نجية نميلي (أم عائشة)
الحوار المتمدن-العدد: 4542 - 2014 / 8 / 13 - 09:12
المحور:
الادب والفن
فرضت كتابة القصة القصيرة جدا غوايتها و فتنتها على كتاب و مبدعين جدد- قدامى ، و قد ساعدهم في ذلك انتشار التقنية و الوسائط الرقمية ؛ التي قدمت لهم مساحة من الحرية في الكتابة و النشر و بالتالي التفاعل مع عدد لا نهائي من القراء ، و تبادل وجهات نظر مختلفة و متنوعة حول خصوصية و فرادة هذا اللون من الإبداع ، سواء في البناء أم التأثير الجمالي على القراء .
إن غواية كتابة القصة القصيرة جدا، لها أسبابها الوجيهة، فمنها ما يعود إلى رغبة و قدرة الكتاب على مزاولة الكتابة وفق هذا النمط من الإبداع، و منها ما يرجع إلى عوامل موضوعية. و مثلما يغوي هذا النمط من الإبداع كتابها و مبدعيها ، تغوي القراء بقراءتها و الانشداد إليها و الوقوع في حبائلها ، و هناك من لم تأسره بذلك . و يبين هذا التأثير الساحر للقصة القصيرة تفاعل الكثير من النوادي و الروابط و المختبرات مع نصوصها و إقامة مسابقات بينهم و قراءات في تجاربها .
في سياق التفاعل مع نصوص قصصية قصيرة، و استجابة لجذوة الغواية و الإغراء الذي تمارسه على القراء، نحاول في هذه القراءة لقصة سفر، أن نسافر في تضاريس غوايتها.
1 – في المتن :
سفر
اشتد به اليأس ، تناثرت أفكاره على شاطئ البحر ، لامست أمواجه إحداها ، تركت الباقي مع آثار أقدام .
2 – في الإخراج السردي :
من شروط انبناء القصة القصيرة جدا الكثافة أو الاقتضاب ، و تجنب الاستطراد أو الإسهاب ، في تنظيم الأحداث و ترتيبها ، دون أن نغفل مسألة التزمين و التفضية و بناء الشخصية . كل ذلك في مسار كثيف كثافة الخاطرة أو البارقة ، حيث الاحتكام إلى الاقتصاد في البناء دون الوقوع في الإخلال أو ما شابهه . لدينا في القصة موضوع التحليل المسار السردي التالي:
1 – اشتداد اليأس
2 – شتات الأفكار
3 – التقاط واحدة
4- ترك الباقي
هكذا كان الإخراج السردي موغلا في الاقتصاد ، و وفيا للاقتضاب :اليأس ---------------- التشتت في الأفكار ------------ التقاط الموج فكرة
و كأن اشتداد اليأس علامة على نضج الأفكار و بداية طرحها استعدادا لنضج أخرى . وثيرة السرد سريعة جدا ، لا يمكن قياس الزمن فيها بشكل بطيء ، لكن يمكن قياس ذلك قبلا ، أي قبل أن تنضج الأفكار على نار و جمر اليأس . هذا النمط من الإخراج للعالم السردي يخالف الإخراج السردي في النصوص التقليدية التي تتسم بالتمطيط و التنويع و القابلية للانفتاح على مسارات أو سيرورات مغايرة . مما يفرض على القراء أن يتمتعوا بالتقاط أكبر عدد ممكن من الأحداث في لقطة واحدة أو مشهد سريع الانتهاء .
