|
عقلك في راسك اعرف خلاصك
السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4459 - 2014 / 5 / 21 - 21:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"حاتجن ياريت ياخوانا مارحتش لندن ولا باريز دى بلاد تمدين ونضافه وذوق ولطافه وحاجه تغيظ" بيرم التونسي لم يكن بيرم التونسي هو الشخص الوحيد الذي بهره ما انجزه سكان بلاد التمدين والنضافه والذوق واللطافه والحاجات اللي تغيظ. فقبله بحوالي قرنين عاني عبد الرحمن الجبرتي، المؤرخ المصري الذي عاصر الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، من حالة شبيهه عقب زيارته لمقر المجمع العلمي الذي أقامه الفرنسيون في بيت حسن كاشف جراكس ليكون مكانا لـ "صناعة الحكمة والطب الكيماوي" حسب وصفه. ويذكر لنا ما وجده فيه من "تنانير مهندمة، وآلات تقاطيرعجيبة الوضع، وآلات تصاعيد الأرواح، وتقاطير المياه وخلاصات المفردات" ثم يحكى لنا عما شاهده من أمور تجرى فيه، وأخيرا يختم لنا حكايته معبرا لنا عن انطباعه، بصدق شديد، فيقول: "ولهم فيها أمور وأحوال وتراكيب غريبة، ينتج عنها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا" (الجبرتى, 1998) ص. 285 – 286 )..... !؟ ولم يكف اللاحقون عن التساؤل المستدام عن السر وراء ما حققه هؤلاء من إنجازات مادية ومعنوية وعن سبب اخفاقنا في مجاراتهم. وتتعدد محاولات الإجابة عن هذا التساؤل الا ان الدراسة المتأنية لها تكشف عن شيئ مشترك فيما بينها، حتى وان عبرت عنه بطريقة ضمنية. وهذا المشترك هو ان عجزنا عن المجاراة يعود في المقام الأول الي تسيد "التفكير اللاعقلاني" علي ذهنية مجتمعاتنا.
والتفكير، هذه الخاصية التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات، هو العملية العقلية المنظمة والهادفة التي يستخدمها الإنسان لفهم ما يشاهده من ظواهر وما يدور حوله من أمور، ومن ثم لمساعدته على اتخاذ قرارات صائبة تخص إدارة شئون حياته والارتقاء بها. الا أن هذه العملية غالبا ما تؤثر فيها الاحتياجات العاطفية للإنسان كحاجته للأمن والحب والانتماء، وتحكمها ما يؤمن به من قيم ومبادئ، وتوجهها مصالحه الذاتية. كما تتأثر عملية التفكير بعوامل أخرى مثل نقص المعلومات والجهل بالموضوع، التهرب من مواجهة الأسباب الحقيقية بخداع النفس وإلقاء اللوم على الآخر، الخضوع لرأي ذوي السلطة والمكانة، والتحيز بتضخيم الأدلة التي تؤيدنا وإهمال غيرها. وتؤدي كل هذه العوامل مجتمعة، ما لم نحاصرها ونضع ضوابط تحد من آثارها، الي نوع من التفكير هو "التفكير اللاعقلاني". وهو التفكير الذي يؤدي الى تصورات مشوهة للواقع واحداثه واستنتاجات غير صحيحة لا سند لها ولا توجد شواهد تؤيدها وتفتقد للمنطق الذي يربط النتائج بالأسباب. وبالطبع يسفر هذا التفكير عن مقولات (او معتقدات) لا عقلانية ترسم صورة مشوهة ومنقوصة للواقع مصحوبة بأساليب غير منطقية لتقييم احداثه. وتؤدي كلا من صورة الواقع المشوهة والتقييمات غير المنطقية لأحداثه، الى عجز المبتلى، بهذا الفكر، عن تحقيق أهدافه. فالإخفاق هو المصير الحتمي لأي فعل يرتكز على هذه التصورات المشوهة والاستنتاجات غير الصحيحة.
وتعود خطورة "التفكير اللاعقلاني" الي تعدد اشكاله وقدرة هذه الاشكال على زغزغة مشاعر من يتبنوه. ومن اهم هذه الاشكال وأكثرها شيوعا: "التفكير الثنائي (أو تفكير الأبيض والأسود)" Black and White Thinking، "التفكير الكارثي" Catastrophizing، "التهوين" Minimization، "التفكير العاطفي" Emotional Thinking، "التعميم المبالغ فيه" Overgeneralizing، "الإحساس بالعظمة" Grandiosity.
