أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - معن الطائي - السرديات المضادة وإشكالية النموذج النظري لسرديات فرانسوا ليوتار*















المزيد.....

السرديات المضادة وإشكالية النموذج النظري لسرديات فرانسوا ليوتار*


معن الطائي

الحوار المتمدن-العدد: 4558 - 2014 / 8 / 29 - 20:45
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    




تحاول هذه الورقة البحثية تقديم تعديل نظري على أطروحات الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار حول مصطلح "السرديات الصغرى"، الذي قدمه كأساس لمشروعه الفلسفي الهادف إلى نقض التمركز الأيديولوجي للأفكار الشمولية التي تدعي قدرتها على طرح تفسير نهائي لحركة التاريخ وطبيعة الصراعات في المجتمعات البشرية من خلال تحولها إلى "سرديات كبرى" لاتقبل المسألة والتشكيك. ويقترح التعديل النظري هذا استبدال مصطلح "السرديات الصغرى" بمصطلح آخر هو "السرديات المضادة". وذلك لأن مصطلح "السرديات المضادة" يأخذ بعين الاعتبار حالة الصراع الكامنة بين التأويلات الأيديولوجية التي تظهر في لحظة تاريخية محددة وضمن نفس الفضاء الثقافي، ويتجاوز التصور السكوني المفترض الذي ينطوي عليه مفهوم ليوتار "للسرديات الصغرى".
قدم ليوتار في كتابه (حالة ما بعد الحداثة) نقده الشامل لمفهوم السرديات الكبرى، وشن هجوماً واسعاً على كافة النماذج الثقافية والأيديولوجية التي تقوم بإنتاج أو إعادة إنتاج ذلك النمط من السرديات، أو تعمل على تأسيس الأرضية الفكرية والمنطقية والنفسية والاجتماعية التي من الممكن أن تقوم عليها.
يعلن ليوتار رفضه للسرديات الكبرى، ويؤمن بفلسفة الفعل، والتي تكون مرحلية ومؤقتة وراهنة وتخلو من البعد التنظيري الشمولي الذي يميز السرديات الكبرى. ويقول أن على الفلسفة أن تتجاوز التجريد وتتعامل مع الواقع كما هو. فليس موضوع الفلسفة هو البحث في الميافيزيقي أو المطلق مثل الحق والخير والجمال والصدق، وإنما البحث في قضايا الواقع السياسي والاجتماعي الراهن ضمن اللحظة المعاشه، بدون السعي إلى استنباط نظام أو بنية تدعي لنفسها القدرة على تأويل التاريخ والطبيعة والكون. ويذهب ليوتار إلى أن أفضل طريقة لمقاومة هيمنة السرديات الكبرى تتمثل في مجرد التوقف عن الاعتقاد أو الإيمان بها، فهو لا يدعو إلى العنف أو التصدي لها بالقوة، ولكنه يؤكد على أن السرديات الكبرى تعمل من خلال الأفراد أنفسهم. وتبعاً لذلك، فان تعطيل الإيمان بها سوف يفقدها بالنتيجة كل سلطاتها ويقوض هيمنتها(1).
وتبرز، مع رفض التسليم بالسرديات الكبرى وبالخطابات الشمولية، إشكالية فلسفية وفكرية تتعلق بإمكانية إطلاق أحكام القيمة على القضايا مع غياب المرجعية المعيارية. إن وجود السرديات الكبرى يوفر أسساً نظرية ومعاييراً عامة ذات طبيعة مرجعية عند الحاجة إلى إطلاق أحكام القيمة. فتحديد قيم مثل الخير والشر والعدل والمساواة والصالح العام يصبح صعبا في ظل غياب مرجعيات مشتركة للمجتمع تشكل أرضية للحوار حول طبيعة تلك القيم والقضايا المتعلقة بها. وقد حاول ليوتار أن يواجه هذه الإشكالية في كتابه (مجرد لعب) والصادر عام 1979. والكتاب في مجمله نقاشات حوارية بين ليوتار وجان لوب ثيبود امتدت على مدى ستة أيام وتوزعت فصول الكتاب حسب القضية المطروحة للنقاش في كل يوم.
