|
الفن تحت عقلانية الفلسفة كروتشه نموذجا
حسين الرواني
الحوار المتمدن-العدد: 4586 - 2014 / 9 / 27 - 19:20
المحور:
الادب والفن
يقول الفيلسوف الايطالي بندتو كروتشه في كتابه فلسفة الفن، الصادر سنة 2009 ترجمة ونشر المركز الثقافي العربي ترجمة سامي الدروبي، إن النشاط الفني هو أول خطوات نشاط الفكر، او هو الصورة الفجرية لنشاط الفكر، وهو حدس خالص، والحدس هو الادراك المباشر لحقيقة فردية جزئية، هو الادراك الخالي من أي عنصر منطقي (لكن هذا الكلام يتضارب مع كلمات الكثير من العلماء والفلاسفة والنقاد الاوروبيين من أن الفن هو ابداع العقلاء، وللعقل فيه مكان كبير، فكلمة كروتشه هذه محل تأمل)، في حين أن الادراك المنطقي من شأن الذهن الذي يدرك مفاهيم كلية عامة، فالمعرفة عند كروتشه إما حدسية أو منطقية، إما بالمخيلة، وإما بالذهن، إما لما هو فردي، وإما لما هو كلي، إما معرفة خالقة لصورة، وإما معرفة مكونة لمفاهيم، والمعرفة الحدسية هي المعرفة الفنية، وهي سابقة على المعرفة المنطقية، فتقوم هذه عليها، لكنها لا تقوم على غيرها، لأن المعرفة الفنية فجر كل معرفة، وكل حدس محض، أي كل معرفة فنية، تعبر عن حالة خاصة في الذات، إن الفن هو تعبير عن شعور، او التكافؤ الكامل بين العاطفة التي يحسها الفنان وبين الصورة التي يعبر بها عن هذه العاطفة، أي التكافؤ بين الحدس والتعبير، ولذلك كان لا يمكن تصنيف الفنون والانواع الادبية تصنيفا نهائيا، لأن الحدوس فردية وجديدة أبدا، ولا نهاية لعددها، فلا قيمة ثابتة لتلك التصنيفات التي يضعها النقاد للفنون وفي داخل الفن الواحد، ولا قيمة كذلك لتلك القوانين التي يضعها النقاد المتمذهبون ( التجريبيون، النفعيون، العقليون، الصناعيون، الاجتماعيون، النفسيون، الحقيون، والاخلاقيون بوجه خاص)، فيعلقون قيمة الاثر الفني على التزامه لقواعد، أو إحداثه للذة، أو توليد لحقيقة، وما إلى ذلك، بحيث يعدون الاثر الفني الذي يخرج على الاخلاق، قبيحا، لا جميلا. فإنما الفنان هو فنان لا أكثر، أي إنسان يحب ويعبر، ليس الفنان من حيث هو فنان، عالما ولا فيلسوفا ولا أخلاقيا، وقد تنصب عليه صفة التخلق من حيث هو إنسان، أما من حيث هو فنان خلاق، فليس لنا ان نطلب اليه الا شيئا واحدا وهو التكافؤ بين ما ينتجه وما يشعر به هو. وعلى الناقد ان يقف امام الفن موقف المتعبد لا موقف القاضي ولا موقف الناصح، وما الناقد إلا فنان آخر، يحس ما أحسه الفنان الاول، فيعيش حدسه مرة ثانية، ولا يختلف عنه الا في أنه يعيش في صورة واعية، ما عاشه الفنان بصورة غير واعية. يقسم كروتشه العمل الانساني الى نوعين، الاول النشاط الاقتصادي، والثاني النشاط الاخلاقي، أما النشاط الاقتصادي فهو يهدف الى غايات فردية، وأما النشاط الأخلاقي فهو يهدف الى غايات جماعية، ولكن النشاط الثاني، الاخلاقي، يتوقف على الاول الاقتصادي، كتوقف النشاط المنطقي الذي يمثل المعرفة المفاهيمية، على النشاط الفني الذي يمثل المعرفة الحدسية، فالفرد محمول بطبيعته الخاصة على البحث عن منفعته الشخصية، ولكنه محمول بطبيعته كذلك، على الخروج عن نطاق الفردية والوصول الى المنفعة الجماعية. وليست الاخلاق حينئذ الا المنفعة الجماعية، وفي كل اخلاق اذن اقتصاد، ان الاخلاق تقوم على الاقتصاد كقيام المفهوم على الحدس في كل من المعرفتين المفاهيمية على الحدسية. ان الفن هو رؤيا او حدس، فالفنان انما يقدم صورة او خيالا، والذي يتذوق الفن يتجه ـ من جانبه ـ الى النقطة التي دل عليها الفنان، وينظر من النافذة التي هيأها له، فإذا به يعيد تكوين هذه الصورة بنفسه، ولا فرق هنا بين الحدس، والرؤيا، والتأمل، والتخيل، والخيال، والتمثل، والتصور، وما الى ذلك، فتلك جميعا، مترادفات، تتردد باستمرار حين نتحدث عن الفن، وتنهض بالفكر الى مفهوم واحد، او الى منطقة واحدة من المفاهيم، ما يدل على اتفاق تام. يعرّف كروتشه، الفن بأنه حدس، وينكر ويرفض رفضا شديدا تعريف الفن بأنه ما حقق اللذة، ويستدل على عدم المساوقة بين الفن واللذة بقوله "إن مذهب اللذة منحدر من حقيقة لا شك فيها، هي أن النشاط الفني مصحوب بلذة، فاللذة حظ مشترك بين النشاط الفني وسائر انواع النشاط الروحي".
