" في التقنية الجمالية "
أطروحات إبستمولوجية
استهلال:
- لن
نتناول هنا ظاهرة " التقنية الجمالية " على مستوى تعيناتها المباشرة في مجال
الممارسات الجمالية،بل سنحاول أن نذهب إلى أبعد مدى ممكن للتجريد النظري عبر
معالجتها بوصفها حالة خاصة ضمن الحالة العامة للظاهرة المعرفية.
- ومثل هذا
التحليل لا يمكنه أداء المهمة المنوطة به إذا ما اكتفى بالتموقع داخل مجال
"الإستطيقا " إذ أن هذا المجال لا ينفتح ولا يكشف عن أسسه إلا عبر التحليل
الإبستمولوجي الخالص.
- وتنطلق هذه الورقة منهجيا من معالجة " ظاهرة المعرفة "
بوصفها نظام حركة ذي طبيعة خاصة،وبالتالي فالمفاهيم الأساسية المطروحة هنا تقوم على
تحديد الأنماط الأولية للحركة ،وللترابطات أو "التكوينات المتحركة" التي هي موضوع
هذه الحركة ونتاج لها في نفس الوقت.
- وهكذا فالتحليل هنا لا يعتمد – مطلقا –
على مفاهيم من قبيل " القوى ذات القصد الموجه" أو " الذات الفاعلة" أو "الذات
المؤسِسة" والتي تسيطر بشكل شبه كامل على ميدان التحليلات الإبستمولوجية، فهذه
المفاهيم (في إطار عملنا هنا ) لا يمكن النظر إليها إلا بوصفها مجموعة من
الاقترانات أو الترابطات التي تنتجها حركة المعرفة.
-
ونحن نهدف هنا إلى تأسيس ما يمكن تسميته ب( ديناميكا المعرفة )
حيث يتم تحليل ظاهرة
المعرفة بوصفها نظام حركة عام يتشكل من مجموعة نظم حركة خاصة ( بمعنى أنها تنشط في
مجالات محدودة داخل المجال العام لحركة المعرفة ) ، مما يفسح المجال -في خطوة
تالية- لتناول " حركة المعرفة " إجمالا بوصفها حالة خاصة ضمن الحالة العامة لحركة
النظم الفيزيائية،وهو ما يمثل المهمة الأساسية لمشروع "فيزياء الإبستمولوجيا"والذي
نعمل على تأسيسه منذ عام 1986
(1) تعريفات
أولية:
يتشكل العالم من قوى ذات طبيعة فيزيائية – بحكم التعريف – واختلاف هذه القوى
ينتج عنه " الحركة " وبالتالي فالحركة ليست سوى سريان لبعض مكونات القوى،أو هي
وقائع تبادلها أو انتقالها فيما بين كتل القوى المختلفة بغية الوصول
إلى وضع توازن يستقر عنده هذا الاختلاف ، وعندئذ تتباطأ حركة هذه المكونات ، أو
تتخذ شكلا مغايرا يعتمد على سريان فئة أخرى من المكونات .
وينشأ نظام الحركة
عندما يظهر وضع توازن مستقر لاختلاف القوى معتمدا على دورة تبادل متكررة – أو يعاد
إنتاجها – فيما بين كتل القوى.
والإطار الرئيسي لحركة المعرفة هو " ما يظهر " أي
حالات اختلاف القوى أو أوضاعها التوازنية المستقرة التي يجري حفظها على نحو يكفل
إعادة إنتاجها ( على أي صورة من الصور ) من خلال نشاط الجهاز العصبي المركزي للبشر،
ويمكننا تسمية سيرورة إنتاج ما يظهر " ب الوقائع المعرفية" أما سياقات
إعادة الإنتاج فسنطلق عليها " العمليات المعرفية ".
وتقوم حركة العمليات المعرفية على
إجراء الترابط بين التبديات المختلفة والمتنوعة " لما يظهر" بحيث تنتج- وتعيد إنتاج
– ما نطلق عليه " المكون المعرفي ".
-وهناك نمطان أوليان لحركة الترابط بين "
المكونات المعرفية " : النمط الاستعاري، والنمط الكنائي .