يرى ليوتار أن بإمكاننا إطلاق أحكام قيمة حتى مع غياب السرديات الكبرى، وذلك من خلال الحكم على كل حالة على حدة. ويقول ليوتار أن المعيار الذي يتبعه للحكم على القضايا هو غياب المعيارية (The Absence of Criteria) ويطرح مقابل المعيار مفهوم الدنيوية (Paganism) ويعتمد عليه بوصفه مرجعية مؤقتة لإطلاق أحكام قيمة مؤقتة وراهنة أيضاً. ويعتبر السرديات الكبرى مجرد ألعاب لغوية، وأنها من خلال التزييف والتضليل، تجعل أحكام القيمة مستندة إلى نظام أو بنية تقع خارج المجتمع والتاريخ ولا تخضع للمنطق، ولكنها تتمتع بمرجعية شمولية في تأويل كل ما يقع من أحداث داخل ذلك المجتمع والتاريخ(2).
هذه القوة التي تمتلكها السرديات الكبرى وتتيح لها تأويل الأحداث المادية الراهنة بوصفها ظواهر تتعلق بقوى ميتافيزيقية خارجية، هي ما يطلق عليه الصفر العظيم The Great Zero)). ويشير مفهوم "الصفر العظيم" عند ليوتار إلى اللجوء إلى قوة خارجية خارقة أو نوع من الإرادة التاريخية لتفسير وقوع الأحداث الكبرى في تاريخ البشرية وذلك لغياب القدرة على مواجهة ذلك الحدث وتأويله باعتباره احتمال وجد تحققه في اللحظة الراهنة. ويدعو ليوتار إلى حالة من التخلي الكلي عن كافة التصورات المسبقة والتي تقود إلى نوع من الانغلاق العقائدي ورفض الآخر(3). ويدعم ذلك النوع من الخطابات التي لا توظف آليات القوة والفرض ولا تقصي الآخر ولا تشل حريته الفكرية. يصف ليوتار تلك الخطابات بوصفها تتشكل من خطوط عامة ضعيفة وخطاطات فكرية لا تتضافر لتكون شبكة قوية من المفاهيم أو منظومة فكرية استبدادية، كالأيدولوجيا السياسية أو الثقافية مثلا(4).
و في معرض هجومه على النظرية الماركسية، يصر ليوتار في (الاقتصاد الشهواني) على رفضه لكافة المقولات الفلسفية والنظرية التي تتحدث عن فكرة التطور التاريخي والاجتماعي عبر جدليات وديناميات الصراع، من هيغل وحتى ماركس. ويرى ليوتار، بدلا منها، أنه لا يوجد مجتمع بدائي أبداً. فكل مجتمع ينتج نظاماً من العلامات الخاصة به وتتلاءم درجة تعقيد نظام العلامات وتبادل الدوال مع حاجات ذلك المجتمع. وتكمن القوة المحركة والدافعة لعمليات التبادل تلك في اللبيدو الجمعي وليس في الحقل الاقتصادي والفضاء الاجتماعي(5).
ولإطلاق أحكام القيمة على الحالات المؤقتة والمعزولة يعود ليوتار إلى كتابات أرسطو السياسية والأخلاقية في محاولته لوضع التأسيس الفلسفي والنظري لممارسته المتعلقة بالحكم على القضايا بدون الحاجة إلى منظومة من المعايير المطلقة. ويرفض التسليم بأن غياب السرديات الكبرى سيؤدي إلى أزمة داخل النظام الاجتماعي، فهو يتبنى منطق ضد المؤسساتية، ولا يؤمن بأي فكر يموضع نفسه خارج دائرة النقد والمساءلة. وبدلاً من مفهوم السرديات الكبرى يطرح ليوتار ما يطلق عليه "السرديات الصغرى"، والتي تعمل بوصفها مرجعيات مؤقتة لأطلاق أحكام القيمة وتحديد المعايير المرحلية.
و كما ترتبط السرديات الصغرى بالمؤقت والراهن والمرحلي، يرتبط مفهوم آخر لليوتار باللامتوقع والمختلف (The Unpredictable and Different). فهو يطرح مفهوم (الحدث The Event) ويوظفه لتفسير التحولات التاريخية الكبرى والانتقالات المرحلية على المستويات الاجتماعية والثقافية. والحدث هو حالة تاريخية تقع بشكل مفاجئ وغير متوقع وترتبط باللحظة الراهنة وهي لحظة مفتوحة دائما وغير محددة. ويكشف الحدث عن فشل السرديات الكبرى والتي تدعي أنها تستطيع التنبؤ بالمستقبل وتحديد اتجاهات حركة التاريخ. ويمكن اعتبار ثورة الطلبة في فرنسا عام 1968 ومحرقة النازيين لليهود في أوشفيتز من الأمثلة على ما يقصده ليوتار بالحدث. حيث ليس بإمكان أي من السرديات الكبرى أن تقدم لنا تفسيراً منطقياً معقولاً لهذين الحدثين التاريخيين أو أن تتنبأ بهما قبل وقوعهما، وإلا لكان من الممكن تجنب حدوثها ببساطة.
