|
إن لم تجد بشرًا، اصنعهم
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4577 - 2014 / 9 / 17 - 09:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ماذا تفعل إن صحوتَ من النوم ذات نهار، فلم تجد إنسانًا في الدنيا سواك؟ بل لم تجد أيَّ كائنٍ حيٍّ على كامل وجه الأرض إلا أنت، وحدك؟! هل تفرح لأن كلّ ثروات الأرض غدت ملكًا خالصًا لك وحدك، لا منافس لك فيها؟ أم تحزن لأن "الجنة من غير ناس ما تنداس؟ أم ترتعب لأن الوحدة مفتاح الجنون؟ أم تسقط في شَرك السؤال الوجودي الأكبر: "ماذا بعد؟" أم تتجه إلى السماء وتصرخ بأعلى صوتك تنادي على الله، لأن لا أحد سواه سوف يسمعك؟ عاودني ذاك الحلمُ القديمُ من جديد. حلمٌ مخيفٌ يفتحُ كُوّة في الجدار الصلب الهائل الذي يفصلك عن الوجود. تضعُ عينك في ثقب تلك الكوّة وتتلصص على نفسك في حيرتها وخوفها وتساؤلها: “ماذا بعد؟!” بعدما قرأت "فاوست" جوته وأنا في الرابعة عشر من عمري، ظلَّ ذلك الحلم المخيفُ يطاردني لسنواتٍ. أصحو من النوم ولا أجد مخلوقًا في الكون! العالمُّ خاوٍ من كلِّ كائنٍ حيٍّ عداي. المحالُ والبيوتُ شاغرةٌ مُشرعةٌ نوافذُها؛ السياراتُ تركها أصحابُها كيفما اِتُفق في عرض الطريق مفتوحةَ الأبواب. أنادي أمي، أخي، جيراننا؛ ولا أحد يجيب! هل انتهى العالم ونُسيتُ على الأرض وحدي؟ هل نسى اللهُ أن يضمّني إلى رعيته؟ هل نسى الناسُ أن يأخذوني معهم إلى حيث يذهبون؟! هل ماتتِ البشريةُ؟ وأين الجثامين؟ لا شيء هناك سوى الصمت والعدم. شعورٌ مرعب! وأنا، أحبُّ الوحدةَ. قد يمرُّ شهرٌ دون أن أكلّمَ إنسانًا. لا مشكلة لديّ، فأنا أجيد مصاحبة نفسي بين كتبي واسطوانات الموسيقى. هذا اختيارٌ وقرار. فالناسُ دائمًا هناك يفصلني عنهم بابُ صومعتي. إن شئتُ أفتحه، وقتما أريد. الاستغناءُ عن البشر لعبةٌ وجوديةٌ فاتنة أحبُّها وأتقنها. الوحدةُ فردوسٌ حينما تذهب إليها مُختارًا. لكنْ أن تُرغم عليها، فشيءٌ يشبه الجحيم. أتذكر الآن فيلم "المتروكُ جانبا"Cast away . قُدِّر لرجلٍ، توم هاكنْس، أن يسقطَ من طائرة في المحيط الأطلسيّ. صارعَ الأمواجَ حتى وصل جزيرةً نائية. شرعَ الرجلُ، بعد أيام من انتظار الذي لا يأتي، في التكيّف مع حياته الجديدة. الوحيدة. ومثلما في الحياة البدائية، بدأ بإشعال النار، أصل الحياة. محاولاتٌ شتى أخفقت، وتمزّقت يداه جراء صكِّ حجر بحجر. وفي فورة وجعٍ وقُنوط، أمسك بكفّه كُرَةَ قدم، كانت ضمن حمولة الطائرة، وألقاها بعيدًا صارخًا في ألم. انطبعَ كفُّه الدامي على سطح الكرة، فغدت أشبه بوجه أحد الهنود الحمر. ذهب إليها واحتضنها وأسماها "وِلْسُن"، الذي سوف يغدو رفيقه لمدة 1500 يوم، هي مدة بقائه وحيدًا في الجزيرة القصيّة. أحبَّ الرجلُ ولسن كما لم يحب أحدٌ أحدًا. إذْ في