عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4560 - 2014 / 8 / 31 - 08:58
المحور:
الادب والفن
لا شيء أمتع عنده من الجلوس صباحا أما نافذته المطلة على السفح البسيط الممتد خلف داره من جهة الشرق حيث تتسلل الشمس بخجل بعد ليلة باردة وكئيبة ,تقوده خيالاته وانشراح صدره للتأمل بعيدا وأحيانا بعض ما يسرح به يقوده إلى عالم الما فوق الإدراك,عالم المحال واللا ممكن في لذة غريبة سأله الكثير من أصحابة عن سر سرحانه الدائم وهل في ذلك سر أ لمجرد التأمل ,يمزح بعضهم معه فيناديه يا سرحان سعيد ولا يمتعض من هذه التسمية , منهجه الصباحي يمتد أحيانا لأكثر من ساعة كلها يقضيها في الاستغراق في عالم ما وراء الحس .
في المساء يغلق الشبابيك وأبواب الغرفة ويمارس هواية أخرى من طراز مختلف لا يسمح لأحد أن يطلع على عالمه الخاص عالم ما يكتب ويرسم الكثير من المخططات التي توحي بها انسجامه التام مع متعة التأمل وهي تقوده من عالم إلى أخر , بين فترة الصباح والمساء يقضي بقية الوقت في أداء واجبات وظيفته كمهندس مساحة أشتهر أيضا بالدقة والنزاهة وعفة اليد في أطار مهنة حولها الكثيرون إلى الدجاجة التي تبيض ذهبا , مكتفيا براتب الوظيفة وكونه يسكن في دار شقيقه المسافر, لا التزامات محددة ولا عليه قيود مالية .
أستضافة أحد الأصدقاء عادة تكون خارج حدود هذا المقدس المكاني ولا بد أن تتغرب في الركن الأيمن من الشقة فرب المدخل الرئيس,حتى شقيقته التي تتولى العناية به بين يوم ويوم لا يسمح لها بالدخول إلا بوجوده وتحت أشرافه , عالمه كما يقول محاط بقوى غريبة ومؤذيه وشرسة لا يريد أن يسبب لأحد "ما" أذى مهما كان هذا الأحد , يستغربون من هذه الملاحظة ولكنه يصر ويؤكد أن عالمه الشرقي المطل على السفح عالم غرائبي وعجائبي ولا ينتمي للواقع أصلا .
من الأسئلة التي يثيرها الأهل والأصدقاء عزوف عماد عن حياة أجتماعية تتناسب مع مركزه الأجتماعي وسنه وما يتمتع به من وسامة وروح ما زالت تعد في عالم الشباب , لم يتجاوز الثلاثين إلا قبل أشهر قليلة مما يثير فيهم تصديقا لما يسمع عنه من بعيد أن الرجل قد يكون "مخاوي" هذه الكلمة وحدها خلقت حوله عالم من الخرافة لكن ما يحير أيضا هو أستقامته وحسن أخلاقه من الجميع, أناقة وترتيب وعلامات توحي أن الرجل منضبط جدا في حياته وليس هناك ما يثير من أسئلة أضافية ومع كل ذلك الكثير ممن حوله يرون مخاوي نعم ويكررونها بلا تحديد .
قبل أسابيع وحين أصيب عماد بمغص كلوي حاد أضطر أن يطلب من جاره أن ينقله بسيارته إلى المستشفى بعد أن تأخرت شقيقته ونسيبه من الوصول مع تردي حالته المزرية بألم قاتل ترك أبواب الشقة مفتحة وتذكر في منتصف الطريق للمستشفى أن باب غرفته الشرقية مفتوح وحاول العودة , لكن موجات الألم غالبته وبقي عقله مشغول ويعرف أن الفضول القاتل من أخته سيكلفه الكثير , تحمل الألم بعد أن تلقى العلاج وعاد مسرعا كانت ظنونه في محلها لكن هذه المرة من قبل زوج شقيقته وهو صديقه أيضا وزميل عمل في البلدية أيضا .
تجرأ الكثيرون من زملائه بعد فترة من مكاشفته أن عالمه الذي يحيط به ليس كما يقول غرائبي وعجائبي ليس أكثر من عالم مغلق ومغلف بالوهم ليس إلا, عرف أن نسيبه قد أباح للناس أن دخوله الركن الشرقي كما يسميه هو في غيابه قد يمنحه بعض الراحة أيضا ولكن يثير لديه أحساس بنوع من الشفقة على حاله ممن لا يعرف أصل الحكاية وهو هو مزعج بالنسبة له, أراد أن يبين أن عالمه ليس مثلما يفهم البعض من معنى الغرابة والعجب المتدارج بين الناس بل هو كذلك بالنسبة له ولما يملك من أسرار تخصه قد يبوح بها يوما ما .
فكرة الجن والمخاواة المزعومة بالقدر الذي كانت تمنحه بعدا عميقا وأمتناع من تدخل الآخرين في شؤونه إلا أنها ساهمت أيضا بفرض طوق من التوحش لدى الآخرين تجاه كل ما يطرحه أحيانا من وجهة نظر أو عندما يضطر للاشتراك في حديث أو مناقشة , البعض يرى أن من خاواه هو الذي يطرح هذه الأفكار وإنما عماد مجرد أداة ناطقة له , الغريب أن من يفترض ذلك لا يمكن وصفه بالجاهل أو الأمي أو قليل المعرفة العلمية غالبا ما تنتشر مثل هذه الحكايات بين المثقفين وأهل الحداثة الفكرية هذا طبعا ما يظنه الكثيرون منهم ولو أن ما يصرحون به ليس مطابقا تماما لما يؤمنون به , هكذا سمعته من أكثر من شخص .