(2) نمط الترابط
الاستعاري :
وينتج النمط الاستعاري عن إجراء ترابط بين مكونين معرفيين – أو أكثر – يعبر
كل منهما عن مستوى مغاير للقوى ، أي أن كل منهما يتم إنتاجه عبر سلسلة وقائع معرفية
مختلفة ، وبالتالي فإن النمط الاستعاري يحفظ أو يظهر " مسافة الاختلاف " الكامنة
بين أطرافه أو مكوناته ، بحيث ستبدو الحركة الاستعارية دائما وكأنها تقطع " مسارا
انتقاليا" من نقطة إلى أخرى أو من مكون إلى آخر.
وتبدأ المرحلة الأولى للحركة
الاستعارية في الظهور على شكل مسار وحيد الاتجاه ، ينطلق من مكون معرفي إلى آخر
بحيث لا يمكن عكس هذه الحركة، وبالتالي فلدينا هنا مسارا مفتوحا يعتمد في إعادة
إنتاج ظهوره على تكرار سلسلة الوقائع المعرفية التي أنتجته، ومع تواتر هذا الظهور
تبدأ المرحلة الثانية للحركة الاستعارية حيث يؤدي هذا التكرار إلى تنشيط دور
العمليات المعرفية لتقوم " بحفظ " العلاقة بين المكونات الاستعارية بحيث يمكن "
استحضارها" أو استعادتها
وهكذا فعبر هذه المرحلة الثانية للحركة الاستعارية تنفصل
العلاقة القوية والمباشرة بين الوقائع والعمليات المعرفية، وهو ما يتيح للمسار
الاستعاري وحيد الاتجاه أن يتحول إلى مسار مزدوج بحيث يمكن استعادته ، أو الانتقال
عبره انطلاقا من أي طرف من أطرافه المكونة له وصولا إلى طرف آخر وفي هذه المرحلة
تظل " مسافة الاختلاف " حاضرة – أو ظاهرة – بين هذه الأطراف ، ولكنها تبدأ في الميل
نحو الانكماش.
ومع تكرار الحركة الاستعارية في إطار هذه المرحلة يتحول "
المسار المزدوج " إلى " مسار مغلق " بمعنى أن عملية إعادة إنتاج حضور – أو استعادة
– أحد أطراف المسار ستؤدي دائما إلى استعادة المسار بأكمله ، أي أن الترابط يشتد
بين مكونات المسار بحيث يتحول إلى ما يشبه الكتلة التي لا يمكن تحريك أحد أجزائها
دون تحريكها بكاملها، وعند هذه النقطة يكون " نمط الترابط الكنائي" قد ظهر
.
(3)
نمط الترابط الكنائي :
إن كل التطورات الحادثة في ميدان حركة المعرفة ، أو بالأحرى في
ميدان الحركة بصفة عامة ، هي أثر غير مباشر وبطئ لسيرورة إعادة الإنتاج ( أو
التكرار غير المتطابق ) لنظم الحركة .
وهكذا فإن إعادة إنتاج حركة الترابط الاستعاري
ستؤدي إلى ظهور النمط الكنائي ، وذلك تحديدا في اللحظة التي يتحول فيها المسار
الانتقالي الاستعاري إلى مسار مغلق، وهذا التحول سنطلق عليه "ظاهرة الدمج الكنائي "
فعبر هذه المرحلة ستختفي – إلى حد كبير- مسافة الاختلاف بين أطراف أو مكونات
الترابط ، بحيث سيبدو وكأنهم جميعا قد التحموا معا ليشكلوا " وحدة معرفية " واحدة
مترابطة دون فواصل داخلية ، فحالة الدمج الكنائي ستؤدي إلى اختفاء المسار الانتقالي
بين هذه المكونات بحيث تتلاشي إمكانية الحركة الانتقالية.
- وهكذا فان
الترابط الكنائي يميل دائما إلى إنتاج الوحدات الصلدة ، والتي يمكن مقارنة تماسكها
وترابطها بتماسك وترابط " الكتلة الفيزيائية ".
- ومع بروز هذه "الكتل
المعرفية" ينفتح المجال مرة أخرى لظهور الحركة الاستعارية التي ستبدأ في تأسيس
ترابطات استعارية ومسارات انتقالية تكون أطرافها هي هذه الكتل.
- وعند هذا
الحد يمكننا وصف الفضاء المعرفي باعتباره حالة توزيع للترابطات الاستعارية و
الكنائية, وهو ما يصدق سواء كنا نتناول " فضاءً معرفيا" خاصا بظاهرة محددة أو مجال
معين, أو كنا نتناول الفضاء العام للظاهرة المعرفية.
