|
ألغاط في تعريف الجمال
أنطونيوس نبيل
الحوار المتمدن-العدد: 4466 - 2014 / 5 / 28 - 11:09
المحور:
الادب والفن
إذا كان الجمالُ، حُلماً تنقرُ طيورُ الصباحِ أطرافَه المضببة، ويستحيلُ على الضوءِ أن يلوكه دفعةً واحدة،
إذا كان الجمالُ، قصيدةً تتلعثم بها العاصفةُ خِفيةً بين أغصانِ الشجرِ العجوز، الذي لم يعد يملك خريفاً ليتلهفَ أوبته،
إذا كان الجمالُ، موجةً تركضُ مبهورةَ الأنفاسِ نحو الشاطئ، لتُرفه عنه بحكاياتٍ مُنمَّقة عن قراصنةٍ لم ترهم،
إذا كان الجمالُ، وجوهاً من العطرِ المهموس، وعظاماً من شمعٍ يكسوه الحنين، وإلهاً غابراً يجلس عارياً على عرشه؛ متحيناً مَن يثغُبَ عزلتَه السرمدية برمحٍ من اللمساتِ،
إذا كان الجمالُ، قارورةً من الدمعِ، تكفي لمحوِ ما تركه الموتى خلفهم من ابتساماتٍ، ملطخة بصُمُوغِ الندم، استجدَوا بها أنفاسهم الأخيرة،
إذا كان الجمالُ، جندياً مثخناً بالجراح، يموتُ منتصراً، فقط لأنه حين أخرجَ صورة حبيبته وجدَ أن الرَصاصات لم تؤذها،
إذا كان الجمالُ، أنياباً من العطش، نستطيع أحياناً أن نتمنَّاها دونما شعورٍ باجتراح الإثم، مقرظين أوخم عواقبها كما يليق بمَن يُسقَونَ من رَدغةِ الخيال،
إذا كان الجمالُ، خطيئةً مَهْقاء نَوَدُّ دائماً أن ندفعَ الكون إلى اقترافها، وشيطاناً يتلصص على طفولتنا عبر أعيننا المحدِّقة إلى أجواز خيبتنا،
إذا كان الجمالُ، دفئاً يتسرَّب إلينا، حين نتوقف عن الإيمان بأننا لا نملك من الأرض سوى ما يتسع لظلالنا الواهنة،
إذا كان الجمالُ، وروداً استوطنتها كُلُّ جيوشِ الرقةِ؛ فنضطرُ أمامها لبترِ أيادينا خشيةَ أن نُدميها ببصمات أصابعنا،
إذا كان الجمالُ، سؤالاً يظلُّ صادقاً طالما كُنا نحن إجاباتٍ خاطئة لم تُستنفد بعد، وشبحاً لا سبيل للمرايا، التي نسبكها من المِداد والذكريات، إلى اقتناص طيفِه المقدس دون أن تتناثر شظايا،
إذا كان الجمالُ، سيلاً من المطرِ البطيء نُعمِّد به أجنحتنا الصدِئة؛ لنُعلِّمها أن التحليقَ ضربٌ من الصراخ،
إذا كان الجمالُ، جذوراً تمتدُ في أغوار الصخر دون أن نُغريها بكنزٍ مدفون، وصمتاً لا يصيبه دخانُ سجائرنا المحتضرة بغواية السعال،
إذا كان الجمالُ، صليباً لم يُكَافَأ به مسيحٌ، ومعجزةً يُعاد ارتكابها كلما رَبَّتَتْ يدٌ برفقٍ وخشوعٍ على كتف يهوذا، بعدما حَشَتْ أناملُها فَمَّه الأزرقَ بقطعٍ من السُكَّر،
إذا كان الجمالُ، رقصةً تترفق بأجسادِ التماثيلِ المتفسخة، دون أن تؤنبهم على أقدامهم المتصلبة، العابقة برَهْجِ الاغترابِ وعَرَقِ الأزاميل،
إذا كان الجمالُ، مجنوناً في ربقةِ الذُهان، يقفُ منتصباً على كومةٍ من هلواساته، يبصقُ نجوماً وردية على لوح السماء، قبلما يقذفه بحجرٍ ليحطِّمه،
إذا كان الجمالُ، سجيناً يتفاخرُ أمام السحائب بأغلاله، إذ وهو يرزحُ تحت وطأة دفئها المخملي الثقيل يختلسُ ما هو أعمق من الحرية وأصدق من النسيان،
