|
موسى وجولييت الفصل الخامس عشر
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4572 - 2014 / 9 / 12 - 15:16
المحور:
الادب والفن
هو تنفيذ الإرادة. الرصاصة القاتلة والأمر المسموع. نوري الطاعة والإذعان. وحد السيف. نوري الإشارة. وترضخ روما بعد أن يغسل ساقيها بالدم. تبتعد جولييت عن وصوله إليها. كيف بالإمكان أن يأخذ منها ما يعطيه أبوها في اللحظة التي تمنعه فيها الإرادة عن غير تنفيذ ما تريد؟ انتهى نوري خلف القضبان. في السجن. في العقاب الأعظم. أنهته الإرادة دون أن تشاء، وغدت تراجعًا أمام الحياة. يتذكر نوري كيف أعطته تلك الإرادة الحياة. كيف تعهد ياكوف، أبوه بالتمني، بتربيته بعد أن وجد أبواه الشيخان نفسيهما في عرض الطريق دون مأوى. مدير الكيبوتس اللئيم طردهم لما استوت عظامهم. عملاقٌ بين عمالقة. جالوت اليهوديّ! تأوه نوري. لو كان له عمل وقتذاك. ولكنه كان صغيرا. كان نوري نحلة هزيلة في خلية جائعة، وكان الموت يترصد لأبويه، فقال الليكود هم العرب، وراح نوري يحلم بالحرب لأول مرة. كي ينسى. كان يُهان في اليمن، وكان يُهان في أرض العسل واللبن. فهل ينسى؟ وبين الوضعين تُظهر له الفروقُ كلَّ ما لم يكن متوقعا، فيطلق آهة حسرة على بيتهم المبنيِّ من حجرٍ في صنعاء، ويتذكر كيف رماهم المعراخ في الأرض الماحلة أو على الأرصفة ليلحسوا الغبار عن نعال الجميلين من الأشكناز، فلحسوا غبارهم، وجمعوا قذاراتهم. هم، لهذا السبب، جاؤوا بهم، وليحولوا الأرض الجرداء إلى خضراء، مثلما سبق لعربٍ أن حولوا مثلها من غيرِ كلِّ تلك الأراضي الخصبة التي كانت. الصدفة وحدها هي التي لعبت دورا، فأي مخلوقٍ في نفس الوضع يفعل ما فعلنا. ولقد فعلنا بجهدٍ وشقاء، لكن موسى أيضًا وذويه قد فعلوا بجهدٍ وشقاءٍ من قبلنا، قبل أن نأتيها من آخر الدنيا جنةً، وإلا كيف يكون وعدٌ بأرضٍ تشقها أنهار العسل واللبن، ويسقط علينا من سمائها المن والسلوى، ومن بساتينها نقطف القات والكمثرى؟ أم أننا كنا واهمين وكفى؟ ومثلما لم يغيرِ المعراخُ من وضعه شيئًا كبيرًا لم يغيرِ الليكودُ أيضًا من وضعه شيئًا كبيرا. أَوَ هي لعنة اليهود أم لعنة اليهود بالساسة؟ صب جام غضبه على العرب، وما لبث أن رأى في بعضهم أصدقاءً كانوا له في اليمن، وتبدى له ذلك البعض في وجوهٍ رآها في القدس وفي نابلس وفي غزة. أقر عقله على أن بعضًا من هؤلاء بشرٌ أشرارٌ وبعضًا بشرٌ أخيارٌ مقابل الذين يقولون عنهم أشرارًا كلهم، وهو لهذا قال بإعادة المناطق أو بعضها مقابل الذين يقولون عنها أرضنا التي حررنا، وليبقوا أطفالاً مسالمين أحسن لهم، فنسالمهم تحت أمرنا. ثم جاءهم نوري بقلب اليهوديّ الساذج المحب، فقال في اللحظة التي قالوا فيها إنّا لا يسيئنا العيش معهم شرط ألا يقذفونا بالحجارة، وألا يحتموا بالعجلات المحترقة. إنّا لا نضرب ولا نغلب، ولكن إذا ضربنا أفنينا! إلا أنه لم يصبح جنديًا مثاليا. جعل ياكوف منه حُلمًا عاديا، وترك الحرب لابنه يوسُفَ حُلمًا عاديًا ولا عاديّا. أيحلم في كل هذا الوضع المنذر بالخطر؟ أتتساقط مدن الأرض المحتلة على نعليه واحدةً واحدةً وحوريات غزة؟ ألم يقل ليوسُفَ طفلٌ من أطفالهم العنيدين غير المسالمين لتذهب إلى بيتك، فماذا هنا أنت بفاعل؟ لتذهب إلى أمك كيلا تصير مومسًا أو أختك سكينًا بيدِ جزارٍ جاهل! ولما كبر نوري قليلا، وراح ليكرم أمه وأباه، كان رجلُ الحكومةِ الدميمُ يطردهما من بيتهما الحقير إلى عرض الطريق، وأجرى الحجز على البؤس عنوة. جرى نوري صوبهما بكل ما أوتي من قوة، وإله شعب هاتيكفا ينظر إليه من فوق، ويبتسم، بينا كانت سيارة جيش أمريكية مهووسة، في طريقها إلى قبر إبراهيم الخليل، أسرع منه إليهما، فوصل إليهما، وهما جثتان وشجرتان من زمن المسيح مجتثتان. بكى نوري وقتذاك، وأتته الفتاة روبيكا لتمسح له الدمع، فطردها شر طردة. لم يكن يريدها أن تصبح أمه. لم يكن يريده أن يكون عيسو. وعندما ذهبت روبيكا مع يوسُفَ نادها نوري كفكرةٍ يرمي إلى التعبير عنها بإطناب. كانت قد ذهبت، ولم يكن المعراخُ آنذاك يؤجج لهيب الذكرى ضد العرب ومع الحرب، ففيه الذين ذاقوا ويلاتها، وفيه الذين يريدون سلاما. فأين سلام نفسك، يا نوري؟ بقوة الإرادة كان غائبا، وكبر نوري كما أراد له ياكوف أن يكبر. أين تراها تكون، روبيكا، تلك الفتاة السمراء ذات البراءة الشرسة؟ كان يفضلها على جولييت. وهو لم يزجرها مرةً إلا لتأتيه، فلا تأتيه، وتذهب مع يوسُفَ. أين تراها تكون، روبيكا، الآنَ؟ وجس نوري القضبان، وتنهد. فكر في لحظةِ أملٍ لو خرج من السجن لذهب إليها. ليراها. لن يزجرها هذه المرة. فقط ليراها. ومن جديد، عاد يسقط في اليأس. حَدَسَ حبل المشنقة في الساحة المظلمة، والليل ينتشر رهيبا، والليل يخفق شراعًا للموت، ولم يستطع إطلاق صرخته المعلنة عن القاتل. انطوى على نفسه، وهمهم منسحقًا مندحرًا منكسرا: لا، يا أبي ياكوف! رحمةً بمن جعلته ابنك! لا، يا أبي الطيب! ولم ينتبه إلى السجان إلا بعد بضع زمان ظلاً منحرفًا في قلب الزنزانة، فنهض فزعا، والسجان يطمئنه: - لقد أُطلق سراحك، أيها اللعين! - قل لي شيئًا آخر غير ما يقوله ظلُّكَ في يأس الأرواح الضائعة. - جاء أمرٌ بإخلاء سبيلك، فاذهب، وكن تائبًا بين التائبين! ابتسم نوري، ثم لبسه الشحوب، ولم يصل إلى تَرْكِ فرحِهِ يتفجرُ فرحا. كان غضب الأسرى العرب أقوى من إطلاق سراحه، فقد وصلته بعض الصرخات، ورأى بعض المضربين عن الطعام، يقوم بينهم ظل موسى ولا يقعد، فخشي الظل، وخاف. ومن الساحة، جاء جنودٌ يجرون، ثم على الأرضِ خرَّ الجنود، لأنهم عرفوا في الظلِّ قاضيَهُم.
يتبع الفصل السادس عشر
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موسى وجولييت الفصل الثاني عشر
-
موسى وجولييت الفصل الثالث عشر
-
موسى وجولييت الفصل الحادي عشر
-
موسى وجولييت الفصل العاشر
-
موسى وجولييت الفصل الثامن
-
موسى وجولييت الفصل التاسع
-
موسى وجولييت الفصل السابع
-
موسى وجولييت الفصل السادس
-
موسى وجولييت الفصل الرابع
-
موسى وجولييت الفصل الخامس
-
موسى وجولييت الفصل الثالث
-
موسى وجولييت الفصل الثاني
-
موسى وجولييت الفصل الأول
-
ظاهرات ما بعد الحرب في غزة
-
سميح القاسم الولد الرديء
-
جثتان
-
حوار بين جندي ومقاتل
-
دمع
-
جندي يموت من الحب
-
حيض
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|