رجب الطيب
(Rajab Ata Altayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 4585 - 2014 / 9 / 26 - 15:08
المحور:
الادب والفن
غزة : الكف الذي يناطح المخرز
لمن لا يعرف غزة نقول : أنها تصبر , لكن لصبرها حدود , وربما أنها تغفر , لكنها لا تغفل , لها وضوح الشمس , لا تراوغ , لا تلف ولا تدور , ألوانها المفضلة : الأبيض والأسود .
غزة يا أصدقائي , تقول بشأنها الأرقام شيئا , وتقول حقيقتها شيئا آخر
الأرقام تقول , بأن شريطا ساحليا طوله أقل من خمسين كيلومترا وعرضه أقل من عشرة كيلومترات , دونما جبال أو غابات , وعبارة عن سهل , لا يمكنه أن يقاوم آلة حرب فتاكة كآلة الحرب الإسرائيلية , خاصة وان اكتظاظه السكاني , يعني بأن ساحات الحرب إنما هي أجساد الناس , لكن حقيقة غزة التي واجهت نابليون وصمدت في وجهه طويلا , بما فتح الباب ومهد لصمود عكا الأسطوري لا حقا , حقيقة غزة تقول بأنها جعلت من واديها غير البعيد كثيرا عن أسوار المدينة القديمة مقبرة للغزاة الانجليز في الحرب العالمية الأولى .
ثم إن حقيقة غزة , تقول بأنها منصة إطلاق المشروع الوطني الفلسطيني , فيها أقيمت حكومة عموم فلسطين ردا على نكبة العام 48 , وفيها أعلن احمد الشقيري م ت ف , وفيها أقام ياسر عرفات أول سلطة وطنية على أول ارض فلسطينية محررة من الاحتلال الإسرائيلي .
هذا هو إرث غزة , الذي يجعل منها أسطورة , حين تتحول إلى كف يناطح المخرز الإسرائيلي , عبر ثلاث حروب في مدى ست سنوات , 2008 / 2009 , 2012 , 2014 ويجعل من عنقائها أمرا واقعا , في لحظة تحلق كما لو كانت طائر الفينيق المجسم في ساحتها المركزية " ساحة فلسطين " , تحمل أماني وآمال ملايين البشر , بعد أن مست قلوبهم لحظات القنوط واليأس , في زمن عز فيه الرجال , وندرت فيه العزة والكرامة .
قبل نحو نصف قرن من السنين , وقبل أن تكون غزة على موعد مع أسوأ وآخر احتلال , كنت طفلا , أسير على قدمي نحو كيلومترين من منزل العائلة حتى أقرب مدرسة لوكالة الغوث , التي هي احد أهم معالم المدينة التي صار أكثر من ثلثي سكانها من المهاجرين من قرى ومدن الساحل الفلسطيني بعد نكبة العام 48 , رغم طفولتي , وطول المشوار , إلا أن إحساسا بالتعب أو الملل ما كان ينتابني , فعلي جانبي الطريق تنتشر بيارات البرتقال , وطوال الطريق تجد من يهديك بعضا من خضار طازجة , اليوم بالكاد تجد شجرة خضراء , نظرا للاكتظاظ السكاني .
وحيث أنّا " مهاجرون " لكنا لا نقطن أيا من المخيمات الثمانية في قطاع غزة ( الشاطيء , جباليا , دير البلح , النصيرات , المغازي , البريج , خانيونس , ورفح ) , أذكر أن أبي كان يستأجر لنا على حساب الضمان , وبشكل سنوي , كرما من كروم العنب والتين المنتشرة في منطقة الشيخ عجلين القريبة من البحر , وكنت وأخوتي صغارا , نذهب إلى هناك حفاة , أو ننتعل الشباشب الصيفية , فتحترق أرجلنا من سخونة الرمال الشاطئية .