إذا كان الجمالُ، مدينةً تُثابر في مداعبةِ أبطالها المنهزمين، بقدر ما تدخرُ من حنوٍ وحُطام؛ كي تُقنعهم بالبقاء معها حين تنهمر الظلمةُ في رحمِها،
إذا كان الجمالُ، فتاةً تقصُّ ضفائرها بينما تُكلل رءوسَ الملائكةِ، الذين كفُّوا عن حراسة قبر حبيبها، بأكاليلٍ جدلتها من الشوكِ وزيَّنتها بخيوطِ الدخان المتصاعد من لحظة افتراقهما المُؤجَّلة،
إذا كان الجمالُ، وطناً من الأغنيات، وشفاهاً لم تدنسها صلواتٌ بالية مغموسة في مَرَقِ العادة، وصحيفةً تعتقدُ أنه كلما علاها الاصفرار، اقتربَتْ من العمر الذي ستصبح فيه طائرةً ورقيّة،
إذا كان الجمالُ، طفلاً لا يشغله، بعد أن يعود من لُججِ كابوسِه اللحوح، سوى أن يضُمَّ لعبتَه المفضَّلة ليطمئنها، وحين تَعتُب عليه أنه لم يعد يضمُّها بقوة، يخبرها بأنه لم يزل يحبها، وأنه سيدعها تُلوِّن معه رسمتَه الأخيرة، حتى وإن لم تساعده في إزالة بصماتِ الدم التي تُغطي جدران غرفته، تلك البصمات التي لا يراها سواه،
إذا كان الجمالُ، مقعداً خشبياً يستشيط غضباً؛ لأنه يجهل ما تعنيه غمغمةُ الكلماتِ المحفورة على بدنِه الخائر، وينتابه حزنٌ مُبهم كلما باغته صوتُ كوبٍ ينكسر،
إذا كان الجمالُ، نهراً تحتشد على ضفتيه صغارُ العصافير، فيعظها قائلاً: "ما أنتم إلا أغانٍ لم يقتلها الظمأُ تقتفي خُطى النَدَى، وأنا اشتياقي إلى البحر؛ فاستلُّوا مناقيركم واثقُبُوني؛ فلن أتعرَّف على وجهِ البحرِ إلا عندما يتدفق مِلحُه ألماً عبر تلك الثُقوب"،
إذا كان الجمالُ، كُلَّ هذي الأشياء التي تُراوغ تجسُّدها، بل وكُلَّ وثبةٍ محمومة تتسنَّم أسوارَ الخرسِ صوب تجاوزها،
إذن فقد أضعتُ "الجمالَ" بعد أن انتزعت عنه كُلَّ ما يجعله جميلاً؛ حين تركتُ شفتيَّ تُعاقبانه بأقل مما ينبغي من هَيَانيم الصمتِ المُطعَّم بنَعِيبِ الخلود، وتعدانه بأكثر مما تمنحه أربعةُ أحرف موشومةٌ بوخزِ النصال على عظامي: ر هـ ا ف.
#أنطونيوس_نبيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المزامير المحذوفة
-
سفر الحكمة
-
الموعظة على المعبر
-
ألفريد نويس: الحصن المزدوج
-
فولفجانج بورشرت – تحريض
-
نص السيف وخمر الهامش
-
جثة منزوعة الموت
-
سجناء الأيقونة: جيفارا والمعري
-
مناجاة هاملت الغفاري
-
حديث البذرة والأشباه
-
انتحار المرايا
-
لثماتٌ لا تندمل
-
نحو قصيدة جنائية
-
لو ترونج لو - صوت الخريف
-
الصليل القاني
-
بصقات فلسفية في وجهِ طوفانٍ فاتن
-
أحذية الموتى دائماً نظيفة
-
ثلاث قصائد ل تومي تابرمان
-
الأراجوز يُصلب من جديد
-
مناجاة ملحد من زمن المنصور
المزيد.....
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
-
مسيرة طبعتها المخدرات والفن... وفاة الممثلة والمغنية البريطا
...
-
مصر.. ماذا كتب بجواز سفر أم كلثوم؟ ومقتنيات قد لا تعلمها لـ-
...
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|