(4) التقنية
المعرفية :
- تنشط "التقنية المعرفية " في مستوى أكثر تجريدا وتعقيدا من مدارات
عمل أنماط الترابط السابقة , فهي تقوم على استحداث مسارات تربط بين عدد من"
العمليات المعرفية" .
- وبما أن العمليات المعرفية تعمل دائما" في إطار مجموعة
محددة ومحدودة من المعطيات المعرفية, فان ظهور مسار يربط بين بعض هذه العمليات يعني
تكوين سلسلة من العمليات المتراكبة والمتتالية والتي قد لا تتناظر تماما مع أي
سلسلة من الوقائع, وهو ما يتيح انفصال هذه العمليات عن ارتباطها العياني والمباشر
بمكونات معرفية محددة, بحيث يمكن أن تمارس نشاطها على أي معطى معرفي ( نظريا على
الأقل ).
- وهنا ربما كنا بحاجة إلى شرح مثال بسيط قدر الإمكان ليخفف حدة هذا
التجريد ويمنحنا صورة مفهومية متخيلة تعيننا على مواصلة تحليلنا, فعلى سبيل المثال,
سنلاحظ أن عملية "العد" ،أي إدراك عدد الوحدات الماثلة أمامنا ( ولتكن خمس مكعبات
مثلا )هي ظاهرة مختلفة عن تقنية"العد"، ففيما تظل "عملية العد" مرتبطة بواقعة
محددة، وبالتعين المباشر للشئ المعدود (أي تلك المكعبات بكل خصائصها، مثل الحجم
واللون والموقع... الخ ) فان "تقنية العد" بوصفها تقنية معرفية تتحرر من هذا
الاقتران المباشر بحيث يمكنها ممارسة نشاطها على كل ما يمكن "عده" بغض النظر عن
صفاته الخاصة. ( وقد اهتمت الإبستمولوجيا التكوينية وعلم نفس النمو برصد مثل هذه
الاختلافات )
- وإذا ما استخدمنا مصطلحات تقليدية فيمكننا القول أن التقنية
المعرفية تمارس عملها على نحو شكلي لا يتأثر بالموضوع أو مادته- إلى حد ما- ومن هذا
المنطلق سيبرز المنطق الصوري بوصفه أحد أكثر التبديات تجريدا ضمن حركة هذه
الظاهرة.
- وهكذا ، فان التقنية المعرفية هي سلسلة من العمليات التي يمكن
تطبيقها – مبدئيا- على مجموعة هائلة أو غير محدودة من المكونات
المعرفية.
- وعلى هذا النحو فالتقنية المعرفية تتجه إلى تسريع إنتاج المزيد من
الترابطات ( الاستعارية والكنائية ). ولكن بما أن الترابطات الاستعارية ستميل مع
التكرار للتحول إلى ترابطات كنائية، فان هذا يعني أن أي فضاء معرفي مهما كان نمط
توزيع الترابطات داخله سيميل مع الوقت إلى الخضوع لهيمنة المكونات الكنائية، بحيث
يمكننا القول أن الطبيعة الأساسية للفضاء المعرفي تتقارب دائما تجاه هذه الهيمنة,أي
أن الفضاء يتطور بحيث يميل عند حد معين إلى التحرك بوصفه كيانا موحدا – أو شبه موحد
– بمعنى أن حركة أحد أجزاءه أو مناطقه لا يمكن أن تكون مستقلة عن الحركة في المناطق
أو الأجزاء الأخرى.
- وبرغم أن الفضاء المعرفي لا يتحول إلى كتلة مصمتة
تتلاشي فيها " مسافة الاختلاف " ( مثلما يحدث للمكون الكنائي ) وذلك بفضل امتداده
الذي يحافظ على قدر من تمايز مكوناته ومسافات اختلافاتها داخل الفضاء بما يتيح
التنقل داخله ، وبرغم هذا كله ، إلا أن دخول الفضاء المعرفي في مرحلة الدمج الكنائي
– التي وصفناها فيما سبق – يتيح إمكانية إجراء ترابط استعاري أو حركة
انتقالية استعارية بين فضاء وآخر، وهكذا فإن دورة ( الاستعارة / الكناية ) تواصل
الظهور والعمل عند أي مستوى من مستويات الظاهرة المعرفية .
