحم ودم،وتعدد الاتهامات الموجهة إليه والملاحقات التي تعرض لها فيها إشارة إلى كون المقصود هو الوطن وليس شخصاً،فلنستمع إلى هذا الوصف لعبد المنعم ياقوت:(هو ذلك الذي أثر في حيوات كل الذين كانوا حوله، بل أن أثره تجاوز كل الحدود، وإن كان الناس لايعرفون هذا التأثير بشكل واضح. وهم أيضاً لايستطيعون أن يحددوا شكل هذا التأثير. فالرجل له حضور شديد وسطوة، كما لو كان فكرة، أو هاجساً عصابياً، يجعل الكيان يهتز، فأجسادهم تتوتر ويسري فيها الخوف نافذاً كالمخدر، وتصيبهم صدمة الألم المفاجئة بنوع من اللذة الجسدية. ويمتزج كل ذلك بانطباعاتهم اليومية. كانوا لايتحدثون عنه بشكل واضح ومباشر. فقد حولت هذه العلاقة الغامضة والسرية الرجل إلى سر.كما حول الصمت المتكتم الرجل إلى شفرة ورمز وأسطورة.يحيا عبد المنعم ياقوت في الضمير السري لهؤلاء الناس.) ص 8 هل يمكن لرجل أن يشبه وطناً كل هذا الشبه؟! والياقوت حجر كريم كما نعلم فمن هو الأحق بالصفة( رجل هلامي أم وطن عزيز أرادوا له أن يكون هلاماً فاستعصى عليهم وأبى؟) ثم يصور الحلو حالة الناس حين يسمعون بإشاعة موت الرجل الوطن، وأظن أن الإشاعة هنا هي إشارة إلى ( انفصال الجنوب) وصدمته على السودانيين جميعاً، أنصتوا إلى هذا الوصف ومارسوا الإسقاط :(تأسست أسطورة (عبد المنعم ياقوت) طوال هذه الحقب المتعاقبة.حتى مساء أمس، حينما شاع خبر موته المفاجئ، تسرب الخبر من المقاهي إلى الشوارع و الميادين العامة، ومؤسسات الدولة..وامتلأت الشوارع والساحات بالناس الذين تدفقوا من كل حدب وصوب، وجوههم شاحبة وعيونهم جاحظة وأفواههم جافة ...يهمسون همساً ويتكلمون بالإشارة!! لاتعرف أن كانوا يشعرون بالحزن..أم يشعرون بالرعب والخوف؟كانت أقدامهم تلامس الأرض وتطأها في خفة فتكاد تحسبهم يحلقون كالحمائم والعصافير.)الرواية ص8. كلمتا( الحقب المتعاقبة) فيهما إشارة واضحة إلى كون الياقوت هو وطن وليس شخصاً، فالشخص لايشهد حقباً متعاقبة عادة. ثم يصف الراوي الجثة قيزيد الأمر وضوحاً:(كان عبد المنعم ياقوت ممدداً، جسده متصلب، كما لو كان مصنوعاً من الرخام النقي.كان تمثالاً منحوتاً باتقان عالٍ.كما لو نحته مايكل أنجلو مشكل الأساطير على سقف بهو كنسي.وكان الوجه وقوراً جداً.ووسيماً في جلال كما الحسين في كربلاء.وفي بساطة ود حلو في أم دبيكرات، وعنف خليفة المهدي ود تورشين.كان رجلاً جميلاً عيناه مفتوحتان تتوهجان بالبريق.ومابين الابتسامة وبريق الأسنان ينزل خيط دم رهيف. وكان الوجه في صمته الساحر يفضح الأسرارويبوح. كانت الجثة تتمدد في كل الاتجاهات،وتنتشر في كل الساحات في المدن الثلاث والناس يراقبونها وهم فوق هامات الأشجار معلقين كالطيور في الأعالي، والجثة ترتفع من على الأرض وتهم بالطيران إلى الأعلى.) ص10 هذا الوصف لعبد المنعم ياقوت وجمعه بين ملامح كل مكونات السودان التاريخية والإثنية تجعل المطابقة بينه وبين السودان الوطن استنتاجاً تؤيده الشواهد والوقائع والمعطيات وليس مجرد إسقاط خارجي على النص، أو تفسير متعسف له. ويزداد الأمر وضوحاً عند قراءة وصف منزل عبد المنعم ياقوت فهو بيت السودان حقاً، فهو دولة حديثة( بيت مبني على الطراز الحديث) الرواية ص 11 واللوحات المعلقة على صالته هي لوحات لفناني السودان التشكيليين(على جدران الصالة لوحات سيرالية، كتلك التي يرسمها كبار التشكيليين في الخرطوم.