|
أكره أن أودع أحداً
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4498 - 2014 / 6 / 30 - 15:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ملاحظة: كتبت هذه المقالة منذ حوالي سبع سنوات، وطرأ ما أعادها إلى ذاكرتي.
تسير بنا هذه الحياة حثيثاً نحو نهاية محددة. نحو سيناريو يحمل لمن يكون حولنا من أقاربنا وأصدقائنا أسباب الكآبة والأسى وربما الدموع. تسير بنا الحياة بأيامها ولياليها نحو اختبار الحزن لمن نحبهم ويحبونا. ولأنه اختبار "حزن ودموع" أنا اكره "الوداع" بأنواعه.
شعوري من "الوداع" وطقوسه وأحاسيسه هو مزيج من المتناقضات لا يمكنني فهمها. بل في الحقيقة لا أرغب في فهمها. فأنا، ويا للغرابة، كنت أستمتع بطقوس الوداع التي يقوم بها الآخرون لوداعي في رحلات السفر الطويلة. لا أدري لماذا، ولكنني أنا هكذا. منذ سنين طويلة عندما أخذني والدي رحمه الله إلى قاعة الوصول في مطار هيثرو في مدينة لندن حتى ألتقي بالمندوب البريطاني للجهة الدراسية في مدينة أوكسفورد الذي يستقبل الطلبة الكويتيين القادمين من الكويت، نظر إليّ والدي قبل أن أغادر مع المندوب ورفع إصبعه في وجهي وناداني بصيغة التصغير ثم قال بالعامية الكويتية: "يـُوز" [الكلمة تعني كُفّ عن أعمالك السابقة، أو كفى]. أجبته ضاحكاً، وبروح الشاب صاحب عمر السبعة عشر سنة: "إن شا الله يبا … فيوز" [الكلمة تعني وصلة الكهرباء]. رأيته، رحمه الله، وهو يحاول جاهداً أن لا يضحك أو حتى يبتسم وليناديني مرة أخرى بصيغة التصغير قائلاً ومُحذراً: "إلا الدراسة". فأجبته على الفور مبتسماً وبثقة: "الفيوز هذا يبا، ليلحين سليم، تبي الشهادة؟ بتوصلك الشهادة". قبّلت والدي ضاحكاً ومشيت مع المندوب البريطاني والطلبة الكويتيين الذين وصلوا للتو من الكويت إلى مطار لندن، وبالصدفة التفتُ نحو والدي لأرى تجهماً واضحاً على وجه لا يمكن أن تخطئه عين أحد، ولكنني ابتسمت ولوحتُ له ضاحكاً، ونسيت ما رأيته بعد دقائق قليلة.
قبل هذا بساعات كانت والدتي، أطال الله في عمرها، وبمساعدة إحدى قريباتنا، ترتب حقيبة ملابسي وتبكي. كانت تبكي بحرقة لأن ولدها البكر سوف يفارقها ولأول مرة. لم أشعر أنا أبداً بالكآبة، أو حتى ذلك الشعور القابض الذي يلف أحشائك كلما واجهت مجهول سوف يلف ذراعيه حولك في القريب العاجل. بل على العكس، كنت سعيداً بعملية الوداع هذه، وبكل تفاصيلها الدقيقة. بعدها، وكلما قررت أن أرجع إلى الكويت للزيارة، أتعمد أن أُبقي الأمر طي الكتمان، ثم لأظهر أمامهم فجأة عند باب المنزل. فرح أبي وأخي وأخواتي، ودموع والدتي لا يمكن أن أنساهما ما حييت في تلك اللحظات. وحالما أجلس بينهم أعلن عن موعد مغادرتي حتى يتجهز الجميع لوداعي مبكراً. كنت أستمتع بهذا الوداع حتى آخر لحظة. كانت والدتي تصر عند مغادرتي المنزل أن أقبّل القرآن ثم ترفعه بيدها عالياً لأمشي من تحته، يجب أن أفعل ذلك ثلاث مرات. وبعد أن أركب سيارة أبي الذي سيوصلني للمطار يجب أن تسكب خلفي قليلاً من الماء. هذه الطقوس التي تقوم بها والدتي يجب، في عرفها هي، أن تكون آخر الطقوس في وداعي. ولكني كنت أتعمد بعد أن تنتهي والدتي من كل هذا وأركب السيارة أن أترجل منها وأدخل البيت مرة أخرى لأتحدث معها أو لأفعل شيئاً ما، ثم لتعيد هذه الطقوس مرة أخرى مع ضحكي وإحساسها بأن ولدها هذا "ليس منه فائدة أبداً". وأخيراً، وبعد أن أركب السيارة كانت تقول لي بصوت عال: "لا إله إلا الله". كان يفترض مني أن أجيب بـ "محمد رسول الله، ولكني ألوّح لها بذراعي ورأسي الممدود من السيارة التي تحركت في طريقها للمطار ضاحكاً ومودعاً بـ "حي على الصلاة"، ويكون آخر ما أراه حيرتها في ولدها هذا، وابتسامتها، وليزداد ضحكي وسعادتي بالوداع.
