عبدالزهرة حسن حسب
الحوار المتمدن-العدد: 4498 - 2014 / 6 / 30 - 22:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من الصواب القول : ان الشعوب تستمد نضجها من خبراتها ومآسي تاريخها , ومن تجارب الشعوب الأخرى . وأكثر الأفكار تقدمية وإنسانية هي تلك التي تفرزها أكثر الأحداث دموية وبربرية ووحشية .
يا ترى ما الظروف والأحداث التي دفعت الشعوب الأوربية لأن تكون أول شعوب العالم تنظّر لفكر جديد هو الفكر العلماني , وتنبناه نظاماً سياسياً لبلدانها ؟
لاشك ان الظروف التأريخية والأجتماعية والأقتصادية والسياسية التي عاشتها تلك الشعوب يومذاك واستبداد الكنيسة وممارستها العنف من أجل الهيمنة على الناس واخضاعهم لأرادتها . كل هذا دفع العلماء الفلاسفة والمفكرين الى تنظير الفكر العلماني وبعد مخاض عسير دام مئة عام دفعت أوربا خلالها ثمناً باهضاً بحروبها الأهلية التي يطلق عليها البعض الحروب الدينية او المذهبية لأنها حدثت بين الكاثوليك والبروستانت وهما مذهبان ضمن دين
واحد . بسبب تلك الحروب فقدت اوربا ( ...ر468ر 9 ) مسيحياً بريئاً¹ ، وهربت ملايين أخرى الى دول أكثر تسامحاً ، واجبرت ملايين اضافية على تغيير مذهبها واعتنناق مذهب آخر .
ولأجل أن يكون القارئ على بينة من حجم المأساة التي نحن في العراق بحاجة الى معرفتها لأن ظروف العراق تقترب يوما بعد يوم من ظروف القارة الأوربية التي أدت الى الحرب الأهلية على مدى القرنين السادس عشر والسابع عشر .
أجد من المفيد أن أمُرَّ ولو بصورة سريعة على بعض أحداث المأساة لتكون الحروب الطائفية واضحة الأبعاد عند القارئ الكريم
رغم ان الحروب شملت معظم الدول الأوربية (فرنسا ,انكلترا , أسبانيا , المانيا , هولندا .... )إلآ انني اكتفي بالحديث عن حادثتين تجسدان حجم المأساة ، الأولى :حدثت في فرنسا والثانية في انكلترا
في فرنسا تظل مجزرة ( سانت بارتليمي ) مبعث الألم والأسى في نفوس الفرنسيين " فقد استُدرِج زعماء البروتستانت وعوائلهم الى باريس من جميع المقاطعات الفرنسية بحجة دعوتهم لحضور زفاف مهم في القصر الملكي , وفي منتصف الليل انقض عليهم الجنود الكاثوليك بسيوفهم ومزقوهم ارباً ارباً دون أن يستطيعوا حراكاً , فقد كانوا غارقين في النوم . واستمرت المعارك في الأيام التي تلت الحدث في معظم المدن الفرنسية الأخرى , وكانت حصيلة القتلى (30) الف بروتستانتي من بينهم أطفال ونساء وشيوخ ومن الغرابة ان البابا ( غرياغور ) الثالث عشر هنـّأ ملك فرنسا على هذا العمل (الجليل) ! والذي أدى الى استئصال طاغوت الزنادقة من المملكة الفرنسية الطاهرة .
تلقى البابا خبر مقتل البروتستانت بفرح غامر ووصفه بالعلامة على عناية الله ورضاه .
اما في انكلترا فقد حصلت مجزرة لا تقل وحشية عن المجزرة الفرنسية ولكن في هذه المرة كان ضحاياها هم الكاثوليك حدثت المجزرة عندما احتل ( كرومويل ) مدينة " دروفهيدا " الأيرلندية وأمر بقتل جميع المدافعين عنها راح ضحية تلك الأوامر الوحشية نصف مليون كاثوليكي ايرلندي . وقد حدثت المجزرة كما يقولون بفعل العناية الإلهية !.
نعم , تمت المجازر في القارة الأوربيـــة بإشراف الكنيسة ومباركتها بعد ان البستها القدسية الإلهية .
لم تتوقف الكنيسة عند هذا الحد , فقد أخذت تضطهد حتى المؤمنين بمذهبها من أجل اخضاعهم لأرادتها التي أصبح الخروج عليها يمثل نوعا من الجنون لأنه يقود صاحبه ,أما الى السجن او الى المحرقة لكن العلماء والمفكرين والفلاسفة بدأوا يضيقون ذرعاً بهيمنة الكنيسة على المجتمع والسلطة مما دفعهم الى مواجهة الفكر الكنائسي .