يلتقي مفهوم الحدث عند ليوتار مع تأكيد ما بعد الحداثة على الطبيعة المفتوحة للتاريخ وعدم القدرة على التنبؤ به مسبقا، وكل ذلك يجعل المعرفة الإنسانية والخبرة أمرا لا معنى له. فلم يعد بإمكاننا الاعتماد على السرديات الكبرى لتقود سلوكنا وأفعالنا وتحدد لنا خارطة المستقبل وطبيعة الصراعات والتغيرات التي ستطرأ عليه.
يشرح ليوتار الفرق بين السرديات الكبرى والسرديات الصغرى، في أن الأولى تقدم نفسها على أنها منظومة فكرية وقيمية عامة تفسر الطبيعة والمجتمع بصورة شمولية ونهائية وتنزع نحو الهيمنة والإقصاء، بينما توظف الثانية لإطلاق أحكام قيمة على أحداث منفصلة ومعينة ضمن إطار زماني ومكاني محدد، ولا تدعي لنفسها صفة الشمولية ولا النهائية المطلقة. فالسرديات الصغرى تسمح للباحث نقد وتقويض إدعاءات وتحيزات السرديات الكبرى، وتمنحه، في الوقت نفسه، الأدوات المعرفية لتحليل الظواهر الاجتماعية والتأريخية من دون "إنشاء تأويل تفسيري جديد" قد يتحول مع الوقت والأحداث إلى سرديات كبرى بديلة.
وتثير السرديات الكبرى اشكالية معرفية تتعلق باستراتيجيات تمثيل الواقع، ودعاوى مصادرته لصالح رؤية تأويلية معينة. يكمن السؤال المركزي ضمن هذه الإشكالية المعرفية في من يمتلك حق مصادرة هذا الواقع وفرض إنشاءاته التأويلية بوصفها سرديات شمولية تختزل الواقع وتعبر عنه، أو تسعى إلى تحويل مساره بالقوة والعنف. كما أن الأداة نفسها التي تتوسط بين العقل الجمعي والواقع وتوظف للتعبير عنه قد تعرضت للكثير من التشكيك في مدى حيادتها ومصداقيتها التعبيرية. يوضح ليوتار أن أهم القضايا التي توصل إليها العقل ما بعد الحداثي هي أننا ربما نتمكن من إدراك صورة الواقع الخارجي والحقيقة الموضوعية المفارقة، ولكن يستحيل علينا التعبير الكامل عن هذا الواقع من خلال اللغة أو أي وسيلة تواصل إنساني أخرى. وهنا يعلن ليوتار فشل اللغة في تحقيق وظيفتها التقليدية بوصفها وسيلة للتواصل وتداول المعلومات والأفكار. لقد اختفى الواقع بصورة نهائية في المجتمعات المعاصرة، ولم يعد هنالك شيء يجسر الهوة بين وعينا وبين الواقع الخارجي. ولم يبقى لنا إلا سيل من الصور والرموز والإشارات الغامضة المفتوحة الدلالات إلى ما لانهاية. بينما تحولت اللغة إلى ألعاب لفظية لا تحمل معنى بذاتها ولا تملك وظيفة محددة(6).
عند تأمل أطروحات ليوتار حول "السرديات الصغرى" تظهر للباحث إشكالية نظرية حاول الفيلسوف الفرنسي التغاضي عنها من أجل تعزيز مفهومه الخاص عن "السرديات الصغرى". فليوتار لايأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين أنماط السرديات المختلفة التي تنوجد وتتزامن في الفضاء الثقافي لمجتمع معين.
لم يعرف التاريخ الإنساني حالة ثقافية أو حضارية هيمن فيها نمط واحد وفريد من أنماط السرديات الكبرى أو الصغرى، فالمجتمعات الإنسانية تتكون من عدة طبقات وشرائح وفئات تدخل في حالة صراع ومقاومة وممانعة فيما بينها من خلال آليات الحراك الاجتماعي، وتحاول كل طبقة أو فئة أو شريحة فرض أو إنشاء سردياتها الخاصة لمواجهة السرديات الأخرى وتعزيز خصوصيتها الثقافية والهوياتية. فكل قضية تقترح بالضرورة نقيضها، وكل سرديات كبرى أو خطاب أيديولوجي يعمل على إنتاج خطابات معارضة ومضادة، في الوقت الذي يسعى فيه لبناء منظومته الفكرية والرمزية الشاملة. وفيما يسعى الخطاب المؤسساتي إلى الهمينة والتمركز، يقوم بدفع جميع أشكال الانشاءات التأويلية المضادة إلى الهامش. غير أن هذا التضاد لا يفضي إلى نوع من أنواع التمازج بين الخطاب المركزي ونقيضه الهامشي. حيث أن طبيعة العلاقة الاشكالية بينهما تقوم على الصراع وليس على الديالكتيك. وهذا التصور القائم على مفهوم الصراع هو ما يفتقد إليه نموذج ليوتار الثقافي، فهو يتفق مع جميع مفكري اليمين الغربي، أمثال دانيل بيل وفرانسيس فوكاياما وصموئيل هنتنغتون، في محاولته تقديم تصور سكوني لواقع الثقافة والمجتمع المعاصر.