في ذلك كانت لنا متعة المغامرة , وكسر حالة الرتابة , لكن الذاكرة ما زالت تحتفظ بمحطات خاصة , ومواقف لا تنسى , فهناك على مقربة من الخط الحدودي , شرق حي الشجاعة ,
مسقط رأسي , كان موقع لقوات حفظ السلام الدولية , كانت طفولتنا تحاول أن تتعرف من خلالهم على عالم بعيد وغريب , ودائما ما كنا نتحدث إليهم بالإشارات أو ببعض الكلمات التي يعرفونها من العربية , وما زلت اذكر أنهم عادة ما كانوا يهدونا , حبات العلكة .
كنا صغارا , وكنا نحب أن نلعب لعبة الحرب , كنا نسميها " يهود وعرب " , كنا نستخدم فيها مسدسات الدمى التي تطلق الماء , ونضع التراب والحصى في أوراق دفاترنا المستخدمة , ونكوّرها , ونعتبرها قنابل , ثم نوزع أنفسنا على فريقين , يختبيء كل منهما بعيدا عن الآخر وراء سواتر أشجار الصبار , ثم يبدأ التراشق بالقنابل , ومن ثم الالتحام فالاقتحام , الغريب أننا في " مسرحيتنا هذه " كنا نجعل دائما ,على عكس الحال في الواقع, الغلبة للعرب .
ولأن الفلسطينيين بعد عام 48 ملأوا أرجاء الأرض , وكانت عماتي هناك في الخليل ونحن في غزة منذ ذلك الوقت , كان يأخذني أبي ويشير بيده إلى البعيد , نحو الشرق قائلا لي : هناك توجد عماتك يا بني !
ظلت ناحية الشرق , تعني لي الكثير , فكنت أظن أن الشمس تشرق من الشرق , ثم تدور حول السماء وتعود للشرق من الجهة الأخرى , لم يكن للغرب في قاموسي أي وجود , وما أن اندلعت حرب 67 , حتى كانت الذاكرة تنفتح على اتساعها .
غزة لم تتعايش مع الاحتلال الإسرائيلي أبدا , رغم أن عمالها كانوا يذهبون للعمل وراء الخط الأخضر , ورغم أنها كانت تستورد معظم احتياجاتها من إسرائيل , إلا أن الحكم الإسرائيلي ظل عسكريا , كما أن تعايشا بين المستوطنين والمواطنين لم يكن أبدا ولا بأي شكل رغم أن إسرائيل كانت قد سرقت نحو 40 % من مساحة غزة , وهي أفضل أراضي القطاع , خاصة منطقة مواصي خانيونس , فقد ظلت المستوطنات مسيّجة بالأسلاك الشائكة والسواتر الأسمنتية والحراسات العسكرية , كذلك الطرق التي تصلها بعمق إسرائيل , فلا يدخل مستوطن غزة و لا يدخل غزي مستوطنة إلا نادرا .
وغزة مدينة متسامحة , تعايش فيها المواطنون واللاجئون , الفلاحون وأهل المدينة والبدو, كذلك المسلمون والمسيحيون , ولم يكن احد يشعر يوما بفارق أو تمييز , حتى حين اجتاحت الجماعات الإسلامية المدينة والقطاع , ربما تكون قد تشددت في عدائها أو كرهها لإسرائيل وحتى لليهود ,فيما غزة _ ربما ما زالت تشعر بأنها مدينة القديسة هيلانة , فلم يسبق وان سجلت في تاريخها أية حادثة احتكاك أو عنف على خلفية الافتراق الديني أو المذهبي .
ثم تبدأ رحلة النزوح إلى الشرق , والتي ما انتهت إلا بعد أكثر من ربع قرن , حين أعلنت غزة محررة .
أن تعود إلى مسقط الرأس كأنك تعود إلى بطن أمك مرة أخرى , وان تعود غزة إلى فلسطين كأنها قد ولدت لتوها , وفعلا من رأى غزة في ذلك الوقت يوافقني القول بأن " الإسرائيليين " لم يقوموا بتعبيد شارع أو إنشاء مدرسة خلال 27 سنة , لكن غزة _ العنقاء , صارت كما لو كانت عروسا بعد نحو عام , انتشرت الأبراج , وانطلقت الناس للعمل , وتحررت النساء , وفتحت النوادي أبوابها , وعادت الحياة بكل عنفوانها لتدب في شرايين المدينة .
