عبدالماجد عبدالرحمن الحبوب
الحوار المتمدن-العدد: 4510 - 2014 / 7 / 12 - 08:01
المحور:
الادب والفن
محاولة لإلتقاط نثار أنس مصطفى: الأبيض مجالاً فسيحاً للتحقق الشعري
د. عبدالماجد عبدالرحمن الحبوب
-أغسطس
المدينةُ ذاتها،
الله
القهوةُ في مكانها،
والأشياءُ بلا منال..
-لماذا انفتحتُ عليكِ دروباً ولم تسلكيني؟
** في أول مجموعة شعرية له يبدو أنس مصطفى محققاً بدرجة متميزة لمقولةِ الناقد ومحلل الخطاب الإنجليزي قاي كوك من أن وظيفة الخطاب الأدبي المركزية تتجه في كونه لا يقول فكراً أو حقائق ولكنه يجعلنا نكتشف الأشياء مرةً أخرى ونرى العالم مختلفاً ومغايراً (الخطاب والأدب، 1994م). وفي سعيه لبناء هذا العالم المختلف لامس الشاعر المناطق المركزية في خطاب قصيدة النثر، هنا يحاول أنس إنتاج دلالاته من خلال نصوصٍ تجعل المعنى متحركاً باستمرار في البحث عن المعنى إذ البحث عن المعنى يمسي هو ذاته المعنى.
-كم أخَّاذ/أن تكون وحيداً/و ح ي د اً تماماً/في الظلمةِ الشاسعة/حولك الأضواء/والشوارعُ المهملة/مفضوحةٌ كعراء/وأنتَ المتروك حزيناً/في وطنٍ مسفوح/ توجعنا بناياتِك.
ولكن هذا البحث الدائم ليس خاوياً تماماً بل يحقق تشكله عبر هذا النمو.
-ثم توشك أن تبوح،
لكنك لا تفعلها
أبداً..
ثم تنمو حدَّ إمتلاءنا..
وضمن هذا البحث الذي يجعل المعنى سائلاً تبدو نصوص الديوان مثقلةٌ بالغياب، غياب العزيز/ الصديق/ الحبيبة/ الوطن، هو غيابٌ مؤلمٌ وماتعٌ ولذيذ وعلينا أن لا نكفَّ أبداً عن البحث الدائم عن هذا الشيء الغائب:
-وإنتظرتها
(طوال مدينة)
بغواية حلم،
الخضراء تنسى أنَّها الخضراء..
ويبدو هذا المبحوث عنه (غريباً) لدرجةِ حاجته لغوياً لإنحرافاتٍ على مستوى دلالة المفردات، ومن ذلك إنتهاك قانون المترادفات والمصاحبات (الرفقة اللغوية): (طوال مدينة)، (بملامح، وقليلٌ جداً)، (بوطنٍ فادح)، (الظلمة الشاسعة)، (حطام الضوء)، (كحزنٍ جسور)، (قصاصات الكلام).
إن غرابة وسيولة الذي تبحث عنه هذه النصوص الموسومة (نثار حول أبيض) تجعل كثيراً من هذه الخروقات والإنحرافات التركيبية والدلالية (مبررة) بل ضرورية أحياناً:
-السَّوادُ هنا،
أسودٌ وفسيح..
الحطَّابون
يقلمون نوافذ المدينة،
للإمساك بنور..
وأنا قادمٌ إليكِ
في الحافلاتِ الأخيرة،
بملامح،
وقليلٌ جداً..
لكنَّ السكَّة،
والوقتُ تأخَّر،
لكنَّ الحنين..
كم تقربينَ إذاً..؟
ويصبح هذا التكرار غير الممل منتجاً بدرجة كبيرة:
-كأنَّ الخسارات لم تكف أبداً لإشهار خسارة. وفي مقطع آخر نقرأ:
-هو الحزنُ ينزلُ عند المغارب،
يجتازُ سرَّاً نواحي المدينة،
كأنَّ المكانَ هروبُ المكان،
كأنَّ البيوت إنحسار البيوت،
كأنَّك أنتِ تمامُ الحبيبة..
