|
الحب والألوان تشكيلات إنسانية فى لوحات المستشرقين وعرض عن العشاق
إيرينى سمير حكيم
كاتبة وفنانة ومخرجة
(Ereiny Samir Hakim)
الحوار المتمدن-العدد: 4565 - 2014 / 9 / 5 - 23:39
المحور:
الادب والفن
الحب والألوان كل منهما يشكل جانب اساسى فى حياة الإنسان، جانب يتعمد المشاعر ويقصد الإحساس، يتدخل فى يوميات الإنسان وانفعالاته، وهُما حقيقتان تسعدانه وتؤثران فى مزاجه، وتقبله لتفاصيل معقده فى حياته، ويختلف تأثير كل منهما على كل إنسان بحسب مدى حساسيته للتفاعل مع قوة مفعولهما.
وقد كانا الحب والألوان هما الجانب الانسانى المشترك بين عرض عن العشاق ولوحات المستشرقين، حيث جسدا تشكيلات إنسانية متشابهة الحقائق فى كل منهما، فكونا كرامة إنسانية بصور جمالية مخلصة لمبدئها.
ولقد اسعدنى وامتعنى أن احضر عرض عن العشاق أكثر من مره لأتمتع بتفاصيله وادقق فى أركانه الفنية، ما أتأمل فى لوحة مرسومة، وقد حصدت بالفعل هذا الانطباع الفنى عنه، فقد تشابه كثيرا مع أجواء من لوحات المستشرقين، وهذا ما سأستوضحه لاحقا بالتفصيل.
فكان كلما حضرته هِمت فى جوٍ حالم فى بوتقة من الحب والرقى والتقدير، حتى انتبهت لبضع كلمات ايقظتنى من حلمى إلى واقع أبطال القصص الحقيقيين، وأصبحت كلمة "جارية" تنغز فى اذنى كالمسمار، وكلمة "يمتلكها" تثير خيالى لتصور الوضع الحياتيّ لتلك النساء، وكان انتباهى الجديد هذا لم يسعه أن يُبطل المفعول الساحر للعرض ولا لرقيه، بل ادهشنى زيادة تأثيره الايجابي وطأة، فقد أدركت أن الحب بإمكانه أن يعطى جمالا للظروف القبيحة، وان يُمجد من استكان فى أيام المهانة، وان التجسيد الفنى له من القدرة أن يَعبر بك عبر أزمنة، لمشاهدة ماضى ضم من وُضع فى أيامهم المُقيَّدة، حرية مجزية لتحرير قيود حاضرك أنت بحب وفن أشبعك خيالا ورغبة فى تغييرك وتغيير واقعك.
وفى هذا المقال لن أتحدث عن لوحات المستشرقين بشكل عام، ولا أود أن أتوغل فى خلافات فكرية، ولا أتطرق إلى طيات تاريخية، فقط أود الإشارة إلى ما هو جلى التشابه فى وقائع لا ينكرها احد، وحادث فنى اعترض تلك الألوان الصامتة، ليُحرك ما بها من حركات ثابتة، وموسيقى بكماء ومشاعر بالألوان مُدوَّنه، ليُعبر عنها بعِبَر الكلام وموسيقى رنانة وحركات راقصة.
وأنا أتأمل هنا فقط فى حيز حدوده، نقطتى "جارية" و"امتلاك".
عرض عن العشاق
هو عرض مسرحي(*) أحيا أرجاء قصر الأمير طاز ليستحضر روح بن حزم الاندلسي، الذى كتب كتاب طوق الحمامة في الألفة والإلاف، ويستعرض هذا العمل حكايات عن العشاق فى توليفة من حكايات بن حزم فى كتابه، مع حكايات وأفكار عن الحب عصرية، تمتزج معهما اغانى للسيدة أم كلثوم، فى قالب رومانسي موسيقى، وقد كانت حكايات بن حزم العاطفية وليدة عصره، فجاءت تتحدث عن عاطفة بين أحرار وجوارى، وبرغم واقع الماضى المرير لقصصهم حيث العبودية والاستعباد، إلا أن حمامة الحرية التى أطلقها الحب بين سطور قصصه، قد أفرغت من حكاياته مشقَّات تفاصيل الماضى، وتعاسة أحاسيس أّذيبت إبان سطوع تكريم الحب فى ظلمات قصص شخصيات همشتها الظروف وأهانتها الأحداث.
