أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد فيصل البكل - - لا شيء -















المزيد.....


- لا شيء -


أحمد فيصل البكل

الحوار المتمدن-العدد: 4599 - 2014 / 10 / 10 - 12:41
المحور: الادب والفن
    


كان قرص الشمس الدامي قد أخذ في المغيب حالما خُيّل إليه أنه في خلوة مطلقة ، ذلك النوع من الخلوة المحببة التي يفرضها المرء على نفسه حين تأخذه الحاجة لذلك ، أو هكذا ظن هو . غير أنه لم يكن كذلك في الصباح حين هتف ذلك التساؤل في رأسه ، كان يرتدي قميصا يميل إلى البياض تقريبا ، ليس أبيض إلى الدرجة التي يباركها إله الزواج والخصوبة عند الرومان بالتأكيد ، فهو على أية حال لا يمكن أن يكون مثالا للطهر ، أو بالأحرى لا يفضّل ذلك . ولاح في ذهنه خاطر ما : كم من البشر يشعر بالاحتضار في تلك اللحظة ؟ كم منهم يحمل في داخله إحساسا باطنيا بأنه مُصطفى من القدر لإنقاذ الحضارة ؟ كم منهم يختبر نار التساؤل التي تضطرم في دواخله مثله الآن ؟ وخيّل إليه أن المسافة التي تفصل بين البشر تكاد لا تُحد ! وكأنما لا يمكن لوحدة النوع أن تهدى للبشر العزاء مطلقا !
كان يسير في ذلك الصباح لا يلوي على شيء حين تبادر إلى ذهنه تساؤل ما : ماذا لو تبدّت الحقيقة لنا بضربة واحدة ؟ ماذا لو تخلّت عن بكارتها وعذريتها الأزلية وانتصبت أمامنا عارية منذ البداية ؟ هل كان لها آنذاك أن تحتفظ بفتنتها وجلالها ؟ هل كان يمكن أن تقوم وقتئذ للإنسانية قائمة ؟ و رأى بعين الخيال أحدهم يتكيء مختالا وهو يصيح قائلا إنها ليست إلّا طوباوية وسذاجة حالمة ربما لا تقل سذاجة عن خيالات الإنسان البدائية في تصوّرها لعروس البحر وأمنا الغولة والعنقاء ، و ربما يقول له إن الحقيقة ليست كما يتصوّرها بعقله الغض البكر وإنما هي شيء خاضع للتطوّر والتزمّن مثلهما ومثل كل شيء في الكون ، و ربما أجاب في نفسه : من يدري ؟ إنه ليس إلّا خاطر . والواقع أن الخاطر أثار فيه دهشة لا حد لها ، فالوجود قادر على إثارة العجب في أنفسنا على نحو لا نهائي ، فهو وغيره مازالوا يتسائلون بعفوية كما لو كانوا الجيل البشري الأول على سطح الأرض ! إنها الحقيقة اللعوب والوجود الساحر وقدرتهما اللا نهائية على التجدد . وفي غمرة السير بدا له رجلا أشيب كان يغمغم في تضاؤل باد وبصوت غارق في التبتّل : يا رب ... وشعر في تلك اللحظة بالذات أنه لا يمكنه تحسّس ما يستبد بجوارح ذلك الأشيب في هذا الآن من عمر الكون . بدا له كالصوفي القائل : نحن نملك شيئا لو عرفه السلاطين لحاربونا عليه بالسيوف ! هو ليس سلطانا دونما ريب ، غير أنه لا يعرف ما يملكه ذلك الأشيب في تلك اللحظة على الإطلاق . هل ذلك صحيح ؟ هل هو لا يعرف حقّا ؟ إنه لا يلقي بالا لمثل هذه القضايا منذ فترة ليست بالقصيرة ، ولكنه ها هنا وقف موقف الجد وعلى نحو مباغت .إن كان متدينا ، فأي نوع من التديّن يتبع ؟ تديّن الحلاج وإبن الفارض وإبن عربي والنفري ؟ هؤلاء الذين نذروا أنفسهم للحظة إتحاد بالمطلق ، لحظة تستكين فيها كل حركة ، حركة الخلية ، وحركة الذرة ، حركة المجرة ، وحركة النفس ، تلك الحركة المستعرة الأبدية ، من أجل أن يقول اللا نهائي كلمته الخاتمة القاطعة ، لحظة واحدة لا أكثر ، لحظة تبرر كدحهم وكدح الأشيب وكدح كل الكائنات وكدح كل شيء ، لحظة لم يجد بها الزمان على أية حال ولم تأت ، وبقى الكدح كدحا للا شيء ، وبقى الحرث حرثا في بحر . هل هو كتدّين هؤلاء ؟ أم كتدّين بودا الصامت ؟ هل هو كتديّن هيجل العقلاني الجاف المتنصّل من اللحم والدم ؟ أم كتديّن كيركجارد السوداوي القلق ؟ أم هو تديّن فريد من نوعه خاص به وحده ؟ خاص بأناه ... فهل نسى أنه " أنا " ؟ وإن كان غير متديّن ، ففي أي جانب يقف ؟ جانب الدعاة إلى تغيير العالم لا تفسيره ؟ أم إلى جانب آخر ؟ وكانت الشمس ملتمعة في كبد السماء حين بدأ يُدهش لإهتمامه المفاجيء ، ولكنه سرعان ما أسقط الأمر عن كاهله ، فالعفوية في الوجود هي أمر ليس بالمستطاع الإمساك بتلابيبه ، وهل طرق أحد بابه ليستشيره في أمر وجوده من عدمه ؟ الحق أنه لبس لبوس الوجود دون أن يُستشر وبمحض الصدفة ، أو بإختيار القدر إن أردنا تخيّر التعبير المهذب للصدفة .
لم تُثر المسألة في رأسه في صورة صراع أضداد ، فالواقع أنه يؤمن أننا كلنا في العمق متشابهين ، وكلنا يحس بثقل الوجود على النحو نفسه ، وليس من الضروري أن يكون المرء قد قرأ عن الحقائق الأربعة في البوذية ليشعر بذلك الثقل بملء كيانه . كان الأشيب مازال يتمتم قبل أن يهتف بنبرة مبحوحة : كما باركت على إبراهيم ... لا بد أن الكل قد سمع بإبراهيم ، ولا بد أن من إهتم بإبراهيم قد سمع شيئا عن سورين كيركجارد . في الواقع كان إبراهيم بالنسبة لكيركجارد بطلا مأساويا مثله مثل هاملت بالنسبة لشكسبير وأنتيجون بالنسبة لسوفوكليس وجريجور سامسا بالنسبة لكافكا ، وسبب بطولته التراجيدية في رأي كيركجارد هو تحمّله التناقض بين الأخلاق المطلقة العائدة والمنسوبة للمصدر المطلق وبين الأمر بالقتل العائد والمنسوب أيضا للمصدر نفسه . ولكن ما هو طبيعة التدين الإبراهيمي ؟ لم يخض كيركجارد في الحديث عن طبيعة التدين لدى إبراهيم ، وهذا بدوره لا ينفي حقيقة كونه مدافعا عن عبقريته الدينية في نظره ، والتساؤل عن طبيعة تدين إبراهيم لا ينبع من أهميته على المستوى التراثي وإنما لأن طبيعة تدينه متوارثة إلى اليوم ، وهذا هو ما يهم في المسألة . الواقع أن إبراهيم على مستوى البطولة المأساوية لم يكن مؤهلا ليكون بطلا ، فالبطل التراجيدي كما نعرفه لا بد أن يكون " قدريا " ، أي يكون فاعلا ومتحمّلا مسؤولية ذلك الفعل وعواقبه ، أما إبراهيم فكان مفعولا به حتى بعد أن أمسك بالمديّة ليذبح بها إبنه ، فالقيمة التي كان عليه تأكيدها بفعله ذلك كانت مفروضة عليه من الخارج ولم تكن تمت له بصلة .