الأخير وجدَ أُذنًا صبورًا تُصغي إلى كلامه، وعينين ترقبان صمتَه، وقلبًا يحمل معه الوحدةَ والإقصاءَ. عرف مع ولسن الجوعَ والعطشَ والخوفَ والظلامَ والبردَ. والأهم من كل ذلك، عرف ذلك الشعورَ المُرَّ بأنه زائدٌ عن الحاجة. متروكٌ جانبًا. لا أحدَ يفتقده، ولا أحد حزن لغيابه. كان هاكنس يحاورُ ولسن، ويستمع إلى صمته كأنه كلامٌ. يغاضبه، يصالحه، يلاعبه، يطبّبه ويعيد رسمَ ملامح وجهه حين يتقشّر الدمُ من على سطحه الجلديّ السميك. حتى إذا لاحت، في آخر الفيلم، ظلالُ سفينةٍ بعيدة في عمق الماء، يحملُ الرجلُ صديقَه ولسن ويسبح به أميالا حتى يقترب من النجاة. لكن الموجَ القاسي يطيح بالكرة بعيدًا. فالموجُ القاسي لا يعترفُ بالمشاعر ولا يعرفها! صرخَ هاكنس، ونادى على صديقه "الكُرةَ"، وبكاه كما لم يبكِ صديقٌ صديقًا. لماذا اختار اسم "ولسن" ليمنحه صديقه الصامت: الكرة؟ لا شك عندي إنها إلماحةٌ إلى "كولن ولسن" صاحب الكتاب الشهير الكارثة: "اللامنتمي" The Outsider ذلك الكتاب الذي يحلل طبيعة الشخصية النافرة عن السياقِ المجتمعيّ، اللا منتمية لقانونه الجمعيّ، الطامحة في عالم مثاليّ غير موجود. متخذا نماذجَ من أعمال وأشخاص مشاهيرَ "لامنتمين" مثل نيتشه، ديستويڤ-;---;--سكي، فوكنر، كافكا، سارتر، ڤ-;---;--ان جوخ، برنارد شو، وآخرين من أفذاذ هذا الكوكب ومجانينه المبدعين. أليسوا جميعًا متروكين جانبًا؟ نفروا من المجتمع ولم يستطيعوا التكيف معه، لأن شروطَه "الصعبة" لا تتفقُ مع شروطهم "الصعبة"، وانعكس هذا "اللانتماء" بامتياز في أعمالهم الفنية والفكرية والإبداعية. المهم، أن الإنسانَ، أيَّ إنسانٍ، حتى ذلك الراغب في الوحدة، الراغب عن الناس، لابد أولًا أن يجد هؤلاء الناسَ من حوله، لكي يتركهم ويتوحد. وإن لم يوجدوا، خلقهم. مثلما خلق هاكنس ولسن، ثم بعدئذ، ينأى عنهم ويتوحّد بذاته إن أراد. لابد من وجود الناس، لكي نشعر بوحدتنا بينهم. وإلا غدا الأمرُ حفرَ فراغٍ في فراغ، أو صبَّ ماءٍ فوق ماء.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص الأنبياء، والكائنات الرخوة
-
أين مضيتَ يا سميح؟
-
الأم تريزا، أم الغلابة
-
العيون النظيفة
-
حوار مجلة نصف الدنيا مع الشاعرة فاطمة ناعوت بعد فوزها بجائزة
...
-
عروس النيل
-
مصريون ضد الحزن
-
هنا قناة السويس
-
قَسَتْ أمي.... ودلّلني القراء
-
نجيب محفوظ، هل سامحتني؟!
-
إلا إيزيس يا داعش!
-
محنتي مع المثقفين
-
داعش أم الرسام الدنماركي؟
-
حوار مجلة (حواء) المصرية مع الشاعرة فاطمة ناعوت
-
الراهبات يا د. جمعة!
-
المسرح في المستشفى
-
الجهل، الحصان الرابح
-
داعش أم دولة الإسلام أم عمعيص؟
-
اقتلوهما كما قتلتم ابن رشد
-
من أرض مشروع القناة
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|