|
(بانوراما الموت والوحشة) للشاعرة رشا عمران
عبد الكريم بدرخان
الحوار المتمدن-العدد: 4482 - 2014 / 6 / 14 - 13:20
المحور:
الادب والفن
قبل سنوات، قال لي أحد الأصدقاء مازحاً: "كلمة سُرياليّة مشتقّة من سوريا"، واليوم يبدو الواقع السوري أكثر سُرياليّةً من السُريالية نفسها. في ديوان "بانوراما الموت والوحشة" للشاعرة رشا عمران الصادر عن دار "نون" هذا العام، تقدّم الشاعرة تجربة وجودية عبثيّة سرياليّة لا تخلو من ضروب الجنون الإبداعي. نقف عند العنوان باعتباره العتبة الأولى للنصّ، فنجدها قد اختارت كلمة "بانوراما" أي النظرة العامة والرؤية الشاملة، لكن أي بانوراما؟ إنها بانوراما لمشاهد الموت السوري وأنواعه وطرائقه، ولحالات الوحشة القاتلة التي يعيشها الإنسان السوري. في هذا الديوان يتّحد الذاتي بالموضوعي اتحاداً عضوياً، ويصبح جسد الشاعرة وجسدُ الوطن قطعةً واحدة، وتغدو أفكارُها وأحلامُها وهواجسُها ورؤاها انعكاساً مباشراً لمشاهد الرعب التي تصِلُها عبر "الشاشة السوداء" كما سمّتْها. من حيث الشكل، يتألف الديوان من عنوانه الرئيس "بانوراما الموت والوحشة"، ومن ثمانين مقطعاً شعرياً مرقّماً دون عنوان فرعي، تشكّل بمجموعها مشاهد البانوراما. لقد أدركتْ رشا عمران أن المشهد السوري لا يمكن إحاطتُه بقصيدة واحدة، فهو مشهد واسع ومعقد ومركّب ومتناقض، ولذلك اختارتْ كتابة مقاطع (نصوص قصيرة)، كلٌّ منها يقدم صورةً من هذه البانوراما. وهذه التجربة الشكليّة-المضمونيّة اتّبعها مِنْ قبلها عددٌ من الشعراء للكتابة عن حالاتٍ شبيهةٍ بالحالة السورية، مثل محمود درويش في "حالة حصار"، وأدونيس في قصيدة "الوقت"، وغادة السمان في رواية "كوابيس بيروت". سأتحدث عن ثلاثة موضوعات في ديوان "بانوراما الموت والوحشة"، أرى أنها تشكّل السمات المميزة للديوان، وهي: السردية، الوجودية، السُريالية.
1- السردية في الشعر: ----------------------- خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بدأت نظرية الأنواع الأدبية (الأجناسيّة) تتراجع عن مكانتها السابقة، ولم تعد معياراً للفصل بين جنس أدبي وآخر، فالحدود بين الأنواع الأدبية تختلط وتمتزج كثيراً. وكان لا بدّ للشاعر العربي أنْ يخرج من الغنائية التقليدية وينفتح على الفضاء السردي الأرحب، وما يحتويه من دلالاتٍ ورموز وتفاصيل وتشكيلاتٍ بصرية وتقنيات حوارية كالمونولوج والاسترجاع، بالإضافة إلى أنّ إدراج تقنياتِ السرد في ثنايا النصّ يعمل على تقوية القصيدة، ويعزّز مستوياتها تركيباً وإيقاعاً ودلالةً. اعتمدتْ رشا عمران على تقنياتِ السرد لتحقيق الإدهاش الشعري، فهي ترسم المشهد بكلماتٍ بسيطة وخيالٍ خصب، تشتبكُ الكلماتُ مع بعضها مشكّلةً حبكةً قصصيّة حقيقية، ثم تنحلّ الحبكةُ بحدثٍ مدهشٍ ومفاجئ، فهكذا –مثلاً- حكتْ لنا عن الموت الذي لا يشبع: "أذهبُ إلى المطبخ أتأملُ السكاكينَ التي اشتريتُها قبل مدة أحملُ واحدةً منها وأعودُ إلى الغرفة على الجدارِ الفارغ أرسمُ ظلالَ قاتلٍ ما وبالسكينِ التي بيدي أحفرُ في الحائط كي أنزعَ كبده وحينما أنتهي أعودُ إلى المطبخ وأضعُ الكبدَ الأسودَ في كيسٍ بلاستيكي ثم أفتحُ الباب وألقي به أمام القطةِ التي تموءُ بدأبٍ فريد وحين أعودُ ثانية إلى غرفتي أكتشفُ أن حائطي امتلأ بظلالِ عشراتِ القتلة يتناوبون على حملِ السكين ويتّجهون نحو سريري بينما القطةُ التي في الخارج مازالتْ تموءُ بانتظار المزيد". كما تعتمد عمران على تقنيّة تتالي الصور أو المونتاج، حيث ترسم صوراً بسيطةً بكلماتٍ وتركيباتٍ لغوية بسيطة، لا قيمةَ فنيّاً لأيِّ صورة منها لوحدها، لكنها بتتابعها البصري وبتصاعدها الدراميّ تشكّل المشهد الشعري/ الدراماتيكي/ الفجائعي: "ولدٌ مذهولٌ على البساط طفلةٌ على السرير الصغير عجوزٌ تستند إلى حائطٍ مائل ثمةَ عكازةٌ عند البابِ الموارب وكرةٌ تشعرُ بالملل وعلى الحائط صورةُ رجلٍ وامرأة في ثياب العرس بقعةٌ حمراءُ على زاوية الصورة كما لو كانتْ شارةَ الحداد".
