|
مونليزا المعدان......!
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 4505 - 2014 / 7 / 7 - 03:20
المحور:
الادب والفن
قادني قدرُ الحرب لأخدم في جبهة قاطع بدرة ، المدينة الحدودية مع إيران والواقعة شرق مدينة الكوت 70 كم . وبدرة مكان غامض من تلول الاثر المليئة بالاساطير ، وفي جانبها الشمالي المقابل لمدينة مهران الايرانية يمتد حزام اخضر كثيف من بساتين النخيل والرمان فيما تتصحر بقية جهاتها من جهة ميسان والكوت ومندلي حيث تكثر مقالع الحصى والتلول الرملية والصخرية التي هي امتداد لتلال سلسلة حمرين .وأغلب سكانها من الاكراد الفيلية ، وتسقى اراضيها من السيول القادمة من منطقة سد كنجان الايراني ، وكان الماء العذب يصل الى اهل البلدة محمولا على الدواب من منطقة منصور آباد الأيرانية ، وكانت في الحكم الملكي تعتبر من أماكن النأي ويُنفى اليها من تعتقد الحكومة انه خطرٌ عليها. عرفت جغرافية المكان من خلال أسئلتي وتجوالي ، فكنت أسأل الرُعاة والعطارين وسواق السيارات ، وبائع الخضرة ، وصاحب المقهى ، حاملا خواطر أبن بطوطة في قراءة روح المدن ، ومقتديا بخاطرة للروائي الفرنسي سانت اوكزبوري وهو يكتشف أسرار الصحراء الافريقية قوله : الواحات والمدن والأماكن الجديدة تفتح شهيتنا لكتابة خواطر الاشتياق للطفولة. هو كتب روايته الرائعة ( الأمير الصغير ) بخيال تلك الامكنة وانتقل معها ليؤسس خواطر الامير واسئلته عن الحياة ولكن في مكان نائي هو القمر. وبدرة أيضا مكان نائي لكنك لاتستطيع أن تصنع حكاية لأمير آخر ، لأن المدافع حسمت الأمر وهدمت البنية التحتية لهكذا شكل من الخواطر ، وابقت لحكاية شهرزاد نافذة واحدة هي ( ذكريات الجنود والتأسي على رفاقنا في الفصيل من الذين تذبح اعناقهم الشظايا أو تخترق صدورهم رصاصات القناص ). لهذا ابقيت رؤيا اكزبوري مؤجلة للحظة نهاية الحرب عندما تحفظني تميمة أمي التي اخذتها الى شباك العباس ع .ومسحتها بضريحه ثم عملت لها خيطا مثل القلادة وقالت : أحملها على صدرك ، فهي تحمل عطر من حمى الحسين في كربلاء وستحميك حتما..! وسأعود الى ليل قريتنا القابعة في الطرف البعيد لأهوار الجبايش بأسمها الرومانسي ــ السريالي المثير ( بوسة الماي ) وتعني قبلة الماء ، ودائما عندما اذكر أسم مسقط رأسي لجنود الفصيل يضحكون بعمق صدورهم. الضحكات ومشاعر الاستغراب من الاسم الذي يعتقده بعضهم أنه يليق بقرية للاثرياء في ضواحي مدينة حضرية وليس لقرية لاتعرف في حياتها اليومية سوى مواعيد رعي قطعان الجواميس والعودة بها ، وصناعة القيمر واللبن الخائر والذهاب به الى المدينة القريبة لتبيعه امي ، ومن بعض ثمنه تجلب لنا الطحين والاعشاب الطبية والسكر والشاي ، ثم طورت تسوقها بعد ذلك لتجلب البهارات والمصقول ، وهو نوع من الحلويات اليابسة المحشوة باللوز ، ومعه دخل اللوز الى قريتنا وكان بالنسبة لي اشهى الف مرة من السمكة المشوية ولحم الثور . أول مرة في حياتي أسمع تشبيها بين الجمال والمرأة عندما سمعت أمي تقول : المعيديات خدودهن ( تنفط ) دما ، وشفايفن لوز . وأعتقد أن أمي امتلكت جمال التعبير بسبب حلوى المصقول ، الذي اسعى لشراءه