|
التأملات الثانية في الفلسفة الأولى ( 7 )
سيد القمني
الحوار المتمدن-العدد: 4496 - 2014 / 6 / 28 - 14:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الوجود والعدم الجزء الأول خلاصة ما يُفيدنا به كتاب ( تهافت الفلاسفة ) لفيلسوف السنة والتصوف السني حُجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي ، بشأن موقف الإسلام من القضية الفلسفية في الوجود والعدم ، أن العالم وجود حادث مخلوق أوجده الله من العدم باختيار منه ورغبة وإرادة ، في الزمن الذي أراده وعلى الهيئة التي تصورها له ، وهو أُس من قواعد الإيمان والاعتقاد . وخلاصة قول الفقه الإسلامي وفلسفته أنه من غير الممكن أن يكون وجود المخلوق سابقًا على وجود خالقه ، ومن غير الممكن أن يكون الوجود المخلوق أسبق من وجود العدم ، لأن الله خلق الوجود من العدم ، ولا يمكن أن يكون الوجود المخلوق قد تم خلقه من شيء آخر غير العدم ، فالعدم أسبق وجودًا وقدمًا وخلقًا من الوجود المخلوق منه ، ويكون عالمنا ثالث ثلاثة وظهر متأخرًا بعد الله وبعد العدم . وهنا يبدأ العقل بالسؤال : أيهما كان القديم السابق في الوجود وأيهما كان الحادث المخلوق ، الله أم العدم ؟ منطق الإيمان لا بد يفترض أن الله هو القديم والسابق ، وعليه يكون وجود الله أولًا ، يتلوه وجود العدم ، بينما العدم نفسه لن يوجد إلا بقُدرة مُوجد ، وهو ما يعني أن الله هو خالق العدم ، فما هو هذا العدم الذي أوجده الله ؟ وهل هو شيء خفي غير قابل للإدراك ؟ أم هو لا شيء ، ويكون الله قد خلق لا شيء ؟ إن تحرير مصطلح العدم مطلوب لتحديد أهم عناصر الوجود وماهو هذا الشئ أو اللاشئ ؟ لأنه المادة الخام التي تم خلق الوجود منها ، وهل بعدما تم خلق وإيجاد الوجود من العدم ، قد بقي شيء من هذا العدم ما زال موجودًا بجوار الوجود ؟ ، مثلا كالتراب الذي خُلق منه آدم وظلت بقيته موجودة في الوجود . نرتب العناصر لنتأمل : قبل خلق الوجود لم يكن شيء إلا العدم ، (إذن في البدء كان العدم) ، وتم إيجاد الوجود من هذا العدم ، ويتحتم أن يكون الخالق أسبق وجودًا من العدم ، (إذن في البدء كان الله) !! ويزيد الإرباك بحتمية احتياج عملية الخلق إلى خالق ، وحتمية غياب الوجود المخلوق قبل خلقه ، فحتى تتم عملية الخلق لا بد من توافر عناصر ثلاث هي : 1-وجود المُوجد الخالق 2- وجود العدم 3- غياب أي وجود قبل بدء العملية ، وهو ما يفضي إلى وجودين قبل عملية الخلق هما الله والعدم ، فهل كانا شيئاً واحداً ؟ أم أن الله والعدم شريكان في عملية الخلق ؟ أم أنهما شيئاً واحداً بمُسميين مُختلفين ؟ بينما اشترطت عملية الخلق غياب أي وجود قبل عملية الخلق !!. اذن قبل خلق الوجود كان هناك عدمُ موجود ! وقبل العدم كان هناك وجود آخر هو الله ، ولا يستوي القول بوجود أي وجود في غياب الوجود !! تقول القصة الدينية : إن الوجود الذي خلقه الله يشمل إيجاد السماء وهي محل بيت الإله وسكنه وعرشه إضافة إلى الله نفسه ، وأن الله هو من أوجد نفسه بنفسه ، ثم أوجد الوجود الذي يشمل الله والعدم ، وهو ما يعني أن الله خالق ومخلوق ( خلق نفسه ) في آن ، وهو ما يؤدي إلى نتيجة : أن الله يشارك المخلوقات في صفة الوجود المخلوق المحدث ، وتنفي عنه صفة الأزلية والقدم ، فهل هذه نتيجة سليمة ؟ إن القول إن الله خلق نفسه بنفسه تدعو للتساؤل : ماذا تعني ( نفسه ) هنا ؟ هل ثمة ذاتًا خالقة مجهولة ربما التي يسمونها ( الذات العلية ) هي التي خلقت الوجود بما فيها الله نفسه ؟ وتكون ( نفسه ) مخلوق مُحدث كبقية الموجودات المخلوقة ؟ فأين ذهب العدم ؟ وما هو ترتيبه في الوجود ؟ هل كان العدم موجودًا قبل خلق الله لنفسه ؟ أم بعد خلق الله لنفسه ، وقبل خلقه للوجود ؟ أي أنه بعد خلق الله لنفسه خلق العدم ليخلق منه الوجود ، هل هذا هو الترتيب الصحيح ؟ نرتب المسألة على نحو آخر لنتأمل : اشترط فعل الخلق وجود العدم قبل وجود الوجود ، وكان من سيوجد الوجود - وهو الله - موجودًا فهل كان موجودًا في العدم ؟ وكيف يستوي وجود الله كوجود موجود في العدم اللامُتعين واللامُحدد ؟ أم أن الله ليس وجودًا وليس عدمًا ؟ لأنه لو كان وجودًا لتحتم أن يكون له مُوجد ، وفي الوقت نفسه هو ليس عدماً ، لأنه لو كان عدمًا ما جاز له إيجاد الوجود ، فالعدم هو لا وجود ، فكيف يتأتى للاوجود المعدوم إيجاد وجود ؟ وبعد فعل الخلق هل انتهى العدم تمامًا ؟ أي حل الوجود محله بالكُلية ، أم ما زال بعض العدم حاضرًا مع الوجود ؟ رغم أن الوجود والعدم لا يجتمعان أبدًا، إذن لا هكذا ولا كذلك !! وما زلنا في المتاهة الإيمانية. قراءة أُخرى تُفضي إلى : إذا كان الله موجودًا في العدم الذي منه خُلق الوجود ، لوجب أن يكون العدم وجودًا وإلا تحتم أن يكون الله عدمًا ، ولا يجوز للموجد أن يكون عدمًا لأنه لن يتمكن من إيجاد الوجود أو إيجاد ( نفسه ) . أم أن الصواب هو القول إن العدم أوجد نفسه ثم أوجد الوجود من نفسه ؟ لأنه لا يستقيم وجود أي وجود مع العدم ، أم يصح أن يكون قبل العدم شيء ما لا نعلمه صار عدمًا ثم أوجد نفسه ثم قامت نفسه بإيجاد الوجود فيكون الواجد هو العدم ؟ وبهذا الخصوص تُعلمنا القصة الدينية بتفاصيل عملية الخلق الكوني والكائني بالتفصيل والشرح المستفيض لكنها لم تعطنا أبداً أي معلومة حول خلق الله لنفسه ، وهل بدأ بالذات أم بالصفات ؟ وإذا كنا نعلم اعتقادًا أو فلسفة أن قُدرة ألله وحريته وإرادته مُطلقة ، وأنه بهذه القدرة المطلقة أمكنه أن يوجد نفسه عن اختيار ورغبة في أن يوجد، فإنه بذات المنطق أنه كان أيضا قادرًا ألا يوجد نفسه باختيار إرادته المطلقة ، فمن قدر على إتيان الفعل قدر على عدم إتيانه ، وهو شرط الإرادة مع القدرة ، فالمُريد القادر هو من يمكنه إتيان الفعل أو عدم إتيانه أو إتيان ضده ، فالله لم يكن مجبرًا على إيجاد نفسه ، كان حرًا في أن يوجد أو لا يوجد ، وأن يخلق أو لا يخلق ، والمشكلة هنا في أن الله كان قادرًا على ألا يوجد نفسه