- (5) التقنية المعرفية الجمالية
:
وحتى هذه المرحلة من التحليل سيبدو وكأن حركة المعرفة تتجه على نحو دائم من
الاستعارة إلى الكناية، فكل المفاهيم التي طرحناها حتى الآن لا تؤدي إلا إلى تعزيز
هذا التحول، بحيث أنه مع مرور الوقت الكافي يمكن لجميع الفضاءات المعرفية أن ترتبط
على نحو كنائي بحيث يستمر تعزيز حالة " الدمج الكنائي" إلى أن تختفي
التباينات بين فضاء وآخر، ثم تختفي التمايزات بين المكونات المعرفية لهذه الفضاءات
على نحو لا يتيح الحركة فيما بينها ، وبالتالي تتحول الظاهرة المعرفية إلى كتلة
مصمتة تأخذ في الانكماش إلى أن تمتنع الحركة نهائيا،وهو ما يمكننا أن نطلق عليه اسم
" الموت الكنائي "
-ومثل هذه النتيجة تظل ممتنعة الحدوث ، أو مستحيلة، بفضل تأثير
" التقنية المعرفية الجمالية " ، أو اختصارا " التقنية الجمالية " والتي – كما سنرى
– تعمل في مستوى تال لعمل " التقنية المعرفية " ولكن في اتجاه مختلف تماما
، فالتقنية الجمالية تتناول المكون الكنائي الذي يفضى إليه نشاط التقنية
المعرفية وتستخدمه في إنتاج ترابطات استعارية جديدة.
- ولنبدأ برصد
الأثر غير المباشر لعملية استحداث الترابط الاستعاري بين مكونين معرفيين كنائيين،
فبغض النظر عن مستوى تماسك كل مكون على حدة ، أو مستوى شدة حالة الدمج الكنائي
لعناصره، فإن حركة الترابط الاستعاري تؤسس عادة مسارا انتقاليا بين جزء أو عنصر من
هذا المكون ، وجزء أو عنصر من المكون الآخر ، والتطور المتوقع لهذه الحركة هو دمج
هذين المكونين معا في وحدة كنائية جديدة.
- أما إذا أخذنا في الاعتبار
مستوى تماسك كل مكون، وبالتالي إمكانية أن تجري الحركة الاستعارية بين مكونين
يتمتعان بمستويات متباينة من التماسك الكنائي، فإن تكرار هذه الحركة
على المسار الاستعاري قد يؤدي إلى انفصال أحد هذين الجزأين عن مكونه،
بحيث يندمج في المكون الكنائي الآخر ويصبح جزءا منه ،وهنا نجد المآل الطبيعي للحركة
الاستعارية حيث تندمج مكوناتها دمجا كنائيا على المدى الطويل، ولكن لنلاحظ – من جهة
أخرى- أن هذه الآلية تؤدي إلى ما يشبه تفكك أو تبعثر أحد
هذين المكونين الكنائيين ( أي ذلك المكون الذي انفصل عنه أحد أجزائه )، وهو ما يعني
ظهور فجوات في ترابطاته الداخلية على نحو يفسح المجال لإعادة تنظيم المسارات
الانتقالية بين أجزائه، وبالتالي تبرز مسافات الاختلاف فيما بينها وهو ما يحفز ظهور
موجة جديدة من الترابطات الاستعارية ، وهكذا فإن حركة " الدمج الكنائي
" تفضي على الجانب الآخر إلى فك الارتباط الكنائي وخلق مجالات
جديدة تماما لنشاط نمط الحركة الاستعارية . وفي إطار هذه الظاهرة المتميزة
للغاية تجد " التقنية الجمالية " مجال عملها باعتبارها حالة خاصة ضمن
الحالة العامة للتقنية المعرفية.
- وهكذا ، فإن مفهوم أو ظاهرة "
التقنية الجمالية" يقوم على استحداث متزامن لكل من حركة الدمج الكنائي وحركة الفصل
–أو فك الارتباط- الكنائي ،أي أنها – بعبارة أخرى-تعمل على تنشيط حركتي الكناية
والاستعارة معا بحيث تحفظ الفضاء المعرفي من التحول إلى كتلة كنائية
مصمتة.