ويرفض كروتشه أن يكون للفن علاقة بالاخلاق، أو أن يعرف الفن بأنه فعل اخلاقي، مبرهنا على رفضه بالقول "إن تعريفنا للفن بأنه حدس، يتضمن رفض النظر الى الفن على أنه فعل اخلاقي، أي على أنه ذلك النوع من التأثير العملي الذي، على اتصاله بالمنفعة واللذة والالم، ليس نفيعا ولا لذيا بصورة مباشرة، وإنما يحلق في أفق روحي أرفع وأسمى، ولكننا نقول: ما دام الحدس فعلا نظريا، فهو متعارض مع كل نوع من أنواع التأثير العملي، حتى لقد لوحظ من قديم الزمان أن الفن ليس ناشئا عن الارادة، فلئن كانت الارادة قوام الانسان الخير، فإنها ليست قوام الانسان الفنان، ومتى ما كان الفن غير ناشئ عن الارادة، فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي، لا لأن الفن يميل الى التحلل الاخلاقي، بل لمجرد أنه لا سبيل الى انطباق التمييز الاخلاقي عليه، فقد تعبر الصورة عن فعل يذم او يحمد من الناحية الاخلاقية، ولكن الصورة نفسها، من حيث هي صورة، لا يمكن ان تحمد او تذم من الناحية الاخلاقية، وليس من قانون جزائي يحكم على صورة بالسجن او الاعدام، بل ولا أي حكم اخلاقي عن انسان عاقل ويكون موضوعه صورة". ويستطرد كروتشه "من تفرعات المذهب الاخلاقي قولهم إن غاية الفن أن يوجه الناس نحو الخير، ويبث فيهم كره الشر، ويصلح عاداتهم، ويقوم اخلاقهم، وأن على الفنانين أن يساهموا في تربية الجماهير، وتقوية الروح القومية او الحزبية في الشعب، او اذاعة المثل الاعلى الذي يفرض على المرء أن يعيش حياة بسيطة جاهدة، وما الى ذلك، والحق أن هذه امور لا يستطيع الفن ان يقوم بها أكثر مما تستطيع الهندسة ذلك، فهل عجز الهندسة هذا يجردها عن حقها في الاحترام؟ لم إذن يريدون أن يجردوا الفن عن حق الاحترام في مثل هذه الحال؟ إن صفة المثالية التي تميز الحدس عن التصور، وتميز الفن عن الفلسفة والتاريخ، هي الميزة الداخلية العميقة التي يمتاز بها الفن، فمتى تجرد التفكير من صفة المثالية هذه تبدد الفن ومات، مات في الفنان فإذا به يصبح ناقدا بعد أن كان فنانا، ومات في المشاهد فإذا به يلاحظ الحياة في حالة وعي، بعد أن كان يلاحظها في حالة وجد. وتمييزنا للفن عن الفلسفة بكامل اتساعها وبحسبانها شاملة لفكرة الواقع كلها، يستتبع تمييزات أخرى، في طليعتها تمييز الفن عن الخرافة او الاسطورة". ويضيف كروتشه "مطالبتنا هذه بفصل الفن عن المنطق، تدخلنا في اصعب المجادلات، لأن النظريات التي تحاول ان تفسر الفن بالفلسفة او الدين أو التاريخ او العلوم او الرياضيات او علم الاخلاق تحتل في تاريخ فلسفة الفن أكبر المجال، وتتسلح بأسماء أعاظم الفلاسفة". ويتابع كروتشه تحليله الفلسفي العميق للفن مستعرضا الاراء التي سبقته في حقيقة الفن أولاً، ثم في الغرض منه، فيقول "حقا إن الفن رمز، إنه بكامله رمز، إنه بكامله دلالة، لكن رمز أي شيء هو؟ ودلالة أي شيء هو؟ إن الحدس يكون فنيا حقا، يكون حدسا حقا، لا كتلة مفككة من الصور، حين يكون له مبدأ حيوي يحركه ويكون من صلبه، فما هو هذا المبدأ؟" ويستعرض كروتشه النزاع الذي يقول ان ساحة الفن لم تشهد نزاعا أكبر منه، وهو النزاع بين الرومانتيكية والكلاسيكية، فيرى أنه ليس من الممكن تقسيم عظماء الفنون في كل العصور الى احد الصنفين، معتقدا أنه فنونهم تحتوي على كل من العاطفة التي تمثل معيار المدرسة الرومانتيكية، والتصور الذي يمثل معيار المدرسة الكلاسيكية، فيقول في هذا الشأن "إن العاطفة هي التي تهب للحدس وحدته وتماسكه، فإنما كان الحدس حدسا حقا لأنه يمثل عاطفة، ومن العاطفة وحدها يمكن أن يتفجر الحدس، ان العاطفة، لا الفكرة، هي التي تضفي على الفن ما في الرمز من خفة هوائية، حدس محصور في دائرة التصور، ذلكم هو الفن، وفي الفن، لا يكون الحدس الا بالتصور، ولا يكون التصور الا في الحدس. وذلك هو ما ندعوه في الاثر الفني بالحياة والوحدة والتماسك والرحابة، وما نكرهه في الاثار الفنية الزائفة الناقصة هو ذلك التعارض بين حالات نفسية عدة مختلفة، نراها تتنضد بعضها فوق بعض، او يختلط بعضها ببعض، أو تكون أشبه بسديم مضطرب، ثم نرى المؤلف يحاول أن ينظمها في وحدة معينة، فيستعمل لهذا الغرض تصميما مخبأً، أو فكرة مجردة، او انفعالا عاطفيا خارجا عن نطاق الفن، وإذا بعمله سلسلة من الصور، اذا نظرنا الى كل صورة منها على حدة خيل الينا في أول وهلة أنها ثمينة، حتى إذا نظرنا اليها مجتمعة خاب ظننا، لأننا لا نراها تنحدر من حالة نفسية، ولا تنشأ عن باعث بالذات، وإنما هي تتعاقب وتتجمع، بدون أن نحس فيها تلك النغمة الصادقة التي تأتي من القلب لتنفذ الى القلب، ولنا أن نتساءل: ما عسى أن يكون شأن صورة تقتطع من لوحة وتنقل الى لوحة أخرى ذات موضوع آخر، ما عسى أن يكون شأن شخصية تنتزع من جوها وشخصياتها المحيطة بها لتنقل الى جو آخر؟". ويذكر كروتشه أن "هناك فكرة مشهورة ترجع الى احد النقاد الانكليز، وقد أصبحت اليوم في عداد الافكار الرائجة، هي أن كل الفنون تقترب من الموسيقى، والاصح أن نقول إن كل الفنون موسيقى، اذا أردنا ان نرجع الى المنبع العاطفي للصور الفنية، مستبعدين الصور التي تبنى آليا او ترسف في أثقال الواقعية". إن الفن ليس انفجارا صاخبا للهوى والعاطفة، وإنما هو سيطرة على هذه الاندفاعة بوساطة فعل آخر، أو هو إن شئت، أن يحل الفنان محل هذا الانفجار انفجارا آخر، هو الرغبة القوية في الانتاج والتأمل. إن فنا يتعلق بالاخلاق او اللذة او المنفعة، لهو أخلاق أو لذة أو منفعة، ولن يكون فنا أبدا.
حسين الرواني ـ بغداد
#حسين_الرواني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قذر الذات العراقية والرابسودي
-
ما يفعله البهاضمة يتكرر – 6 -
-
ما يفعله البهاضمة يتكرر - 5 -
-
خذوها كلها.. ودعونا نعيش
-
لا نأكل الكلام
-
الفشلان العراقيان: العولمة الشيوعية.. والعرقنة الجهادية
-
عمان ما زالت تلوط.. وتموزنا بلا شرف
-
كأس ألمانيا والجلسة الثانية
-
لكنني خرب
-
محرِر غير محرَر
-
العراق.. بين الرمل والطين
-
الواقع العراقي.. الشسمه
-
ما يفعله البهاضمة.. يتكرر ج 4
-
ما يفعله البهاضمة يتكرر ج 3
-
ما يفعله البهاضمة يتكرر ج 2
-
ما يفعله البهاضمة.. يتكرر
-
من وحي ليلة أمس
-
قصيدة - في مفترق عامين-
-
ثائر ضد الإسفلت
-
منير بشير ليس عربيا
المزيد.....
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|