تقولينَ
ثمَّة ما قد أضاء،
ما سوف يخبو،
تقولينَ
ثمَّة
هذا
الغياب..
وفي مقطع آخر:- فخلف الدروبِ سراب الدروب/ وكل وصولٍ غيابٌ جديد
ولكن نشير إلى الشاعر أن ينتبه إلى صياغته اللغوية إذ ليس كلها إنحرافات من النوع المبرر أو المطلوب إبداعياً: (كم مرَّةً تستدينُ بلاداً وناس/أثمة صوت له طعم مريم؟ أثمة مريم؟/ كان مساء، كان خريف، تتذكَّر..).
** في سعيها لتوسيع رقعتها الدلالية تتخذ نصوص الديوان من رمزية اللون الأبيض بإحالاته الممتدة مع عملية (الكتابة) ذاتها مجالاً عريضاً للتحقق الشعري:
-في زمانٍ آخر/نسمِّيهِ زماناً ما/ غارقاً في البياض/ البياض الفسيح.
هذا البياضُ الآسرُ الفسيح يمنح الشاعر أرضاً (ميري) للحركة والغوص في التفاصيل المؤلمة والمضيئة في الوقت ذاته:
-لكنَّ الأبيض فيها لازال يأسرني/لا يخبو أبداً/تمنح كل التفاصيل الصغيرة جدواها/ حتى الألم حين تلامسه يضيء/كانت دائماً بنكهة المطر:
**ميتا تناص Meta-texuality
الميتا-تناص (الإنعكاس) هو أن يعرف الشعر أن يقول النص شيئاً ما عن نفسه:
كيف النصوصُ
مرهقةٌ بالكنايات
ولا تقولنا أبداً؟
وفي مقطعٍ آخر يقول: -مصابٌ بكِ في سرابِ النصوص/خضراءُ أنت وملء الجهات.
**تدوير اللغة:
وإذا كان الشاعر هنا قد استخدم مفرداتاً ذات إيحاءات شعرية أصلاً مثل (ربما) (قد) (ريثما) و (ثمة) فهو قد نجح أيضاً في تدوير وإعادة إستعمال اللغة اليومية السائبة كما هو شأن كثير من شعراء قصيدة النثر العربية كالماغوط وأنسي الحاج وأدونيس، وسودانياً كان المجذوب رائداً وبارعاً في إستعمال هذا التدوير للغة السائد اليومي، ويسود هذا الإتجاه الشعري بكثافة في شعرية قصائد النثر منذ إندفاق الحساسية التسعينية الجديدة–عربياً وسودانياً
** وثمة ملمحٌ آخر في شعرية أنس كما يبدو في نصوص هذا الديوان: كثرة ورود مفردة (الأغنيات) بشكلٍ دالٍ إحصائياً، وفي هذا يذكرنا بأداء شاعرين سودانيين رائعين هما عصام عيسى رجب وكمال الجزولي لكثرة موتيفاتهم الشعرية وهيامهم الباذخ (بالأغنيات)، يقول أنس:
-وخفِّف غيابك بالأغنيات..
-مضت يا حميم
فماذا تبقى ولا أغنيات..
-لو قرية مهملة/حيث لا كائنات
ترهقُ المارة بالأغنيات المتاحة.
**خاتمة:
هذه قراءة حاولنا فيها إلتقاط شاعر لا زال قيد التشكل الشعري لدى إخراجه أول الغيث (نثار حول أبيض)، وهو نثار لم يكن إلتقاطه غير مرهق ونتمنى أن يكون (رهقاً خلاقاً) على الصوغ اللغوي الباهي لأستاذنا الدكتور عبدالله علي إبراهيم، وتزعم هذه القراءة على الجملة أن أنس مصطفى الشاعر الصيدلي إضافة نوعية ومتميزة لحراكنا الشعري ضمن حساسيته الجديدة.
#عبدالماجد_عبدالرحمن_الحبوب (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