- (6) الظواهر المصاحبة للتقنية الجمالية: "
بروز مسافة الاختلاف " و"الاندفاع الجمالي " :
- لن نتعرض لتناول علاقات
التعاضد والتراكب – المعقدة – بين التقنية المعرفية والتقنية الجمالية، والتي تحتاج
إلى طرح تحليلات أكثر توسعا وأكثر دقة مما قمنا به هنا ، وبدلا من ذلك سنركز على
رصد علاقاتهما معا في إطار ظاهرتي " بروز مسافة الاختلاف " و " الاندفاع الجمالي "
.
- فظهور حالة "الفصل الكنائي"- أيا كان مداها- تعني مباشرة اتساع
المسافة بين الجزء المنفصل،وبين مكونه الكنائي، وهذه المسافة تعني بدورها امكان
تمييز هذا الجزء بوصفه مختلفا عن باقي المكون، وعلى هذا النحو تصبح لدينا" مسافة
اختلاف" ذات مدى محدود (فهي تكمن فقط في تلك المساحة التي ظهرت داخل المكون) ودقيق
ومحدد في نفس الوقت، باعتبار أنها تتيح مسارا انتقاليا في نطاق ضيق وغير مسبوق،
وهنا يأتي دور"التقنية المعرفية" التي ستعمل على إجراء الترابطات بين هذه المسارات
الانتقالية المحدودة ذات المسافات الضيقة للغاية، والتي تتيح استحداث شبكة من
العلاقات داخل الفضاء المعرفي على مستوى ترابطات- شبه ذرية - دقيقة ومتماسكة، وهذه
الشبكة هي ما تفسح المجال لظهور النظم والمنتجات المعرفية الأكثر
تجريدا.
- ومن جهة أخرى فان ظاهرة" الفصل الكنائي" إذا ما نشطت على نحو
متزامن- أو شبه متزامن- داخل الفضاء المعرفي، حيث تمارس تأثيرها على مجموعة كبيرة
من المكونات الكنائية،فان هذا يعني تحرر – أو انفصال- العديد من أجزاء هذه المكونات
على نحو يتيح استحداث مجموعة كبيرة من الترابطات بين هذه الأجزاء التي تحررت فجأة
وبدلت من مواقعها بالنسبة لبعضها البعض مما يؤدي إلى تقارب مسافات الاختلاف أو
تباعدها بين أطراف المسارات الانتقالية القائمة بالفعل، وهو ما يعني زعزعة استقرار
هذه المسارات و يتيح – في الوقت نفسه – استحداث مسارات جديدة ، وهنا نكون أمام حالة
زخم مباغتة تستحث وتنشط المزيد من الانتقالات المعرفية. وسنطلق على هذه الحالة اسم
" ظاهرة الاندفاع الجمالي " ، وهذه الظاهرة هي المسئولة عن ؛أو هي التي تنتج ما
نطلق عليه " المتعة الجمالية " ، أي تلك النشوة والحيوية المفاجئة والمحيرة التي
نشعر بها عند تلقينا لعمل جمالي أو فني ،حيث نشعر أننا في خضم سيل من الأفكار
والأحاسيس المنهمرة على ذهننا ولكن دون أن نستطيع الإمساك بها،وبالطبع فان استحضار
أو خلق ظاهرة "الاندفاع الجمالي" هو الهدف الرئيسي لكل الاستراتيجيات والألعاب
الجمالية داخل حقل الممارسات الفنية.والتي تسعى إلى استخدام صيغ مركبة من التقنيات
المعرفية والجمالية بغية استثارة حالة "الاندفاع الجمالي".
- وبوصولنا
إلى هذه النقطة سيتضح لنا- بجلاء- الدور الهام الذي تلعبه "التقنية الجمالية"
في تجديد وتنويع حركة المعرفة بصفة عامة، بمعنى أن اتجاه "التقنية المعرفية"
نحو تعزيز" الدمج الكنائي" والذي يهدد هذه الحركة بالتلاشي والتوقف، هذا الاتجاه
سيجد ما يقابله في نشاط "التقنية الجمالية" التي تعزز ظهور حالة "الفصل الكنائي"
بكل ما يستتبعه هذا من إتاحة مجال أكثر اتساقا ودقة للحركة و الترابطات، وهو ما
يبعد الظاهرة المعرفية عن الانزلاق إلى حالة الجمود والتكلس وانقطاع
الحركة.