وأول أشكال التفكير اللاعقلاني هو "التفكير الثنائي (أو تفكير الأبيض والأسود)" الذي يتبنى في حكمه على الأمور منطق "إما ... أو"، فإما أنت معي على طول الخط أو أنت ضدي على طول الخط. وهكذا يحكم نظرة الذهنية المحكومة بهذا النوع من التفكير مفهوم "الحقيقة النهائية والمطلقة" أو "ثنائية الأبيض والأسود" التي لا تقبل الاعتراف بامتزاج الخطأ والصواب في أحكامها وتقديرها للأمور. وفى النهاية تختزل رؤية هذه الذهنية ثراء ألوان الواقع المعاش والملموس إلى لونين فقط هما الأبيض والأسود رافضة بذلك الاعتراف حتى بوجود الرماديات. وبالطبع يؤدي هذا النوع من التفكير الى ظهور الجماعات المتطرفة، أيا كان توجهها، التي لا تعترف بحقوق الآخر ولا تؤمن بالتواصل والحوار وترفض مبدأ "حب لأخيك ما تحبه لنفسك". وثاني أشكال التفكير اللاعقلاني هو "التفكير الكارثي" الذي "يعمل من الحبة قبة" فينظر إلى الأخطاء الصغيرة بوصفها خطايا لا تغتفر، ويحول الإخفاقات العادية إلى كوارث غير مسبوقة. إنها الذهنية التي تتصف بالمبالغة والمغالاة في تقديرها للأمور. وشيوع هذا النوع من التفكير في مجتمع ما يؤدي الى خلق "ثقافة جبانة" تخشي المغامرة ولا تحبذ التغيير. وفي غيبة روح المغامرة يُحَاصر الابداع وتذوى القدرة على الابتكار وتضمحل حتى الرغبة فيه. وعلى عكس "التفكير الكارثي" نأتي إلى ثالث أشكال التفكير اللاعقلاني وهو "التهوين" الذي يسعى أصحابه الى التهرب من مسئوليتهم عن نتائج أعمالهم وذلك بالتهوين من شأن اخطائهم. وهم في ذلك يستخدمون عدة أساليب من أبرزها "التدليس". والتدليس في اللغة هو التلبيس والتغطية وهو مشتق من الدلس وهو الظلام. أو بعبارة أخرى هو كتمان عيب في شيء ما حتى لا يعلمه المستفيد من هذا الشيء. فنراهم، على سبيل المثال، وهم يطلقون اسم "النكسة" على واحدة من أقسى الهزائم التي منيت بها الأمة المصرية في العصر الحديث وهي هزيمة 1967. كما نراهم يطلقون اسم "الفتح" على واحدة من أقسى الغزوات التي عانى من آثارها الشعب المصري على أيدي غزاة صحراويين استباحوا ثرواته بشكل غير مسبوق.
اما رابع اشكال التفكير اللاعقلاني فهو "التفكير العاطفي" الذي تقوم احكام من يتبناه على الأشياء والأشخاص علي ما يشعره تجاههم من عاطفة، حب أو كره، لا على أساس المعلومات المحايدة والموثقة. انه شكل التفكير الذي يعبر عنه مثل "حبيبك يبلعلك الزلط وعدوك يتمنالك الغلط" اصدق تعبير.
وخامس هذه الاشكال هو "التعميم المبالغ فيه" حيث يتم تطبيق ما يتم استخلاصه من حالة بعينها على بقية الحالات دون أية مراعاة لاختلاف الظروف. ولعل قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" هي واحدة من أبرز أمثلة هذا النمط من أنماط التفكير اللاعقلاني.
وأخيرا، وليس آخرا، "الإحساس بالعظمة" وهو شكل التفكير الذي يجعلنا ننظر لأنفسنا بوصفنا محور ما يجرى على كوكب الأرض من أحداث، فنحن "خير أمة أخرجت للناس"، بأمارة ايه؟، والكل ما عداها إما حاقد لها أو متآمر عليها ... !
كانت هذه بعض أمثلة لأشكال التفكير اللاعقلاني السائدة في مجتمعاتنا فتحد من قدرتها على فهم ما يدور حولها بصورة صحيحة ويجعلها عاجزة عن مجاراة الآخرون فيما حققوه من انجازات لا ترتقي فقط بأحوال مجتمعاتهم بل تمتد آثارها لبقية المجتمعات.
وأخيرا اذكر، من لا يستريح لعرض ما نعانيه من نواقص، اذكره بواحد من أمثال جدتي التي كانت لا تمل من تكرارها وهو "يا بخت مين بكاني وبكى الناس عليا ولا ضحكني وضحك الناس عليا".
المراجع الجبرتى, ع. ا. 1998. المختار من تاريخ الجبرتى. القاهرة: كتاب الشعب.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كشف الغمة عن عقل الأمة
-
الأمة المصرية ...امة كانت وتكون وستكون
-
الاساطير الثقافية: (5) أسطورة -زي السمن على العسل-
-
الاساطير الثقافية: (3) اسطورة الزمن الجميل
-
العصا والجزرة ورفيقتهما الناعمة: من القوة المحتملة الى القوة
...
-
العصا والجزرة ورفيقتهما الناعمة (1-2)
-
الاساطير الثقافية: (2) الغزو الثقافي (او حكاية -الناس اللي ف
...
-
الثروة الخفية
-
من يخاف من العولمة؟
-
علمنة المجتمع وشكة الدبوس
-
العلم من بارادايم البساطة الى بارادايم التعقد
-
الاساطير الثقافية: (1) اسطورة العروبة
-
الحل برة الصندوق
-
تانجو الفوضى والانتظام
-
أزمة العقل البسيط
-
جاليليو الذي تجاهلناه
-
الة الزمن المعكوس
-
جاءنا البيان التالي
-
زمن الهوجة
-
عن الثورة الثقافية ... معالم على الطريق (3/3)
المزيد.....
-
متحدثة البيت الأبيض: أوقفنا مساعدات بـ50 مليون دولار لغزة اس
...
-
مصدر لـCNN: مبعوث ترامب للشرق الأوسط يلتقي نتنياهو الأربعاء
...
-
عناصر شركات خاصة قطرية ومصرية وأمريكية يفتشون مركبات العائدي
...
-
بعد إبلاغها بقرار سيد البيت الأبيض.. إسرائيل تعلق على عزم تر
...
-
أكسيوس: أمريكا ترسل دفعة من صواريخ باتريوت إلى أوكرانيا
-
ميزات جديدة لآيفون مع تحديث iOS 18.4
-
موقع عبري يكشف شروط إسرائيل لسحب قواتها من الأراضي السورية ب
...
-
مصر.. -زاحف- غريب يثير فزعا بالبلاد ووزيرة البيئة تتدخل
-
تسعى أوروبا الغربية منذ سنوات عديدة إلى العثور على رجال ونسا
...
-
رئيس الوزراء الإسرائيلي: ترامب وجه لي دعوة لزيارة البيت الأب
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|