على الباب الرئيسي لوحة حروفية لحمد محمد شبرين)ص 11 ( على الجوانب والأركان نباتات الظل فوق الأواني الفخارية) الرواية ص 11 ( الفناء الخارجي حديقة تنمو فيها أشجار استوائية أوراقها عريضة، وعلى شجرة المهوجني علق قفص الببغاء الذي يردد أغنية (لاقيتو باسم، زهر المواسم).) ص 12. كل هذه المحتويات هي محتويات سودانية بحتة ، مما يؤكد أن الياقوت هو السودان نفسه. وحين يستعرض الراوي مكتبة الياقوت نجد أن محتوياتها هي فصول تاريخ السودان: موقعة كرري. سقوط الخرطوم ومقتل غردون ، قصف الطائرات للجزيرة أبا في عهد النميري، تشييع شهيد انتفاضة أكتوبر 1964،إعدام محمود محمد طه زعيم الحزب الجمهوري، إعدام عبد الخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي، مقتل الإمام الهادي المهدي زعيم الأنصار في الكرمك، انشقاق الجبهة الإسلامية الحاكمة، موت الزعيم جون قرنق، انفصال الجنوب ، أحداث هجليج. وهكذا نجد أن ذكرة الياقوت هي ذاكرة وطن وليس شخص ، مما يؤكد الرمزية. ثم يرصد الراوي واقعة هجوم حركة العدل والمساواة على أمدرمان في سياق السرد، ثم يرصد حالة أخرى داهم فيها وباء الكوليرا المدينة وفي جميع الحالات كان الناس ينظرون ويبحثون عن الياقوت باعتباره المنقذ المنتظر. ثم يترك السارد عبد المنعم الياقوت وشأنه ويقدم شخوص الرواية الآخرين وهم عائلة سودانية مهاجرة من جبال النوبة حيث جذورها إلى وسط السودان كعادة أهل السودان، حيث تتوفر الخدمات وفرص العمل في الوسط. العائلة تتكون من الأب (لوسيان) الذي أبدل اسمه إلى عبد الجليل عند قدومه إلى الوسط،وتلك علامة من علامات القهر الثقافي الذي تتعرض له بعض الثقافات المحلية، وزوجته انجلينابولاك وبنتاه رقية وجورجينا، وقد وضعت الصدفة الرجل الثري سعيد كمال في طريق عبد الجليل فبات صديقاً له. أسرة عبد الجليل تبدو غامضة نوعاً ما، وفي إشارة ذكية لأجواء عنصرية ربما عانوا منها يقول الراوي(كانوا يتعاملون على اعتبار أنهم أناس يعيشون داخل فقاعة...على أساس أنهم محض أكذوبة، فكانوا يتعاملون مع أنفسهم ومع بعضهم البعض ..ولايتعاملون مع الآخرين مطلقاً.)وهنا يلامس القاص بعض مواضع المسكوت عنه في الثقافة السودانية وهو وجه عنصري بغيض كامن في القاع وبارز على السطح. لهذا السبب نفسه ركز الراوي على دفاع القادمين من الهامش إلى المركز عن ثقافتهم المحلية عبر ممارسة الرقص بشكل دفاعي هيستيري(هكذا يرقصون كطيور تحلق في اللامكان واللازمان، وهى مذبوحة تنزف وهي تحلق في البعيد.صدورهم تلهث وعيونهم جاحظة وقلوبهم تنبض بقوة وعنف) ص 25 .