في حقيقة الأمر تمثل قصة إبراهيم ذروة التدين القائم على العبودية ، فضلا عن كون التجارب الصوفية العرفانية القائمة على الحدس الذاتي لا يمكن أن تكون حُجّة مطلقة على شيء ، فالمؤمنين بمذهب التاك في الهند مثلا كانوا يؤمنون تمام الإيمان بأن الإله قد أمرهم بالقتل دون حساب ، والكثير من المدانين في قضايا الاغتصاب الجنسي يصرّحون بأن إلههم هو من أوعذ لهم للقيام بفعلتهم . وعلى ذلك فالتجارب العرفانية وذلك النوع من الحدوس الشخصانية لا يمكن أن تكون حجّة على أي شيء . أما عن لا عقلانية تدين إبراهيم ، فتتمثّل في كونه تدين ينفي كل شيء لصالح إثبات ألوهية وسيادة الإله ، فهو حين أمسك بمديته أعلن إستعداده لنفي حياة الإنسان ونفي الأخلاق ( المطلقة من وجهة نظره الإيمانية ) من أجل شيء واحد ، وهو إثبات الإله . من هنا بات إثبات الألوهية مرادفا لنفي الإنسان واستلابه ، وكان إبراهيم هو من أسس لذلك النوع من التدين اللا عقلاني ومدشّن تلك العلاقة التي أدت بعد ذلك وفي سياق مفهوم تماما لسيادة مذهب الجبرية على يد الأشاعرة بالذات في ثقافتنا المتوارثة عن الأجداد والأسلاف . من هنا تاهت الذات ( الإنسانية ) من أجل الموضوع ( الإلهي ) ، لأن إثبات الموضوع وتأكيده أصبح هو فقط ما يُنشد وإن كان على حساب الذات ، وأضحت الفكرة أهم من صاحب الفكرة ، بات المجرّد أكثر أهمية من الملموس المُعاش ، الأبد هو الواقع وما نختبره ونعايشه ويوخزنا يوميا هو الوهم . ومن هنا كان اختزال العلاقة بين الإنسان والإله في ذلك التصور اختزالا قائما على العبودية ، العبودية كمُنطلق وقصد .
لم يكن إبراهيم من البطولة في شيء ، لا على المستوى الأدبي ولا الديني ، لم يكن بطلا مأساويا ليس لكون نهاية قصته نهاية سعيدة ، وإنما لأنه لم يكن طرفا فاعلا في تجربته الوجودية ، فأين هو مثلا من أنتيجون التي أصرّت على دفن شقيقها بولونيس مواجهةً بذلك رغبة الملك كريون المسؤول عن قتله ؟ وهل يمكن أن يساويه صمته وتململه القلق بهاملت ؟ بل أين هو من جريجور سامسا الذي حاول مواجهة تحوّله البيولوجي المفاجيء إلى أن قُتل ؟ وأين هو من سيزيف الذي يرتقي بصخرته إلى المُنتهى قبل أن تسقط من عل في كل مرة ليعاود ارتقاؤه من جديد مُعلنا تحديه لقدره الأبدي ؟ لقد أُملي كل شيء على إبراهيم دون أن يكون له يد في شيء ، وما كان منه إلّا الامتثال وكأنه يقف على عتبة أخرى بعيدا عن فعله وعن مجرى الأحداث . أما على المستوى الديني فكان تدينه شائها يُحيل الإنسان إلى موضوع اختبار ، مجرّد موضوع يختبر من خلاله الإله مدى سيادته ، كما أنه يحيل الإله طبقا لمثل ذلك التصور إلى مسخ يتوّسل ألوهيته عبر نفي الإنسان واستلابه ، فالفضيلة طبقا للتدين الإبراهيمي تُقاس بمقدار ما يضحى به الإنسان على مذبح إلهه ، وبمدى استطاعته على أن ينذر نفسه له ، فتديّن إبراهيم كان تديّنا بالنفس وليس تدينا للنفس ، فهو أقبل على إلهه عاريا عُريا كليا ، عاريا من واجبات الأبوة ومن شعوره الأبوي الذي لطالما تطلّع إليه ، وعاريا من قدرته على أن يكون كائنا بمقدوره صنع أخلاقه الخاصة ، لقد أسقط كل قواه البشرية على إلهه ووقف بين الأرض والسماء لا يدري من أي طينة هو ! لقد تخطّى إبراهيم المقولة الصوفية التي تقول : إزالة التعلّقات بعد موت الآلات من المحالات ، فهو في الواقع لم يزل التعلّقات التي تخص الآلات فقط ، بل أزال كل التعلّقات التي ترتبط بحقيقته كإنسان . إنه لتديّن مازوكي ذلك الذي يجد لذّته في نفي الأنا ( الإنساني ) لأجل الأنت ، وإنها لفضيلة سالبة تلك التي تُملى على الإنسان إمكاناته من خارجه .
