|
الكاتب الداهية
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4504 - 2014 / 7 / 6 - 16:03
المحور:
الادب والفن
سألني الصحفيُّ، في حوار لجريدة “القدس العربي”: “مَن هو الكاتبُ الداهية؟” وأدركتُ أنه يشير إلى النعت الذي وصفتُ به الروائي الأمريكي “فيليب روث” في مقدمتي لروايته “الوصمة البشرية”، التي ترجمتُها للعربية وصدرت قبل عامين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز، فيما يربو على 800 صفحة. فأجبته بما عنَّ لي، ثم قررتُ أن أكمل إجابة السؤال في مقال، أعلم سلفًا أنه سيكون غير مكتمل أيضًا!! كلُّ كاتب يستطيع أن ينتزع منك، وأنت تقرأه، كلمة: يا إلهي! - الله! كيف هذا بحق السماء!- لعنة الله عليك!” وسواها من صيحات الدهشة، أو الاستنكار، هو بالضرورة كاتبٌ داهية. كل روائي ينتصر عليك فيهزمك ويجعلك تبكي أو تضحك أو تترك الكتاب وتفكر، أو تشرد في سقف الغرفة، هو بالضرورة كاتبٌ داهية. كل شاعر يجعلك ترى الأشياء مختلفة بعد قراءة قصيدته، عما كانت عليه تلك الأشياء قبل القراءة، هو بالضرورة كاتبٌ داهية. كل أديب يجعلك تسأل: كيف بنى الرجل هذه الجملة، أو كيف التقط هذه الفكرة، هو بالضرورة كاتبٌ "داهية. الكتابةُ فعلٌ عسِرٌ. نبوءة. استشرافٌ للغيب. رسالةٌ غيرُ سماوية يكتبها إنسانٌ راءٍ شاهد وسمع ما لم يره سواه ولا سمعه. أما فيما عدا هذا، فمحضُ كتابات عابرة، يكتبها عابرون، ويمضون، دون أن يشعر أحدٌ بهم أو بما كتبوا. قال نزار قباني مرّة: “إن لم تستطع أن تكون مدهشًا، فإياك أن تتحرش بورق الكتابة”. ولو اعتمدنا هذه العبارة “المدهشة” معيارًا وقانونًا، فانظروا كم من الكتّاب سيدخلون في زمرة “المتحرشين” بالورق الأبيض! تشيكوف، كاتبٌ داهية، حين يحكي لنا عن الحوذي الذي مضى يومَه يبحث عن أُذن تُصغي لقصة ابنه الذي مات. فرجينيا وولف كتابةٌ داهية حين تحكي لنا عن بقعة صغيرة على زجاج نافذة قطار تحاول سيدة مسافرة مجهولة الاسم أن تمحوها بقفازها كأنما تمحو خطيئة قديمة ارتكبتها وتريد ألا يراها الله الذي يراقبُها من فوق غيمة يجلس حاملا صولجان الحكم مثل ملك عجوز. أو وهي تحكي عن الفستان البشع الذي ارتدته في الحفل وهي تظن أنه ساحرٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌ، فجلب سخرية النساء. فراحت تنظر إليهم وإلى نفسها فكان الجميع حفنة من الذباب تتحلّق حول صحن من العسل قبل أن تسقط الذبابات في أسر لزوجة العسل ولا يستطعن فكاكًا. بشارة الخوري كان داهية حين قال: “لو مرَّ سيفٌ بيننا لم نكن نعلم هل أجرى دمي أم دمك”. إبراهيم أصلان كاتبٌ داهية وهو يحكي لنا عن قطرة من عصير الليمون تسقط على جانب شفاه رجل تحت الإغماء ويحاول أن يلتقطها بطرف لسانه فلا يقدر. نزار قباني داهية حين يصف ارتباك المرأة بين ذراعي حبيبها إذ يراقصها فلا تعرف ماذا تفعل بذراعيها وأين تضعهما بحيث لا تبين لهفتها ولا يختفي حياؤها؛ فتقول: “وحيرتني ذراعي أين ألقيها”، وكان داهية حين لخّص محنة مجتمع فقال: “تطلبين مني، توصيةً للبحر
-;---;--حتى يجعلكِ سمكة/
-;---;--وتوصيةً للعصافير
-;---;--حتى تعلمك الحرية/ حتى يعترف بأنك امرأة/
