طالب عباس الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 4491 - 2014 / 6 / 23 - 17:25
المحور:
الادب والفن
" صــوت "
طالب عباس الظاهر
يتناهى الى سمعي صوت قاسٍ بألفته من بيت الجار الوحيد لبيتي الجديد كهمسٍ موحٍ ... حارٍ ملتهبٍ، وباردٍ منجمدٍ في نفس الآن، فيمارس معي حربه المسالمة، كذكرى مريرة طوتها سجلات النسيان، وطَرَقاتٍ نائيةٍ لنواقيس قدّاس في ذاكرة مندثرة لحقب غابرة من الأزمان، ليشعل في ذاتي حرائق الحنين...الشوق...الدفيء... البكاء... الـ... الـ........... !!
ويهيّج أوار عواصف من الأحاسيس المتضاربة... المتعانقة...المتناقضة، سعيدة ضاحكة في مرّة ...حزينة باكية في أخرى، ويثير بي براكين نامت طويلاً تحت رماد التصبّر والسلوان ... لا...لا، لا يوجد في الأوصاف ما يلبي هذا الجموح لزغب الريش في أجنحة عصافير البوح في ذاتي.
هي تعرف أكثر ما أحبّ من الأكل ... طبخها للتمن مع الماش بالدهن الحر ، وكانت بين الفينة والأخرى تطبخها لي خلال الثمانية عشرة عاماً تقريباً التي عشناها معاً . أتذكر مرّة أتصلت بها في فترة خطبتنا أو عقدنا، وكنت مغترباً في بغداد وقتئذ للعمل... أتصلت بها الى البصرة التي تبعد حوالي ستمائة كيلو متر ... قلت لها لقد اشتهيت أن آكل تمن وماش، لكني لا أعرف كيف أطبخها؟! ضحكت وشرحت لي الطريقة في التلفون، ونهجتُ مثلما قالت ولم تكن الطبخة بالاستشارة لذيذة..!.
الصوت يجعلني أغوص بعيداً في دهاليز منسية من ذاتي ... أعنفها، أستنطقها ، أسحبها بقسوة من ياقتها الى أتون استجواباتي، علّها تملك إجابة شافية لاحتراقاتي، أصرخ بها ... هل هي المقادير من تقود خطى الأيام والآلام بي، بهذا المسير المتعثر على الدروب الوعرة، وتحدو بي من خيبة الى خيبة؟ ومن انكسار الى انكسار؟ ومن جرح الى جرح؟ ومن يأس الى يأس؟ أم كنت أنا السبب؟!
لكن ما من جواب.
لقد فرقتنا صروف الدهر، وبعثرنا الزمن كل واحد في طريق معاكس ... وكلما أوغلت الأيام في التقدم والزحف البطيء المتثاقل؛ كلما بعدت المسافات، واستحالت فرصة وجودنا تحت سقف واحد شبه مستحيلة.
وبعد زواجنا وكلما أتيت من بغداد مساء كل يوم خميس بإجازة نهاية الأسبوع؛ أجد قدر التمن والماش معداً على طباخنا الصغير المتواضع ... موضوعا على نار هادئة، وتضع تحت غطاء القدر منشفة لامتصاص البخار، فتضوع الأجواء برائحة الطبخة اللذيذة، ويتعالى بعض بخار، آه ... كم كان منظر القدر أليفاً، يشيع البهجة في روحي، ويوحي لي بالحنان... خاصة حينما تكون هي غائبة، فلم أتمالك نفسي إلا أن أفتح غطاء القدر بحذر، وأتناول بالملعقة بعض لقيمات، ولا أشعر بها إلا وهي تحتضنني من الخلف، وتضربني على يدي تأديباً لمشاكستي..! .
أما كان من الممكن أن يكون شباكي بعيداً... اتجاه بيتي مغايرا ، لكيلا يعكر الصوت صفوة وحدتي وسكوني، أو على الأقل شباك غرفتي لا يحاذي شباك بيت جاري ... أبعد قليلاً؟
نعم كان هذا ممكنا جداً، باختيار غير هذا المكان للبناء فيه من قطعتي الزراعية، أو رسم اتجاه مغاير لخارطة البيت.