وبدلاً من التصور السكوني لمفهوم "السرديات الصغرى" أقترح إعادة صياغة نفس المفهوم ضمن مصطلح يأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الصراعات الفكرية والعملية التي تنشأ بين المنظومات الأيديولوجية التي تؤسس للسرديات الكبرى والسرديات الصغرى في لحظة تأريخية محددة وضمن نفس الفضاء الثقافي للمجتمعات الإنسانية. وهذا المصطلح هو "السرديات المضادة"، فعلى أرض الواقع لا توجد السرديات الصغرى إلا بوصفها سرديات مضادة. فالسرديات الصغرى يتم إنتاجها وتداولها بوصفها سرديات مضادة للسرديات الكبرى تسعى بمثابرة لنقدها وكشف تحيزاتها وانزياحاتها عن منطق الواقع التأريخي، ومن ثم تقويضها وإزاحتها عن موقع الهيمنة الشمولية. وكي لا تتحول السرديات المضادة إلى سرديات كبرى بديلة، يجب عليها أن تفكك نفسها تلقائياً وذاتياً بعد تحقيق أهدافها، دون أن تدعى لنفسها القدرة على إنشاء تأويلات تفسيرية شمولية للمجتمع والطبيعة والتأريخ. ويتم ذلك، كما اقترح ليوتار، من خلال إرتباط السرديات المضادة بحالات خاصة ومحددة، وبوضعيات تأريخية مؤطرة، وبأحداث يتم التعامل معها كلحظات تاريخية فريدة غير قابلة للتكرار.
ويكمن التحدي لمفهوم السرديات المضادة في قدرتها على تجاوز اشكالية لحظة ما بعد التقويض للخطاب المركزي. إذ أن الفراغ الكبير الذي تخلفه عملية تقويض الخطاب المركزي المهيمن يشكل عامل تحفيزي لإنتاج خطاب بديل، أو إحلال السرديات الصغرى المضادة محله. فعلى مدى قرون سعت الحضارة الأوربية إلى زعزعة وتقويض الخطاب الديني من خلال مواجهته بالخطاب العلمي الوضعي، والذي يشكل مثالاً مناسباً على طبيعة السرديات المضادة. وتدخلت الفلسفة وعلم النفس وعلم الإجتماع لمساندة الخطاب العلمي في مواجهته لعنف وهيمنة الخطاب الديني. وجاءت كتابات ماركس ونيتشه وفرويد لتمثل ثلاث ضربات فكرية قوية زعزعت مركزية الخطاب الديني، وعجلت بإزاحته وتقويضه. غير أن ما حصل بعد لحظة تقويض الخطاب الديني وتفكيك سردياته الكبرى مثل نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ الحضارة الغربية الحديثة. فقد تحول الخطاب العلمي المضاد ذو النزعة الإنسانية التقدمية إلى إنتاج سردياته الكبرى البديلة التي طرحت مفهوم العقل الأداتي، مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ليصبح هذا العقل هو المسؤول عن تعطيل حركة الحداثة الغربية ونزع البعد الإنساني التقدمي عنها، لتتحقق حداثة ناقصة تقصي الإنسان عن مركزها بصورة تامة، وتضع الآلة بديلاً عنه. وهكذا ولد المجتمع التقني الذي شجع على التخصص الدقيق، وعزل قطاعات واسعة من فئاته عن مركز القرار والفعل. وقد تجسد ذلك فعلياً في ولادة مفهوم الإدارة العلمية، الذي طبقه الصناعي الأمريكي هنري فورد في مصانعه في الثلث الأول من القرن العشرين، ليتحول بعدها إلى تنظيم شمولي يميز مجتمعات الحداثة الناقصة. هذه المجتمعات التي حذر منها كل من نيتشه وماكس فيبر وفرويد، وسعى كارل ماركس لوضع آليات فكرية وعملية وتنظيمية لتقويضها وإنهائها تاريخياً.