ما فعله إبراهيم حالما أفصح عن استعداده لقتل إبنه لم يكن تعليقا غائيا للأخلاق بتعبير كيركجارد ، وإنما كان إعلانا أن الخير لا وجود له في ذاته وأن الشر لا وجود له في ذاته وهذا لم يكن بجديد ، غير أنه نقل مجال الفعل الأخلاقي من مستوى الإنساني إلى مستوى المقدّس ، فصار الخير خيرا للإله وليس للإنسان ، ومن هنا بات من المتاح أمام الفعل الإنساني أن يكون مقدسا وبإيعاذ من الآلهة ، ومن هنا لم يعد هناك حدّا فاصلا بين الأرض والسماء وكأنما هما رتقا لم يُفتقا بعد ! وأصبح من المفهوم تماما لماذا علّلت قطاعات عريضة في مجتمعاتنا هزيمة 1967 بتبعية النظام السياسي وقتئذ للسوفييت الملاحدة ، كما علّل الكثير من اليساريين وقتذاك الهزيمة بأداء الجنود لصلاة الجمعة وكأن السيدات الاسرائيليات كُن يرتدين اليشمك وقت الحرب بدلا من البيكيني القطعتين ! وأصبح من المفهوم لماذا يتم تعليل فشل المقاومة الفلسطينية بالابتعاد عن جادة الحق وكأن النجاح الاسرائيلي يُرد إلى تقديم القرابين ليهوه ليل نهار ! وبات من المفهوم لماذا يرجع الكثير من السوريين فشل مواجهة نظام بشار الأسد إلى تخلّى الملائكة والكائنات النورانية الملكوتية عن الشعب السوري بعد أن كانت تسانده في بداية الأمر ! وغني عن البيان أننا نُرجع حتى مشكلاتنا الجنسية التي تضرب مجتمعاتنا إلى أسباب أخلاقية وليست جنسية ! إننا نحوم حول العش دائما ولا نصيبه أبدا ، نتجاوز دوما الأسباب المباشرة لمشاكلنا وقضايانا لأن السببية مُهدرة لدينا منذ زمن بعيد وحتى يومنا ، أُهدرت السببية الطبيعية حتى سادت لدى أجدادنا مقولات من قبيل أن النار لا تحرق لأن صفة الحرق وإمكانه يعد إمكانا مباشرا لصيقا بها مميزا لها وإنما لأن الرب يأمرها بأن تحرق فتحرق ! جُرّد كل شيء من طبيعته الداخلية وبات عرضه للتفكيك على هذا النحو على يد أجدادنا كالغزالي وغيره ، وإلى الآن السببية ضائعة حتى على مستوى التفكير في قضايانا المباشرة ...
إلى ذلك الحد انقطعت تلك الوشوشات الخافتة التي تموج في رأسه ، وشوشات حارّة متدفّقة ، غير أنها غير مسموعة ، في ذلك الركن الهاديء حيث كان يجلس في مقابلة " البار مان " ، بار ليس من السمة الأبرز للحياة العصرية في شيء ، عن التكلّف اتحدّث ، البار مان رجل صاحب بشرة ضاربة إلى السُمرة ، سُمرة تبدو وكأنها لم تكتمل ، هاديء ، لا يعلّق على وجهه تلك البسمة التي يقابلك بها الباعة ، هو لا يبدو متصنّعا كالباعة لأنه ببساطة موظّف ، كما أنه لا يجر الضيف إلى ثرثرة لا طائل منها لمجرّد أن هذا هو السلوك السائد . كان يجلس هناك ، في بار سوفيتيل المعادي الهاديء الذي يبدى من خلف نافذته العشب الوليد المتنامي على طرف الطريق ممتدّا بمحازاة مياه النيل الراكدة .
