|
حين يريق المثقف ماء وجهه: ظاهرة التكسب الثقافي أنموذجاً
إبراهيم اليوسف
الحوار المتمدن-العدد: 4529 - 2014 / 7 / 31 - 14:42
المحور:
الادب والفن
حين يريق المثقف ماء وجهه: ظاهرة التكسب الثقافي أنموذجاً
يعود الجذر اللغوي لكلمة"التكسب" إلى الفعل الثلاثي" كسب"، والكسب النيل، وقد يتحول الفعل نفسه إلى رباعي، بتشديد"السين" فيؤدي المعنى ذاته، بينما تجيء صياغة الفعل على وزن" تفعل" لتدل على القيام بالفعل، و قوة حدوثه، بل وكثرة وقوعه، في آن، وهو في امتداده الاصطلاحي يذهب أبعد مما هو معجمي، لاسيما عندما تكون هناك العلاقة بين طرفين، أحدهما معطٍ، والآخرمستعطٍ، ليكون هناك المعنى الدلالي للتكسب، مقابل الاسترزاق، وإن كانت صيغة" الاستكتساب" غيرمستخدمة معجمياً. وإذا كان مصطلح" التكسب" قد شاع على أيدي عدد من الشعراء عبرالتاريخ، وله جذوره التاريخية التي تعود إلى قرون طويلة، ماجعلنا نكون أمام ماسمي ب" أدب الكدية"الذي تناوله أبوعمرو الجاحظ، عبرحديثه عن" أدب الشحاذين"، حيث يتجاوزالتسول في مفهوم الكدية إلى درجة الاستجداء.
وفي الحقيقة، ثمة فرق بين كل من" التكسب" المذموم، وهو الذي يتم عبر أدواته المعينة، إذ يسترزق صاحبه من خلال بضاعته الكتابية، بيد أنه لا ينزل إلى مهاوي" الكدية" التي يراق خلالها "ماء وجه" صاحبها، بل يتم خلالها الإساءة إلى صورة الشاعر-تحديداً- باعتبار أن "الشعر" هو من يتم تسليعه، وتحويله إلى أداة"برسم البيع- لدى هذه الشخصية أوتلك، وهم-عادة- من الوجوه ذات الحضور الاجتماعي، أو السلطوي، أوقد تكون من عداد من هم ميسورون اقتصادياً.
وقد رصد النقد العربي أسماء شعراء التكسب، عبرالتاريخ، حيث لكل منهم حكاياته، وقصصه، وطرائقه، وموهبته في استدراج ممدوحه، والإيقاع به، وإدخاله في دائرة الحرج، وابتزازه، حيث يعمل على مستويين: أحدهما، تحقيق مايصبو إليه، والحصول على مرامه من المال، وثانيهما تبخيس قيمة الشعر، وتشويه صورته، والقيمة الرمزية لمنتجه، لدرجة أن هناك من ينحدر إلى مستوى الكتابة من أجل مائدة عامرة، أو مايملأ بطنه، عبرالوجه الآخر غيرالحميد لمفهوم الصعلكة.
وفي ما لو توقفنا عند هذه المفردات الرئيسة التي تم عرضها، عبرهذه المقدمة السريعة، لوجدنا أن الأداة الرئيسة التي تمت المقايضة، والمساومة عليها، هي: القصيدة، ما جعل الكثيرمن النقاد يرون أن أية قصيدة مديح، يقدمها صاحبها-مهما علت قامته الإبداعية حيث هناك شعراء كبارعبرالتاريخ في هذا المجال- غرضه من ورائها الكسب، بأشكاله، ولو المعنوي منها، فإن لاعلاقة لها بالإبداع، بل إنها لاتحقق الشرط الشعري، لأنها كتبت تحت وطأة دافع عرضي زائل، لاشأن له.
و فضاء الشعر،هنا، هوالمجال الحيوي- باللغة العلمية أوالجغرافية، لظاهرة الكدية، وإن كان السرد، يأتي-تالياً- وقد ظهر ذلك من خلال قيام الناثر، الباحث، أو واضع الكتاب، الديواني، وغير الديواني، بتقديم مؤلفه لأحد الأعيان، وأصحاب المال، أو السطوة، عسى أن يتكسب به، ما أمكن من مال، أو حظوة، بيد أن استساغة ما يقوم به الأخير، لم تتم إلا من قبل من يدرك أهمية ما هو مكنون بين دفتي هذه المدونة أوتلك، أي من قبل: العين-جمعه أعيان وهومأخوذ من القول الوصفي المعروف" فلان عين في قومه"، بيد أن تقبل"سلعة" الشاعر، تتم من قبل العوام، صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، حيث يكاد ألايوجد من لا يدغدغ إطراء الشاعر له، لاسيما عندما يكون هذا الأخير ذا مراس وخبرة وحضور إبداعي.
