عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4560 - 2014 / 8 / 31 - 01:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن هذه الجدلية بين المقياس المادي وبين المقياس المعنوي هو العنوان الأبرز في اكتشاف الخيرية من عدمها وبه يقاس ويعلم نمط السلوك النفسي للبشر مستند في الأحقية كون الكثير من القياسات لها لحظات ومعطيات أنية توحي بما توحي,ولكن العبرة في ثبات هذه القياسات والمعطيات وقدرتها على الثبات والانضباط القياسي لذلك فالخير واحد في فهم القرآن منذ الخليقة الى يوم يرث الله الأرض ومن عليها يرتكز في غائيته على الرحمة وفي تطبيقه على المنفعة وفي شكله توافقه مع الأوامر والنواهي الحكمية الإلهية {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ }آل عمران198,فتأشير إن ما عند الله خير ثابت أكيد ودائم لا يتغير بينما الخير الحسي المادي يتغير ويزول في مقابل الخير الإلهي {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ }القصص60.
بهذا نكون قد توصلنا الى معيارية الخير الثابتة الضابطة للسلوك البشري التي يمكن معها صياغة نظرية الخير بأنها(( كل ما يتوافق مع الغائية من الوجودية الشمولية ويتسق مع حركاتها ويؤدي إليها )),فهو وعي بالذات المتصالحة والمؤمنة بالوجود الشامل الكلي غيبه ووجوده مادي كان أم معنوي ,مكشوف الدلالات أم غابت فيه العلة لسبب ما {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأنفال70,فالعلم الإلهي قد يكون مطروحا للإنسان كحقيقة يجب الأخذ بها أو يحتفظ الله بالعلة لغاية لا تدركها العقول {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216,فالخير بما أنه من الله ومن قياساته فهو منوط بإظهاره للمصلحة أو إخفائه لنفس السب والمصلحة {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }النحل74.
معرفة قياس الخيرية ومعيارها واستنادا الى قانون الشيئية الزوجية يكون كل ما عداه من سلوك وتصرف وتقرير إنما في الضد من الخيرية وهو الشر لذلك بدأنا بالنص القدسي الذي يتسأل أصحابه عن رجال كانوا يعدون من الأشرار وبالنتيجة وجدوهم أنهم لم يكونوا إلا ممثلي للخير ومتصفين به,وعلة ذلك الخطأ في القياس والتيه عن المعيار الحقيقي لديهم الذي أوصلهم لعدم إصابة قياساتهم مع القياسات والمعايير الحقيقية للخير والشر {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }الأنبياء35.
هذا البلاء والفتنة ينصب على المعرفة والوعي بأسبابها ولذلك قال موسى عليه السلام واصفاً الامتحان الرباني لأصحابه بأنه فتنتك أي امتحانك المؤدي الى تلمس الحقيقة واكتشاف الخير وتمحيص النفوس {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }الأعراف155.
أخيرا نستنتج من كل ذلك النقاط التالية:
1. الخير والشر من عند الله ليس بمعنى الفعل ولكن بمعنى الابتلاء بهما وأثرهما على السلوك وبه تتم الكشف عن مواطن الخير وتنميتها وإظهار مكامن الشر والابتعاد عنها {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }النمل40,فالبلاء هو طريق امتحاني كاشف للفعل الخير وفعل الشر فهو إذن من بواعث السلوك.
2. لا نسبية في الخير والشر عند الله ولا تبديل فيهما حسب الظروف والأحوال وإنما هي من الثوابت لارتباطهما بالثوابت الإيمانية الشاملة, أما في المعيار المادي والطبيعي الذي يتحدث عنه علماء النفس السلوكيين فهو من المتحولات والمتغيرات {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }فاطر43,فالمكر السيئ الذي هو من صفات السلوك ألشرير إنما أكتسب هذه الصفة من عدم موافقته للإيمان الشمولي الذي هو سنة وقانون الله في الأرض هذه السنة ثابتة لا تتبدل ولا تتحول بتبدل الأزمان والمكان ولا بالمعايير إلا معيارية الوجود الشمولي الكلي.
3. الخير والشر عمل إرادي حر اختياري يصدر بوعي من الفاعل حسب قوة النفس المتحكمة فيه وكيفية اتجاهها المسئول عنه وبما يتحكم في النفوس من نشاطات لقواها الجزئية فهي الملامة أو المثابة أولا وأخيرا وهذا ما يثبت عدالة الله وعدله فلا يحاسب الله نفساً إن لم تكن أهلا للتكليف بفعل الله ولا يثيب إلا بالفعل الطوعي الموافق للتكليف ومنسجم مع توجهاته{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ }آل عمران30,فالتحذير يتم عبر الإنذار المسبق والتنبيه به وبمحدداته {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }الإسراء15,وهذه القاعدة كلية تتوافق مع القانون الوضعي الذي ينص (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص سابق).
4. الخير والشر مدركان سلوكيان يمكن للعقل إدراكهما ذاتيا من خلال الوعي الناتج من تفاعله مع النقل فهو يحسن الحسن بذاتيته كما يستقبح القبيح لذاته,وهذه الحقيقة ترجعنا الى أهمية إعمال وتنشيط النفس الناطقة وجعلها تتحكم بما دونها من الأنفس النباتية والحيوانية لترتقي يهما الى أحكام واشتراطات النفس الكلية وخصائصها من الرضا والتسليم, فبالعقل إذن يدرك الشر والخير وبه تنضبط السلوكيات الإنسانية إلا بالاستثناءات الخاصة{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }يوسف53,هذا الاستثناء مرتبط بعلم الله وتقديره وليس افتراض يطبق تلقائيا ولكنه قابل للتطبيق بالشروط والاشتراطات التقديرية {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }التوبة16.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