في مقدمة التقرير الذي أستغرق حوالي العشر صفحات كتب سامي كل هذه الملاحظات مع إرفاقه بأربع مرتسمات تبين مخطط غارق في سريالية فكرية ورمزية تكاد لا تعني إلا خليط من جنون الخيال وخيال مجنون في أسفل لا المخططات عبارة واضحة وصريحة مدرجة بالعربي غير ما مدرج من رموز وأرقام وملاحظات بلغة روسية أنا عماد وفي أعلى اصفحة أيضا مكتوب أنا رب عماد, لا يمكن الجزم أن المرتسمات تنبئ عن فكرة دينية ولا تعني بأي حال أي صبغة أو روح سياسية , قد يكون مثل ما ركز سامي في التقرير أن المسألة كلها عبارة عن تكوين فكرة عن عالم ما وراء الحس .
واجه عماد المحققين في فرع الأمن سيلا من المعلومات التي لا يظن أن أحد قد تعرف عليها من قبل أو يتذكر أن أحدا ما فهم شيء من حياته الخاصة وهو لحريص على عدم السماح لأي كان أن يعبث بمنهجه اليومي منذ أن أستقر في مدينته التي تعلم فيها طالبا وقضى جل خدمته العسكرية فيها , فهي عشقه المكاني ورباطه الروحي بأسلافه رغم أنه لم يولد فيها بل بعيد وبعيد جدا كانت لحظات وجوده الأولى في عالم الإنسان ,ركز في إجاباته وبثقة أنه لم يرتكب أي مخالفة في طول عمره مذ كان تلميذا صغيرا ولم يمارس أي مستوى من نشاط يلحق ضرر بأي مخلوق, هذه المعلومة كانت مثبتة أيضا في التقرير الذي بين يديه ضابط التحقيق .
السؤال الوحيد الذي لم يجب عليه وقد أثار حفيظة المحقق هو لماذا العزلة , ما يمكنك أن تفعل بعالم خالي إلا منك ومن أحلام مجنونة , قد يهدم هذا عليك الكثير من إيجابياتك المرتسمة في عقل من يعرفك , دون أن تجيب يا سيد عماد على سؤالي ستبقى محل شك ومتابعة , وأيضا أريد توضيحا محددا وبينا على هذه المرتسمات الأربع , أخذته الحيرة كيف يمكنه أن يجيب على لغز لا يعرف ما يمكن أن يبنى خلفه أو عليه وهو أسير سلطة لا تفهم إلا ما يناسب ذهنية المسئول وهو البعيد عن عالم المسافة والخط وسرعة الزمن .
يعرف أن أنتهاك الخصائص الشخصية ليست بذات بال في ظل عدم الأعتراف بالإنسان أصلا كونه كائن محترم في دائرة القانون لذا كان مستعدا لأن يشرح ولأول مرة حكمة الإنفراد والوحدة للسيد المحق وليجعل هذه المرة الأخيرة التي يمكن أن يستدعى فيها للتحقيق عن جريمة لم تحدث أبدا ,أخذ القلم بعد الاستئذان من المحقق وطلب مجموعة أوراق بيضاء ليبدأ له بالشرح , مارس عماد مع خصمه سياسة الإغراق الوهمي بفيض من المعلومات المتضاربة والتي لا رابط بينهما مستغلا جهل الخصم بالرياضيات والهندسة والجبر,كان الرجل المسكين يتابع بقلق بهز الرأس على أنه يفهم .
مضت ساعة وهو يخوض في عالم الأرقام والزوايا والخطوط المتوازية والمتقاطعات مع جملة أفتراضات سطرها في ورقة منفصلة أخيرا قال عماد سيدي لو طبقنا الأفتراض الأول ونجحنا في التحقق من صحته ستكون الأفتراضات الأخرى مجرد تحصيل حاصل يربط عماد الذي هو أنا أنت هنا في الزمن صفر والمكان نقطة مجهولة في عالم غير محدد نصل إلى أن رب عماد الذي في أخر المعادلة لا بد أن يكون في ذات المكان الذي فيه عماد في النقطة صفر في الثانية صفر من الزمن المعادل الحسابي له صفر , هذا ما كنت أحاول خلال كل أيامي أن أجسده واقعا ليمكن للإنسان أن يفهم أنه مجرد قيمة تساوي صفر وتعادل الكل في ذات النقطة التي شرحتها لك .
هذا جيد ولكن صديقي يمكنك أن تطلع على حقائق أكثر لو شاركت الناس في عقولهم ها أنذا شاركتك في المعلومة وقد أمنت بشيء خارق للعقل المعتاد من السهولة أن بفهم البعض ما تريد ولكن ما لا يمكن أن يفهم هو الصمت فقط , أكرر أسفي لاستدعائك ولكن هي تدابير لا بد منها لحمايتك من أن تكون تحت قهر طرف لا يهمه مصلحتك , أستلم عماد مرتسماته وهو يسير نحو البوابة الرئيسية قرر أن يعيد رسم هذه الخرائط ولكن في زمان أخر ومكان أخر أقل هدوءا وأكثر عقلانية .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