ومن هنا نأخذ الخيط الأول للمقارنة، لنذهب إلى معرفة لوحات المستشرقين، ومقابلتها مع عرض عن العشاق فى مرآة حب من مصداقية ألوان.
حيث ظهر كلوحة من لوحات المستشرقين، العرض المسرحى عن العشاق، مُلونا بأنواع فنون عدة، من تمثيل وعزف ورقص وغناء، يعكس فضفضة آدمية عن خلجات نفوس معبئة بحرية حائرة وقيود، فى صورة من فيض للإنسانية بفنونها.
لباقة تجسيد الألوان للنَفس
لوحات المستشرقين هى تلك اللوحات التى قام برسمها فنانو الغرب الأوربيين، الذين وفدوا إلى البلدان الشرقية والعربية فى القرن التاسع عشر الميلادى، وقد سجلت العديد من المشاهد اليومية فى الاراضى التى صورونها، منها الأسواق والكتاتيب والمزادات والشوارع والجوامع والمجالس العامة، ومشاهد كلامية داخل البيوت، وهوادج النساء وقوافل الحجاج والبورتريهات للسيدات والرجال، وغيرها من الموضوعات، والشق الموضوعى الذى يتحدث عنه موضوعنا فى تلك اللوحات، ذاك الذى جُسِّد فى رسمه حياة الجوارى، ليس جميعها، إنما تلك التى اهتمت بإنسانيتهن، لتحكى تفاصيل مشاعرهن المُتضَمِنَة معانيها فى اللوحات.
وتتفق الكثير من تلك اللوحات على نظرات قوية المفعول لمشاهدها، والتى أسلوبها غير لبق فى التعبير عن الروح كما فى نظرات أصحاب بورتريهات الفيوم، إنما لبق فى التعبير عن نفوس أبطالها، و"بطلاتها" بالتحديد و بالأخص، حيث جاءت اغلبها نظرات شريدة متألمة، أو متأملة فى خيال ممتع أو واقع مُضنى، ولا نعرف جوهر الأحاسيس سوى من لوحات تعرض مواقف صريحة، كمشاهد بيع الجوارى على سبيل المثال، إنما فى غالب اللوحات التى تعكس أحاسيسهن بمشهد مستتر القصص، فهى مثل تلك التى تُجسد جلسة أو رقصة أو عزف لجارية، وهى تعطى رسالة بنظرات متعددة، تلك النظرات هى ما تعبر عن إنسانيتهن التى ربما لا ينتبه إليها غالبية المشاهدين للوحات، حيث يكون التركيز على جمال بطلة الرسم مع تفاصيل التشكيلات المعمارية والتفصيلات الفنية التى تملأ أرجاء اللوحة، إنما فى الحقيقة أن فنانى تلك اللوحات قد ركزوا كثيرا على تعبيرات وجوههن، التى خدمها تنسيق اتكاءهن أو حركاتهن، للتعبير عما هو أعمق من مشهد جمالى، وهو مشاعرهن الإنسانية.
فلا عجب وإن رأيت لوحة لراقصة جالسة على الأرض ممسكة ب "رق"، وهى شاردة فى حب أو فى حزن، أو فتيات يرقصن دون أدنى ابتسامه أو فخار بجمال أو لهو مع موسيقى، مع أهمية ذكر ملحوظة أن من أساسيات الرقص الشرقي هو "الابتسام أو الضحك"، وكأنك تشعر أنهن يرقصن بتمايل خفيف وحركة بطيئة بالفعل، كما تعبيراتهن الراكدة ورؤوسهن المنحنية، وكأن اللوحة تعبر عما يَخفىَ فى تعاملاتهن خارج حدث اللوحة، فربما يَكُن بنفس الخضوع الصامت والمستسلم بانكسار كما ملامحهن البكماء.
وفى أجواء كتلك ربما لا تشعر فى نظرتك العابرة بتعاستهن، إلا إذا دققت فى لوحة توفر حالة بتلك التعبيرات والإشارات المفتاحية لعالم نفسي خفى يدور فى صدورهن وأذهانهن، حيث أعماق تلك الأجساد الجميلة غير المتفاعلة إنسانيا مع هذا اللهو المُفتعل حولهن!.
وقد جاءت تلك اللوحات بجمال ألوانها ودقة تجسيدها كضربة فرشاه على وجوههن الواقعية الجامدة، وكان هذا التجسيد الانسانى لعمق ما يحمله شعورهن، كرتب بحنو على أيامهن.
