عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4564 - 2014 / 9 / 4 - 09:07
المحور:
الادب والفن
الإعلان عن مسابقة أدبية تثير في نفسه الفضول لأول مرة وقرر أن يشارك بكتابة قصة قصيرة طمعا بالجائزة المالية ليس إلا, تمعن بالشروط والمدة المتبقية تسمح له بكتابة قصة وفق أفضل أستجابة يمكن أن يجسدها بقى عليه أولا أن يحدد أطارها العام والثيمة التي سيجسدها, كان الأمل يحدوه نحو قصة تتميز بطابع غرائبي يلفت نظر اللجنة التحكيمية بعمق خيوطها التي تربطها فكرة ما .... هكذا مضى يبحث عن بداية أنيقة وفي نفس الوقت ملفتة أو أستفزازيه ...
في الليلة الأولى حاول أن ينظم كم فكرة في سياق سردي يربط الأفكار هذه بحدث غرائبي كتب جزء مهم من القصة في القراءة الأولى لهذا الجزء , لا شيء يوحي بوحدة الموضوع غير أنه إصراره على جعل القصة طراز خاص به من أساليب الكتابة ساهم في تأجيل الفكرة لليوم التالي, الأحداث التي كتبها كانت تتصارع في عقله الرافض لهذا الشكل, حاول أن يغفو قليلا ليتغلب على أزمة النص , القلق كان أكبر من رغبته بترك الموضوع لليوم التالي , هكذا فقد معظم ساعات الليل متقلبا ناسجا عشرات الخطوط التي يمكن أن تكون قاعدة لقصة تتفرد بشكلها المثير الغارق في جماليات التجريب .
هكذا مرت ثلاث ليال مرهقات لم يعد يثق بقدرته على أن يكتب صورة سردية لحدث ما ليؤسس عليها, جرب أن يكتب مقطوعة شعرية جاءت جميلة فعلا بكل بنائها وحتى في أختيار الموسيقى تمنى لو كان هناك مجال للقصيدة في المسابقة, حاول أن يعيد فكرة القصيدة لبناء فكرة قصة لكن الأولى عصية أن تتحول بموسيقاها الصاخبة إلى قصة أو أن يستمد منها فكرة , بدأ الأمر أكثر عسرا عليه , قرر أن يتحدى قدرته بكل ما في ذاكرته من خزين أو ما مرت عليه تجارب قصصية من أخرين, كان الحل أن يعود ليقرأ من جديد .
الوقت أدركه مبكرا وما زال في ذهنه العشرات من الصور الجاهزة التي تصلح لمشاريع قصص رائعة , القليل من التكنيك يمنحها جوا أبداعيا قد يقربها من الجائزة والفوز المتضمن أعتراف رسمي بموهبته في الكتابة, الحقيقة المرة كلما أمسك القلم ليدون واحدة من تلك تتطاير الفكرة وتشتت كأنها دخان يذوب في جو الغرفة يعود ليجرب غيرها , الورق الممزق وما كتب به رؤوس أسطر توحي إلى أفراط حقيقي بالقلق من المواجهة وهو دائما يردد سأنتصر على اليأس لا أمنح نفسي أي فرصة للتراجع,أتصلت به المشرفة على المسابقة لتخبره بضرورة أن يكون النص حاضرا قبل الموعد بيوم لتتأكد من وصوله .
من ضمن الحلول التي أستقر عليها أخيرا أعادة كتابة قصة من المسودات القديمة أو أكثر أو الدمج بينهما خاصة وأن الكثير من المشاريع المعطلة تنتظر الإكمال أو التصليح , عرج على قراءة أكثر من قصة قدم في الحوار أخر في النهايات حرك الأشخاص ,البعض منها كان بحاجة إلى عقدة البعض أيضا كان خاليا من ثيمة محددة , غرق كثيرا في التفاصيل لينتبه أن أمامه عدة ساعات على الموعد وهو لم يستقر على صورة نهائية أو خيار محدد ,ضوء الفجر أيقظ في روحه شعور بالهزيمة أمام فكرة لا تبدو في غالب الأحيان إلا نزهة معتادة يصيغ فيها أكثر من نص .
أنجز النص مع بدايات الصباح وفناجين القهوة تمتلئ بها طاولة الكتاب , عبق رائحة السيجار يحاصر ما تبقى من هواء نقي في الغرفة بعد أن أوصد الشبابيك والباب ظان أنه يحبس أفكاره من أن تهرب خارجا , تمدد قليلا مسترخيا يحاول أن يعط تقيما حياديا عما أنجر ويعيد القراءة بعين الناقد.... أشر أكثر من ملاحظة وحاول أن ينفد إلى روح النص لم يكن هناك منفذ حقيقي كانت القصة تدور في حلقة وهمية تتركز على فكرة أعتباطية جملها إصراره على الكتابة , في خضم انفعالاته اللا شعورية مزق النص ورمى به بعيدا ليشرع في كتابة نهاية يعود من خلال فكرة أن البدايات في الأخر هي مجرد نهايات لذات الشيء.