كان البار مان قد وضع كأس الويسكي الأحمر قبالة أحد الشبان الذين كانوا يجلسون بمفردهم ، وعلى الطرف الآخر وعلى غير ما هو معتاد لم يمهل الشاب النهايات العصبية للسانه الوقت الكافي لتستمرىء قطرات الويسكي ، لم يتركها تستعذب حرارتها قطرة قطرة ، وإنما جذبه وإمتصّه بكليّته دفعة واحدة دون أن يبدو على قسماته الغرّة أي تبدّل ، وارتعش ارتعاشة نشوى ، ارتعاشة وجد عتيق قد أُدرِك من جديد . ولم تنم تلك الارتعاشة عن كونه صديق حديث العهد بالكأس ، وإنما عن كونه فقط في حاجة ماسّة لمثل ذلك السريان الصادم في أحشائه ، مثل تلك التسلّلات الخجلى لم تكن لتفيده في شيء في مثل تلك اللحظة . لقد كان في حاجة إلى هزّة عنيفة تشل كيانه وتبعث فيه لذة الحياة من جديد في الآن نفسه ، هزّة حميمة تعيد شيئا من إتساق الكون من حوله ، كان في حاجة إلى وصال مع إيروس المفقود ، وقد بلغه ، بلغ ما أراد وقد ترك فيه أشد الأثر فيما بدا ، فقد لاحت في عينيه نظرة عابد عرفاني على حافة إدراك حبور سرمدي ! وكأس الويسكي الأحمر واحد ، غير أنه لا يعني الشيء نفسه ، فهو في نظر البار مان وسيلة كسب ، وفي نظر الشاب يبدو وسيلة صحو ، وتبدو كلمة يسوع المسيح التي تُنشد لها الترانيم وتُدق لها الأجراس فارغة المضمون .. أنا هو الطريق والحق والحياة . فالطريق ليس واحد ، كما أن كأس الويسكي ليس واحد ، وإنما الحياة طرق وسكك وتقاطعات عدّة ، ولا أحد منّا يعيش بلا أفكار ، إننا أفكار من لحم ودم ، نحيا بالفكرة ، وتحيا الفكرة بنا . منّا من يتعبّد في محراب اللذّة طيلة عمره دون أن يحط في أرض لها ، يبقى ما حيا معلّقا في أفقها الأثيري الوضّاء مأخوذ بوعودها المتفلّتة ، ديونيسوسي وفي . ومنّا من يقف على عتبتها ويأبي الولوج ، يكتفي برائحة الدولار ولا يصرفه ، يتحسّس البرا ويعانق الأندر وير بملء وجدانه ويترك صاحبتهما العارية أمامه دون أن ينام معها ! توثين مستعصِ على الفهم ! فلي طريقي ، ولك طريقك ، أما الطريق الصائب ، الطريق المطلق ، طريق يسوع ، فلا وجود له . ولكن كم منّا بإمكانه أن يحتمل حقيقة أنه فرد حر حرية مطلقة ؟ حرية هي في الواقع غير مُهداة ، ليست هبة سماء ولا جود أرض ، وإنما حريّة داخله في نسيجنا ، عالقة بنا مهما توسّلنا الفكاك منها ، والحق أننا نجنح للتملّص منها بكل ما أوتينا من عزم مهما إدعينا نقيض ذلك ، وإلّا فلماذا نتزوّج ؟ ولماذا ننجب ؟ لماذا نبحث عن عمل ثابت ؟ لماذا نسكن بيتا واحدا في أرض واحدة ؟ لماذا نعتنق عقيدة أو فكر ما ؟ ولماذا ننضم إلى أحد الأحزاب ؟ إن أكثر ما يمكن أن يُفجع المرء هو أن يصحو وقد وجد يومه شاغرا ، لا عمل روتيني يؤديه ، ولا زوج وأبناء يدين لهم بواجبات ليس في مقدوره التنكّر لها ، يوم ليس مختوم بختم الأمس وغدا ، يوم دون ملامح مرسومة سلفا ، مثل ذلك اليوم لا بد أننا نصفه بيوم فارغ ساقط من حساب التاريخ ، وصاحبه إنما هو رجل بلا مسؤوليات ، أو امرأة تافهة لا تجد ما تفعل ! ولم العجب ؟ أليست الحرية مفجعة إلى ذلك الحد ؟ إننا نبدي أشد الانزعاج لفقدان صديق ما ، نثور لضياع وظيفة أو قميص اعتدنا ارتداؤه ، أما أن تُنثر ذاتنا وتنحل فذلك لا يثير فينا أي شيء . ألسنا نحن الذين نطوق لذلك ؟ ألسنا نحن من ننحت الضرورة بأيدينا ثم نتظاهر بأننا نتوسّل الخلاص من رقّها ؟ قال لي صديق مسيحي أرثوذكسي ذات مرة إنه حين يستيقظ صباحا ويُبصر ذلك الصليب المطبوع أسفل راحته منذ الأزل وإلى الأبد يستشعر في نفسه راحة مجهولة البواعث ! غير أنني لم أدهش لقوله ، ألا تستحق نازلة الحرية مثل ذلك التجنّب ؟ كم من متقاعد جُن بعد إحالته إلى المعاش بسبب وعيه المفاجيء بحريته ؟ ألا يبكي الوليد في لحظة الانفصال بسبب شعوره باستقلاله ؟ كم منّا في مقدوره احتمال قول يعقوب بوهمه المتصوّف الألماني : كُن كنيسة نفسك . كُن ضمير نفسك . من الذي يطيق ذلك ؟ من يطيق أن يكون القس والمعترف في الوقت نفسه ؟