فقد عكست الألوان الزاهية فى الملابس وانعكاس إضاءة النهار المترامية على أركان المكان، لمحات من أمل ولحظات تعايش مع شمس الأيام، تُدرك تأثيرها كمتفرج حين تدقق فى تفاصيل درجات الألوان والخطوات الرشيقة لهن، فى تباين مع واقع تعيس، تعكسه تعبيراتهن التى تبدو بدلال، إنما هى تعبر عن بطء تحمله حقيقة حياتهن غير المتمتعة بجديد، بل فى تكرار وتعود يتم اى حدث حديث.
طفو العمق الانسانى فى لوحات وعرض
كانت لوحات المستشرقين التى اهتمت بإنسانية بطلاتها الجوارى، تجسيد جميل لواقع قبيح، والذى أراه كتعويذة صورت نقل حالة من سلب لإيجاب، كما التعويذة الفنية العاطفية التى جاء بها عرض عن العشاق، حيث تجسيد رائع لواقع مؤلم، فبالرغم من تحَدُث ذلك وذاك فى نطاق "الامتلاك والمملوكات"، إلا أن اللوحات قد انشقت كما تحرر العرض من خانة الواقع السلبي المسئ، للتحليق فى ساحة حرية التعبير المتمسك بكل ايجابية، مكنت تلك وهؤلاء من مقابلة حياتهن وحياتهم مع كرامة الإنسانية والرومانسية.
وفى النهاية بعد تأمل عميق فى إحدى هذه اللوحات المرسومة، و تلك اللوحات الفنية المؤداة فى هذا العرض، تجد نفسك أمام أسئلة تعجبية:
كيف للألوان قدرة تصنع من الجمود إنسانية؟ ومن الصمت كلام؟ وكيف للحب سلطان يُحيل المهانة إلى كرامة؟ ويُعطى للمَملوك حق المُلك، بل وبامتنان؟
__________________________________________________________________________ (*) عرض عن العشاق تم عرضه فى قصر الأمير طاز فى عام 2013 و 2014، العمل فكرة وإخراج هاني عفيفي، دراماتورج كريم عرفة، الملابس و الإكسسوار أيمن الزرقاني، تمثيل: حمزة العيلي في دور ابن حزم الأندلسي، أحمد زكريا، سارة عادل، سارة هريدي، تمثيل وعزف وغناء ماهر محمود إسماعيل، رقص مسرحي أداء زينة زين، تصميم الرقص وأداء هانى حسن، غناء: نجوى حمدي، العازفون: فادي عادل (عود)، شريف صبحي (عود)، خالد عبد المنعم (قانون)،حازم مجدي (كمان)، د صلاح (تشللو) مساعدة المخرج سمية أبو العز، تنفيذ الملابس ورشة أزياء دار الأوبرا المصرية، تصوير فوتوغرافي أحمد إبراهيم، تصميم الدعاية أيمن الزرقاني، ماكياج أحمد فكري، هندسة صوتية محمود عبد اللطيف.
#إيرينى_سمير_حكيم (هاشتاغ)
Ereiny_Samir_Hakim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نجيب محفوظ وإلهام الفرعون
-
عودة عرض *عن العشاق*، الحلم الذى يحتاجه الجمهور
-
هل كانت ستلقى العذراء مريم مصير اللاجئات لمصر اليوم؟!
-
*الفراديس* لهشام نزيه، الوجه العربى للسيمفونية العالمية *كار
...
-
ما هو الزنا الذى لا طلاق إلا لعلتهِ؟
-
الفنان طارق لطفى يتوحد مع شخصية حمزة فى عد تنازلى
-
مَن إنسانيتهم تتوجع لأجل مسلمى غزة وتتجاهل مسيحىِّ العراق
-
أحقا مُت يا صديقى؟!
-
فى إعلان بيبسي *يلا نكمل لمتنا* نقاوة توأِد تعصب الجهل
-
تلعنون من يموت انتحارا؟!
-
بمناسبة ما يحدث لمسيحىِّ مصر والعرب والعالم
-
فى مجتمعنا .. غير القابل للتنوع
-
إنسان الروح
-
هنا احنا زى علامات التنوين
-
ربما المومسات أكثر شرفا منه
-
لما تنزعجون من العاهرات حتى الهوس؟!
-
ماذا اقول للغد؟!
-
انا الانثى التى صُلِبَت على يد حافظيها .. انا المصرية
-
التحرش فى مصر أصبح إتاوة يفرضها رجال على مشاركة المرأة فى ال
...
-
أنا هطير يا زواحف
المزيد.....
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|