ثمة دوافع كثيرة لظاهرة التكسب- وهي الشكل الأقل سوءاً مقارنة بسواها من أساليب الابتزاز الثقافي- تأتي في مطلعها حاجة المبدع إلى تأمين أسباب العيش، أو بغرض مد اليد للخروج من محنة تعرض لها، سواء أكانت سجناً، أو مرضاً، أوبحثاً عن وظيفة، وقد تكون نتيجة طمع أو جشع، لتكسب المزيد من المال أو المنزلة، ولكل من هذه الحالات طريقة تقويمها، وفق المعيارالأخلاقي، وإن كان شعار" تموت الحرة ولاتأكل بثدييها" معمماً لدى المبدع الذي يحرص على اسمه، وإبداعه، فما أكثر هؤلاء الذين آثروا أن يواجهوا شظف العيش، وضنك الحياة، بل وعرضوا أنفسهم لمصائر أليمة، من دون تقديم أي تنازل، ومن دون أي تخاذل، أو استسلام أمام المصاعب، والأهوال، والشدائد، والمحن، مهما كانت جسيمة.
ويروى عن أحد الشعراء أن طاغية متجبراً متشاعراً قد سجنه، لأنه استتفه ماكتبه، فرماه في قعر بئر، بيد أنه بعد مرور عام على عقابه، طلب ممن حوله أن يأتوا به، بعد أن يحمموه، ويلبسوه أفضل الملابس، ويكرموه أحسن تكريم، ويقدموا له أفضل أنواع الطعام والشراب، ولما صاربين يديه، قال له هذا المتشاعر مامعناه: بني، أقدر صراحتك، وجرأتك، فقد أعدت النظر في ما أكتبه من شعر، وتبين لي أنك محقاً في ما قومت به من قصائدي القديمة، فها قد كتبت أشعاراً جديدة، تداركت فيها عيوب قصائدي السابقة، فما كان ممن حوله من حاشيته إلا أن بدأوا يظهرون علامات الإطراء والطرب والإعجاب، وهم يسمعون سيدهم يقرأ قصائده، وما إن انتهى الرجل من قراءة ما في جعبته، سأله: والآن، أيها الشاعر، ماذا تقول في ما كتبت، فقال له: مولاي أعدني إلى الجب.
ومع انتشار وسائل النشر، بات هذا النمط الارتزاقي جد كثير، لاسيما أن الأمر لم يعد في حدود إطار الشعر أو السرد، لأن وسائل الاتصالات الهائلة باتت في متناول الناس، وثمة من لا يفلح في كتابة عنوان مقال يسميه افتتاحياً، قد يخطىء فيه، بات في إمكانه مطاولة مستوى من لهم باع في مجال خدمة أهلهم، بعد أن يتم توجيههم، للإساءة إليهم، من قبل هذه السلطة أوتلك، ثقافية كانت أو سياسية، وهو أنموذج متهتك، يستطيع أن يغير قناعاته خلال شريط زمني مرئي لايتعدى السنة الواحدة، أو السنتين، أكثرمن مرة، وذلك بعد أن يستشعر منفعة أكبر، وهوأنموذج متهتك، مباع، ورخيص، متجرد من القيم والأخلاق، لايستقر على حال، فهو ما إن يكن أداة في يدي طرف ما، حتى سرعان ما ينقلب عليها، أنى استشعر زوال منافعه الواقعية أو الافتراضية.
