|
أوجاع.
فتحي الشّابي.
الحوار المتمدن-العدد: 4456 - 2014 / 5 / 18 - 10:15
المحور:
الادب والفن
اشتدّ بي وجع بظهري ولا زمني طيلة السّنة حتّى أعياني وأعيا صبري . ولم يكن بدّ وقتها من الاستنجاد بطبيب . ولعلمي أنّ طبيب الصحّة العمومية لا يقدّم إلا بضاعة بخسة ، على طريقة بائعي الأكلة السّريعة ، توجهت إلى طبيب خاصّ أستطيع توفير أتعابه المقبولة . غير أنّه أعلمني أنّ طبيعة الآلام بظهري تستدعي فحوصات دقيقة ومتابعة من طبيب مختصّ لأسباب معقّدة . من هنا تحديدا ازداد وجع الظّهر معي وزدادت أوجاع الجيب المثقوب . فعلاوة عن الأتعاب المفزعة لأستاذ فقير مثلي ، كان ثمن الدّواء في كلّ مرّة أتوجه فيها إلى الصّيدلية يدعوني إلى أن أشعر بحسد شديد لصنفين من رفقة الصّبا . أولئك الذين التحقوا بالأكادمية الأمنية التي فررت منها بسبب عشقي للأدب ، وأولئك الذين توّجهوا إلى تجارة التّهريب وقد انقطعوا مبكّرا عن الدّراسة . فأنا أحسدهم على اشتداد ظهورهم وقاماتهم الفارعة ، كما أحسدهم على جيوبهم المنتفخة غير الممزّقة . فكلّما أرى جارنا الصغير الذي قضّى حياته منغمسا في الميسر وتجارة الممنوع بكلّ ألوانه وقد أضحى من أثرياء الحيّ ، أذكر نقمة معلّمنا عليه لأنّه كان يتغوّط في محفظته .فذلك الصبيّ العفن الذي طُُرد من المدرسة لرسوبه المتكرّر في السّنة الخامسة ابتدائية أضحى اليوم زوجا لأستاذة الأدب العربي . وصار يجالس المثقّفين ويقارع زملاءها بدلا عنها . بل أضحى يعييّرها فقرها بسبب شهادتها الجامعية .وهو لا يفوّت فرصة إلاّ ويذكّرها بأنّها ما كانت لتمططي سيّارة فخمة لولا تفضّله عليها بالزّواج منها . وكنت في ذات الوقت اشعر بنقمة مفرطة على تلك المرأة التي أذلت نفسها وكأنها أذلتني معها لجاهل لا محصول له في الحياة غير نذالة مخزية و وقاحة مخجلة . كان الصّيدلاني يفصّل لي طريقة تناول الدّواء ويعددّ جرعاته وكنت أتجرّع مرارة أخرى لا قدرة لي على وصفها لأيّ طبيب . والغريب أنّ الوجع يصير طوعيا ويتضاعف كلّما نطق الصّيدلاني بثمن الدّواء المعقودة عليه آمال الشّفاء. كان الصّيدلاني في نظري يتصنّع لطفا أمقته ، فقد بدا لي متلهّفا إلى الاستحواذ على نصف راتبي في بضع دقائق . كأن في عيني أقرب إلى بهلواني أو نشّال في سوق أسبوعية .
مضت أسابيع وأنا أتجرّع الدّواء على مرارته . ثمّ استبدّ بي هذيان كالغثيان لحزن شديد ألمّ بي. فتعاظمت معاناتي وصار الزّمن نفسه يتمطّط و يتمطّى بخطوه الثّقيل وكأنّه في ثقله المقزّز قد تقمّص دور ابن جارنا زوج تلك الغبيّة . وصرت كلّما تأمّلت مكتبتي التي أقنعتني والدتي بأنّها كنزي العظيم أودّ أن أمشي ، منفوخ الصّدر ، في عظمة وخيلاء تقزّم قامة ذلك الوغد . كنت أودّ أن أقول له : لو جمّعت كلّ أملاك الدّنيا وكلّ ما كسبت من سيّارات وجمعت من أرصدة فهي لا تساوي تلك الشّهادة التّي كابدت أمّي سنوات حياتها من أجل أن أحصّلها .وأحيانا أفكّر بأن أفاخره بآلاف العناوين التي جمّعتها مقابل الملاين التي كدّسها . لكنّ مرارة جرعة الدّواء تجعلني أفيق على صوت معلّمنا الأول كالهاتف في أذني : "لو سلّمته كتبك لتغوّط عليها جميعا ذلك القذر ". هكذا صرت أشعر بانّي قضّيت حياتي واهما ، وأدركت أنّ أوجاعي تتضاعف كلّما تضاعفت أفكاري وكبرت أحلامي. لم يجد معي الدّواء نفعا . وأصبحت فعلا كلّما أبحث عن شفائي أتقيأ الواقع والنّاس المحيطين بي جميعا . عُُدت إلى طبيبي المختصّ فأشار عليّ بضرورة إجراء الأشعّة المغناطيسيّة في أقرب الآجال . فقصدت بظهري المعوجّ ورأسي المثقلة مستشفى "شارل نيكول " ، وبعد رشوة زهيدة قدّمتها على مضض للحارس بباب القسم ، استبشر بي عون التّصوير المغناطيسي استبشارا لم أفهم مغزاه إلاّ بعد أن أعلمني بأنّ أقرب موعد ممكن لا يكون قبل ثلاثة أشهر وقد تحوّلت سحنة وجهه من الابتسامة إلى عبوس مستقرّ. سلّّمت بالأمر وعدت ألوك أفكاري وأوجاعي لثلاثة أشهر كاملة وأنا بين التّباهي بنفسي والاعتداد بكتبي مرّة والشّعور باليأس والنقمة مرّات أخرى ، حتّى هممت بحرق كلّ ما جمعته. وكدت أفعل . عدت اليوم إلى المستشفى مبكّرا أتأبّط محفظتي ..لم أنتظر طويلا مثل العادة فقد أخبرني القيّم في برود :" نحن في إضراب مفتوح ...لنا أيضا أوجاعنا". حينها تذكّرت زميلتي زوجة ذلك الوقح وأنّبت نفسي لتحاملي عليها. فلكلّ أوجاعه .
#فتحي_الشّابي. (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
-
مسيرة طبعتها المخدرات والفن... وفاة الممثلة والمغنية البريطا
...
-
مصر.. ماذا كتب بجواز سفر أم كلثوم؟ ومقتنيات قد لا تعلمها لـ-
...
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|