الرقص هنا أداة تحرر ومقاومة للسحق تحت الأقدام، هو هنا فعل مقاومة باسلة. لأن هؤلاء كانوا خلية مقاومة فكان لابد من حدوث رد فعل من قوة مجهولة، لذلك حدث حريق هائل مجهول السبب يصفه الراوي: ( لم يكن أحد منا ليعرف كيف شب الحريق في الطابق العلوي.أهو بفعل فاعل ؟ أم مصادفة؟ وفيما بعد لم يصل التحقيق الجنائي لشئ. وإن كان قد رجح أن السبب هو حدوث ماس كهربائي..حيث سرت النار في بداياتها ببطء..والضحايا في قلب ليل كوابيسهم وجنونهم يمتطون أمواج الرغبات المهووسة التي كانت تقذف بهم نحو هذا المصير.ولم تجد الشرطة إلا جثة انجلينا وعبد الجليل وجثة أخرى لم تستطع الشرطة تحديد هويتها، ورجحت الشرطة أن يكون من يلقب بعبد المنعم ياقوت هو سعيد كمال.) ص 29 ثم يعود الراوي ليقدم تفسيراً آخر للحريق:(لم يكن انفجار الطابق الثاني بسبب ماس كهربائي كما سبق أن جاء في التقرير. فقد كشفت التحقيقات اللاحقة أن هناك مخبأً للأسلحة في الجزء الجنوبي من الطابق العلوي، وهو معد لجمع الأسلحة المهربة من أماكن عديدة خارج البلد،وأن هذه الجهات ضالعة مع منظمات صهيونية عالمية ، ومن مجريات التحقيق وضح احتمال أن عبد المنعم ياقوت ربما هو شخص غير حقيقي. ربما هو اسم حركي تنظيمى داخل الجسم الأرهابي المتمرد، وحامت شكوك أنه سعيد كمال) ص32 والتفسيران يشكلان تجسيداً للحقيقة الغائبة في الوطن وجزءاً من المشهد العام، حيث يصبح فعل بريئ مثل الرقص الجماعي أساساً لتهم خطيرة كالعمالة للصهيونية العالمية والضلوع في الإرهاب والجريمة المنظمة، ووجه الفداحة والغرابة أن الضحايا باتوا مجرمين بعد أن احرقوا بنيران مجهولة ولاسباب مجهولة، ثم قتلوا ثانية معنوياً بإلصاق تهم قبيحة بهم لتبرير الجرائم بحقهم. هذا المشهد يعيد إلى الذاكرة كل من قتلوا وبرر قتلتهم القتل بتهم أوهى من خيط العنكبوت تلصق بمن لايستطيع الرد عليها. كوابيس الحرب والسلام: ثم يعود الراوي إلى جثة عبد المنعم الياقوت المسجاة في ميدان عام بقلب الخرطوم(كان الرجل في نومته تلك كما لو كان في استراحة محارب_ محارب قاتل قتالاً شرساً في حرب طويلة.حرب تتوقف لحين..ثم تعاود الاشتعال مجدداً) ص 37 ثم يورد تصويراً مفزعاً لواقع الحرب الأهلية في السودان:(الناس يموتون كيفما أتوا، يسقطون تحت وابل الرصاص المنطلق في الشوارع والميادين العامة والأسواق، والناجون من الموت يجرون هنا وهناك ، ولايعرفون ملاذاً ينجيهم من هذا الموت المفاجئ والمجاني.فهم لايعرفون لماذا قامت هذه الحرب أصلاً.وما هي الجهات التي تقوم بها، لايعرفون هذا العدو السري الذي يشعل هذه النيران.) ص37 ثم يرد في السياق نفسه اسم عبد المنعم ياقوت وينسب إليه هذه المرة اتهام جديد، وهو كونه يتاجر في السلاح ويدير تنظيماً سرياً مسؤولاً عن تهريب الأسلحة إلى غزة، وهو في نفس الوقت قائد للمعارضة السرية ضد النظام القائم في السودان. ونلاحظ هنا استحالة الجمع بين التهمتين تهمة تهريب سلاح خارج السودان لخدمة القضية الفلسطينية، وتهمة معارضة السلطة القائمة بالقوة، لذلك يغلب على الظن أن الياقوت هو السودان نفسه الذي يجمع المعارضة والحكومة، وكل منهما يواجه قائمة اتهامات مختلفة.