(7) الظواهر المصاحبة للتقنية الجمالية: رهانات
الحداثة وما بعدها:
- تظل ظاهرة "الاندفاع الجمالي" بمثابة أحد الرهانات الرئيسية
بل والمركزية بالنسبة لتيارات الحداثة وما بعدها باعتبارها حالة من النمو والتدفق
المعرفي؛ تتيح إعادة تنظيم العلاقات،وتمدد حدود الفضاءات المعرفية، وتنشط علاقاتنا
بالعالم، ولا يتبدى اختلاف هذه التيارات إلا عند طرح مسألة تحديد نطاق إنتاج ونشاط
هذه الظاهرة.
- "فالحداثة" تقصر فعاليات " الاندفاع الجمالي" على ممارسات الحقل الفني،
والذي تحيطه- نتيجة لذلك- بسياج من التقديس، وتتعامل معه بوصفه"خلاصا"؛ أو على
الأقل بوصفه مسارا يفضي إلى الخلاص،بينما تسعى ما بعد الحداثة تجاه نشر- واكتشاف-
ظاهرة"الاندفاع الجمالي" داخل مجمل الممارسات الجمالية بما فيها الأداءات اليومية،
(والتي لا يشكل الحقل الفني سوى جزء صغير منها)، وهو ما يرتبط بنفي هالة القداسة عن
الفن وتحطيم النظرة التي تراه بوصفه"سرا" واعدا، أو لغزا غامضا بلا حل، أو "منبع
الحقيقة".. الخ.
- وهذا التعارض بين الحداثة و ما بعدها، يجد تأسيسه الأكثر
عمقا و تجريدا في تمايز الرهانات الفلسفية لكل منهما بصدد ظاهرة"بروز مسافة
الاختلاف"، والتي لم يستطع احد رصدها من قبل، واقتصرت المعالجات على التعامل مع بعض
مظاهر تأثيرها.
-ولذلك فبغض النظر عن تحليلنا هنا، فان فلسفات الحداثة قد قامت
برصد ووصف حالات الظهور المعرفي لما هو طارئ وجديد عبر ما هو معروف ومتواتر، وإذا
ما أعدنا صياغة هذه المفاهيم في ضوء تحليلنا، فسنرى أن الحداثة تنظر إلى نواتج
حالة" الفصل الكنائي" مثل "بروز مسافة الاختلاف"، وظهور المستويات الأكثر أولية
للمكون المعرفي بوصفهما يصدران عن أصل كامن يكشف عن نفسه من خلالهما، ويتحكم في
طبيعتهما في نفس الوقت، وعلى هذا النحو، فان المسافة التي تبرز هي نفسها" المسافة
الأصلية"، والتي تعبر عن " الاختلاف الأصلي" الذي تعود إليه كافة الاختلافات، وكذلك
فان" المكون المعرفي الأولي" الذي ينتج عن هذه الحالة سيتم معالجته بوصفه" المكون
الأصلي" الذي نشأت عنه كافة المكونات الأخرى. وهكذا فان الظهور هنا هو مجرد استعادة
لما كان سابقا، أو لما كان على الدوام، انه استعادة للوجود الأصلي، وللماهية أو
الجوهر، وبالتالي استعادة لما هو حقيقي ويقيني.
- وتظل الطبعات المتباينة لفلسفات
الحداثة متفقة فيما بينها على عدم تخطي الإطار العام لهذه النظرة التي يمكن أن نجد
لها صدى قويا في تحليل " هيدجر" للحقيقة بوصفها " اللا تحجب" أو الانكشاف أو
التكشف.
- أما "مابعد الحداثة"، وخاصة في طبعتها التفكيكية، فهي أكثر
ميلا لنبذ مفهوم " استعادة الأصل"، فليس ثمة أصل كامن هناك في انتظار الفرصة
المناسبة للكشف عن نفسه ونفي تحجبه ، وليس ثمة سوى حركة المعرفة وهي توالي الانقسام
والانتشار والتوزع ، وتلك الحركة لا يمكن تعاطيها إلا باعتبارها لعبة بلا أصل ،
وعلى هذا النحو ، فإن ما يظهر؛ أو يبرز ، عبر حالة الفصل الكنائي؛ هو " استحداث "
وليس " استعادة "، فمسافة الاختلاف التي تبرز هي مسافة مستحدثة؛لم تكن كائنة من
قبل، وكذلك فإن المكون الأولي الذي يظهر هو مكون مستحدث تماما.
- وهكذا فثمة عوالم
ومعارف جديدة تتخلق دائما على نحو لا يمكن التنبؤ به.
عبدالناصر
حنفي