وخاضوا صراعاً ضد فهم رجال الدين للعلم . العلم هو أول من اصطدم بأفكار رجال الدين فخطـّأها . وكان كوبرنيكوس² أول من أقدم على هذه المجازفة سنة ( 1543م ) وخطـّأ فهم رجال الدين للعلم , عندما قال أن الأرض تدور حول الشمس والشمس هي مركز الكون وأصبح هذا المفهوم نظرية بعد أن أثبتها غاليلو تجريبياً . لكن نظرية " كوبرنيكوس مخالفة لنظرية " بطليموس " التي تقول " ان الأرض هي مركز الكون وان الشمس تدور حول الأرض و تبنت الكنيسة نظرية بطليموس لقرون عدة وثقفت الناس بها حتى أصبحت يقينا مقدسا لا تجوز مخالفته ولا حتى النقاش حوله .
لكن نظرية كوبرنيكوس ونظرية نيوتن في الجاذبية و نظرية " دارون " في التطور والارتقاء اثبتت خطأ هذا اليقين و اضعفت ثقة المسيحيين بقدرة رجال الدين العلمية وظهر لهم واضحا عدم فهم الكنيسة للعلم ورفضها استخدام العقل .
ان تنامي المفاهيم العلمية عند الناس وردة فعلهم على اسناد الكنيسة للأقطاع الذي يذكره التأريخ الأوربي بحروف سود أدى الى رفضهم لقيم الكنيسة التي تصطدم بالعلم والعقل .
من جانب آخر جاء دور الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمفكرين مكملا لدور رجال العلم . اذ بدأوا يرفضون استبداد الكنيسة وتدخلها بالشأن السياسي مطالبين بتحرير الإنسان من كابوس اللاهوت الكنائسي ولكي يستطيع أن يفكر بحرية دونما رقيب وناشدوا الكنيسة بالكف عن التدخل في شؤون الدولة ومؤسساتها والانصراف الى القضايا الروحانية فقط .
لكن الكنيسة لم تستجب لصرخة العلم والفكر بسهولة فحاربت رجالها بضراوة , سقط الكثير منهم ذبحاً بالسيوف أو حرقاً بالنار أو سجناً حتى الموت لكنهم استمروا ومهدوا الطريق أمام الأجيال التي جاءت بعدهم لينعموا بالنظام العلماني الذي قادهم الى الرخاء والحياة الكريمة و بعد أن قدّم حلاَ لأشرس طائفية عرفها التأريخ البشري , وأبدل التعصب والانحياز الى المحبة والسلام وحول الأنانية الى الإيثار , وحب الخاص الى حب العام . وأكد على الاعتراف بالآخر كأمر تتطلبه الحياة المدنية .
بعد أن تحرر عقل الإنسان الغربي بفعل الفصل بين الدين والدولة , واعتماد التعددية الدينية والسياسية و الأعتراف بالحرية الدينية وحرية الاعتقاد كان مصدر لكل مستجدات الحضارة , والآن يسعى بدون كلل لتفكيك لغز الكون واكتشاف الحقيقة التي غابت زمناً طويلاً . ولأن العلمانية نور بدد الظلمات التي عاشتها الشعوب الغربية . يصبح جواب السؤال .لماذا العلمانية في العراق واضحاً .
ولأن المشكلة الأساسية في العراق هي الطائفية بكل أبعادها المدمرة . فهي ساهمت بتوليد الفوضى والأرهاب ونظام المحاصصة البغيض ومنعت بناء الدولة المدنية الديمقراطية رغم مرور أكثر من عشر سنوات على التغيير ، الطائفية حاضنة للفردية وللأنانية والتحيز ، وهي مصدر للعوازل النفسية والقانونية والاجتماعية بين العراقيين وسبب في تباعد بعضهم عن بعض , وهي المانع لوحدتهم والمفرّق لصفوفهم والطائفية السبب المباشر لضعف الأيمان بالهوية الوطنية أمام التمسك بالهويات الفرعية . وهي المسؤولة عن عدم المساواة بين العراقيين . وإن أي خلل في المساواة يولد خللآً في المشاعر وعدوانية . وبالتالي اضراب واعتصام وعنف وهذا ما هو حاصل في العراق الآن حيث تشير الأحداث والتطور النوعي في العمليات الأرهابية وشمولها معظم المدن العراقية , والصراع غير القابل للحل بين القوى المتنفذة الى أن العراق يتجه نحو الأسوأ .