2 – في التأويل الدلالي :
تتخذ القصة من ثيمة اليأس حدثا محوريا لها ، و كأنه هو الفاعل الأساسي في انفتاح النص و انتهائه ، و ذلك لخطورته و ديناميته في التحكم في الحقل العاطفي لليائس ، حيث اليأس شعور يصيب الإنسان كدليل على فقدان الأمل في تحقيق أمر ما ، و هو نقيض الرجاء ، فاليائس هنا في النص شخص عجز كليا عن تحقيق رهاناته ، و تنزيل أحلامه من العلياء إلى البسيطة .، و الإنسان عامة تعترضه مشاكل و أزمات كثيرة ، فينتصر على البعض و يفشل في غلبة البعض الآخر ، قد تكون مشاكل مادية أو عاطفية أو اجتماعية .. و قد تتراكم من أزمة بسيطة إلى أن تغدو أزمة كبيرة كأداء. و الفشل في تجاوزها و إيجاد حل لها يبين عمق الضعف و غوره. و قد يصاحب ذلك أعراض مثل التشاؤم و الرؤية السلبية و العدمية للأشياء ، حيث لم تعد الدنيا بألوانها القوس قزحية ، بل هي لون واحد لا غير ، السواد القاتم الكالح الفاحم . و إذا وصل الفرد أمام أزمة ما إلى هذه العتبة، سيجني حتما اليأس و الإحباط. و بالتالي تصبح مواجهة الأزمة بعيدة كل البعد عن مقدرته. و تتضاعف الأزمة لدى اليائس عندما يغدو ذلك ضغطا شبه يومي،. و إذا كان الأمر كذلك ، فالانتحار هو النتيجة المرتقبة و القريبة جدا منه . و تتميز الحياة المعاصرة بكثرة الضغوط التي يحياها الإنسان المعاصر ، أو يعاني منها : ضغوطات العمل و العلاقات الإنسانية و التحولات الاجتماعية ......و التغيرات على مستوى القيم و العواطف ....فمثلا يصل الإنسان غلى حالة اليأس عندما تواجهه أزمة قد تكون مادية أو عاطفية .... أو مرض مثلا أو فشل في الحصول على عمل ..... و كأن النص يبئر حالة اليأس التي تنتاب العديد من الفئات الاجتماعية ( شباب ، نساء ، شيوخ ) .
هناك دوما جهة ينتهي إليها اليائس ، أو تكون ما قبل النهاية له ، حيث النهاية المعتادة في تجربة اليأس عامة هي الانتحار ، أي الإقدام على الموت قبل أجله ، و كأن اليائس يستعجل الموت قبل أوانه ، لأنه يرى في ذلك حلا و إنقاذا له من أزمته . فمثلا تكون النوافذ هي آخر ما يربط اليائس قبل انتحاره بالعالم ، أو بعض السوائل ، أو بعض الأزهار التي يستنشقها ، أو الماء .أو بعض الأدوية مثلا ، و هنا في النص ، كان شاطئ البحر آخر عازل و فاصل بين اليائس و الموت أو الانتهاء ، أي الخروج من حالة اليأس إلى حالة الغياب . يقول السارد : تناثرت أفكاره على شاطئ البحر . و هو هنا لرمزيته على العمق و الشساعة و الاتساع . قد يكون البحر عائقا أمام اليائس للوصول إلى حالة الرجاء و الأمل ، لكن لخطورته لم يتمكن من تجاوزه ، و البحر في الواقع عائق و حائل أمام الحالمين بعالم مغاير و بحياة الرفاه و الرغد ، في الضفة الأخرى . البحر حاجز أما أحلام الشباب في تحقيق آمالهم و أمنياتهم ، بعد أن عانوا كثيرا ظروف الفقر و ضيق اليد و حسرة الحاجة . البحر حاجز أما الأحلام التي يحكي لنا عنها المهاجرون ، و تصورها لنا الأفلام و تنسجها لنا المسلسلات .... بهذه الصورة يكون البحر محطة نهاية اليائس :
منبع اليأس ----------- الواقع الاجتماعي أو المادي للشخص اليائس .
نهاية اليأس ------------------- البحر .
البحر هنا في النص يلعب دورا مزدوجا ، قد يكون بداية لحياة جديدة ، عنوانها الأمل و الرجاء ، و قد يكون بداية لما بعد الموت .