إنما تعني أن هناك من أجبره على إيجاد نفسه ، وهو ما يتنافى ومعنى الكمال الإلهي ، بمعنى آخر : أن القادر على إتيان فعل قادر على إتيان ضده فهو يُحيي ويُميت ، ويُنعم ويمنع ويمنح ، وكان قادرًا على إيجاد نفسه وكان قادرًا على عدم إيجادها ، لكنه اختار أن يكون موجودًا ، فأوجد نفسه وهو ما يُحيل إلى إرادة اختارت لله الوجود ، لأن الدليل على وجود الله هو القُدرة ، والقُدرة تعمل وفق إرادة ، والإرادة تسوق القُدرة لهدفها ، فالإرادة المطلقة التي اتخذت القرار هي الأسبق والأقدم في الوجود ، وقبل قرارها لم يكن الله موجودًا ، وبعد قرارها كان وجود الله هو الاختيار النافذ وعدم الوجود هو الاختيار المرفوض ، وعليه ستكون هذه الإرادة هي من اختار لله صفاته بالتمييز والمفاضلة بين صفات كثيرة مُتاحة يمكن اختيارها ، فاختارت الثمين والحميد وتركت الذميم ، واختارت ألا يحمل الله غير هذه الصفات ، فهي من انتقى لله صفاته ، وتكون الصفات - في تصور الإرادة - أسبق في الوجود من وجود الموصوف ، وحسب هذا الاحتمال يتغير ترتيب الله في الوجود فلا يكون هو القديم الأول إنما تكون الإرادة هي الأُقنوم الأقدم السابق ، والصفات أُقنوم ثان تال ، والله ثالثاً ؟ ! . أمام قضية الوجود والعدم حاولت فلسفة التصوف الإسلامي حل المشكلة بدمج الكل في واحد فيما نعرفه بوحدة الوجود ، ويمثلها رتل جليل من كبار المتصوفة من ابن عربي إلى ابن الفارض إلى الحلاج إلى السهروردي إلى ذي النون المصري ، وأعلام كُثرُ لم يجدوا لمثل ما طرحنا من تساؤلات سوى هذا الحل الذي لم يُعجب عامة المؤمنين ، فتعرض فلاسفته للقمع والتنكيل والقتل من العوام ، لذلك طلب الغزالي ( حُجة الإسلام ) مؤسس التصوف السني في كتاب عنوانه هو المطلب : ( إلجام العوام عن علم الكلام ) ، وعلم الكلام هو الاصطلاح الأشهر لما جرى في التاريخ الإسلامي من نقاشات وفلسفات أدت إلى فرق كالمعتزلة وأهل السنة والجماعة والأشاعرة والماتريدية والمُرجئة والمُعطلة .. إلخ . ويمكن تلخيص ما وصلوا إليه - على اختلافات هينة بينهم - أن من الضروري أن يكون العدم لازماً في عملية الخلق لزوم وجود الخالق ، فكليهما ضروري لإتمام العملية ، وكان الحل في القول إن عملية خلق الوجود لا ترتبط بالنصوص الدينية التي تخاطب العوام ، وإنما كان الوجود من فيض وجود الله الذي يمتلئ بالوجود ، فيفيض منه الوجود فيضًا مستمرًا ( كما في فلسفة الفيض الإلهي عند الفارابي وابن سينا ) ، ويكون حدث الوجود هو عملية فيض وجودي مُستمر من الله الممتلئ وجودًا ، ويكون الخلق بضعاً من الخالق وبعضًا منه ، ويصبح المُوجد والوجود والعدم شيئًا واحدًا في خلطة تتم إحالتها للقلب والشعور والوجدان فالوجد الصوفي ، وليس إلى العقل . حاول التصوف الإسلامي بحل جرئ وراقٍ أن يجمع كل الديانات والكون والخالق والمخلوق في جسم واحد وروح واحدة هي الوجود الكوني والكائني ، وكلها معًا هي الله في نفس الآن ، وهو ما بدأه فلاسفة الإغريق بفلسفة وحدة الوجود في اللوجوس أو الناموس ( القانون الكوني ) التي أكملت نُضجها في فلسفة الكلمة التي كانت هي البدء لكل شيئ عند الفلاسفة الرواقيين الإغريق . كانت المشكلة تتمثل في السؤال : لماذا يُقر الناس بوحدانية الكون ولا يقرون بوحدانية خالقه ؟ رغم أن الخالق خلق كوناً واحداً ولم يخلق سواه ، فعملية الخلق عملية واحدة وحيدة لم تتكرر ، لذلك لا نرى عديدًا من الأكوان لننسبها إلى عدد من الخالقين ، فرغم أن الكون واحد والخالق واحد ، إلا أن الاتفاق حول الكون أو الوجود قائم بلا خلاف ، وكل الاختلاف حول الخالق ! هل ذلك لأن الكون مرئي للجميع ومُدرك بكل حواس كل البشر ؟ ولأن الإنسان على يقين بوجود الكون لأن الإنسان نفسه جزء من هذا الكون ، هو من بروتين الكون جسمًا وعقلا ، وأن الإنسان عندما يفكر يكون تفكيره نتيجة تفاعل حواسه وعقله مع الكون ، لذلك يدرك الإنسان عن يقين وحدة الكون والوجود لأنه جزء من هذا الوجود ، ولو انتسب الإنسان إلى كون آخر – بفرض وجوده – لكان إدراكه للكون الذي هو منه ، وليس لما ليس منه ، فتكون النتيجة أن الإنسان والسبب والنتيجة والعلة والمعلول والله والزمان والعدم هي كلها معا ، ما نسميه الوجود أو الكون في وحدة واحدة وقانون أو ناموس واحد . وعندما قرر التصوف الإسلامي إحالة الأمر إلى المشاعر والحب الإلهي الذي فاض بالوجود ، فإن ذلك لم يؤدِ إلى تنحي العقل عن طلب إجابة ، فالعقل لا يرى في التصوف ما يُرضيه ، لأنه لا يجوز أن يكون المخلوق أزليًا ، كما لا يجوز أن يكون العدم أبديًا ، لأنه لو كان المخلوق أزليًا لامتنع وجود الخالق ، ولو كان العدم أبديًا لامتنع وجود الخلق ، فلا بد لعملية الخلق من وجود عدم غير أبدي ، ومخلوق غير أزلي ، وأن يسبق الخالق المخلوق في الوجود ، وأن يسبق العدم الوجود المخلوق منه .
يتبع
#سيد_القمني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التأملات الثانية في الفلسفة الأولى(6).. الإله الحقيقي
-
التأملات الثانية في الفلسفة الأولى (5).. ويسألونك عن الروح؟
...
-
التأملات الثانية في الفلسفة الأولى ( 5 ) ويسألونك عن الروح؟!
...
-
التأملات الثانية في الفلسفة الأولى -4-.. هو الأول وهو الآخر
-
التأملات الثانية في الفلسفة الأولى.. من التعدد إلى التوحيد -
...
-
التأملات الثانية في الفلسفة الأولى 2
-
التأملات الثانية في الفلسفة الأولى.. البحث عن المنهج -1-
-
لحية برهامي
-
عبور البرزخ
-
اللاعنف والخراب العاجل (5)
-
اللا عنف والخراب العاجل (4)
-
اللاعنف ..... والخراب العاجل (3)
-
اللا عنف.. والخراب العاجل (2)
-
اللا عنف والخراب العاجل (1)
-
سيادة الفريق.. احسم أمرك الآن
-
شخصية مصر.. فرادة الأصول
-
شخصية المجتمع الصحراوي ( جزيرة العرب نموذجا )
-
مذهب إسلامي جديد.. -شيعة مرسي-
-
يسقط حكم العسكر.. شعار لئيم ضد وطن مأزوم
-
! حرب الجواسيس
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|