فصول تالية من المواجهات التي لم تمنح المدينة يوما واحدا تلتقط فيه أنفاسها , وفارق كبير بين أن تكون خارج الإطار تتأمل الصورة وبين أن تكون داخل الإطار , لكن مشاهد الشهداء الذين كانوا يمرون في رحلتهم الأخيرة من شوارع المدينة الرئيسية ( عمر المختار , الوحدة , الثلاثيني , أو النصر ) باتجاه مقبرة الشهداء شرق الشجاعية أو مقبرة الشيخ رضوان , في حي النصر , لا يمكنها أن تغادر مخيلتي , ولو بعد ألف عام .
وأنا الذي كان قلبي يرتجف حين أرى جرحا , تعلمت الجلد من أطفال غزة الذين لم تتجاوز أعمارهم السابعة أو الثامنة , والذين حين كان يحيل صاروخ منطلق من الأف 16 منزلا إلى ركام , وأسرة إلى أشلاء , بدل أن يركضوا نحو المخابيء _ بالمناسبة لا ملاجيء في غزة _ يركضون نحو مكان القصف يجمعون أشلاء الشهداء بأيديهم !
أطفال غزة , في منتهى الجرأة , ربما أن نموذجا واحدا منهم _ فارس عودة _ دفع الراحل أبو عمار , لوصفهم بجنرالات الحجارة , وكان فارس عودة , متحديا للدبابة بمقلاعه في انتفاضة العام 2000 , وأهل غزة ولأسباب عديدة يرون في السلاح الناري عنوان عزة وكرامة , فما زلت اذكر أبن أخت لي , كان قد سألني وكان طفلا , عن سلاحي , وحين أشرت إلى قلمي , ظن أني امزح , وحين تأكد من صدق قولي , قلّ احترامه لي !
إن غزة تذكرني بقرطاجة قبل قرون , فهي لا تشعر بالضعف أو الصغر , وترى في ذاتها نموذجا أو صاحبة رسالة , لا تعيش لذاتها وحسب , وهي مثل السمك الذي يجاور أهلها , لا تنام , وما أن تهدأ جولة من جولات المواجهة الدامية , حتى تبدأ في تضميد جرحها , وتعاود الحياة , لتعيشها ما استطاعت إليها سبيلا .
لا أحد يظن بأن غزة لا تحب الحياة , وإن كانت تشعر بوحدتها دائما , وربما لهذا هي تعتمد على ذاتها , فالناس هناك متكافلون خاصة وقت الحرب والمواجهة , ولا أحد ينسى كيف أن حمولة سيارة من الإغاثة ظلت تدور بين المنازل , وقتا , وكل عائلة تدفع بها للأخرى أيام الانتفاضة الأولى .
أخيرا أقول ,بأن غزة , لن تنسى أبدا ثاراتها تجاه الإسرائيليين , ولن تكف عن توقها للحرية والتحرر , وربما كانت غزة ما تزال طفلة , وربما ما زلنا نحن , بعد نصف قرن من السنين نمارس لعبتنا المعتادة , لكن المشكلة ليست في اللاعبين , الذين يجتهدون " لإسعاد " المتفرجين , المشكلة إنما هي في المتفرجين , الذين لم يدركوا أن لعبة الحرب لم تعد لعبة , وان غزة رغم أنها تقترب من الأسطورة , وأنها تثبت دائما أنها عنقاء , وأنها فينيق , إلا أنها في حقيقة الأمر من لحم ودم , تحارب , لكنها تتوجع , فهل من يد تمد لها الدواء أو تواسيها على أقل تقدير ؟!
( رجب الطيب )
رجب أبو سرية
شهادة خاصة بمناسبة مهرجان ذاكرة مدينة / ذاكرة مثقف
غزة المقاومة .. غزة الصمود
الذي نظمته رابطة الكتاب الأردنيين يوم الخميس 25 / 9 / 2014 في مركز الحسين الثقافي بعمان .
#رجب_الطيب (هاشتاغ)
Rajab_Ata_Altayeb#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