-;---;--حتى يؤجل موعد ذبحك”. ابن الفارض شاعرٌ داهية حين يقول مناجيًّا رب العزة: “أحبُّك حبّين، حب الهوى، وحبًّا لأنك أهلٌ لذاك.” بلقيس، ملكة سبأ، امرأة داهية حين تنظر إلى عرشها الذي جاء به جند الملك سليمان، وسألها: “أهذا عرشُكِ؟”، فقالت: “كأنه هو!”، جملة شديدة الدهاء، فلا العرش هو، ولا ليس هو، حيث يشبه عرشَها في هيكله بينما تبدّلت أحجاره الكريمة على ألوانها. الحلاج حين يصف حلوله في الذات العُليا: “أنا مَن أهوى/ ومَن أهوى أنا/ نحن روحان حللنا بدنا” كان شاعرًا صوفيًّا داهية. أحمد عبد المعطي حجازي حين قال: “هذا الزحامُ، لا أحد!” كان شاعرًا داهية. دانتي إذ يقول في الكوميديا الإلهية في فصل “المطهر” بالقصيدة السادسة عشر: "إذا كان العالم الحالي منحرفاً وضالاً فابحثوا عن السبب في أنفسكم" كان كاتبًا داهية. شربل بعيني، الشاعر اللبناني، حين قال: “الشعراءُ يتنفسّون برئة واحدة. إن تألّم أحدُهم، تألّم الجميع" كان شاعرًا داهية. “لا تقاوموا الشرَّ بالشر، بل قاوموا الشرَّ بالخير”، “انصرْ أخاك ظالمًا بأن تردّه عن ظلمه” مقولتان داهيتان للسيد المسيح وللرسول محمد عليهما السلام. تشارل ديجول حين قال: “المقابرُ مليئة برجال لا غنى عنهم” كان سياسيًّا داهية. علي بن أبي طالب حين قال:“حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق” أو “لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه” كان خليفةً داهية. وحين قال جون دافيس: "جميعكم تضحكون عليّ لأنني مختلف. وأنا أضحك عليكم لأنكم متشابهون" كان فيلسوفًا داهية. وحين قال إيميل زولا: "إن أخرستَ الحقيقة ودفنتها تحت الأرض، سوف تنمو وتُنبت" كان كاتبًا داهية. أما الذي قال: “إني لأعجبُ كيف يمكن أن يخون الخائنون!/ أيخونُ إنسانٌ بلاده؟!/ إن خان معنى أن يكون/ فكيف يمكن أن يكون؟!” فكان داهية اسمه بدر شاكر السياب. ووأخيرًا، ليت لي مساحة مقال بألف صفحة لأعدد دواهي الكتّاب، ويكتمل مقالي الناقصُ هذا!
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المجد للنباتيين يا آكلي اللحوم
-
الفئران أول من يشعر بالخطر فتغادر السفينة قفزاً في الماء، يل
...
-
متى ينام إبراهيم محلب؟
-
ثاني رمضان، بلا إخوان
-
المايسترو
-
المتحرشون لم يفسدوا فرحتنا
-
وجدي الحكيم، وحلم لم يكتمل
-
الروث في مياه الشرب!
-
أحمر باهت
-
العذراء، وشمس الدين التبريزي
-
المحاكمة داخل الكهف
-
-فتحية العسال- وحصان عم محمد
-
انتخبت بدمائها وطفلة تغني
-
الخطاب الديني والتحرش، يا ريّس!!!!
-
حكيم عيون
-
بيان مهم من الكاتبة فاطمة ناعوت
-
النور يعيد السيدة العجوز
-
اليومَ إكليلُ الجميلة
-
الصخرة والسراويل الساقطة
-
نوبل السلام لأقباط مصر
المزيد.....
-
وصف مصر: كنز نابليون العلمي الذي كشف أسرار الفراعنة
-
سوريا.. انتفاضة طلابية و-جلسة سرية- في المعهد العالي للفنون
...
-
العراق.. نقابة الفنانين تتخذ عدة إجراءات ضد فنانة شهيرة بينه
...
-
إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025
...
-
بينالي الفنون الإسلامية : مخطوطات نادرة في منتدى المدار
-
ذكريات عمّان على الجدران.. أكثر من ألف -آرمة- تؤرخ نشأة مجتم
...
-
سباق سيارات بين صخور العلا بالسعودية؟ فنانة تتخيل كيف سيبدو
...
-
معرض 1-54 في مراكش: منصة عالمية للفنانين الأفارقة
-
الكويتية نجمة إدريس تفوز بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربي
...
-
-نيويورك تايمز-: تغير موقف الولايات المتحدة تجاه أوروبا يشبه
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|