2- التجربة الوجودية: ---------------------- يمكننا القول إنّ معظمَ التياراتِ الفكرية والأدبية والفنية التي ظهرتْ في أوروبا خلال القرن العشرين، انتقلتْ إلى الوطن العربي وظهرتْ تيارتٌ مشابهةٌ لها في الفكر والأدب والفن. إلا أنّ التيارات التي ظهرتْ كنتيجةٍ مباشرةٍ لويلات الحرب العالمية الثانية، لم يكنْ لها انعكاسُها الواضح في الثقافة العربية، كالوجودية والعبثية والدادائية والسُريالية. واليوم، يعيش الإنسان السوري تجربةً وجودية فريدة، تتسم بالقلق والخوف من التحديات والمخاطر، وبإصراره على إعلاء حرية الفرد، واحترام إرادته في اتخاذ قراراته المصيريةِ وتحقيق وجوده. ويرى سارتر أن للكاتب موقفاً في عصره، ومسؤوليةً تجاه مجتمعه والإنسانية بصورة عامة. تظهر ملامح الوجودية عند عمران من حيث أنها شاعرة تحيا الوجود البشري بكل تفاصيله، أي أنها لا تفكّر فيه وتتأمّله فقط: "وما كان لشيءٍ أنْ يحول دون تفتّتي.. كنتُ أراقبُ أعضائي موزّعةً على البلاط.. تلك اليدُ أعرفُها جيداً، وأعرفُ أصابع القدم اليسرى المبعثرة، وأعرف الشامة السوداءَ في أعلى الظهر، الشامة التي كنتُ أبرزها دائماً كلما نسيتُ اسمي.. أعرفُ بقعةَ الدمِ أسفل الجدار، وأعرف السرّة الملقاة تحت السرير كمنديلٍ عتيق.. وحدَه الرأسُ بكلّ تفاصيله، الرأسُ المعلّق أمام الشاشةِ السوداءِ كمسمارٍ في فراغ الحائط كان غريباً عني...". وعندما تتعمق أزمة الإنسان الوجودية، يبدأ بتأمل عناصر الطبيعة من نباتات وحيوانات وديدان، ثم يتماهى معها في خضمّ تماهيه الكامل مع الوجود، حيث يكثر في الديوان استخدام مفردات مثل: النمل والعنكبوت والدود، ويكثر تأملها من قبل الشاعرة، ثم تماهيها معها: "تلك التي تتسلّقُ الجدرانَ كعنكبوتةٍ سوداء ليست سوى وحشتي".
3- سُريالية الواقع السوري: ---------------------------- لا يمكن للعقل البشري أنْ يتصوّر ما يحدث في سوريا، فما يحدث يفوق العقل والمنطق والخيال، إنه واقع لا واقعي! ولذلك اعتمدت الشاعرة على آلياتٍ نفسيةٍ مختلفةٍ للتعبير عن العقل الباطن، بطريقةٍ يعوزها النظامُ والمنطق، معتمدةً على الأحلام والخيالات والرؤى والهواجس والهلوسات: "وفي آخر الليل أعيدُ أعضائي المبعثرةَ إلى أمكنتها قد أضعُ أصابعَ اليد اليمنى في القدم اليسرى، وقد أخطئُ في ترتيب تفاصيل وجهي، وقد أضعُ القلبَ مكان إحدى الكليتين... لكنني إذا ما استيقظتُ صباحاً سأدرك أنني استيقظتُ كجثةٍ مكتملة". وتظهر في سُريالية رشا عمران بعضُ ملامح المدرسة الوحشية في الفن التشكيلي، مثل تركيزها على استخدام اللونين الأسود والأحمر، وهما لونا الموت والدم، وكذلك قيامها بتحريف الأشكال عن طريق تغيير حجومها وأماكنها ونِسَبها الطبيعية: "حين يصبحُ قلبي بحجمِ نملةٍ سوداء تزحف على البلاط بلا هدفٍ وبلا وجهةٍ غير عابئة بالأقدام الثقيلة حولها.. حين يصبح قلبي صغيراً جداً بحيث أنني أنا نفسي لا أراه "!
#عبد_الكريم_بدرخان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظام الأسد: محدثو نعمة وثقافة وسياسة
-
أثر المكوّنات الثقافية في السرد النسائي
-
يوميّات الجرح السوري (شِعر)
-
المرأة بوصفها رمزاً للحرية - قراءة في مجموعة للشاعر فرج بيرق
...
-
دُوَار (شِعر)
-
مدينة الأحزان (شِعر)
-
في مطلعِ السنة الجديدة (شِعر)
-
هذا المساء (شعر)
-
سلطة النموذج في العقل العربي
-
حمص: الأسطورة تجدّد شبابها
-
إلى شاعر معتقل
-
هل كان الماغوط معارضاً للنظام؟
-
هل العنف ظاهرة دينية؟
-
النظام الوراثي.. من الدين إلى السياسة
-
الصراع السنّي- الشيعي بديلاً عن العربي- الإسرائيلي
-
(الدولة العلوية) ورقة الأسد الأخيرة
-
قصيدة الأرض
-
موت المؤلف والصحف العربية
-
التحوّل الديمقراطي ومشكلة الأقليّات
-
الدولة المدنية في الإسلام
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|