ويتعرض عبد المنعم الياقوت لمحاولة اغتيال فاشلة بصاروخ إسرائيلي في مدينة بورتسودان على البحر الأحمر، وهذا توثيق لحادثة حقيقية تعرض لها السودان ولم تكن المحاولة فاشلة، بل كان لها ضحاياها ولكنها فشلت كون السودان لازال على قيد الحياة. ويقدم الحلو مشاهد مصاغة بدقة تصور حال الوطن المغيب بكوابيس الليل(لقد أصاب الناس فزع عظيم..وأخذوا يخرجون إلى الطرقات والساحات في جماعات يضربون على دفوف الموت، وينشدون أناشيد الأمل في حياة قادمة..ويطردون ويطاردون..يجرون.. ويلاحقهم العسس..يملأ الدخان والغازات الطرقات والساحات..يسقط من يسقط.. وقل أن ينجو أحد.) الرواية ص 47 ثم يسهب في البيان(ويضطرب اضطراباً عظيماً هذا الجسد المبتور والمشوه والذي فقد ذاكرته وهويته وصلته الحميمة بالحياة.فكل شئ يموت- يموت في بطء، وفي غيبوبة الموت والحمى يندفع جنود يقودون آليات حديدية مجنزرة تطلق مدافعها النيران فتدك البيوت والأشجار والناس والخيول. وهناك مقاتلون يمتطون صهوات الجياد ويرفعون السيوف والرماح، ويفرون بعد أن تكون المدن قد دكت دكاً ، ومسحت بالأرض.) ص 48 وتمضي الرواية مرثية طويلة حزينة وصادمة لوطن النجوم الذي بات جسداً مبتوراً مشوهاً حين فصل منه جنوبه وبات مهدداً بمزيد من البتر والتشويه، إنها رواية عظيمة مكتوبة على بحر الوطن ونهر الحزن وبمداد الصدق والشجن والحنين إلى الماضي والحلم بالمستقبل رغم الكوابيس. والرواية بهذا الفهم هي شهادة هذا المبدع الجميل على عصره. شهادة مكتوبة بالدم والشرايين والأرق والدموع، وموشاة بخلاصة تجارب طويلة في الكتابة الإبداعية وصناعة الجمال وسط القبح الزاحف. إنها شهادة رجل لم يصمت ولم يتوار عن الأنظار، بل ظل في طليعة المدافعين عن الجمال. صلاح الدين سر الختم علي مروي الثاني من فبراير 2014 المراجع: 1/الورد وكوابيس الليل/ رواية/ عيسى الحلو. دار مدارك للنشر الطبعة الأولى2013 2/لا أحد يكاتب الكولونيل/جابريل غارسيا ماركيز/ دار العودة بيروت/ 1988 ترجمة فضل الأمين. 3/ الأسطغرافيا والميثولوجيا/ د .محمود إسماعيل/ رؤية للنشر/ القاهرة2009. 4/ الطيب صالح/ الأعمال الكاملة/دار العودة. 5/أساليب السرد في الرواية العربية/ د. صلاح فضل/دار سعاد الصباح.الطبعة الأولى 1992 6/ ريش الببغاء/ عيسى الحلو/ مجموعة قصصية/دار هايل للطباعة والنشر. 7/ عجوز فوق الأرجوحة/ رواية / عيسى الحلو/ مدارك للنشر2010 الطبعة الأولى. 8/ اختبئ..لأبحث عنك./ مجموعة قصصية/ عيسى الحلو/ دار عزة للنشر 2003 الطبعة الأولى. 9/ نهر بلا عودة/ قصة قصيرة/ عيسى الحلو/ مجلة الخرطوم/ أكتوبر نوفمبر ديسمبر 1994 ص 160. 10/ مجلة أوراق جديدة الإلكترونية.حوار مع عيسى الحلو/2010
#صلاح_الدين_سر_الختم_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|