عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4461 - 2014 / 5 / 23 - 22:12
المحور:
الادب والفن
السيد مسطرة _ قصة قصيرة
لا تسألوا عني أنا مسافر سأعود حالما أنته من إيفادي , سأتصل عندما تسنح لي الفرصة.
هذه أحر ما كتب صلاح عندما عجز أن يستدل على أولاده الذين تركهم منذ الصباح , حاول أن يتواصل معهم عن طريق أصدقاء أو حتى عن طريق زملائهم في الجامعة , لم ينجح في العثور على أحد منهم , هكذا هي شكل الحياة مع ولديه منذ أن هجرت الزوجة البيت بدعوى أنها حبيسة الجدران لا تعلم أين يذهب الجميع , حتى الزوج الذي عاشت معه أكثر من عشرين عام لم تعد تراه كما في الأول , لقد تغير إيقاع الحياة تماما منذ أن تركوا بغداد بسبب الوضع المضطرب هناك.
أتصل محمد بوالدته التي تسكن مع أختها في الضاحية الراقية من دمشق ليخبرها أن والدهم غائب عن البيت منذ أكثر من ستة أيام ولم يتصل ولم تعرف المؤسسة التي يعمل بها وجهته فقط تعرف أنه طلب أجازة لمدة ثلاثة أيام دون أن يحدد سبب , أحس أن والدته لم تعر الأمر بكثير من الأهتمام كما العادة أجابته ’ لا تخف سيعود يوما ما.
الأستاذ صلاح كما يحلو له أن يلقبه الأصدقاء في الحارة وفي العمل رجل أمتزج وجوده اليومي كفرد بالعمل والعمل بالنظام ,دقيق وتقني وذا قدرة رهيبة لإخضاع كل شيء للمعادلات الحسابية والمنطق الرياضي , متفوق على أقرانه بالتنظيم وحساب دقائق الأمور وعلى هذا الأساس كثيرا ما ينتقد على أنه مع عمليته غير ناجح في تفهم واقع أسرته وتشتت العائلة وأفرادها دون أن يضع حلا وسطا يرض الجميع.
عاد محمد يجدد البحث عن والده محاولا تتبع خيط ما قبل أن يخبر السلطات الأمنية بفقدان والده منذ أكثر من عشرة أيام ,دون جدوى لا أثر سأل زملائه في العمل عن أي ملاحظة يمكن تتبعها , الجميع أنكر أنه يعلم شيء حتى أصدقائه الذين يتردد عليهم مع قلتهم لا يعلموا شيء بل تفاجئوا أيضا بغيابه اللا مبرر,أصبح محمد يدور في حلقة مفرغة بين عدم وجود أشارت توصله لنقطة محددة وبين لا أبالية شقيقه الأكبر أحمد الذي يمض أكثر وقته متنقلا بين كلية الفنون الجميلة وبين والدته وكأن غياب الوالد منحه حرية أكبر للإفلات من التواجد في منزل الأسرة.
أم أحمد سيدة راقية تعتقد أن إصلاح حال زوجها أصبح ضربا من الخيال بعد أن عششت الأرقام في مخه وإمساكه المسطرة ليقيس كل كبيرة وصغيرة فيها ’ هي تظن أن الحياة ليست مستقيمة دائما ولا يمكن حسابها بالأرقام , أحيانا كانت تردد على مسامعه لو أن الحياة كما تتصور لجعل الله حمل المسطرة واجبا شرعيا على كل إنسان , يسمع وتسمع منه عبارته الأثيرة نعم الله أمرنا بالمسطرة وإلا لم يكلفنا السير في الصراط المستقيم , كان الخلاف بينهما ليس بسبب المسطرة كان خلافا أصله تباين بفهم وظيفة الإنسان هي تركز على المباهج وهو يركز على المناهج .
السيد صلاح متخصص بفلسفة الفن وخريج أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد في زمنها الذهبي خاض تجربة الحرب فخرج منها وبنهايتها وجوديا للحد الذي جعله أقرب للمنطق الديني في فهم العلات وتكون الأسباب لا يربط بوجوديته حركة الأشياء خارج منطق الفيزياء لكنه يقرأ الفيزياء بروح الجمال التي يؤمن بأنها أصلا هي نتاج الطبيعة التي نظمها خالق جميل , لا أحد يستطيع من أصدقائه أن يفهم فلسفته برغم الثوب الروحاني إلا أنه لا يؤمن بالدين كحاكم كما لا يؤمن بالطبيعة مصدر مناسب لتحديد قيمة الوجود , هذا التناقض أنسحب إلى عالمه الخاص يؤمن بحرية وخيارات المرأة ولا يعارض زوجته التي أمن جديا أنها تمتلك ذات الدرجة من القرار الذي يتمتع به,لقد منح أولاده أيضا مدار الحرية التي يتمسك بها.