دوما من حانوت سريتنا سعيا مني لاستعادة تلك الايام عندما كنت اقف مشدوها على صورة ملونة لانثى خدها مثل المصقول حرصت بيوت معظم قرى المعدان أن تضعها افتخارا بهذا الحسن الذي يحمل لقب ( بنت المعيدي ) الذي تصفه أمي بوجه اللوز والقيمر ، والذي صادفته مرة في واحد من صباحات الحرب بشكله المادي وليس التصويري عندما كنت تواقا لتناول القيمر عندما يسمح لنا رئيس عرفاء السرية بالنزول من الخطوط الامامية الى مدينة بدرة لأجل الاستحمام أو شحن بطارات جهاز اللاسلكي في مقر اللواء في المدينة . وهناك سمعت بأسم بائعة قيمر ينذهل الجنود من جمالها أسمها ( سميرة ) تبيع القيمر في سوق المدينة ، وحين سألت عنها سائق الحانوت ؟ قال : أن هذه الفاتنة تقطن في حي الجماسة في اطراف المدينة ، ولكن اصلها من مدينة الكمالية في اطراف بغداد حيث يسكن العديد من العوائل التي تربي الجواميس ويقال انهم هاجروا الى بغداد بعد تجفيف الاهوار واغلبهم من معدان محافظة العمارة. جندي مثقف من أهل الحلة بالغ في وصفها عندما سألني : هل تعرف وسمعت ببنت المعيدي ؟ قلت :نعم وصورها في كل غرفة من بيتنا . قال :سميرة تشبها تماما ، وكان الجنود المتحضرون يسمونها سميرة ، فيما الجنود ابناء الريف يسمونها ( أسميرة ) وعلي أن اسميها في داخلي بلهجة قريتنا فأضيف الالف الى بداية اسمها ، ولكني انطقها أمام الجنود بلهجة متحضرة ( سميرة ). رأيتها أول مرة جالسة امام صينية القيمر في صباح بارد ولكن شمسه مشرقة فينعكس الضوء على خدها كما ينعكس ضوء الشموع على أساور الذهب ليشعرك المشهد بشهية جمال الحواء عندما يشع بصنعة الرب وغير خاضع لمؤثرات البيئة والحضارة ومساحيق المكياج. وجه سميرة ووجه بنت المعيدي يشتركان في ملامح مونليزا من الشرق ، هكذا حملت أحساسي وانا أجمع صورة المرأتين في عيوني ، الفرق أن بنت المعيدي خضعت لأساطير كثيرها حول نشئتها وبيئتها وحياتها ، فيما سميرة تحمل سيرة واضحة ، هي ابنة لجماس أتى مهاجرا من اهوار العمارة الى بغداد ، وحين اندلعت الحرب حمل جواميسه الى منطقة بدره فسوقها رائجٌ لبيع القيمر ، لأن فرقة من الجنود ترابض فيها ، وحتما سيساعده جمال ابنته لتصريف كامل انتاج جواميسه من القيمر ، وهذا ما ظهر في انتشار خبرها وجمالها بين سائر جنود الفرقة الثانية في بدرة ، ويقال حتى قائد الفرقة كان يجيء بسيارته المظللة ليمعن النظر اليها من بعيد. يوم انتقلت الى المدينة لاتعلم ، تطورت ثقافتي وحفظت شرحا واسعا وتحليلا جماليا من مدرس التربية الفنية عن لوحة المونليزا التي رسمها ليوناردو دافنشي ، وهي اليوم واحدة من اشهر لوحات متحف اللوفر ، وحين انتهت الحرب ونلت من سفر السفن والقطارات هجرة بعيدة عن قريتنا الساحرة ( بوسة الماي ) قارنت في دهشة الوقوف أمام المونليزا الحقيقية بينها وبين نتاج المعدان من جمال الانوثة ، فشعرت بلذة ذالك الاغراء الطفولي عندما كنت اقف مرتعشا امام صورة بنت المعيدي ، وأشعر وانا في الثامنة بعاصفة من الاحاسيس الذكورية التي تنتصب معها حتى اصابع اليد ، فأتخيل تلك الرومانسية المرتعشة في خيال أن يكون هذا المصقول المحشى باللوز من حصتي عندما