يبن البحر كنهاية لليائس عزلته و وحدانيته، و كلما كان اليائس معزولا وحيدا كانت نهايته قاسية، و محنته مضاعفة، مما يعجل بالنهاية المأساوية ( الانتحار ). و نلاحظ أن القصة هنا ضاعفت من مأساوية البطل، حيث جعلته وحيدا يواجه مصيره معتقدا أن الموت هو الحل الأنسب لأزمته.
3 مفارقة النص :
تشيد النصوص دلالاتها عبر ما تسمح به المفارقة كبعد بلاغي و أسلوبي ، و النصوص القصصية القصيرة جدا تبني دلالتها من خلال هاته الوسيلة ، و بالعودة إلى النص ، نلاحظ أن المفارقة تبدأ من العنوان ، الذي يحتمل دلالات متباينة، فالسفر الكنس ، و المسفرة المكنسة أي الكشف و الكشط ، و السفير ما سقط من أوراق الشجر . و السفر خلاف الحضر ، لما فيه من ذهاب و مجيء . و المسافر يسفر عن خلقه و سلوكه و عن أرومته لمن سافر عندهم أو معهم . و سفرت المرأة وجهها إذا كشفته .... و دائرة المعاني لمادة " سفر " تقترن بالبيان و الجلاء و الكشف و الصلح ..... و كأن اليائس في النص بعد أن اشتد به الأمر التجأ إلى البحر ليكشف و يجلي أفكاره أو يسفر عنها ، رغبة في التحرر من ثقلها و ضغطها . و هذه عادة يفعلها كثيرون و كأن البحر مهرب يهرب إليه من مستهم لوثة اليأس ليفرغوا في شطآنه ما أثقل كاهلهم . و جثم على كلكلهم . بهذه الصورة بكون العنوان انزياحا دلاليا شيد به النص مفارقة دلالية أولى ؛ حيث يعتقد القارئ أن البطل سافر بمعنى انتقل من مكان إلى آخر ، أو من مدينة إلى أخرى أو من وطن إلى آخر ، عبر البحر ، لكن هناك فكرة الكشف و الاعتراف للبحر بما يعانيه . و تعميقا لمأساوية اليائس، أن من تعاطف مع أفكاره و حفل بها موج البحر. و يخلق هذا التأليف المفارق بين الإنساني و الطبيعي ، تركيبا جديدا ، حيث يصبح البحر يائس ثان ، اشتد به اليأس فطرح أفكاره أي أمواجه ، و التقى اليائسان معا : البحر من جهة و الشخص من جهة ثانية . و التماثل بينهما قائم في الاضطراب و التشتت و غياب الاتزان، حيث الموج دليل ذلك عند البحر، و شتات الأفكار أمارة الاضطراب عند اليائس. و تكشف النهاية المفارقة للنص هشاشة الإنسان خاصة في حالة اليأس ، إذ أخذت فكرة الحياة و تركت ما دونها من أفكار أخرى ، أو أحلام و تأملات كانت تراود اليائس ، صحبة آثار أقدامه ، لكن الأثر الغائب هو أثر الحياة ، لأن الموج / الماء يمحو و يدرس ، فكيف للموج أن محا أثر الحياة و ترك أثر الموت ؟
تركيب :
كشف هذا النص القصير من حيث البناء ، و الكثيف من حيث الدلالة ، عن هشاشة من طوقهم اليأس و ران على قلوبهم ، فجعل منهم قرابين للموت ، يفارقون الحياة قبل الأوان ، ليس زهدا فيها ، و ليس تمردا على جبروتها ، و لكن ضعفا أمام أزماتها ، و كلما كانت الأزمات أكبر من الذات ، كانت المأساة أعمق و لا سيما في حالات اليأس . هذه قراءة / استجابة لغواية النص ، نأمل أن تكون قد أنارت بعض عتماته و كشفت عن بعض أسرار غوايته
17 – 05 – 2014
#نجية_نميلي_(أم_عائشة) (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