يتجه نحو احتمالات مفتوحة تبدأ بالحرب الطائفية وتنتهي أما بتفكيك العراق الى دويلات أو يصبح ولاية من ولايات الدولة الإسلامية التي تحكمها العصابات الدينية.
إذن على محبي العراق وشعبه ومن يهمهم تطوره وتقدمه أخذ التجربة الأوربية بعين الجد وإدراك الحقيقة ، لا ينقذ العراق من افرازات الطائفية التي أشرت اليها الآ الدولة الديمقراطية العلمانية ، والعلمانية في حالة العراق , هذه لا تأتي كنقيض للطائفية فحسب , بل العلاج الشافي من داء الطائفية .
لا يقتصر دور العلمانية بحل المشكلة الطائفية والخلاص من افرازاتها المأساوية التي تكاد لا تخلو منها المجتمعات ولاسيما المجتمعات العربية بل ارتباطها بشروط : (العقل ,الحرية الحياد) التي أشار اليها الباحث عبدالعزيز قباني في كتابه (الدولة العلمانية لماذا ؟) وملازمة هذه الشروط لمبدأ فصل بين الدين والدولة يجعل من العلمانية نظاماً سياسيا وادارياً هدفه انماء الإنسان وتحرير عقله ليكون اكثر ابداعاً وأكثر انتاجاً . وصولاً الى الحياة الكريمة . والعلمانية كنظام سياسي يجعل في مقدمة اهدافه بناء البلد وتطوره اجتماعيا وثقافيا واقتصادياً
والشرط الأول " العقل " يعني أن الدولة العلمانية تعتمد في ادارة شؤونها الإدارية والسياسية والعمرانية والتخطيطية على العقل دون الاعتماد على الدين . كما انها تسترشد بالعلم وتتابع تطوره المستمر وهذا ما يفسر لنا اعتماد الدولة العلمانية على الكفاءة و التجربة والشهادة العلمية كمعيار اساس لأختيار موظفيها او في اشغال المناصب والمراكز الأساسية .فاعتماد الدولة العلمانية على العقل يقودها الى التطور والحركة الدائمة بعيداً عن الثبات والجمود .
الشرط الثاني : الحرية , وتعني استقلال الدين عن الدولة في إدارة شؤونه الروحانية بحرية تامة كما يفهمها الدين نفسه لا يحدها حد سوى حدّ المصلحة العامة .
وهذا يعني ان الدولة العلمانية توفر الحرية الدينية الكاملة لموظفيها وتضمن لهم حق ممارستها بالتساوي بعيداً عن الإكراه وبالمقابل يجب اقرار الدين بحرية الدولة في ادارة شؤونها , وهذا يعني لا الدين ولا الدولة تتدخل في شؤون الآخر وهذا ما يفسر لنا ان الدولة العلمانية غير معادية للدين لأنها لو كانت كذلك لفقدت شرطها الثاني وهو الحرية عندئذ تفقد علمانيتها
الشرط الثالث : وهو " الحياد " ويعني ان تلتزم الدولة العلمانية بالحياد تجاه الأديان والمذاهب , والحياد تجاه مواطنيها وتتعامل معهم بالمساواة دون تمييز بينهم بسبب اللون ,الجنس , الدين ,المذهب , وحياد الدولة تجاه مواطنيها يفرض عليها توفير الفرص لهم بالتساوي وهذا ما يهيئ الاستقرار والسلام والابتعاد عن التعصب والعنف الذي يسببه التمييز بين المواطنين والحياد يفرض على الدولة العلمانية ان لا تتبنى ديناً معيناً أو مذهباً خاصاً .
العلمانية باعتمادها المساواة بين المواطنين تعزز عندهم الأيمان بالهوية الوطنية على حساب الهويات الفرعية التي سببت وتسبب التفكك في النسيج الاجتماعي والتباعد بين المواطنين . بدون العلمانية واهِمٌ من يدعي بناء الدولة المدنية الديمقراطية . اذ لا ديمقراطية بدون علمانية وميزتها الفصل بين الدين والدولة . والشروط الثلاثة التي مر ذكرها والسنوات العشر التي مرت على التغيير وعدم بناء الدولة المدنية الديمقراطية تؤكد لنا ذلك .
الهوامش
1- ورد الرقم على لسان فولتير(قاموس فولتير لمجموعة من المؤلفين الفرنسيين)
2- كوبرنيكوس . كاهن ، محامي وعالم فلكي
المصادر
المعارك بين الأصوليين والتنويرين / هاشم صالح
الدولة العلمانية ، لماذا ؟ / عبدالعزيز قباني
#عبدالزهرة_حسن_حسب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