ليس هناك أكثر من الموسيقى الصباحية تنشط ذاكرة الكاتب حينما تتأزم علاقته مع الحرف وتعاند الكلمة أن تحضر في موعدها المحدد , أنا شخصيا كنت مؤمنا على الدوام أن الموسيقى علاج للحيرة وبذا الوقت تمنحك قدرة على التأمل بعيدا , حاول أن يترجم هذه المقولة الرائعة التي خطها له صديق في لوحة علقها على جدار غرفة الكتابة وقد أستلها من كتاب ألف تجربة تعيد لك الحياة, تذكر أن هذا الكاتب قديما كان له الفضل في فتح مغاليق الكثير من الإشكاليات التي عانى منها , أستل الكتاب من مجوعة كتبه المفضلة والقريبة دوما من يده وبدأ يسرح بخياله في الجو التفاعلي الذي سطره الكاتب بكتابه , أتصل بعمله معتذرا ومتعللا بالمرض .
قسم الوقت المتبقي ساعتين ينام فيها وساعتين لكتابة فكرة أي كانت المهم أن لا يخلف مع صديقته التي دعته للكتابة وهي تعرف تماما أن حظوظه لا تخلو من فرصة أكيدة للفوز , حاول أن ينتهي من مسألة التحدي هذه إنها فكرة عقيمة وغبية بل وغبية جدا , الكتابة أشتراط إبداعي يحتاج إلى حرية واسعة والتحدي يربطك بعالم لا تنفك منه وعنه , نام وضبط منبه الساعة ذات الأجراس القديمة قريبا من رأسه ....الساعة الآن الرابعة إلا ربع عصرا مضى من الوقت نائما أقل من ثمان ساعات , الإحساس بالهزيمة كان وقعا ثقيلا أطاح بتصميمه على أن يكون مبدعا معروفا وبشهادة جائزة تنقله لواقع أخر.
أعاد الساعة إلى مكانها وتمدد على المقعد حيث كان مسترسلا في البحث عن عذر لصديقته يبرر فيه هذا الفشل ويعفيه من الحرج ,كانت الفكرة الأولى أن يغلق بريده الإليكتروني نهائيا ويخرج من كل المنتديات الثقافية التي كان ينشر فيها نتاجه الثقافي, رأي أن هذا الحل يعني تدمير لتاريخه الثقافي وهروبا لا مبرر يبيح هذا الأنتحار العبثي, وفكر مرة أخرى بإرسال أعتذار رسمي بعنوان أن الظرف الصحي أو حدوث أمر طارئ غير متوقع حال دون إكمال العمل وأنه ينتظر فرصة أخرى , رن هاتفه الأرضي مرات عديدة ,العجز والكسل يمنعانه من الرد وأخيرا تحت وقع الجوع نهض وأجاب , كان الطرف الأخر زميله في الجريدة عارضا عليه أن يشارك في مسابقة أدبية عن نص شعري أو عمل سردي ...
أخيرا ... كتب نهاية قصته مع حلم الفوز لتكون بداية لعمل حر بكل معاني التحرر من قوالب الشكل والمضمون ,صمم هذه المرة أن يمنحه القدرة الكاملة على الرسم الصوري دون شروط مسبقة وبأي قالب ودون أدنى تدخل في مسيرة الحركة التي يرسمها أبطال قصته , عمل على أن يكون متفرجا يستمتع بكل تناقضات وشغب الأبطال وعبثهم اللا مبرر معه , كان حياديا تماما في تعقب الفكرة .... تتوالى الصور وتتداخل التفاصيل بسذاجة من يكتب لأول مرة حيد عن النص كل خبرته القديمة وتفننه الذي أكتسبه من نقاشات وتدخلات النقاد ... كتب عن خيبته وخيانة الفكرة وتخليها عنه في الوقت الضائع وهو يعرف أن جزء من خيبته كان مفتاح للفرصة القادة ,كتب قصة فشله وخسارة جزء من عالمه الممتع .
عاد زميله للاتصال به ليطمئن خاصة وأن صوته كان هزيلا باديا عليه الإرهاق والتعب الهاتف مفصول من المقبس ما كان منه إلا أن يطرق الباب والقلق من أن صديقه قد تعرض لأذى, فتح الباب ودخل الاثنان غرفة المكتب وهو ما زال منذ الأمس لم يغير ثيابه منذ أن خرج من مبنى الجريدة عيناه غائرتان من أثر السهر والتعب والجو في الغرفة خانق, فتح الشبابيك ليتسلل منها هواء بارد زاد من انتعاشه فيما ذهب ليصنع كأس شاي لهم ,قرأ صديقه القصة الجديدة المرمية تحت الطاولة ,مبهرة جدا وصريحة حد البلاهة إنها "فنتاستك" يا صديقي لا بد لك أن تشارك بها إنها أجمل ما كتبت.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