لكن ما يدريني بهذا الصوت سوف يقتحمني دون استئذان في عقر خلوتي ... يجتاحني كما الطوفان، فيبعثر هدوئي ... يحطم سكوني ويدحرجه الى كل الاتجاهات ككرات لعبة البليارد حينما يصدمها الصول، ما يدريني إن مثل هذا الصوت سيغزو مدني وقراي وقصباتي بكل هذه القسوة والجبروت، ويحتل وجودي ... رغم إني أعطيت ظهر بيتي اليهم، تحاشياً من إشرافي على حديقتهم الأمامية، ولكي أستطيع أن أخلو مع نفسي وجراحاتي؛ خلوة عاشقين استطالت بهما أزمنة الغربة والشوق والوداع ، وخلوة جريح أصيب بجبهة الحرب إصابة بليغة، فيبحث عن مجرد لحظة سلام يموت فيها وحيداً ...غريباً ... منفردا.
آه... كم مرّ الزمن قاسياً إبَّان محنة الحصار الاقتصادي الذي صادف مع بدايات سنوات زواجنا، وقالت لي بذات صفاء وبفرح ومرح، بعدما تغيرت أوضاعنا المادية جذرياً، وصار راتبها كمُدرسة يفوق راتبي، وكان في بدء زواجنا لا يكفي لأجرة النقل فقط في السيارة العمومية من والى مدرستها، قالت... كنت تترك لي مصروفي لستة أيام محسوبة تغيب بها عني، مضافاً اليها أجرة السيارة ذهابا وإياباً ليوم الذهاب الى زيارة المشاهد المقدسة، وثمن الآيس كريم والمكسرات.
ما العمل والصوت ذاته كما الطوفان ... يقلق رقاد نسياني بين الفينة والأخرى ... يثير بي عاصفة هوجاء من الأحاسيس... يشعل بي الحرائق، ويثوّر بي البراكين الهاجعة من الحنين، ويخلّف في ربوعي سحبا من هموم داكنة، ويراكم بيادر من رماد الأحزان.
خاصة حينما يأتي الصوت عند الغروب... مع بدء الحزن بنزول جيوش الظلام، وانقضاضها على فلول صخب النهار الهاربة... حيث السكون ينزل رويداً رويدا على صدر الوجود، فيكتم آخر لهاث الأضواء الخافتة من فوق رؤوس الأشجار والنخيل.
كنت أعتقد قبل زواجي منها بأنها مدللة أمها، وفعلاً فهي وحيدة العائلة بين سبعة إخوان ينظرون الى فمها؛ يعني لا تعرف الطبخ والغسل والكنس وأمور البيت الأخرى... باختصار ليست مدبرة منزل، وإذا بها تفاجئني منذ الليلة الأولى بعد أسبوع العسل، بأنها ليست تجيد الطبخ فقط ، بل إنها تبرع به حقاً، وقد شهد لها بذلك فعلاً فيما بعد كل من زارنا ضيفاً وذاق طعم أكلها، حتى تسرب صيت مهارتها بين أقربائنا ومعارفنا، وكنت أتابع استشارة الأخريات لها عن كيفية عمل هذه الحلوى أو تلك الطبخة.
الصوت يسعدني ويعذبني، ويستفز مكامن نائية في روحي، ينبش مكنونات الماضي السحيق، يعصف في زوايا نائمة من الجراح، وقروح مستعصية تكاد تندمل، فيرجرج ساكناً من الشعور الأليف، ما صدّقت أن تراكم عليه جبل من غبار الأزمان.
آه... أيا لهذه المشاعر الغريبة... المفعمة بالرقة، كم صار ذاك الماضي بعيدا عني الآن، وكم غدا ذاك الزمن بعيدا بُعد النسيان، كأن قروناً متطاولة من الغفلة مرّت عليه...الأدق كم نأَيْتُ عني، وأنا أغوص في دهاليز الذاكرة... لأصل الى قرارها المكين، مستحلباً ضرع حلم متيبس، تهشمت جميع معالمه تحت ضربات المشاكل القاسية، حتى أضحت مع التكرار عقدا مزمنة، وليحتفظ أخيراً فقط بإطاره مزركشاً.
لكن الصوت سيبقى غصّة مستعصية، وحصاراً محكماً على مكنوناتي حتى إشعار آخر... نعم إنه صوت مس الطبخ حينما يصطدم بحافة القدر أثناء صبّ التمن والمرق في الصحون لوجبة العشاء في بيت الجار الوحيد.
*** *** ***
#طالب_عباس_الظاهر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