اكبر حيث كنت اتمنى أن يصير لدي قطيعا من الجواميس ، لكني لن اجازف بأرسال مونليزاي الى السوق لتبيع القيمر ، سأذهب لابيعه انا جملة لصاحب حانوت حتى لو بسعر أقل. سميرة بائعة القيمر في مدينة بدرة وقفت مع بنت المعيدي امام لوحة دافنشي ، وبدأت تتفاخر بسحرها : أنها اجمل من هذا الوجه المرسوم بالالوان الزيتية. وأنها تفيض دلالا وغنجا وتسحر ارتالا من صنوف الجيش والمقاتلين ، وهذه اللوحة لن تغري سوى نظرات السواح وزوار المتحف. أدمت على القيمر ، فقط لاتمتع بسحر وجه سميرة ، ومنعني كبريائي ورهبتي من جمالها أن اهمس لها أنني وهي من ذات السلالة ، وأن اجدادنا كانوا يخوضون حروبهم ضد عيلام وجيوش الاسكندر بدواب محاربة هي الجواميس ، وكانت خيول ملك مقدوميا تفر امامهم مذعورة. طقس يتكرر ، والأخيلة الثلاثة بنت المعيدي ، ومونليزا دافنشي ، وسميرة بائعة القيمر ، ظلت تشكل وقودا لرغبتي بالبقاء مع ما تمنحه تميمة امي من طمأنينة الى قلبي من أن الحرب سوف لن تمسني بأذاها . وكم تمنيت أن احمل سميرة من تلك القرفصاء في الصباح البارد واطلبها عروسا واذهب بها الى قريتنا ( بوسة الماء ) وحتما حين يراها أهل القرية سوف ينتزعون من الجدران صورة بنت المعيدي ، إذ لاحاجة لهم فيها مع هذا الجمال الساحر القادم ليعيش بينهم بشحمه ولحمه وليس صورة على الجدار. وفي يوم ما دفعني شغفي بهذا الجمال لأطلب ساعتيَ نزول الى بدره من عريف الفصيل والذهاب الى سميرة لكي اخبرها برغبتي لتكون زوجتي مادمنا نحن من سلالة واحدة. وصلت الى مكان جلستها فلم تكن موجودة ، فقط بعض من الجنود المتجمعين .وشيخ يشماغه على رأسه وعصاه الغليضة التي تشبه العصا التي يقود فيها المعدان قطعان جواميسهم وهو ينتحب مثل طفل. سألت عن سبب نحيب الرجل . قال لي أحد الجنود :أنه ينتحب من اجل ابنته سميرة. صحت بصوت عال ومفزوع : ماتت ..؟ قال : كلا . بل هربت مع احد الجنود وقد أُغرمتْ فيه ، وقررا الهروب متخفين بسيارة الارزاق الى الجبهات الامامية ، وفي الليل انسلا عبر ثغرة حقل الالغام وهربا معا الى الجانب الايراني...!
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يوسف ( ع ) ، آية في الثكنة وليل الأهوار.....!
-
شيء من التصوف المندائي....!
-
النبي موسى ( ع ) ومعدان أهوار سيناء.!
-
أحلام ليل الفخاتي ....!
-
الاميرة السومرية الرسامة ( بتول آبي الفكيكي )
-
كالكسي ( 5 ) وآي فون( 5 ) وصريفة* .......!
-
أساطير الجفجير.....!
-
السنونو هذا الطائر الشيوعي .....!
-
طيري ياطياره طيري ...!
-
المِعدان يعشقونَ أيطاليا وصوفيا لورين...........!
-
( الموت بالخازوق فقراً ومنفى )
-
داعش لاتشبه مراكش ..ولا تشبه العش ..
-
فاجينتي مالا.. اللون الأحمر والعنبر ..!
-
الناصرية.. شهيدٌ من دير متي والزقورة وبطن الحوت..!
-
خوذة الله وخوذة العباس.وخوذة الجندي المنكسر ..!
-
الناصرية تبكي من أجل نينوى ..!
-
ملاكٌ على شكل قصيدةٍ ونهدْ.......!
-
النشيد التأريخي لمعدان باريس
-
الله وروح الشاعر والرسام والموسيقي والصائغ..!
-
أحتمالات الغيب في شهوة الكأس
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|