محمد يحاول أن يرسم مجموعة احتمالات قد تبرر له هذا الغياب أو على الأقل تضيف على ما يظنه محاولة هرب من واقع منزل الزوجية الذي أعلن مبكرا عن فشله ,هو يتحسس الكثير من مكابدات والده ويعلم أن الرجال في هذا العمر كثيرا ما يصيبهم الإحباط من عدم القدرة على التوفيق بين الأفكار وبين واقع لم يرسم منذ البدء جيدا , ليس هناك أفضل من تفحص ما تركه والده من كتابات كان يحرص على تدوينها بمذكرات أو مشروعات لكتابات فنية وأدبية , من بين عشرات المقصوصات والأوراق التي تحوي أحيانا رسوم أو تخطيطات وبعض النثر الذي يعبر من خلاله عن أفكاره ,أثارت محمد مجموعة من الأوراق كانت مخبأ جيدا في بين مجموعة مشاريع منضدة ومرسوم عليها شكل فني يوحي أنها خاصة جدا.
السيدة رجاء لا يبدو أنها تستطيع أن تنسى أنها ما زالت زوج هذا الرجل الغائب وأنها أم أولاده , هناك أكثر من سبب يدعوها لأن تعود للبيت حتى لو من باب اللياقة الأدبية أمام الناس ,قد أخذ منحى غيابه شكلا أخر بعد مرور أسبوعين دون أن يترك أثر ,أتصل بها الكثير من زملائه في العمل وأصدقائه كما أنها لا بد أن تسجل ما تعرفه في مخفر الشرطة بعد أن أبلغ ولده أحمد عن أختفاء أبيه ,الشقة التي كانت تشكو من هدوء مر وسكون أشبه بسكون المقابر أصبح يعج بالضجيج من أصدقاء العائلة والأقارب , أحست السيدة رجاء أنها محط أهتمام الناس وأنهم يشاركونها فعلا ما يثير القلق والخوف على مصير زوجها .
على سريره وبعد أن أغلق باب الغرفة خوفا من أن تقود رغبة والدته بمعرفة خفايا الزوج أو خشية من ظهور ما لا يكن في الحسبان من أسرار ,حبس محمد نفسه وبدأ بقراءة ما كان يظن أنه مما يقود لمعرفة شيء مهم عما أل إليه وضع والده ,كلما قرأ شيء تمتلكه الرغبة في الإطلاع على المزيد وبشغف حقيقي أنه أمام كارثة حقيقية ,كيف لرجل يملك قلبا وعقلا وإرادة أن يمسك هذه الأعصاب الباردة من أن تتفجر حمما من عشق , كيف له أن يتحكم بهذا البركان المتقد داخل جسده دون أن يصاب بتجلط في الأوعية الدموية , إنها لغة الهيام وليس العشق ..... يستغرق في القراءة والدموع تتقاطر كأنها إنثيالات روحية في حضرة الحزن.
السيد صلاح الأنيق تماما في مظهره الخارجي بقامة طويلة يحمل كاريزما من طراز فريد فيها أثار من سومرية الفرد العراقي المعتقة مشوبة بإشراقه حداثية مع ابتسامة لا يتصنعها أبدا , حتى وإن لم يكن في وضع بسمح له بها تستطيع أن تحرز أن قلب هذا الرجل لا يعرف الحزن أبدا , عيناه الواسعتان تشبه كثيرا عيني الملك جوديا العراقي العظيم ,كتب عنه أحد أصدقاءه مرة قصيدة وصفه أنه أخر السومريين الأتقياء الباقين على قيد الحياة , هذا الرجل العصامي كان يكابد ألاما لا تستطع قامة حقيقية أن تتحملها , كان يكتم كل شيء في دفاتر أسراره , مؤمنا أنه يحمل ألما يخصه وحده لا موجب لأحد أن يشاركه فيه , حتى السيدة رجاء التي أخلص لها حبا بالرغم الجفاء كان حاضرا في لبه الواعي.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