ويتكرر نفس النمط في الثقافة العربية الحديثة التي عجزت عن إنتاج سردياتها الصغرى المضادة التي تنحل وتتفكك من تلقاء نفسها بعد تحقيق غاياتها وأهدافها. فالخطاب القومي الممزوج بنزعة دينية والخطاب القومي العلماني على حد سواء، سعيا إلى تفكيك المخلفات السياسية والاجتماعية والثقافية التي ترتكها الخلافة العثمانية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكنهما سرعان ما تحولا إلى سرديات كبرى شمولية تنزع للسيطرة والهيمنة والتهميش. ومع خمسينيات القرن العشرين نجحت السرديات القومية ذات الطابع الثوري في الوصول إلى السلطة ومراكز صنع القرار عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية، ولكنها لم تنجح في تأسيس مجتمع مدني تقدمي يقوم على احترام الحقوق والحريات الفردية ويؤمن بالتعددية السياسية وتداول السلطة. وبذلك أصبحت الهيمنة العسكرية هي الوجه الوحيد للبرجوازية العربية التي تمتلك إرادة الفعل والقوة، وتم تهميش جميع شرائح المجتمع الأخرى واخضاعها. أدى ذلك التهميش والقمع إلى ظهور سرديات مضادة تدعوا إلى المطالبة بالمزيد من الحريات السياسية والاجتماعية والثقافية، انتشرت بين أوساط الطلبة والشباب والمثقفين، وبدأت بالنمو والتركم حتى وصلت إلى لحظة تاريخية فارقة مع ما بات يعرف "بثورات الربيع العربي". وسرعان ماتراجعت سرديات الحرية والديموقراطية والمجتمع المدني، والتي شكلت الأساس المرجعي لتلك الثورات، أمام تقدم سرديات الخطاب الديني السياسي وما يمثله من حالة متطرفة من حالات السرديات الكبرى الشمولية العنيفة. استفادت سرديات الخطاب الديني من حالة التمزق الهوياتي والحقد الموجه ضد الآخر في الداخل والخارج في تمرير مشروعها الفكري وتحقيق هيمنتها وممارسة عنفها السياسي والاجتماعي.
لا تقدم السرديات المضادة نفسها على أنها سرديات بديلة. ولا تسعى لقلب معادلة المركزي والهامشي، لكي تتحول هي ذاتها فيما بعد إلى مركز بديل يمارس التهميش والإقصاء والعنف. حيث أن تميزها نظرياً وفكرياً وعملياً يكمن في إدراكها العميق لحقيقة دورها التأريخي، وقدرتها على تفكيك مقولاتها المركزية ومنظومتها القيمية والتأويلية في اللحظة التي تحقق فيها النجاح في مهمتها التأريخية. إن البعد الإجتماعي التقدمي في السرديات المضادة هو الذي يجب تفعيله لوقف عملية تحولها إلى قوى محافظة ورجعية. وهناك أمثلة عديدة يقدمها لنا التأريخ على الكيفيات التي تحولت من خلالها الثورات التي قادتها القوى التقدمية والطليعية إلى أنظمة شمولية محافظة سعت إلى تثبيت نفسها من خلال القهر والعنف والاستبداد. ومن أبرز تلك الأمثلة الثورة الفرنسية والثورة الشيوعية في روسيا والثورات التحررية ضد الاستعمار الأوروبي في كل من آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.
ولاتقتصر أهمية السرديات المضادة على تأشير حالات الصراع الاجتماعي والقومي والأممي، ولكنها يمكن أن تكشف أيضاً عن طبيعة التحولات الثقافية التي تطرأ على المجتمعات في مرحلة تاريخية معينة. فالظواهر الثقافية تعمل هي الأخرى على إنتاج سردياتها التي تعبر عنها وتعزز وجودها في الفضاء الاجتماعي. والظاهرة الثقافية والاجتماعية التي تفشل في تأسيس سردياتها الخاصة والترويج لها على نطاق واسع داخل المجتمع سرعان ما تتلاشى وتندثر دون إحداث أي أثر في الوعي الجمعي أو أسلوب الحياة. وتتيح لنا دراسة طبيعة "السرديات المضادة" في مجتمع معين قراءة ومتابعة الظواهر والتحولات الثقافية من خلال تقصي قدرتها على إنتاج سردياتها المضادة ومدى نجاحها في التأثير على الوعي الجمعي وأسلوب الحياة العام في ذلك المجتمع.