كما أن كأس الويسكي نسبي في معناه ، كذلك كل شيء نسبي . الجنس بالأمس كان مقدّسا ، كان يُمارس في المعابد بمباركة الآلهة وعلى مرآهم ومسمعهم ، لم تميد الأرض بمن كانوا يمارسونه ولم تُخسف بهم ، بل إنه كان يمارس في كثير من الأحيان كطقس عبادة ، مورس ذلك الجنس المقدّس في مصر الفرعونية ومعابد سقّارة شاهدة على ذلك بنقوشها ، ومورس لدى اليهود الأوائل وقصة يهوذا وثمارا تصرّح بذلك في جلاء ، مارسته العشتاريات المقدّسات ومورس في بابل والهند ، وستجده في الغالب محفورا غائرا في جبين كل الحضارات القديمة ، قبل أن تنقلب الآية ليسمّى بعد ذلك بالبغاء المقدّس الذي تستقبحه وتستشنعه الآلهة ! الآلهة الخجلى متورّدة الوجنتين ! بات مقدّس الأمس هو مدنّس اليوم . ولأن كل شيء نسبي ، رأينا نساء العصور القديمة في رسوم الأجنتا وهُن يمشين ويتمايلن كاشفات أثدائهن الناهدة العامرة ، كواعب متبرّجات بأنوثتهن الفائرة ، وتدور الأيام دورتها لنرى اليوم بعض نسوة العصور الحديثة يتسابقن في إخفاء أجسادهن المرذولة الملعونة لعنة تبدو أبديّة بشكل ما ! وهن يقلن كذلك أنهن متبرجات بعفتهن . فأيهما هو التبرّج كما ينبغي أن يكون ؟ إننا لا نستطيع الإجابة لأن كل شيء نسبي ، فمدنس اليوم هو مقدس الأمس ، ومدنس اليوم هو مقدس الغد .
لاوتسو لم يدرك أن الإنسان ليس في مقدوره الصمت ، ليس في استطاعته أن ينساب بلا جلبة كالماء ، لم يفهم أن الإنسان مهووس بالنطق ، مسكون بفعل شيء ما ، أي شيء . كنت أجلس إلى جانب شخص ما يتصفّح إحدى المجلات في أحد الأماكن العامة ، وكان إهتمامي بالمجلة أكبر من إهتمامي به في الواقع ، ولمحته يقرأ تقريرا مُفاده أن السويد تعد هي صاحبة المقام الرفيع من بين الدول الإسكندنافية ودول أوروبا في معدّلات الانتحار ، وفي الوقت نفسه هو بلد رأسمالي يطبق سياسة اقتصادية هي أقرب إلى الاشتراكية العصرية ، وفرغ هو من مطالعة التقرير وجعل بعدئذ يقلّب الصفحة تلو الأخرى قبل أن يلتهم إفطاره ويقول لرفيقه : ألم تحن ساعة الذهاب إلى العمل ؟ قالها بملامح عجفاء خشبية لم يجد عليها جديد منذ عهد بائد ! ولم يبلغ ذلك منى مبلغ العجب ، فهو كغيره مهووس بقول شيء ما ، وكلنا مشدودون في هذا العالم إلى أداء دور ما ، دور نغرق فيه حتى أذنينا دون حاجة إلى علّة ذلك . وما زلت أنا أكتب ، وما زال هو يسأل متكئا صموتا في بار سوفيتيل ، وما زال الانتحار يحدث في السويد ، وما زال الأشيب يكدح مثله مثل كل الكائنات ، يكدحون بلا ثمن ، يكدحون للا شيء ...



#أحمد_فيصل_البكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- - لاعب النرد - و - شفقة -
- - الفرج - و - عم حسنين -
- قصتان قصيرتان
- خالعة العقد .. قصة قصيرة
- - أزمة وعي -
- هل الإسلام دين شمولي؟ نظرة لحد الردّة
- مدام هناء .. قصة قصيرة
- الضاحك الباكي .. قصة قصيرة
- المأزوم .. قصة قصيرة


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد فيصل البكل - - لا شيء -