نحن الآن، أمام خطرحقيق، محدق بالمشهد الثقافي، من قبل مرتزقة الكتابة العابرين، الذين لايمكن لهم أن يفلحوا في مهماتهم، إلا بعد أن تستكمل شروط انتعاش فيروساتهم، المدمرة، إذ لابد من إماطة اللثام عن وجوههم المقنعة، وإظهار سوء طواياها، بل وسمومها، ووضعها على مجاهر التشريح، لأن هؤلاء شرمستطير، وداء فتاك، من شأنه نسف المنظومة القيمية في مجتمعاتنا، والانقضاض على كل ماهوأصيل وجمالي، لاسيما عندما تم اعتمادهم- كبطانة- في بعض المواقع المسؤولة، رغم أن لا أوراق اعتماد من قبلهم تؤهلهم لتقديم ماهو منفعي لمجتمعاتهم، لاسيما في ما يخص سمة التضحية التي يجب أن يتحلى بها المبدع، حتى ولو كان ذلك على حساب حياته، ولعلنا عارفون أن شاعراً كأبي الطيب المتنبي- رغم ما يمكن أن نسجله عليه في هذا المقام وهومالىء الدنيا، وشاغل الناس، قد دفع حياته رخيصة، من أجل بيت من الشعر، عندما واجهه فاتك الأزدي وأصحابه في ديرعاقول وكان قد توعده لتناوله شقيقته في قصيدة له عندما هجا ولدها، فهم بالفراربيد أن مرافقه وخادمه مفلح قال له، أولست القائل:" الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم فرد عليه، ويحك، لقد قتلتني قتلك الله، يابن اللخناء...! ظروف حالة الحرب المشتعلة، باتت تظهرجيشاً هلامياً، مرتزقاً، ممن لاعلاقة لهم بالكتابة، بيدأنهم باتوا يظهرون في عوالمها، لاسيما أنها لم تعد تتطلب الموهبة، بل ولا إمكانات الكتابة، و لا حتى الثقافة، أو المهنية، مادامت المدونة الإلكترونية باتت في متناول أي امرىء من مليارات العالم السبعة، وصارفي إمكانه-وفي ظل غياب القانون، والمحاسبة، أن يشتم أي طود شاهق، أو أي رمز ثقافي أوسياسي، مرموقين، مادام أنه مستظهر بمن يسانده، ويدفع له، وهوشأن أصحاب الأقلام المكتراة الذين باتوا يظهرون في كل مكان، وهوتهديد جدي لقدسية الكلمة، وعراقتها، وشرفها، بل هي تتفاعل مع الحالة المستنقعية الآسنة تنفث سمومها في الجهات كافة.
أجل، ما انحدرنا إليه- الآن- من مناخ مكربن، خانق، بات يفرز بيادقه المكتراة، تتوجه إما عبر الريمونت كونترول، أوعبرأصابع من يمكن وصفه ب" كبيرهم الذي علمهم السحر"، وهو-عادة- امرؤ هامل خمول، ينضح بالحقد على كل من حوله، لأن من يغرق في حب ذاته، لا يمكن أن يستوعب سواه، مادام أن وجوده يحد من أوهام تضخم ذاته، نهاز فرص، ممالق، وبائي، كارثي، جرثومي، عديم إمكان الظهورعندما تكون هناك أية مواجهة، هاجسه الانحياز إلى الأقوى، لذلك فهو يفتقد الروادع والأخلاق، يستطيع أن يبدع أحاجيجه، يسوقها، مهما كانت متناقضة مع الإطارالرؤيوي الذي قدم به نفسه في ماقبل.
#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماراثون الفوضى
-
الكاتب وعودة الوعي: توفيق الحكيم أنموذجاً
-
العيد الذي ينساه أطفالنا:
-
الفيلسوف عبدالرحمن بدوي من الوجودية إلى-اللاوجودية-..!
-
صندوق الدنيا
-
من يقرؤنا؟
-
تنبأ ب-الثورة- وبشربها ووقف محايداً حين بدأت أدهم الملا سرقه
...
-
أمكنة الشعر
-
برقية في ذكرى استشهاد المفكرالكردي د. عبدالرحمن قاسملو
-
مابعد العبث:
-
فوضى العماء:
-
تحت جناحي عامودا.....!
-
مارس دوره التنويري على أكمل وجه المفكرالكويتي خلدون النقيب أ
...
-
ارجومنكم نشرهذه بدلا عن المنشورة وشكرا
-
داعش ترحب بكم.....!:
-
أستعيدُ أبي......!
-
وحدة الخير وحدة الشر
-
طفرة داعش: الواقع والآفاق
-
بعد أن طرق بوابات الكرد بيده الملطخة بالعار والدم هل تكون كر
...
-
ميشيل فوكو ثلاثون عاماً على الرحيل
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|