المراجع والهوامش:

*هذه الورقة البحثية مستلة من كتابي (السرديات المضادة: بحث في طبيعة التحولات الثقافية)،
والذي سيصدر قريباً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

1- Stuart Sim: “Postmodernism and Philosophy”, In Stuart Sim (ed.): “The Routledge Companion to Postmodernism”, Routledge Second Edition, 2005, P 7.
2- Jean- Francois Lyotard and Jean- Loup Thebaud: “Just Gaming”, Translated by Wlad Godzich, University of Minnesota Press, Fifth -print-ing, 1999, PP 17-18.
3- Jean- Francois Lyotard: “Libidinal Economy”, Continuum, Great Britain, 2004, PP 42-43.
4- Ibid, P 255.
5- Ibid, P 107.
6- Jean Francois Lyotard: “Postmodernism Explained”, Power Publication, Sydney, Australia, 1992, P15.




#معن_الطائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شبح ماركس ورعب نهاية التاريخ
- إعادة تأسيس الذات في الفضاء التخييلي: رواية (فلك الغواية) نم ...
- مثالية الفعل التواصلي عند هابرماس وواقعية النموذج التفاوضي
- مغالطة الحتمية التأريخية في الفكر الماركسي
- الوطن... كذبة قصة قصيرة
- المرويات الكبرى وجماليات تزييف الواقع في الثقافة الكولونيالي ...
- في اشكاليةالخطاب النقدي العربي المعاصر
- ميشيل فوكو بين التاريخية الجديدة والمادية الثقافية


المزيد.....




- العثور على قط منقرض محفوظ بصقيع روسيا منذ 35 ألف عام.. كيف ب ...
- ماذا دار خلال اجتماع ترامب وأمين عام حلف -الناتو- في فلوريدا ...
- الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ ...
- صواريخ حزب الله تقلق إسرائيل.. -ألماس- الإيرانية المستنسخة م ...
- كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نح ...
- باكستان ـ عشرات القتلى في أحداث عنف قبلي طائفي بين الشيعة وا ...
- شرطة لندن تفجّر جسما مشبوها عند محطة للقطارات
- أوستين يؤكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بالتوصل لحل دبلو ...
- زاخاروفا: -بريطانيا بؤرة للعفن المعادي لروسيا-
- مصر.. الكشف عن معبد بطلمي جديد جنوبي البلاد


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - معن الطائي - السرديات المضادة وإشكالية النموذج النظري لسرديات فرانسوا ليوتار*