لم أكن أعرف معنى الوداع من وجهة نظرهم ولم أفهمه، بل لم أكن أريد أفهمه. ولكني عندما عرفته مضطراً وفهمته، كرهته.
بعد حوالي شهرين من الغزو العراقي الغاشم للكويت، وبعد إسبوعين من إلقاء القبض على أخ زوجتي، ذو الثانية والعشرين سنة من عمره، من جانب الجيش العراقي ومخبريه، جاءوا به، مع آخرين معه من نفس الحي السكني، ثم ليقتلوه بطلقة رأسه في رأسه أمام باب منزله وعلى مرأى من الجميع. نُقلتْ جثمانه وجثمان رفاقه إلى المستشفى، وذهبت أنا حتى أحاول إستلامه لدفنه. وبعد أن لوّح لي أفراد الجيش العراقي داخل المستشفى بالتوقيع على إقرار بأنه توفي نتيجة لـ (أزمة قلبية) وأعينهم مركزة نحوي تحسباً لأي إشارة للرفض، أخرجوه لي لأتعرف عليه، كان رأسه ملفوف بقماش أبيض قد تشبع بالدم، وكانت هذه أول مقابلة لي مع الموت. بعد دفنه، فهمت تماماً ما معنى الوداع وما يحمل من خطر.
بعد تلك الحادثة بسنة وعدة أشهر توفي والدي رحمه الله. أمسك خال والدي، والذي يصغره سناً بالمناسبة، بيدي وطلب مني أن أرافقه لأرى أبي للمرة الأخيرة قبل تكفينه. جمدت في مكاني، واتسعت حدقتا عين خال والدي دهشة. رفضت أن أرى والدي ميتاً، رفضت أن أودعه ميتاً. لم أشأ أن أغامر بأن أرى والدي على شكل مختلف غير ما علق بذاكرتي من ذكراه. أردت أن يكون وداعه على الصورة التي في خيالي.
أنا لم أبكي على أي أحد أمام الناس. لم يحصل هذا أبداً أمام أي أحد وبلا إستثناء. وسبب جمود عيني في تلك المواقف أفزعني أول الأمر، بل في الحقيقة جرح نفسي جرحاً عميقاً. كنت حائراً عن السبب ولا أزال. ولكنني الآن أرى بأن جمود عيني في مواقف الوداع والوداع الأخير، ربما، مرده إلى كرهي لهذا الوداع، وإنني، ربما، لا أزال في نفسي، أنكره ولا أعترف به. اليوم، وعندما ودعت عزيزاً، لم يفاجئني جمود عيني. ولكن ما فاجئني هو ذلك الوجه الأشبه بالنائم نوماً عميقاً والذي يوحي لمن يشاهده بالراحة والسكينة. لم يختلف في ذاكرتي شيء إلا غياب الحديث ونظرة العيون.
أنا كنت، ولا أزال، أحب من يودعني، لأنه، ولسبب ما مجهول، يدعوني للضحك والمزاح. وإن كان هناك شيء أتمناه فهو أن لا أضطر يوماً ما لأن أودع عزيز، بل هم من يودعونني، لأنني يتملكني شعور طاغ، بل أكاد أجزم، بأنني سوف أنظر لهم من ذلك الجانب الآخر ثم أنفجر ضاحكاً عليهم ومنهم.
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حتى نفهم التطرف السلفي المسلح
-
يسوع والمرأة السورية – 5
-
أنتم صنعتم داعش
-
يسوع والمرأة السورية – 4
-
يسوع والمرأة السورية – 3
-
يسوع والمرأة السورية – 2
-
يسوع والمرأة السورية – نموذج للمنهج السلفي
-
السلفية المسيحية
-
مقدمة في مفهوم السلفية
-
لم يكن سعيداً، ولكنني فخور به - تعقيب على الدكتور القمني
-
مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي – 9
-
في جريمة اختطاف الفتيات النيجيريات
-
مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي – 8
-
مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي – 7
-
مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي – 6
-
لماذا سلسلة مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي
-
مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي – 5
-
مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي – 4
-
ماذا يستطيع التطرف المسيحي أن يفعل
-
مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي – 3
المزيد.....
-
مسؤول مصري لـCNN: وفد حماس بالقاهرة الأسبوع المقبل لبحث المر
...
-
العراق.. تراجع عن مطلب خروج الأمريكيين
-
ضربة جديدة لحكومة ميلوني: إعادة 43 مهاجرا من ألبانيا إلى إيط
...
-
متظاهرون يتصدون لمحاولة طرد أحد المستأجرين من حيّ تاريخي في
...
-
51 مليون يورو .. بيع سيارة مرسيدس للسباقات تعود إلى الخمسينا
...
-
رئيس جمهورية بريدنيستروفيه: احتياطيات الفحم لتوليد الكهرباء
...
-
لافتات في غزة دعما لموقف السيسي ورفضا للتهجير على أنقاض الحر
...
-
الخارجية الروسية تؤكد أهمية عرض الممارسات الدموية للقوات الأ
...
-
-أمريكيون موتى-.. خبير يذكر ماسك بـ-الأهوال- التي رأتها القو
...
-
أسير محرر يعود إلى غزة ليكتشف مصرع زوجته وطفلته خلال الحرب (
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|